أخطار الدفع الرباعي نحو الهاوية

رصد اريتريا | الكاتب – فتحي عثمان

لا تقلُّ الكتابةُ عند ساعاتِ الخطرِ الجسيمة عن الأذى الناتج من هذه الأخطار نفسها، سواء على الكاتب أو المكتوب أو حتى القارئ المستهدَف. في هذه الحالة يكون المرء أمام خيارين: إمّا أن يكتب، وإمّا أن يصمت، وكلُّ خيارٍ له ما له وعليه ما عليه.

أكتبُ هذا وفي ذهني صورة لا أستطيع الفكاكَ من أسرها الخانق، وهي صورة إرتريا في هذه اللحظة كظبيةٍ جميلةٍ وبريئةٍ تفرُّ من حريقٍ هائلٍ في غابةٍ، وبينما هي تسعى للنجاة تقع في فخٍّ حديديٍّ مسنَّنٍ ومسموم، وتتكاملُ المصائبُ عليها بأن يعثرَ عليها صيّادٌ جائرٌ ولئيم، وهي لا مخرجَ لها إلّا العنايةُ واللطفُ الإلهيّ.

الحمد لله أنّ هذا ليس إلّا تصوّرًا، وإن تشابه مع الواقع المحيط بالبلاد اليوم. فـإرتريا تتربّص بها أربعةُ أخطارٍ داهمةٍ تُشكِّل “دفعًا رباعيًا” نحو الهاوية.

الاستبداد:

الاستبدادُ الذي يخنق البلادَ أقعدها تمامًا عن أيِّ تطوّرٍ في أيِّ مجالٍ يمكن أن تُسمّيه: الاقتصاد، الحكم، المجتمع، الثقافة. وعليه أصبحت ضعيفةً من كلِّ جانب، ولن تقوى بلادٌ يحكمها استبدادٌ غاشمٌ كالذي نعيشه، في الدفاع عن نفسها ضدّ العدوان.

وهذا الاستبدادُ يقودنا إلى “الدافع” الثاني:

الخوف والاستسلام:

بعد ثلاثةِ عقودٍ ونصفٍ من الاستبداد والخوف، قايض الشعبُ الإرتري حريتَه بالأمان والسلامة، وانتهى دون الحصول لا على الحرية ولا على الأمان.

والحريةُ التي نقصدها ليست ترفَ الذهاب إلى صناديق الاقتراع، بل حريةَ تكوين الأسرة – فكم من شابٍّ وشابّةٍ حُرم من هذا الحقّ بسبب العسكرة وغيرها، كما حُرم الشعب من حقِّ ممارسة الكسب الشريف وحريةِ الحركة والتنقّل، في الوقت الذي تحوّلت فيه البلاد إلى سجنٍ كبير.

هذه الحرياتُ فقدها الشعبُ آملًا أن يحظى بالأمان والسلامة من مصائب الداخل والخارج، فكان نصيبُه الموتَ والسجنَ والتشريد. فتلك المقايضةُ الخاسرة لن تحفظ من مخاوف الداخل ولا الخارج.

حتى فكرةُ المقاومةِ الشعبية أصبحت كطائرِ العنقاء، فمحطّاتُ المقاومة ضدَّ الاستبداد لا تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، ولم تدم سوى ساعاتٍ من نهارٍ (ماي حبار، تمرّد المقاتلين قبل إعلان نتيجة الاستفتاء، عملية فورتو، انتفاضة مدرسة الضياء الإسلامية)؛ ما عدا مقاومة مجموعة الخمسةَ عشرَ التي أخذت فترةً أطول، وانتهى أبطالُها ورموزُها في السجن أو المنفى.

وكانت نتيجةُ الخوف والاستسلام غيابَ أيِّ “إرثٍ للمقاومة ضدَّ الطغيان”. وكان أحدُ أسباب الخوف العميق هو غيابَ البديل السياسيِّ لحكم الطاغية، وينقلنا هذا إلى الدافع الثالث.

غياب البديل المعارض:

ثلاثةُ عقودٍ من الكبت، كما أنّها قتلت أيَّ فرصةٍ لظهور مقاومةٍ شعبية، فإنّها كذلك أدّت إلى غيابِ البديل السياسيِّ الشرعيِّ للاستبداد القاهر.

ولكأنَّ لسانَ حالِ الشعب غيرِ المستفتى يقول: “لماذا أُضحّي من أجل بديلٍ لا أعرفه ولن يُنقذني؟”.

لم يعد هذا – للأسف – خيارًا محلّيًا فحسب، بل أصبح كذلك خيارًا دوليًا. فالدول الأخرى، خاصةً دول الجوار، لا تنظر إلى أيِّ تغييرٍ في إرتريا نظرةَ قبول، وكأنها تقول: “شرٌّ تعرفه ولا خيرًا لا تعرفه”، كلّ ذلك من أجل الحفاظ على سلاسةِ حركةِ الملاحة في أهمِّ ممرٍّ تجاريٍّ عالميٍّ.

ومع هذا الوضع السلبيِّ الشامل تتكوّن سُحُبُ الدافع الرابع السوداء.

العدوان والغزو:

حاكمُ إثيوبيا لا يزال يطلق تهديداته بإزالة دولة إرتريا واستعادةِ موانئها في السرّ والعلن. وهذا التهديد يصاحبه ما يصاحبه من تخطيطٍ وعمل.

وتُثير أجواءُ العداء هذه الأسئلةَ عن نوعِ الحروبِ التي تخوضها بلدانُنا ومحاربونا (آخرها حرب تيغراي الأخيرة)، ومن هذه الأسئلة: لماذا يكون “القضاءُ التامُّ” على الخصوم هو هدفَ هذه الحروب؟

فحربُ تيغراي تمَّ خوضُها تحت شعاراتٍ مثل “اللعبة انتهت” و”يجب القضاء على الوياني للأبد”، واليوم هناك شعار “إعادة احتلال إرتريا”، ويقابله وعيدٌ بـ”تفكيك إثيوبيا وإرسالها إلى مزبلة التاريخ”.

لماذا هذه السقوفُ العاليةُ للحروب، ممّا يرفع تكاليفَها الماديةَ والمعنويةَ فوق أيِّ تصوّر، ويُعقّد أيَّ إمكانيةٍ لتعايشٍ سلميٍّ مستقبليٍّ؟

وهناك أسئلةٌ فرعيةٌ تتناسل من هذه الأسئلة الكبيرة، وهي:
هل تؤمن قيادةُ الجبهةِ الشعبية لتحرير تيغراي المتحالفة مع أفورقي باستقلال إرتريا وسيادتها؟
هل تؤمن قياداتُ مليشيات “فانو” وقادتُها من القوميين الأمهرة باستقلالِ وسلامةِ أراضي إرتريا؟
هل أصدر هؤلاء “الحلفاء الجدد” لأفورقي بياناتِ إدانةٍ واستنكارٍ لتهديدات أبي أحمد؟

إنّ إثيوبيا، على مدى تاريخها وتعدّدِ حكّامها، ظلّت دومًا المهدِّدَ الأولَ لشعبِ إرتريا وطموحاته في وطنٍ مستقل، ممّا يجعل فكرةَ “محو إرتريا المستقلة” حلمًا يُخالِج أيَّ حاكمٍ في أديس أبابا مهما كان اسمُه أو قوميّتُه.

رغم كلّ ذلك نؤكّد أنّ الوضع الراهن، السابق للحرب رغم مساوئ الاستبداد والخوف والجمود يظلّ أفضلَ مئةَ مرّةٍ من حربٍ ضروسٍ تُفني الأخضرَ واليابس.

يزيد من أذى الحروب وأضرارها تلك الأوهامُ التي تعشّش في رؤوس مشعليها، وتسرِي كالنار في الهشيم في أوساط الشعوب؛ أوهامٌ من شاكلة “مزابل التاريخ”، واجترار بطولات الماضي، والتهديد والوعيد.

كلُّ تلك الأوهام تُغذّي ماكينةَ الحروب، وتُعمي عن مواجهة الحقائق المريرة حتى يغرق الناسُ في أنهار الدم.

والحقيقة أنّ أفورقي يخوض حربًا بالوكالة ضدَّ إثيوبيا بدعمِ مليشيات “فانو” بكلِّ ما أُوتي من قوّة، وهذا أمرٌ يعرفه القاصي والداني. فأفورقي، وكما هو معروف، يُجيز ويُحلِّل لنفسه ما يُحرِّمه على الآخرين؛ فهو يُدرّب مليشياتٍ سودانيةً وإثيوبيةً وجنوداً صوماليين، وحتى مليشيا من جمهورية الواق واق لو استطاع إلى ذلك سبيلًا.

ولكن حالما يبدأ جيرانه باتّباع السُّبل نفسها يهيج هياجَ الأفيال، وكلّنا نذكر اتهامَه المتشنِّج لكلٍّ من الخرطوم وأنقرة بمحاولة قلبِ نظام حكمه انطلاقًا من الأراضي السودانية، وبأسلحةٍ وخبراتٍ تركيةٍ ودعمٍ ماليٍّ خليجيٍّ كما قال حينها.

ولكنّه في الوقت نفسه يرى أنّه صاحبُ الحقِّ “الوحيد والحصريّ” في تدريب أيِّ مليشيا لزعزعة أيِّ دولةٍ مجاورة.

فنحن نعيشُ الحربَ وعلينا أن نُقاوم أوهامَها، خاصةً عندما يحاول أبي أحمد إشعالَ طرف فتيلها من جانبه.

نعرف جميعًا أنّ شعوبَنا لا حولَ لها ولا قوّةَ في كبحِ جماح الحروب إذا انفكّت من عقالها، ولكنّ هذه الشعوب تستطيع أن تتبصّر وتُدرِكَ أوهامَ الحروب قبل اندلاعها

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47715

نشرت بواسطة في نوفمبر 2 2025 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. يمكنك ترك رد او اقتفاء الردود بواسطة

رد على التعليق

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010