أزمة استبداد أم أزمة وعى وفاعلية

بقلم أبو فايد    

قال مهدي بازركان أول رئيس وزراء إيران بعد انتصار الثورة :( لقد صلينا من أجل أمطار الرحمة فأصابنا الطوفان ) أما نحن فقد خرجنا من جحيم الاستعمار ولسان حالنا يقول : ( لقد قاتلنا من أجل نسيم الحرية فأصابنا إعصار الاستبداد ) . نعم الاستبداد الذي يعتبر في كثير من وجوهه أكثر خطورة وأشد وطأة من الاستعمار نفسه ، وخاصة عندما يجد من الشعوب الضعيفة والمغلوبة علي أمرها القبول والمشروعية علي أعراضه وتبني نتاجه ، والاعتراف بكل تداعياته التي أفرزها علي أنها القدر الذي لا يمكن تجنبه أو الاعتراض عليه ، يقول الكواكبي عند تعريفه للاستبداد : ( لو كان الاستبداد رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب ، لقال : أنا الشر وأبي الظلم ، وأمي الإساءة وأخي العذر ، وأختي المسكنة وعمي الغدر ، وخالي الذل وابني الفقر ، وبنتي البطالة ووطني الخراب  وعشيرتي الجهالة ) .

لقد خرج الإرتريون من نير الاستعمار بعد أن سددوا فاتورة الانعتاق ليجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام الاستبداد وتكشيراته الشيطانية ، فدفع بهم في أتون حربه الاستبدادية ، فخاضوها ودفعوا ثمنا باهظا لامناص من دفعه ، ولا احتيال للمفر منه ، وفي نفس الوقت وعلي خط موازي استمرت وما زالت لوازم الاستبداد وتداعياته تقضم الجسم المتهالك قضما وتفتك به فتكا ، جعلت من إرتريا إحدى أكثر الدول خرقا لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية .

ومع ما أسفرت عنه الحرب الإثيوبية الإرترية الأخيرة من إراقة للدماء بشكل غير مسبوق ، وهجرة ونزوح بأثر رجعي ، فلا تزال قضية الآلاف من اللاجئين الإرتريين معلقة ولا يزال شبح المجاعة يخيم علي إرتريا .

أما ضحايا القمع السياسي والإعدام خارج القانون ، وكهوف السجون المظلمة ، وضحايا التعذيب واغتيالات الظلام السياسية فقد ظلت علامة بارزة في جبين النظام الإرتري .

وفي مجال الحق في الحرية والأمن الشخصي فحدث ولا حرج حيث أضحى الاختطاف في جنح الظلام وبصورة واسعة ووحشية السمة البارزة في حياة الناس وأحاديثهم .

أما ممارسة الحق في التجمع والتنظيم السياسي وتكوين الجمعيات فتلك مصطلحات لا يعرفها الشعب ، والعارفون لها لا يتجرؤون أن يتفوهوا بها لأن عقوبتها تصل إلي حد الإعدام .

وفي مجال القوانين المنظمة لحريات الرأي والتعبير ، لا يوجد أيّ قانون ينظم الصحافة ، ولا توجد في البلد إلا صحيفة واحدة تابعة للحزب الحاكم .

ولا توجد هناك أية قوانين تنظم حق التظاهر والاجتماع ، لأن التظاهر والاجتماع ممنوع أصلا ، ومجزرة ( ماي حبار ) و(عدي إيتو) دليل علي ذلك .

وهكذا وفي ظل تجميد الدستور الصوري لا يُستغرب أن يُلغي الرئيس البرلمان والدستور وحتى الحكومة في عملية لم تشهد البشرية مثيلا لها في التاريخ السياسي .

ومن ممارسات النظام الأكثر قسوة وخطورة نظرته إلي المجتمع بعين تمايزية عنصرية حاقدة ألحقت أضرارا بالغة في جدار المجتمع طالت مناحي حيوية ، وخاصة في مجال التعليم ، حيث بلغ عدد الطلبة المسلمين الدارسين في جامعة أسمرا 5% في العام الدراسي 97-98 و3% فقط في العام الدراسي 99-2000 في حين بلغ العدد الإجمالي 6% من مجموع الطلبة الخريجين منذ التحرير وحتى العام 2002 !!!!

وعدد الطلبة المسلمين المبعوثين للخارج 7 طالبا فقط من أصل 980 طالبا وطالبة حسب تقرير وزارة التعليم الإرترية للعام 1996م !!!

هذا فضلا عن إغلاق الكثير من المؤسسات الإسلامية ، والنهج غير السوي الذي سار علي فرض لغة الأم واستبعاد اللغة العربية من المدارس التي انهارت فيها أنساق القيم وهو ما أدى إلي نتائج كارثية وخاصة فيما يتعلق بتعليم المرأة الإرترية المسلمة .

أما في مجال البنية التحتية فحدث ولا حرج ، وستجد آثار التهميش والظلم الصارخ حيثما تطأ قدماك في المناطق الإسلامية ، هذا ما عدا الاقتلاعات السكانية والمظالم الإقصائية الصارخة والقائمة تطول !!!

من واقع ما تقدم أين موقع معسكر المعارضة الارترية  ؟ وأين أداؤه وفاعليته  ؟ هذه التساؤلات قد تبدو للبعض كالنغمة النشاز ، وقد تنطوي على قدر من القسوة  مع الذات ، ومن الإنصاف بداية  أن نقرر أن جهود المعارضة وخاصة فيما يتعلق بتجفيف مصادر تمويل النظام الخارجية ، وفي كشفه وتعريته أمام المنظمات الدولية والإقليمية قد أثمرت نتاجا يعتدُّ به ، إلا أن هذه النتيجة لا ينبغي مع ذلك أن تمنعنا وخاصة في ضوء هذه المتغيرات المتلاحقة والمعطيات  القائمة  ، وفي ظل الإلحاح الشعبي على التغيير والخلاص ، من أن نشير إلى نقاط جوهرية  نعتبرها المسئولة عن الخلل البنيوي في أوضاع  جبهة المعارضة  وأدائها ، ويمكن إيجازها في النقاط الآتية  :

1- العصبية للأنا المفرطة والكِيانية الضيقة بدل الأنا الجمعية الشاملة  لدى العديد من الأحزاب وجبهات المعارضة  مما جعلها أسير ة معادلة الكومية الناتجة عن الإحساس بالعزلة والانحصار وربما اليأس غير المبرر ، وهو ما سبب  بدوره الخيبة والإحباط في القاعدة .

2- الاستبداد بالرأي الناتج عن الإحساس بالتعالي والتفوق ، أو العزلة واليأس لدى بعض هذه الأحزاب والجبهات ، وهو ما غيّب  العلاقات الديمقراطية في إطار لعبة الصراع الأعمى  على السلطة وفتات الامتيازات المرتبطة بها .

3- انعدام الثقة بين عناصر الحزب الواحد وبين الأحزاب والجبهات على حد سواء ، تلوح تداعياتها من حين لآخر على شكل المزيد من تفريخ الأحزاب،  والتهافت بأثر رجعي على استقطاب  الأحزاب المفرّخة ، وأحيانا على شكل سجالات إعلامية ، وهو ما انعكس سلبا وبشكل مباشر على أداء المعارضة بصورة عامة ، ناهيك عن ما سببته من خيبة وإحباطات للقاعدة .

4- سيادة المذهب الكومي المصلحي الآني . وهو ما حول العمل الجماعي في النهاية إلى مجموعة من القرارات مرتبطة باجرات وقتية لترميم شقوق في جسد المعارضة،  وكسوِ عظامه بلحوم فاسدة ، إما لتجنب غضب الجماهير ، أو لإرضاء جهات ضاغطة ، أو …

5- غياب قيم المصالحة ، والنقد الحقيقي والجريء للذات ، وهو ما خلق معضلة عدم الاتفاق علي مشروع وطني شديد الإلحاح، صحيح أن  المشروع موجود ، ولكن المشكلة هي أنهم لا يملكون إجابات واحدة أو واضحة حول كيفية تنفيذ بنوده المختلفة .

6- غياب المنهج الجماعي الوحدوي رغم الضرورة الملحة علي إيجاده ، وهذه تشكل إحدى أبرز معضلات الأزمة الإرترية ، وهي مشكلة تاريخية تمثل المحك في مصداقية المعارضة ووعيها السياسي وطرحها للقضايا المصيرية أمام الجماهير التي تأمل فيها الإصلاح والتغيير نحو الأفضل ، وهنا ترد فكرة للفيلسوف الألماني هيغل تقول :( عندما يكون مطلب الوحدة مطلبا ملحا ، وتعجز الأمة عن تحقيقه فإنها ترتد إلي عصر بربريتها ) فهل هو ارتداد إلي البربرية ؟ أم أننا لم نخلع ردائها السمج بعد ؟.

وفي هذا السياق لا أريد أن أسبق الأحداث وأحكم علي التحالفات والاستقطابات التي شهدتها ساحة المعارضة مؤخرا ، لأن مدى جدية تلك المحاولات لا تقاس في النهاية بمقدرة القائمين بها علي صياغة التحالفات  وإنما تقاس أساسا بمقدار نجاح هذه التحالفات في إيجاد وقائع فعلية علي الأرض . وأرجوا أن لا تكون وكأنها صفحة من تاريخنا الماضي !!! 

 إن الالتفاف علي مطلب الوحدة الشاملة أدى  في تقدير كاتب هذه السطور إلى جملة نتائج خطيرة أبرزها :

 أ- ازدواجية الخطاب السياسي في قضايا هامة ، فخطاب الحزب خارج التجمع غير خطابه في التجمع .

ب- مبالغة في المواقف الخطابية، وضمور في العمل البناء الملموس .

ج- تغلب الصراعات الثانوية بين هذه القوى على المهام الرئيسية .

د- تشتيت الجهود والطاقات المبذولة لموجهة الواقع الأليم ، وهو ما أدى إلى غياب العمل الجاد نحو تحويل الرفض والإحباط  الشعبي إلى  انتفاضة شعبية شاملة .

ما العمل ؟

الكثير من المثقفين الإرتريين المخلصين والحادبين على الوطن يسعون لوضع تصورات وحلول وآليات للخروج من الأزمة ، وهي مهمة ليست سهلة نظرا لتعقد مداخل المشكلة ومخارجها ، هذا فضلا عن غياب الصلة  بين المثقفين الذين يمثلون نبض القاعدة العريضة ، وبين القادة صانعي القرار ، واتساع الفجوة بين الجماهير ونخبتها المفكرة والمثقفة لأسباب يعرفها الجميع ، ناهيك عن غياب مؤتمر جامع لكل المثقفين أيَّا كانت مواقعهم لتدارس أحوال الوطن ، وتقديم حلول وتوصيات عملية بناءة نابعة من الاحتكام إلى العقل والضمير الجمعي ، كوسيط بين مكونات المجتمع واشكالياته كلها ، وكضمير يقظ يعيد التوازنات إلى البنى السياسية والاجتماعية كلما اتجهت نحو الاختلال .

وفي غياب مثل هذه الآفاق والمقومات التي كان من المؤمل أن تؤدي أو علي الأقل تساعد علي توحيد الإجابات علي أسئلة شديدة التعقيد مثل : ( ما العمل ؟ ) نجد في الساحة إجابات مختلفة ومبسطة للغاية مثل القول بأنه لا بديل عن الوحدة الشاملة ، أو ضرورة الحوار ، أو وضع مشروع مشترك بين أحزاب المعارضة يؤدي إلي الخلاص من النظام …وهي في رأيي المتواضع آليات لا يمكن تحقيقها رغم الحاجة الضرورية إليها ، لأنها وإن جاءت كحلول لإشكالية قائمة فهي ذاتها طرحت العديد من الإشكاليات ، وفي تاريخنا بل وفي واقعنا ما يكفي من الدروس التي يمكن الخروج بها .

إن حل المشكلة لا يتأتى بدون حل السبب الجوهري لها ، وفي رأيي أن المبدأ الأساسي والجوهري يكمن في تغيير الذات ، وتغيير الذات لا يتأتي إلا بالفاعلية ، والفاعلية لا تُؤتي أكلها إلا إذا استرشدت بالوعي ، الوعي الذي يكسر الأصنام التي في عقولنا ، ويكنس كل الأوهام التي تعشش في شعورنا واللاشعورنا .

فجوهر المسألة هي مشكلتنا العقلية ، وانتظار التغيير دون تغيير ما في الأنفس .

إن وحدة المعارضة وفاعليتها وبالتالي ذهاب كابوس الاستبداد وإلي الأبد  لا يمكن أن يتم كما يتوهم البعض بآليات مثالية لإشكاليات معقدة ، ولا بشعارات مهما كانت صادقة ، بل بتحول نفسي ، الذي يُفضي بالضرورة إلي منطق عملي فاعل . وكما يردد مالك ابن نبي عبارة يقول إنها شرعة السماء ( غيِّر نفسك تُغير التاريخ ) والتغيير يعني الفاعلية ، والفاعلية أو لنقل إنجاز مشروع عملي يتسامى فوق الواقع والماضي ، لا يمكن أن ينجح دون وعي وتسامي الذين يريدون إنجازه ، وذلك بأن ينفضوا عنهم غبار الشك والتشرذم ، ويكسروا جليد عدم الثقة فيما بينهم ، ويلبسوا لباس الجماعة ، ويتحركوا في إطار الذاكرة الجمعية بدل لباس الأنانية السمج ، ويحطموا إسارات الوهم التي تتحكم في ( لا شعورهم ) دون أن يدروا في كثير من الأحيان ، فكلنا وبدون تخصيص ولمعطيات موضوعية وربما ذاتية نعاني من العقد ، أدركنا ذلك أو لم ندرك ، قلَّت تلك العقد أو كثرت ، إلا أنها تحتاج إلي مبضع الجرَّاح ( المصارحة ) لا إلي عبارات المجاملة والنفاق .

وفي غياب الوعي فاللافاعلية تصبح المنطق السائد كأمر حتمي ، لأن العجز في الأفكار ( اللاوعي ) يخلق أو ينتج في المجال النفسي عجزا في المراقبة الذاتية ، وفي مراجعة النتائج ، تلك حالة المجتمع الإرتري الذي يعيش كسادا في الوعي وفقرا في الأفكار ، في حين أن الأفكار تمثل اليوم وأمس وغدا الثروة الوحيدة التي يعول عليها . والدليل علي ذلك أن بإمكان أيّ واحد منّا أن يجري تجربة ، وذلك بتوجيه النقاش حول موضوع فكري معين ، فإن ردود الفعل ستكون إما تعصب أعمى ، أو تبخيس منمَّط ، أو تهكم متعجرف ، أو صمت خبيث ، وأحسن هؤلاء نية من يتثاءب من السآمة ، فهذه التجربة توضح الدرجة التي وصلت إليها الفكرة من اللافاعلية .

إن الإفلاس الفكري ( اللاوعي ) يؤدي حتما إلي مستنقع الأنانية والكومية الضيقة ، وتقفز أضراره من المعنويات إلي الذات ، لدرجة تتحول معه هذه الذات إلي شيء لا قيمة له ، وحين يفقد الشعب ذاته يتحول إلي غثاء كغثاء السيل ، فالوعي بالذات هو الجوهر ، هو الذي يخلق تلك الروح المناهضة لكل ما هو غريب من هذه الذات ، وفي الوقت نفسه يخلق التمرد علي الواقع المناقض لميل هذه الذات نحو الكمال والحرية وتأكيد الوجود .

إن الشعب الذي لا يشعر بآلام الظلم والاستبداد لا يستحق الحرية ، فالشرط الأول إذاَ هو الإحساس بالظلم ، لأنّ هذا الإحساس هو دليل آدمية الإنسان واستحقاقه للحرية ، إلا أن هذا الإحساس بالظلم لا يعني الحرية وإن كان بداية الحرية ، لأن شرائط رفع الظلم والقهر ولاستبداد يقتضي أول ما يقتضي الفاعلية، والفاعلية تقتضي أول ما تقتضي الوعي، وعي القيادة والقاعدة معا ، وعيا يطرح التساؤلات في سياقها الجمعي    ( الوحدة ) ( من نحن ؟ وماذا نريد ؟ ) بدل التساؤلات الأنانية السائدة   ( من أنا ؟ وماذا أريد ؟ ) ويقود إلي الخروج من التناقضات بأشكالها مفتعلة وغير مفتعلة ، والوعي يبدأ بمعرفة ذاتنا بكل مخزوناتها الذهنية ، وتراكماتها القيمية ، وإفرازاتها الماثلة ، ووعي بالظروف التي حولنا بكل منعرجاتها وتقاطعاتها .

بهذا الوعي يكون في مقدورنا ليس التوصل إلي حل خلافاتنا ومعرفة أسبابها وأعراضها فحسب ، بل وأساليب حلها ووسائلها كذلك .

والوعي بالتاريخ في إطار الوعي بالذات بكل ما في هذا التاريخ من محطات مشرقة وأخرى مظلمة قاتمة مهم جدا ، وليس كما يتصور البعض ممن ينقصهم الوعي ، إنه هروب إلي الخلف خوفا من مواجهة المشكلة للاستراحة بين قبور الآباء والأجداد نعيش أحداث الماضي الميتة معتقدين أننا نخطط للحاضر ونرسم ملامح المستقبل ، هذا فضلا عن الوهم المسيطر وهو الخوف من تصفح سفر تاريخنا لما يخلقه من حساسيات قد تؤدي إلي ما لا يحمد عقباه كما يتوهمون ، بل رجوع يتيح لنا الوقوف علي محطات التألق المشتركة فنعززها ، ونقاط الضعف فنقويها ، وعوامل الانحطاط فنتخلص منها ، والأخطاء ومسبباتها فنعالجها بالقضاء عليها بعد أن نتبينها ، إنه رجوع يفضي بنا إلي تفهم جديد لتراثنا والعوامل التي كونته ، ويقودنا إلي أن نعرف أنفسنا أكثر وكيفية تكوننا ، وإمكانات غدنا معرفة أدق ، وأرضية الوفاق وأواصر الأخوة بشكل أعمق وأشمل ، لكي نجمع من كل ذلك في النهاية كلاًّ لا تتجزأ مراحله ، فنحن في مسيس الحاجة وفي هذه الظروف القاتمة إلي أفكار واضحة وحقيقية تبدد غيوم الشك والفرقة التي تخيم في سمائنا ، وتزيد بصرنا حدة ، وإدراكنا نفاذا ، ونقدنا رجاحة ، وتهدي سعينا بكل فاعلية نحو التغيير المنشود ، الذي لا يمكن أن يتقدم خطوة إلي الأمام ما لم نتأمل الأسباب البعيدة والقريبة التي حتمت اختلافنا وتشرذمنا حتى نأخذ منها العبر ونعالج من خلال تلك العبر وعلي ضوء الطموحات المستقبلية الحاضر ، لننطلق بعضها وبكل ثقة ويقين نحو المستقبل .

إن هذا الوعي بالتاريخ في إطار الوعي بالذات ، هو الذي يجنبنا الوقوع في الأخطاء عند تحليلنا لأسباب الأزمة التي نعيشها ، فعلي سبيل المثال نجد الكثير من الإرتريين من يُرجع سبب الأزمة إلي القيادات ، والأدهى أن تجد هذا التحليل الهروبي في أوساط المثقفين ، في حين أنّ المشكلة مشكلة جماعية شاملة ، مشكلة عقود بل مئات السنين مرت ، مخلفة وراءها كثيرا من المشكلات والعقد ، إنها مشكلة شعب يبحث عن ذاته ، لكن دون وعي ، وليست مشكلة قيادات ، لأن هذه القيادات إنما هي جزء من إفرازات هذا الجسد المريض علي كل حال ، مع عدم إغفالنا لدور بعض القيادات لا بالانحراف بالوعي الشعبي فحسب بل في قيادته نحو المزيد من العقد واليأس ودفعه دفعا إلي دوامة العدمية كذلك .

إن إرتريا اليوم تعيش في حالة مزرية ، فهي في حالة موزاييك مكسر ومهشم ينوء أهلها تحت وطأة الثالوث اللعين ، الفقر والمرض والاستبداد ولا أعتقد أنه يمكن الخروج من هذا الرعب إلا بالوحدة ، ولا يمكن أن تتحقق الوحدة إلا بالفاعلية ، ولا يتحقق المنطق الفعلي إلا بالوعي .

الوعي هو الجوهر ، فإذا تحقق الوعي فلا خوف من الخلاف ، وليس الاختلاف السائد ، فالخلاف في إطار الحوار ، والنقد المتبادل البناء ، ونقد الذات دون التلذذ بإيذائها دليل حيوية وفاعلية . 

من هذا المنطلق نحن مع الحوار ، شرط أن يكون هذا الحوار جادا ومخلصا ، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا تحلى المتحاورون بالوعي ، وعيا بالذات ، وعيا بالتاريخ والحاضر يؤدي إلي استشراف المستقبل بكل وعي ، وعيا يتحلى بمصارحة تنبش الرماد ، ولا تخاف من إخراج الجمر من تحته ، لأنها الوسيلة الوحيدة لسكب ماء الوفاق والوحدة والتعايش علي نار التشرذم والتنافر ، وبدون جرأتنا علي ذلك ستبقي كل الحوارات والتكتلات وأنواع الاندماجات ، مجرد وقت مستقطع لممارسة الكذب والنفاق !!!!

وأخيرا وفي غياب المجتمع المدني لأسباب يعرفها الجميع فإنني أتقدم بنداء إلي كل المثقفين الإرتريين أيَّا كانت مواقعهم أن يبادروا إلي تأسيس مؤتمر جامع لهم يُعقد دوريا ، يناقشوا فيه مشكلات المجتمع الإرتري وآليات تطوير بنى الوعي فيه ، وسبل إخراجه من أسر الثنائية التي تخيم عليه ، ثنائية الحكم الاستبدادي القمعي ، وعدم الثقة والتنافر السياسي والاجتماعي السائد ، والطرق الكفيلة في سبيل الارتقاء بالأداء الشعبي الواسع من مستواه السلبي الانتظاري الراهن إلي مستوى إيجابي فاعل ، هذا إلي جانب ما توفر هذه اللقاءات من فرصة التعارف الذي يسهم في تحقيق الانصهار الوطني ، وتجسير الفجوات بينهم وبين القاعدة من جهة وبينهم وبين قيادة المعارضة من جهة أخرى .

والسلام

abofaieda@yahoo.com


 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=5823

نشرت بواسطة في ديسمبر 25 2004 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010