إختطاف التّعليــــــــــــم (2)

 

بقلم : بشرى بركت

سنحاول في حلقة اليوم ملامسة بعض عناصر الألم في الشأن التعليمي في أسمرا والمتثّل في إضعاف فرص اللغة العربية والتعليم الديني الإسلامي وصولاً إلى لحظة الإستئصال الكبرى التي قام بها النظّام بإختطاف آلاف المعلّمين من كلّ ربوع إرتريا بما فيها المدارس العربية في أسمرا وإختفاء مجموعة “إندا أبوبكر” في ظروف غامضة وإختطاف معلمي ودعاة مسجد “ماديشتو” وسنذكر أيضاً رمزين تم إخفاؤهما قسراً من مدرسة الجالية العربية هما المعلم الفنان عبدالرحمن ضيف الله ورجل الحماس المطلق محمد ياسين.

مجموعة “إندا أبوبكر”

بين مجموعة “إندا أبوبكر” مدعية الصوفية وربّما أبعد، وبين الأنشطة التي كانت تقام في مسجد “ماديشتو” دراما وهستيريا علاقة تنافس ربّما إستفاد منها النّظام في مرحلة ما، تحت دعاوى محاربة الوهابية، وتلكم كانت أحد نقاط الضّعف التي عمل على تأصيلها مدعوماً بقلّة الثّقافة الدينية وإنعدام الفهم الإستراتيجي للأهداف التي سعى النّظام لتحقيقها عبر هذ الإختلاف الوهمي التي كان يتوغّل في المجتمع الأسمراوي المسلم وسعيه لإستئصال الثقافة العربية بتجفيف منابعها وضرب الساعين لتمكينها ببعضهم البعض، ثم الإنقضاض عليها تأكيداً لمشروعه القومي السّاعي لإستئصال تلكم الثّقافة وعليه عمل بقوة على تقوية بذور الخلاف ومن ثم رفع شكاوى على مستويات أعلى ضد أنشطة مسجد ماديشتو ربما اليوم نكون في غنى عن الخوض في تفاصيلها، لأنّ الكلّ قد أُكِل يوم أُكِل الثور الأبيض، علماً بأنّ هناك سجلّاً كاملاً لأحداثها قد يرى النّور في إرتريا العدالة والحريات والأمن في المستقبل القريب.

مجموعة “إندا أبوبكر” كما كان يحلوا لأهل أسمرا تسميتها عملت على جمع الشباب برضاء تام من المجتمع الذي كان تخوّفه الأول من إختراق ما أسموه بالوهابية التي تربعت تقريباً على كلّ ركن من أركان إرتريا بأسلوبها المباشر والأكثر إقناعاً بقوّة الحجة والبرهان. الأوقاف في أسمرا كان تدعم تلكم المجموعة بقوة وكان لهذه المجموعة أثراً طيّباً في تعليم مبادئ اللغة العربية والدين مع إيغالها في المناشط الصّوفية التي تضمن لها رضاء الأوقاف التّام. وقد سرت الثقافة الدينية والعربية على يديهم عبر التّجمعات اليومية والأسبوعية خاصّة في فترة الحصار التي كانت تعانيه أسمرا 90/91، وللتّذكير كانت تلك الفترة التي تحدثت فيها الأوساط الكنسية بأنّ على الأبوب حرب دموية، وسيرى داخل أسمرا حرب شوارع فتاكة لا محالة وعليه ليحمل كلّ فرد ما يشير إلى دينه حتى يتم التّعرّف عليه ودفنه في المكان المناسب حسب عقيدته، في هذه الفترة كان الرّعب سائداً وكان النّاس أقرب إلى التديّن ممّا ساعد في تكوين تلك المجموعة وإنتشار أنشطتها التي كانت تسري بين النّاس كما النّار في الهشيم.

لا أدّعي الإلمام بكلّ شيء حول هذه المجموعة إلّا ما خبرته عبر معايشة يومية في بعض الفترات وتحليل منطقي لبعض النّتائج والأحداث، إلّا أنّني أُؤكّد بأن القاسم المشترك بينها وبين كلّ الأنشطة التي كانت منتشرة في كلّ ربوع إرتريا هو نشر اللغة العربية بالقدر الذي تتيحه الظروف. وعليه فعل بها النّظام ما فعل بغيرها من التفكيك حين عزل بعض أفرادها عن مجتمعهم وهجّر البعض الآخروأخفى من تَبَقّى منهم ثم إنتهاءاً بالسطو على مقرها.

لم يحتمل النّظام أي تجمع حتى لو كان موغلاً في الصوفية، لأنّ الهدف واضح للعلن وهو إستئصال أي فرصة للغة العربية في بلد يكاد يكون كلّ أهلها من ذوي الأصول العربية، ثُمّ الثقافة الإسلامية التي عمل على التخلّص منها بشتّى الوسائل.

لم يحتمل النّظام الإرتري ما إستطاع الإستعمار الإثيوبي بكلّ مساوئه تحمّله وهو إنتشار التعليم باللغة العربية والتعليم الديني الإسلامي، فلم يكن بالعداوة الفجّة التي يحملها نظام إساياس الطائفي الغاشم لكلّ ما هو عربي وإسلامي، وبالرغم من ذلك نشرت هذه المجموعة الكثير من الثقافة الإسلامية بين أهالي أسمرا ولم يتعرّض لها النّظام في بداياته إلّا بقليل من المضايقات ودفع الأوقاف إلى تحريضها على الأنشطة المقامة في مسجد “ماديشتو”. مع العلم بأنّ إدارة الأوقاف في أسمرا كان علمها محدوداً وإمكانياتها لم ترق إلى فهم ما كان يهدف إليه النّظام وإستراتيجيته المتمثّلة في إستئصال فرص التعليم باللغة العربية وإيقاف إنتشار الثقافة الإسلامية، ثم سعيه الحثيث على عدم التواصل السّلس بين المناشط التعليمية العربية والإسلامية المتواجدة في ركن وزاوية في إرتريا وبتر كل علاقة محتملة بين هذا وذاك ومن ثم يستفرد بكلّ طرف ويعمل فيه ما شاء، خاصّة بعد أن تمكن من إستئصال النّواة التعليمية بإختطاف معلمي اللغة العربية من كل ربوع البلاد في ليلته المظلمة تلك ليلة الرّابع عشر من إبريل من العام 1992.

إختفت مجموعة “إندا ابوبكر” وإنتهى الأمر بناشطيها إلى ما نعلم من سجون النّظام وإلى ما لا نعلم من مجاهل المقادير الإرترية ما ظهر منها وما بطن!!

معلّمي ودعاة مسجد “ماديشتو”

أراد الله لبعض من شباب بعض الأحياء الشّمالية في أسمرا أن يوسعوا من ثقافتهم الإسلامية والعربية بالتّواصل مع من كانوا أكثر تمكُّناً في ذلك من معلّمي اللغة العربية في كرن وقد كانت لهؤولاء إستجابة سريعة مما مكّنهم من العمل على تأسيس مركز إسلامي في المسجد الكائن بحي “ماديشتو”، يقوم بنشر مبادىء الدين الإسلامي وتعليم اللغة العربية، وقد أصبح لهذ الموقع صيتٌ وسمعةٌ كانت ملىء الأبصار والمسامع، ممّا نشّط الحرب الشّرسة ضدها بما في الإعتداء البدني المتكرّر، إلّا أنّ إنتشار مناشطها غطّى كلّ شيء حتى وصلت إلى أحياء أخرى كحي “قزا باندا”، وكان حضور هؤولاء الدُّعاة إلى بعض المساجد الأخرى يشكّل زَخَماً قويّاً وكانت المساجد تعجّ بالمصلّين السّاعين لحضور الدّروس فيها.

وبما أنّ نشر اللغة العربية كانت هدفاً لهذه المناشط الكبرى، وأنّ التخلّص منها كان هدفاً إستراتيجيّاً للنّظام رغم أنّه كان هناك تفهُّماً عامّاً في البلاد بأنّ اللغة العربية قادمة، وأن العديد من كوادر النّظام يحاولون تعلّم اللغة العربية، كان على النّظام أن يحرض على هذه المناشط ثم ينقضّ عليها في الوقت الذي رآه مناسباً حين سجن وإختطف كلّ التّعليم باللغة العربية في البلاد.

الإتفاق الشّامل لكلّ أركان النّظام بما فيه القائمين على الدّولة أو من هم في السّجون منهم أو الآخرين الذين يمثّلون النّظام بشكلٍ ما في المناشط المعارضة خارج البلاد، كان الإتفاق في إستئصال فرص توسّع اللغة العربية وإنتشار الثقافة الدينية الإسلامية، وقد يكون مؤشراً واضحاً ما قاله المدعوا “فورو 12” لإحدى السائلات عما حدث للمعلّمين الذين كانوا ينشطون في مسجد “ماديشتو” وكان ردّه أنّه لا يعلم من أمرهم شيئاً وهو الذي كان بحسب إدعائه في القلب من الكيان الحماسيناوي الخفي الذي يمتلك زمام الأمور في الجبهة الشعبية قبل وبعد التحرير، ممّا يعنى أنّه في حالة إتفاق مطلقة في أمر إستئصال الثقافة العربية والإسلامية في البلاد.

ضيف الله / محمد ياسين

شخصيتين قد لا تجد فيهما ما يجمع بينهما إلّا أسوار مدرسة الجالية العربية في أسمرا وعملهما على التدريس باللغة العربية، ثُمّ جامعاً آخر حين جمعهما خلف أسوار سجونه فاختفيا في نفس الحملة الشعواء التي راح ضحيتها المئات من معلّمي اللغة العربية من على السّاحة تجهيلاً للشعب وإخفاءاً للأمل في أن تقوم للغة العربية قائمة في بلاد تجتمع أول ما تجتمع بطبيعة البيئة والثقافة والجوار على اللغة العربية.

عبد الرحمن محمد ضيف الله من أفضل من رفع القلم ليَخُطّ الحروف العربية، وكان أيضاً من أعظم من رفع الريشة ليرسم جمال الحياة كما يراها. كان يحمل الكثير في جُعبته ليقدّمه لتلاميذه وقد كان له الإستعداد الدّائم لتعليم تلاميذه مبادئ الخطّ العربي بشتّى أساليبه فعمل على تكوين فصول للخطّ العربي وللرّسم والفنون الجميلة بشتى أنواعها. قدّم كل أنواع الأقلام وكلّ أنواع الألوان وكلّ أنواع الرّيش لطلابه بأسلوب جعلهم يحبّون ما يعلّمهم إيّاه من خلال رسالته السّامية الهادفة لنشر الجمال في نفوس تلاميذه ومن ثَمّ ومن خلالهم في حياة مجمل مجتمعه، كان طلاب مدرسة الجالية العربية في أسمرا دائماً الأكثر إلماماً بكل جوانب الفنّ التشكيلي بين أقرانهم في المدارس المنافسة والمتقاربة في المستوى التعليمي في حاضرة إرتريا أسمرا.

لا أستطيع قول شيء أكثر من أنّ “ضيف الله” من أكثر النّاس إهتماماً بالتّعليم وخاصّة أسلوب التعليم الذي كانت تنتهجه مدرسة الجالية العربية والمُتمثّل في الطريقة المثالية في تحقيق الإنجاز المزدوج وهو التعليم باللغة العربية والتعليم الديني بالإضافة إلى التّمسّك بالمنهج الحكومي الكامل وأنشطة أخرى لا توجد في المدارس الحكومية والأخرى التى تقوم عليها مُنظّمات كنسية لها امكانيات مادية خارقة.

الإهتمام الخاص للأستاذ ضيف الله باللغة العربية والخط العربي والفنون الجميلة كان له أبلغ الأثر في إنتشاره خطّاطاً وفناناً مبدعاً، مما فتح له المجال للعمل الخارجي خاصّة في الفترة الإنتقالية  التي كانت البلاد تقوم فيها بتحويل الشّعارات ومسميات المحلات التجارية والمؤسسات الحكومية إلى الإرترية، خاصّة وأنّ الجموع الإرترية كانت متحمّسة للتغيير من اللغة الأمهرية إلى اللغة العربية والتقرنية، مع العلم بأنّ أسوأ الإفتراضات حينها كانت توحي بأنّ للغة دور في إرتريا وإن صغُر (الأمر الذي إضطرّ شخصيات مثل د. عندي برهان ولد قرقيس إلى الجلوس في مقاعد تعليم اللغة العربية)، وكان ضيف الله هو الشخص الأكثر تمكّناً في الوصول بجماليات الخطّ العربي إلى شوارع أسمرا، بالرّغم من أنّ هناك من كان يعمل لتشويه ذلك لغويّاً وفنّيّاً – وكانت لهم الغلبة في ذلك، إلّا أنّ كل من أراد أن يصل إلى جميل الخطّ العربي من أصحاب المحلات التجارية ومن كان من المسؤولين على رأس بعض المؤسسات وأراد أن يصل إليه كان بإمكانه ذلك وعليه كان ضيف الله مؤثّراً في انشار جماليات اللغة العربية ومن ثم كان على النّظام التصرّف حياله بفرض عقبات في طريقة وأخيراً إنتهى به الأمر إلى إيقافه نهائياً عن إستكمال مسيرته الجمالية فاختطف مع من تم إختطافهم وإختفى إلى حيث لا ندري.

أمّا محمد ياسين فقد كان نموذجيا في الحماس للتّعليم باللغة العربية وللوصول إلى أقصى درجات البذل والعطاء في تعليم الأجيال القادمة من كلّ أطراف أسمرا لتعلّم اللغة العربية في مدرسة الجالية العربية وكان يسعى بشكل مختلف في الإستفادة من كل لحظة يمكن للطلاب الإستفادة منها وقد كان من أكثر الناس حماساً أيضا في التأهيل البدني للطلاب والعمل على تنشيط فِرق الكشّافة التّابعة لمدرسة الجالية العربية، كان في المدرسة من يصفه بالتّهوّر كونه كان حماسيا فوق إستيعابهم جميعاً وكان مشاركاً بشخصه وليس مديراً لكلّ نشاط يقوم به في إطار مؤسّسات المدرسة. حتى أنّه كان يشارك طلابه اللعب في وقت الفسحة المدرسية مما مكّنه من التواجد بقوة في جدول أعمال الطّلاب على أساس أنه صاحب لهم وليس مدرّساً فظّاً آمراً ناهياً، وكان أيضاً يتحدّث إليهم بلغتهم الشبابية بكلّ حدّتها فكان سهل التعامل معه بالنسبة للطّلاب!!!

الأنشطة التى كان يعمل عليها محمد ياسين كما هو الحال في زميله ضيف الله لم تكن لتتواجد في المدارس الحكومية والكنسية حيث يحكم الغوغاء التقليديون حاملي العصيّ الغليظة، فما كان للنظّام أن يحتمل أي شيء يتقدّم على برنامجه الطموح في إستئصال كل ما يمتُّ إلى اللغة العربية بأي صلة ويتفوّق على مستوى أهدافه المتواضعة، فانقضّ عليه كما فعل مع كل مدرسي اللغة العربية في كلّ ربوع إرتريا، وإختفى محمد ياسين قسريّاً كما كان حال أصحابه.

قيل يوماً انّه ظهر في أحد سجون النّظام في حالة يرثى لها لا نحتمل وصفها ثم إختفى بعدها إلى ما لا نعلم.

بإختفاء جماعة “إندا أبوبكر” بما لها وما عليها، وإختفاء الدروس الدينية وتعليم اللغة العربية في مسجد “ماديشتو” وبإختطاف ضيف الله ومحمد ياسين، حقّق النّظام ذات أهدافه وطموحه التى سعى إليها بإختطاف كلّ من قام لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي. حقّق النّظام أهمّ أهدافه وهو إجهاض أي فرصة لتواجد اللغة العربية في حياة الإنسان الإرتري حيثما وجد داخل إرتريا. وسار يتقدّم هو وأتباعه في غيّهم إلى أن وصل بهم الأمر اليوم حدّ الإنكار المطلق لوجود اللغة العربية ووجود المسلمين كجزء فاعل من الكيان الإرتري له دوره وتأثيره!!!! وهذا كان نتيجة طبيعية لذاك أو خطوة مكملة لما سبق، فهو بحقّ مشروع واحد نعيش كلّ مراحله!!!

bush.bark@outlook.com

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=41424

نشرت بواسطة في مارس 29 2017 في صفحة البشرى, المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010