شيء من التاريخ غير الموثق المعهد الديني الإسلامي بأغوردات

الحسين علي كرار

الحلقة الثانية : – عن معهد أغردات متأسف لظروف معينة قد تأخر نشرها

عند الالتحاق  بالمعهد كان الشرط الأساسي أن يجيد الطالب القراءة والكتابة ، ويجهز الملابس الرسمية للدراسة وهي الجلابية والعمة البيضاء ، ومبلغ عشرة دولار رسوم الكتب ، وفي بداية  كل سنة دراسية يدفعها جميع الطلاب ،وكان الكثيرون من الطلبة يفدون إلي المعهد من المدن الأخرى والقرى، ولبساطة الحياة والدنيا بخير كانوا ينزلون عند بعض معارفهم ، أو في سكن تابع للمعهد وملاصق له ، وكان عمدة هذا السكن الشيخ محمد علي تورس ، حيث يتجمع بعض الطلاب عنده للدردشة وأحيانا للمطارحة الشعرية في الفترة المسائية أو صباح كل جمعة.

وفي طابور الصباح  كان النشيد هي أسماء الله الحسني ، التي تبدأ (( إن لله تسعة وتسعين اسما هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر .. الخ ..  فكانت تحفظ الأسماء الحسني عند قبول الطالب وقبل أن يستلم الكتب لينضم في نشيد طابور الصباح مع زملائه.

وكان نشيد المعهد هو نشيد معهد أم درمان العلمي حيث نقله المعلمون من هناك:-

هلموا هلموا إلي معهدي **  إلي الدين والعلم والسؤدد

إلي لغة الضاد كي نهتدي **  إلي الحق والخلق الأمجد

حبـــــــــاه الإله بقرءانه **  وأولاه فضلا بإحسانــــــــه

فكم من قلوب به آمنت  **   وكم من نفوس به أيقنت

وكم من عقول به أذعنت **  وكم في المعالي له من يدي

يعم القريب ويعطي البعيد **  ويسقي الصبي ويروي الرشيد

ويـــــولي الشمال ويولي السعيد **   حياة وريا لكل ســــــدي

هذه بعض الأبيات من النشيد ، ويقول الشيخ الحاج أحمد عثمان وهو من طلبة معهد أم درمان العلمي وكان قاضيا في كل من بارنتو وأغردات ثم في المحكمة العليا في أسمرا ، أن كاتب هذا النشيد هو الشيخ شاهين مصري الجنسية وكان معلما بمعهد أم درمان العلمي.

وكان للمعهد نشيد آخر ينشد في الاحتفالات  أثناء عرض الطلاب في الساحة الخارجية ، وأعتقد أن كاتبه هو الشيخ عبد الله أزوز حيث كان ينشده الطلاب أثناء طابور العرض في الاحتفالات في المناسبات الدينية العامة واحتفالات نهاية السنة التي كانت تقدم فيها الكلمات والتمثيليات ، وكانت توزع الجوائز للطلاب الأوائل ، وهي عبارة عن جلابية وعمة وشال للفائز الأول ، وجلابية وعمة للفائز الثاني ، وتكون جلابية للفائز الثالث وكانت كلمات النشيد معبرة عما كان يقوم به المعهد :-

إلي الأمام إلي الأمام ** يا جنود القرءان ** القرءان القرءان ** مبعث الإيمان ** هذب الإنسان**علم البيان ** نحن جنود القرءان** في الزمان والمكان .

أما النشيد الوطني الذي كان ينشد في هده المناسبات كذلك مطلعه :-

بلادي سلمت وروح الفداء **  وصوتي لصوتك رجع الصدى

والقصيدة معروفة في أناشيد الكثير من الدول العربية ، والغريب أن الدعوة كانت تشمل أعيان المدينة ورجال الدولة وكان يحضرها محافظ الإقليم وأحيانا قائد الجيش الأثيوبي منعا لتبرير استثناءه ،ولم يكلفوا أنفسهم أن يسألوا عن المقصود بالبلاد في النشيد هل هي أثيوبيا أم كانت ارتريا، وربما كان يفسرها كل علي قصده .

وكان المنهج الدراسي يعتمد علي قاعدة من حفظ المتون حاز الفنون وهي قاعدة مفيدة في التحصيل مع الفهم ولكنها شاقة في التطبيق لأن المتون كانت كثيرة.

ولتقريب الصورة هكذا كان المنهج ، حفظ ثمانية أجزاء من القرءان الكريم خلال السنوات الأربعة في كل سنة جزءان  ، من جزء (عم يتساءلون)  إلى (وما أنزلنا علي قومه من بعده من جند من السماء) ، وفي اللغة العربية للسنة الأولي كان يدرس متن الأجرومية حفظ وشرحها التحفة السنية ، وفي السنة الثانية متن الأزهرية حفظ وشرحها تنقيح الأزهرية ،والفصل الثالث والرابع  متن قطر الندى حفظ وشرحه قطر الندي وبلي الصدى والشروح كانت تباع خارج المعهد عكس المتون التي كانت تصرف للطلاب من المعهد.

وفي الفقه للسنة الأولي متن العشماوي ، ومتن العزية للسنة الثانية ، والسنة الثالثة والرابعة رسالة الإمام مالك ، التركيز علي البيوع في السنة الثالثة ، بالإضافة باب الحدود وفي السنة الرابعة الأحوال الشخصية الزواج والطلاق والميراث والوصية.

وفي السيرة النبوية ، سيرة ابن هشام السيرة المكية للسنة الأولي، والسيرة المدنية للسنة الثانية حتى وفاته عليه السلام ، وسيرة الخلفاء الراشدين أبو بكر وعمر والفتوحات الإسلامية في السنة الثالثة ، وعثمان وعلي والفتنة الكبرى في السنة الرابعة ،

وفي التاريخ كان يكتب علي الصبورة تاريخ العرب القديم العرب البائدة والعرب العاربة من فينيقيين وأشور وكلدانيين وكنعانيين وعبرانيين وفراعنة وعرب عاد وثمود.

وفي الأخلاق والسلوك  ، كتاب التيسير في الأخلاق للسنة الأولي والثانية ويتناول تعريفات التقوى والألفة و بر الوالدين وغيرها ، ثم حديث الأربعين النووية  في السنة الثالثة والرابعة عشرون حديثا لكل سنة حفظا وكان  شعر المحفوظات محصورا في الشعراء المسلمين ككعب ابن زهير في مدح الرسول:

إن الرسول لنور يستضاء به **  مهند من سيوف الله مسلول

والفرزدق الذي مدح العلوي عندما تساءل الأمير الأموي من هذا  فرد عليه :

هذا الذي تعرف البطحاء وطئته **  والبيت يعرفه والحل والحرم

وفي جانب العدل في الحكم حافظ إبراهيم

أمنت لما أقمت العدل بينهم  **    فنمت قرير العين هانيها

وما استبد برأي في حكومته  ** إن الحكومة تغري مستبديها

وكذلك في سقوط الدولة العثمانية عند الهزيمة

يا أخت أندلس عليك سلام  هوت الخلافة عنك والإسلام

جرحان تمضي الأمتان عليهما  هذا يسيل وذاك لا يلتام

وقصيد شوقي في العمال حيث لم يكن يعرف المجتمع مثل هذه الأعياد بعد الاحتلال الأثيوبي حيث يعرف الطالب أن للعمال عيد

أيها العمال أفنوا العمر كدا واكتسابا

واعمروا الأرض فلولا سعيكم أمست يبابا

والحض علي التنقل ورفض الجمود  في قصيدة الإمام الشافعي

سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فان لذيذ العيش في النصب

إني رأيت وقوف الماء يفسده ، إن سال طاب وإن لم يسل لم يطب .

وفي طلب الغفران من الله في علم الخط

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة  فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن  فبمن يلوذ ويستجير المجرم

وفي السنة الثالثة والرابعة كان يدرس علم الصرف في اللغة العربية في أوزان الأفعال لمعرفة المصادر.

وعلم التوحيد واختلاف العلماء في الأدلة والصفات في علم الكلام ، وظهور أهل السنة والخوارج والأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والكلابية وغيرهم من علماء علم الكلام

وفي الجغرافية في السنوات الأربعة  كانت تدرس التضاريس والمناخ ومواقع الدول في القارات وشعوبها و الرياضيات كانت محصورة في الجمع والطرح والضرب والقسمة العشرية والمأوية ثم الإملاء والخط والإنشاء والمطالعة التي كانت توزع فيها الكتب علي الطلاب وهي طباعة من المناهج المصرية ،ويقرأ كل مرة أحد الطلاب وتناقش المواضيع  وذلك للتمرين علي القراءة وفي نهاية الحصة تجمع الكتب وتوضع في مكتبة المعهد.

هكذا كان المستوي العلمي للمعهد من حيث المعرفة ، إذ كانت علومه مداخل للمعارف الكبرى.

هذه المرحلة التي كانت تسمي المرحلة الابتدائية وتصدر بها الشهادة ، في واقعها كانت مرحلة ثانوية و بعض من هذه المناهج يدرس في الجامعات الإسلامية العربية.

بعد التخرج وقضاء السنوات الأربعة ، كان الطالب يقف حائرا ولهذا كان الطلاب يطالبون من إدارة المعهد، زيادة عدد الفصول كمرحلة ثانوية  وكانت المطالب قبل افتتاح معهد الطالبات بفصوله الأربعة حيث كانوا يريدون أن تكون هذه الفصول كذلك للطلاب لاستمرار تطور المعهد وضمان مستقبلهم العلمي ، ولكن الشيخ عبد الله ، كان يصر أن لا تكون هناك مرحلة ثانوية ، لأنه بخلاف الطلبة كان يدرك أن المرحلة التالية في هذه العلوم هي المرحلة الجامعية، وهذه لا يتوفر لها لا المعلم ولا المنهج الدراسي ولا تسمح بها الإمكانيات المتوفرة ، فافتتحوا المباني الجديدة بفصولها الأربعة معهدا للبنات.

قد أثر هذا المعهد في حياة مجتمع المدينة تأثيرا كبيرا وقد تخرج منه صفوة من الطلاب في عصره الذهبي بالرغم من قصرها ،  فمنذ تأسيسه 1961 إلي 1966 كانت هي فترة الاستقرار في الدراسة وهي الفترة الذهبية ، ولكن بعد مذابح عام 1967 لم يكن للطلبة استقرار نتيجة لظروف حرب التحرير القاسية ، فقد ترك بعضهم المعهد قبل أن يكمل سنواته الدراسية ،  وكانت مجزرة أغردات التي استشهد فيها المعلمون والطلاب نهاية مؤلمة لصفحة معهد كان يعتبر رائدا في دراسة علوم الدين.

و من الطلاب الذين تخرجوا من هذا المعهد وأثروا في الحياة الاجتماعية و الدينية والسياسية والثقافية منهم  الشيخ علي شيخ داوود وهو من المؤسسين لمعهد القربة الذي تخرج منه الكثير من طلاب معسكر اللاجئين ، وكان هذا المعهد أصلا في ود الحليو ثم تم نقله إلي مدينة خشم القربة  ، والشيخ الجليل خليل محمد عامر الذي كان يرأس تنظيم الحزب الإسلامي ،  والشيخ محمد سعيد عافة ،والشيخ الدكتور محمد صالح حالي ، والشيخ محمد علي تورس ، والأستاذ همد عثمان احمد والشيخ إدريس الحسين عرطا مدير المعهد الذي خلف الشيخ عبد الله أزوز في إدارة المعهد ، وقد نال العذاب والسجون والقهر من نظام  الطائفة فاعتلت صحته وحمل مريضا إلي السودان وتوفي في الخرطوم .

ونذكر منهم كذلك من المناضلين الشهيد عثمان حسن عجيب كما ذكر الأخ أبو الحسن، وأزهري صالح ركا ، الذي تخرج من الكلية العسكرية في بغداد وكان قائدا في الميدان، وصالح أبو بكر محمد عافه الذي كان مسئول اللجان الإدارية في بركا العال في جبهة التحرير الارترية.

ومن الإعلاميين والكتاب الأساتذة محمد عثمان علي خير ، ومحمد إبراهيم  دبساي زميل فصل ، ومحمود خالد علي قيد ، فك الله أسره ، وعبد الرحمن عبد الله قشاري ، وحسن إدريس شيخ الذي توفي في حادث مؤلم في السودان.

والمهندس سليمان دار شح ، والأستاذ إبراهيم عثمان حاج ،وكاتب المقال الحسين علي كرار ، وعذرا لعدم ذكر كثير من الأسماء التي تستحق الذكر نتيجة لقصر المجال.

كانت مدينة أغردات من أوائل المدن التي تم تحريرها وتعطلت فيها الحياة ، فكان المعهد مغلقا حتى التحرير ، ولكن لا يخفي علي أحد ما حدث للمعاهد الدينية بعد التحرير من شطب  وطمس واختطاف المعلمين وتهميش اللغة العربية لحصرها في الخلاوى ومنع بناء المساجد ، وبهذه الإجراءات التي فرضها النظام قد فقد المعهد الكثير من مقومات قوته،  أولها المعلمين الأكفاء ، وثانيها الراتب المنظم حيث أصبح المعلم يتقاضي بعض التموين الذي يصرف له من حكومة الطائفة بعد أن صادرت دخل الأوقاف التي يبلغ عددها (80) ثمانون دكانا وعدد (3) ثلاثة منازل مؤجرة بثمن بخس علي حواشيهم وأسرهم ، وثالثها الكتاب المنظم المطبوع ، فأصبحت المقررات تدرس بالملخصات والكتابة علي الصبورة ، ورابعها الرقابة والمتابعة من دولة الطائفة لإضعاف المعاهد الدينية ، سواء كان معهد الطالبات  أو معهد الطلاب.

فالذين يعرفون أن في مدينة أغردات أوقاف تغطي رواتب المعلمين ، وبنية أساسية وقوية لمعهد الطلاب ومعهد الطالبات قليلون ، أثيوبيا دمرت المدينة بمن فيها وما فيها، ونظام الطائفة  أزال أطلالهم من الوجود.

اللهم اغفر وارحم لمن بني وأوقف لهذا المعهد ، ولمن توفي من هؤلاء المعلمين والطلبة والطالبات ،اللهم تقبلهم قبولا حسنا وأنزلهم نزل الصدّيقين والشهداء في جنات النعيم وعافي وأشفي ووفق من كان منهم حيا لعمل ترضاه يا رب العالمين .

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=42119

نشرت بواسطة في أكتوبر 7 2017 في صفحة المنبر الحر, جغرافيا. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010