أن تأتي لحظة تاريخية مواتية أمر وارد ولكن تكرارها أمر نادر !!

بقلم : أحمد محمد ناصر

فاتت فرصتان هامتان على تنظيمات المعارضة الإرترية منذ أن أقامت في مطلع عام 1999 م مظلة جامعة . الفرصة الأولى تمثلت في الاستجابة الواسعة من الجماهير الإرترية لتلك الخطوة الوحدوية وإبدائها استعدادًا كبيرا لدعمها، فضلاً عن ترحيب ملحوظ من دول الجوار. أما الثانية فكانت بروز تيار من داخل النظام تقوده عناصر من القيادات التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير إرتريا يدعو إلى دمقرطة الحياة السياسية في إرتريا.

لم تستفد المعارضة الإرترية من هذين التطورين كما ينبغي . ولو كتب لها توظيف هذين التطورين بشكل صحيح لتمكنت بلاشك من تهيئة المناخ السياسي لطروحاتها على الصعيدين الإرتري والعالمي.

لست هنا بصدد البحث عن أسباب الفشل وتوزيع المسئوليات على زيد أوعبيد من الناس أو تنظيمات بعينها. وهذا ليس من باب العجز أو الخوف عن التطرق إلى مثل هذا الأمر وتناوله كما أتصور باعتبار أن الاجتهاد حق مكفول للجميع. ولكن الاجتهادات في هكذا قضايا في هذه المرحلة لا يجدي نفعا لكونها لا تتناغم وما رغبت إيصاله من كتابة هذه المقالة . فالحقيقة التي أبتغيت بهذه المقالة هو مجرد التأكيد والتذكير بأن المعارضة الناشطة على المسرح السياسي الإرتري ككل أخفقت في أن تستغل المستجدات السياسية الإيجابية التي ظهرت خلال الأعوام الماضية وتحولها لصالح أهدافها المعلنة. فلطم الخدود والنواح على الفرص الضائعة أو تبادل الاتهامات، كما درجنا ضد بعضنا البعض، وتحميل هذا الطرف أو ذاك مسؤولية ما آل إليه وضع المعارضة من التردي لن يخدم على الاطلاق قضية المعارضة راهنا . فالكل مطالب في أن ينتفض على هذا النهج المدمر الذي ظلننا أسرى له وجعلت فرصا ذهبية تفلت من بين أيدينا. ولو أحسنا التعامل معها لخدمنا شعبنا ووطننا .

فالفرص الضائعة إذن هي حصيلة الناتج الاجمالي للمدخول التنظيمي والتعبوي والدبلوماسي للمعارضة في مجموعها. وهنا أود أن أشير إلى مسألة مهمة وأنا أتناول قضية الفرص الضائعة. من الواضح أن التعامل مع حدث سياسي من صنع ذاتي يخلف عن التعامل مع حدث صنعه آخرون. ففي الحالة الأولى يتاح للمرء المجال في أن يبني مقدما رؤيتة بحرية حول الكيفية التي سيتعاطى بها مع إفرازات الحدث. أما الأخرى فلا يطمئن إلى تطوير رؤية مستقلة يتولى صياغتها بمنأى عن أي تأثير خارجي . ولا مناص إذن أن نقول بأن المعارضة التي لا تملك القدرة على صناعة الحدث في أن تقع تحت تأثيرات موجد الحدث شاءت أم أبت .

هناك تطورات سياسية بالغة الخطورة في منطقة القرن الإفريقي . وإن أبرز مكوناتها العملية السلمية الجارية في السودان ، دخول الوحدات العسكرية الإثيوبية الأراضي الصومالية ، استضافة النظام الإرتري للمعارضة الصومالية المناوئة للحكومة التي يترأسها العقيد عبدالله يوسف ، اتهام أمريكا للنظام الإرتري برعاية الإرهابيين وبالتالي تدهور العلاقة الإرترية الأمريكية ، مشكلة الحدود بين إرتريا وإثيوبيا لا زالت دون حل. في سياق هذه التطورات لا نسجل أي دور للمعارضة الإرترية يؤهلها في أن تدخل كعنصر فاعل في مجمل العمليات الجارية . فبوضعنا خارطة لأدوار الدول المذكورة نجد من الواضح أن السودان لظروفه الداخلية سيصبح خارج دائرة التأثير و لن يتسنى له في الوقت الحاضر ، كما يبدو ، في أن يلعب دورا مؤثرا في مجرى الأحداث الجارية في منظقة القرن الإفريقي. زيادة على ذلك بأن هذه الظروف فرضت عليه لأن يتعامل بمرونة مع النظام الإرتري الذي ساهم في تهدئة مشكلة شرق السودان التي ما فتئة عن تغذيتها وتفاقمها منذ منتصف تسعينات القرن الماضي . وفيما يختص بإثيوبيا أنها على علاقة عداء مستمر مع النظام الإرتري لأسباب معروفة وتقف وجها لوجه ضده في كل شيء . أما علاقة أمريكا بالنظام الإرتري فقد تدهورت مؤخرا إلى أدنى مستوياتها وتطور الموقف الأمريكي إلى وضع النظام أمام خيارين لعودة العلاقة بين البلدين إلى ما كانت عليها في السابق . والخياران هما : إما أن يوقف دعم ما أسموه بالإرهابيين الصومايين أو أن يقبل تغيير نظامه . وأن أبسط ما يمكن أن يقال عن هذه السياسة أنها واضحة تمام الوضوح مما لا تترك مجالا للتأويل . وأن هذا الطرح ااذي لم يترك للعرف الدبلوماسي هامشا يبدو يعبر عن رغبة أمريكا في ان ترى زوال النظام .

ما هي الأسباب التي أدت إلى هذه التغييرات الجذرية في المواقف ؟

من المؤكد أن ديكتاتورية النظام الإرتري لم تكن وليدة المرحلة الراهنة. إذ أنه منذ توليه زمام السلطة في إرتريا فقد دشن إسياس عهده الديكتاتوري غداة الاستقلال في أول خطاب له في 20 يونيو 1992 م وإعلانه على مرأى ومسمع من العالم عن نهجه المعادي للديمقراطية. ومع ذلك تطورت علاقته الحميمة مع دول العالم بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. وفي مقابل هذا النهج الديكتاتوري ظلت قوى المعارضة الإرترية تطرح قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان ووصل صوتها إلى دول العالم كافة بما في ذلك طبعا أمريكا . غير أن تذمر وشكاوي الشعب الإرتري وقواه السياسية المعارضة لم تجد آذانا صاغية . ولكن عندما أقدم النظام على الزج في السجون لعدد من وزراء وصحفيين معروفين في الساحة الدولية ، بدأت دوائر دولية كثيرة تتابع ما يجري في إرتريا من ممارسات تعسفية واجرامية. بيد أن هذه المتابعة لم تتجاوز المخاطبة الخجولة للنظام ودعوته لأطلاق سراح المعتقلين وفتح المجال أمام حرية التعبير.

غداة الاستقلال كانت علاقة النظام الإرتري بإثيوبيا حميمية. بيد أن الود المتبادل سرعان ما انقلب إلى عداء مكشوف باندلاع الحرب في عام 1998 م بين البلدين . وحتى بعد إنتهاء الحرب وتوقيع اتفاقية الجزائر في عام 2000 م ظلت العلاقة بينهما متوترة بل وتعمقت أكثر فأكثر باستمرار بسبب موضوع ترسيم الحدود الذي لايزال معلقا. ونظرا لهذ الوضع المتأزم بين البلدين فإن حالة اللاحرب واللاسلم السائدة قد لا تستمر إلى ما لا نهاية وأن إمكانية نشوب الحرب من جديد متوقعة في أي وقت كما يراه البعض.

وللأسباب المذكورة وغيرها أبدت إثيوبيا في نهاية التسعينات عن استعدادها لفتح قناة الاتصال والاستماع إلى وجهات نظر تنظيمات المعارضة الإرترية وسمحت لها رسميا لأن تمارس نشاطاتها على أراضيها . ومنذئذ تتواجد المعارضة في إثيوبيا وتتصدى لمهامها. بغض النظر عن حجم الدعم الذي تقدمه لتعزيز نشاطات المعارضة غير أن موقفها يتميز بالثبات من مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تدعو لها المعارضة الإرترية كافة .

وعندما تأسس محور دول اتفاق صنعاء للتعاون المؤلف من الدول الثلاث إثيوبيا ، السودان واليمن، أبدى هذا المحور استعداده للاستماع إلى ما تطرحه المعارضة الإرترية ووعد بدعم نشاطها . وفي اطار هذا المحور ظلت إثيوبيا تلعب دورها في دعم ومساندة المعارضة . وبصرف النظر عن الأسباب، لم يبلغ الدعم الذي قدمه هذا المحور للمعارضة إلى مستوى مؤثر على النظام الإرتري . وتدريجيا انحسر موقف دول صنعاء في موقف إثيوبيا العلني المساند للمعارضة الإرترية .

تُبرز هذه الحقائق أمامنا وبما لا يدع مجالا للشك بأن العلاقات بين الدول تبنى دوما على المصالح وليس على مجرد التلاقي في المبادئ كما قد يعتقد البعض.

التحولات الدراماتكية واختلاف مواقف اللاعبين في خضمها

بداهة أن كل المعنيين بالشأن الإرتري في ظل الأوضاع الحالية يرسمون خططهم الآنية والمستقبلية على أساس تأمين مصالحهم الوطنية. وإن أبرز اللاعبين على مسرح الوضع الإرتري والذين قد يكون لهم دورا أساسيا في تشكيل النظام الإرتري هم : إثيبوبيا الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي وبدرجة أقل السودان والمعارضة الإرترية. فالنظام الديكتاتوري في إرتريا سيعمل للبقاء في السلطة بأي ثمن . وإلى ذلك قد يقبل الشرط الأول للولايات المتحدة الأمريكية فيما إذا ضمنت له الاستمرار في سدة الحكم أو سيدخل في تحد مكشوف ضد أمريكا ويواصل السير قدما في مغامراته وافتعال حرب جديدة ضد إثيوبيا من جديد . وعلى الرغم من الصورة المجسمة التي تحاول وسائله الدعائية إظهار استعداده وقدرة الجيش الوطني للدفاع عن الأراضي الإرترية إلا أنه يدرك تماما بأن الحرب ضد إثيوبيا لن تكون لصالح نظامه . ومع هذا فإن غامر باشعال فتيل الحرب ، وهو على علم مسبق بالهزيمة التي ستلحق به، فلم نجد تفسيرا لمثل هذا التصرف غير أنه ربما يفكر في اللجوء إلى جبال إرتريا الوعرة لخوض حرب العصابات ضد أية سلطة تحل محله ليأخذ الوضع منحا يماثل الوضع الصومالي في الوقت الراهن . ربما يتساءل المرؤ ماذا يريد أن يحقق بهذه المغامرة ؟ أعتقد أنه يفكر في أن يرسخ لدى الراي العام الإرتري والعالمي بأنه كان بطلا للتحرير ورجلا لا يساوم على السيادة الوطنية بالخضوع للأعداء . فضلا عن محاولة رخيصة لوصم من يرفض مغامراته الحربية من الإرتريين ويعارض نهجه الديكتاتوري ويدعو للسلام ويدافع عن السيادة الوطنية على أسس صحيحة بالخيانة العظمى.

قد تتقاطع مصالح اللاعبين الآخرين في أحيان وقد تتعارض في أحيان أخرى . الحسابات المحلية للدول في كثير من الأوقات تصطدم والحسابات الاستراتيجية للدول حتى إن كانت فيما بينها توافق في الاستراتيجية نفسها. وغالبا ما ينشأ هذا التعارض من إعتبارات أمنية واقتصادية للدول على حدى . وربما تجربة حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين تعطي صورة واضحة حول ذلك . فعلى الصعيد الدول العظمى تنظر إلى الأمور من منظار المكسب الجيوبولتيك في حين الدول الإقليمية تنظر للأمور من زاوية محدودة ممثلة في أمنها واقتصادها الوطنين . وهناك أيضا تعارض بين مصالح الدول الإقليمية ينشأ من حسابات محلية لكل دولة . وعلى سبيل المثال فأن الاعتبارات المصلحية للسودان في إرتريا تختلف عن الاعتبارات المصلحية الإثيوبية في إرتريا . كما أن التناقض في تقدير الموقف بين الدول الإقليمية والدول الكبرى أمر وارد . فالدول الكبرى تعتبر مساحة الدولة التي من المحتمل أن تجعلها ساحة الحرب لا يجعلها تهتم كثيرا بتفاصيل ما موجود على الأرض حيث التكنولوجيا الحديثة تعوضها عما تفتقر إليها من معلومات. لأن ما تبتغيه هو تغيير النظام الذي تعتبره معاديا لها ولا تهتم كثيرا لمعرفة تفاصيل مملة عن النظام البديل أو بمن يأتي على هرم السلطة الجديدة وأن هاجسها الوحيد هو ألا يكون توجهه العام معاديا لها. أما الدول الإقليمية يصبح هاجسها الأول هو من سيخلف النظام السابق حتى لا تتكرر تجربتها السابقة مرة أخرى في العلاقة. ولهذا السبب تعطي الدول الإقليمية جل اهتمامها لمعرفة القوى السياسية وعلاقات قوتها ومن سيكون على رأس الحكم بعد زوال النظام الخصم.

ملخص لما يدور من نقاشات في أوساط الإرتريين حول التطورات

إن الشارع الإرتري مثله مثل الشعوب التي خاضت النضال الوطني التحرري شارع مسيس . وليس هذا بالضرورة دليل على درجة عالية لمستوى الوعي السياسي. على أية حال التطورات السياسية التي تم تناولها آنفا أصبحت في هذه الآونة فضية يدور حولها نقاش ساخن بين الإرتريين. فمن منهم من يتفاءل بأن هذه التطورات ربما تكون بداية النهاية من النظام الديكتاتوري. والبعض الآخر لا يكن حبا للنظام ولكنه يخشى ألا تكون التطورات مقدمة للنيل من الاستقلال والسيادة الوطنية الإرترية التي جاءت نظير أثمان باهظة دفعها الشعب الإرتري طوال ستين عاما مضت . وقد يكون لهذا التفاؤل أو التشاؤم مبررات . ولكنني أتصور أنه من الصعب أن يتقدم أصحاب هذين الرأين معلومات وافية أو دلائل ملموسة توصلنا إلى هذين الاستنتاجين إذ أن التطورات الجارية لم تكن من صنعنا . يتوجب في مثل هذه الحالة أن لا نضع أنفسنا بين فكي كماشة التشاؤم والتفاؤل بل ينبغي علينا أن نفكر في تبنى رؤى صحيحة تنجنبنا الإنزلاق وراء متاهات ساسية لا نجني من وائها مكسبا.

إن تعدد اللاعبين وتباين مصالحهم ومنطلقاتهم تحتمل عدة سيناريوهات . لا توجد لدي معلومات موثوقة تساعدني في القيام بأي تحليل لتحديد السيناريوهات المحتملة . وبغياب هذا الشرط لا معنى لأي اجتهاد وسيظل مجرد طرح فرضيات . بيد أن الشيء الذي أود تأكيده هو أن مخرج الإرتريين في هذه المرحلة الحاسمة هو أن يوحدوا كلمتهم في المسائل الوطنية لكي يكونوا مستعدين لمواجهة الاحتمالات المستقبلية بكل تفرعاتها بوقفة رجل واحد . وهناك مدخل يساعد المعارضة الإرترية ، أنه على الرغم من أن مؤتمر التحالف الديمقراطي في ماس الماضي قد أخفق في الحفاظ على وحدته إلا أن الميثاق الذي أجمع عليه المؤتمر لايزال يشكل الوثيقة السياسية الصالحة للإنفتاح على أساسها على القوى السياسية وتنظيمات المجتمع المدني العاملة خارج مظلة التحالف ضد النظام الديكتاتوري بهدف توحيد الرؤية الوطنية لمواجهة التطورات الجارية في منطقتنا. وإن السعي الحثيث لتحقيق هذه الغاية الوطنية النبيلة هي مسئولية كل الإرتريين وبشكل رئيسي مسئولية قيادات تنظيمات المعارضة التي يجب ويجب ثم يجب أن تخرج وتتحرر من مخلفات الصراع الماضية وتنهض بمسئولياتها في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة على الصعيد الوطني. ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أذكر بأن توفر لحظة تاريخية مواتية أمر وارد في عالم السياسة ولكن تكرارها أمر نادر الحدوث !!!

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=40994

نشرت بواسطة في نوفمبر 7 2007 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010