اقتحام سجن عدى خالا عام 1975 .. فشل محقق ونجاح غريب

بقلم/  عثمان بدوى عمريت

ملاحظة..

 

        ان الكتابة عن: السجن مكانا‘ القانون نظاما‘ الاحكام زمانا والسجّان انسانا‘ … مدى تقبل وتعامل السجين مع واقعه – عدلا كان او ظلما- ومدى تفاعله مع زملائه من النزلاء‘ … المعاناة الحياتية‘ الانسانية والمعنوية للسجين‘ … الاثار‘ النفسية‘ الاجتماعية‘ الاخلاقية‘ وحتى العقلية للسجن‘ … السجن بين كونه مؤسسة اصلاحية لتقويم الفكر وتهذيب السلوك‘ وكونه مدرسة تساهم فى تطوير المنحرفين الى محترفين من القتلة والمجرمين‘ … ماهية الفوارق بين السجون الارترية والاثيوبية فى ذلك الوقت.

 

… السجن كساحة للصراع السياسى‘ … الوسائل‘ الامكانات والظروف التى استغلها واستخدمها العدو لكسب معركة السجن كموقع متقدم فى حربه ضد الثورة‘ … اهمية وكيفية صمود الوطنيين امام سطوة وبطش العدو باعتبار ذلك جزءا اساسيا من الصمود الوطنى العام. كانت هناك الآم شديدة ‘ وبالمقابل كانت هناك امال عريضة .. تكسرت عليها محاولات العدو الاستخباراتية‘ كما تكسرت حملاته العسكرية.

 

كل تلك النقاط .. محطات يفترض التوقف عليها واعطائها حقها من الشرح والتعريف. غير ان تناول تجربة عشرة اعوام موزعة بين سجن اسمرا ‘ سجن اديس ابابا انتهاءا بسجن عدى خالا عبر شبكة الانترنت‘ معضلة صعبة – اما طويلة ومملة واما مبتورة وعلى حساب وقائع تستحق الذكر او اشخاص جديرين بالشكر. لذا .. آثرت الكتابة من الاخر ليتصادف ذلك مع مرور ثلاثين عاما على تحرير السجناء من سجن عدى خالا فى الثالث عشر من شهر فبراير من عام 1975.

 

========================

الحلقة  1/6

          “تقرئكم الجبهة السلام وتعدكم بالتحرير قريبا”. هذه الكلمات فاجأني بها سهلى – الممرض بمستشفى سجن عدى خالا فى اوائل شهر يناير من عام 1975. في الحقيقة، لم اعر كلامه أي اهتمام. من ناحية لاننى كنت أعاني من صداع نصفى حاد جدا وكان هو ســبب مجيئي إلى العيادة‘ ومن ناحية اخرى، لم تتجاوز العلاقة بيننا طيلة السنوات السابقة مستوى توفير بعض الأدوية على حسابى منذ ان الغي العلاج وتحول المستشفى الى عيادة للاسعافات الاولية. ثم اعتقادا منى بأنه كان بعيدا عن الاهتمإمات الوطنية حتى انتهز الفرصة للاسترسال معه في مناقشة مثل ذلك الموضوع الحيوي. كان جل اهتمام سهلى في ذلك الوقت، على حد ملاحظاتى، مركزا على كيفية تحسين مستوى لغته الامهرية والالمام بالقوانين الاثيوبية لخوض الانتخابات البرلمانيـة. كرر نفس الكلام عندما أوشكت على الخروج وفى نبرته هذه المرة نوع من الجدية. وجدتني أقول له عفويا “اخبرهم بأننا مستعدون للخروج.”

 

          ذكرت الموضوع لزميلى فى القضية صالح جابر وراك. كما  ذكرته لكل من ارمياس مرهزين‘ برهاني تلخزين‘ يعقوب كيدانى وقرماى  (بوليسيا) وكان يجمعنا برنامج مناقشات يومي‘ بالاضافة الى كوننا مدرسين فى شبه مدرسة ابتدائية لتعليم السجناء الغير سياسيين. ايضا اطلعت سيوم عقبا ميكائيل على ما دار بينى وبين سهلى. كانت تجمعنا علاقات شخصية ونضالات مشتركة ضد العناصر التى كانت تحركها المخابرات الاثيوبية فى سجن اسمرا.

 

          بالكاد كنت انتهي من سرد ما دار بيني وبين سهلي حتى كان يضج الزملاء بالضحك ظنا منهم بأنني أصبت بنوع من الهذيان متأثرا بالعلاج الذي تناولته للتو‘ او ان الثمالة بلغت بسهلي حدا افقدته رشده‘ مستبعدين أن يكون سهلى قد سمع أصلا بوجود الجبهة ناهيك أن يلتقي بها. عبثا حاولت إقناعهم بأنني واع تمإما وان كل ما قلته حقيقة سمعتها من سهلى وانه كان عاديا وواعيا جدا بصرف النظر عن رأينا في مدى وطنيته. للإمانة التاريخية، لم يدر بخلد أحدنا‘ ولو للحظة‘ أن تفكر الجبهة فى تحريرنا من غياهب السجن قبل تحريرها كامل تراب الوطن.

 

         بعد اصرار من جانبى على ما قلته واستخفاف من جانبهم، اتفقنا على أن أتأكد من صحة وجدية الموضوع. فرصة الذهاب الى العيادة فى المساء كانت الامتياز الوحيد الذى كنا نتمتع به كمدرسين. فى اليوم التالى سألت سهلي الذى كرر بلا اى تلكأ او تردد ما قاله سابقا واضاف “فعلا بعض قيادات الجبهة موجودة هذا اليوم في مدينة عدى خالا!” بادرته مستوضحا من من القيادات طلب منه إبلاغنا بتلك المعلومـة، فأخبرني انه القائد سعيد صالح. بمجرد ما ذكر الاسم .. دبت في نفسي الطمأنينة وعدت بذاكرتي إلى الفترة التي كان يعالج فيها سعيد صالح في منزلنا في حرقيقو من إصابته في معركة محلاب (قرح) التي جرت عام 1965 إبأن عبور الجبهة إلى المنطقة الرابعة. للتأكد اكثر‘ سألته ما إذا طلب منه سعيد صالح إبلاغي بالموضوع شخصيا أم انه أخبرني به باعتباري أحد السجناء السياسيين. قال “… بل اخبرتك به كأحد السجناء السياسيين ليس إلا.” ناشدته ألا يطرحه مع أي شخص آخر وحصره بيني وبينه لبعض الوقت. رجعت إلى العنبر حيث كان ينتظرني الزملاء بفارغ الصبر. بشرتهم بالنتيجة وأخبرتهم، باعتزاز وثقة مطلقة، بأنني اعرف الشخص الذي كلف سهلى معرفة شخصية ويدعى سعيد صالح مع اعطاء نبذة عن ظروف معرفتى به.

 

          ناقشنا الموضوع من كل جوانبه بإسهاب وفى الاخر اتفقنا على اعتباره‘ مبدئيا‘ فخا وراؤه المخابرات الأثيوبية لتدفعنا نحو القيام بعمل ما حتى توجد لنفسها مبررا كافيا لتصفية السجناء السياسيين بتهمة محاولة الهروب، ولكن مع إبقاء الاتصال بسهلي وضرورة مراقبته عن كثب قدر الإمكان. اخترنا سيوم ليتولى الاتصال بسهلى حتى لو تطلب الامر دخوله المستشفى. أخبرت سهلى بأننا سنتولى متابعــة الموضوع معه وان سيوم عقبا ميكائيل سيكون حلقة وصل بيننا وبينه، واقترحت عليه إدخال سيوم المستشفى ليكون على مقربة منه تسهيلا لعملية الاتصال اذا دعت الضرورة. ادخل سيوم المستشفى وكنت اتبادل معه المعلومات عصر كل يوم من خلال فرجة صغيرة فى شباك الحمام المطل على ساحة العنبر اثناء انشغال الحراس بالتغيير‘ الا فى حالات طارئة. اما وسيلة الاتصال مع الجبهة وتوقيتها فقد كانت تختلف حسب الظروف والموضوع ولا يمكن تحديدها بالضبط.

 

          بدأنا في تحسس الأخبار مستغلين هامش الحركة الذي كان يتيحها لنا عملنا كمدرسين. أكدت المعلومات التي توافرت لدينا خلال أسبوعين تقريبا والتي لم يرق إليها شك أن سعيد صالح الذي كنت اعرفه وبالتالى اقصده استشهد فى اواخر الستينيات في معركة جرت فى منطقة عقمدا في المنطقة الرابعة. لم تبدد تلك المعلومة كل الإمال التي بدأنا ننسج خيوطها فحسب، بل وزادت من حجم الشكوك والريبة التي ما فتأت تساورنا منذ الوهلة الاولى. بدأنا نتساءل .. إذاٌ .. من هو هذا الشخص الذي ينتحل هذا الاسم ولماذا؟ وهل الممرض سهلى ضالع فى مؤامرة تحاك ضدنا؟ وهل اتصاله بى شخصيا كان عفويا أم مقصودا؟ ولماذا أنا بالذات؟ وهل نحن حقيقة امام فخ منصوب؟! ناقشنا هذه الاحتمالات كمؤشر في الاتجاه المعاكس نقاشا مستفيضا ووفق سيناريوهات مختلفة أحيانا كانت اقرب إلى الخيال. اتفقنا مجددا على عدم التسرع في الحكم والتعامل بحذر اكبر.

 

          بينما كنا في حالة ترقب واستبطاء منذ دخول سيوم المستشفى، وصلت رسالة من سعيد صالح عن طريق سهلى يذكر فيها أن الجبهة تفكر جديا في تحرير السجناء السياسيين بالتعاون معنا ويستفسر عن بعض المعلومات: كروكي السجن ‘عدد الحراس، نظام الحراسة وتوقيته، نوعية الأسلحة .. الخ. فرحنا كثيرا بالرسالة، ولكن دور سهلى الوطني المفاجئ وشخصية سعيد صالح المجهولة، على الأقل بالنسبة لنا، ظلا غصة في حلقنا لم نستطع هضمها. كنا نحس في قرارة أنفسنا بأننا نتعاطى مع المخابرات الأثيوبية، وبالرغم من ذلك‘ ارسلنا ردا وفرنا فيه المعلومات المطلوبة إذ كان جزء منها متراكما والجزء الآخر بدأنا في جمعه منذ اليوم الأول للاتصال تحسبا للحوجة. فيما يخص بمدى امكانية مشاركتنا في العملية العسكرية، فقد اوضحنا صراحة عدم التعويل علينا للقيام بأي دور يذكر نظرا لتواجدنا خلف ستة أبواب حديدية. كان عزاؤنا الوحيد انه حتى لو قدر الله ووقع ردنا في يد المخابرات فلن تكون فيه أية أسرار يخشى عليها أو التي لا تعرفها. اكثر من ذلك، رأينا انه يمكننا بذلك الرد تطمين الحكومة بأنه لا يمكن ولا نفكر فى الهروب – املا فى ان يؤدى ذلك الى نوع من الاسترخاء قد نستفيد منه مستقبلا متى ما سنحت لنا فرصة حقيقية. علاوة على ذلك، اعتبرنا ردنا فرصة لاستكشاف ما يدور بشأننا في الخفاء ومغامرة محسوبة طالما لم نتورط في أي تصرف فعلى.

 

الإيطاليون هم الذين بنوا سجن عدى خالا وهو عبارة عن قلعة منيعة ويعتبر اكبر سجن في إرتريا حتى الآن. يبلغ علو سوره نحو خمسة أمتار وعرضه نحو مترين. يخضع لحراسة مشددة من دفاعات خراسنية مبنية  فوق السور فضلا عن توافر قوة دفاعية لا بأس بها عدة وعددا يمكنها الصمود ريثما تصلها النجدة، يساعدها في ذلك الموقع الإستراتيجي. وكان يتكون السجن من مكاتب، عنابر للسجناء، زنزانات للعزل والعقاب، عنبر لاستراحة الحراس الاحتياطيين، عنبر مقسم بين عيادة ومستشفى، مطبخ وملحقاته، مستودع مركـزى، مدرسة – وهى عبارة عن عنبر مقسم إلى فصول، غرفة لجهاز لاسـلكي، غرفة لمولد كهربائي للطوارئ .. الخ. كان يتراوح  عدد السجناء في ذلك الوقت بين ثلاثمائة واربعمائة سجينا.

 

          كانت السجناء السياسيون في ذلك الوقت فى عنبر واحد وكانت العلاقة بينهم فى تلك الآونة في احسن حالاتها بعد ان شهدت انفراجا ملحوظا بعد تلاشى الاحباطات التى نتجت عن التطورات السلبية التي شهدتها الساحة. حتى فى اسوأ الحالات ‘لم تصل التباينات فى الرؤى الى درجة التعصب او احتكاكات بحيث تؤثر على العلاقات الشخصية. تزايد عدد المتعلمين‘ من ناحية‘ وتزامن ذلك مع فتح الكنيسة الانجيلية السويدية تلك المدرسة على نفقتها‘ من ناحية اخرى‘ لربما ساعد على ذلك التحسن. من النتائج الايجابية الغير مباشرة لافتتاح المدرسة على السجناء السياسيين .. ارتفاع وتيرة عملية تهريب الكتب والقرطاسية اكثر من ذى قبل بحيث انشأنا شبة فصول سرية داخل العنبر. اصبحت الغالبية إما معلما او متعلما. تدرج الوضع الى تكوين حلقات نقاش، مطالعات مشتركة وحوارات اقرب إلى ندوات مصغرة في شكل مجموعات منسجمة. كثيرا ما كان يحي بعض الموهوبين من أمثال آدم إدريس سكر ومحمد على عمر أمسيات فنية ولاسيما في المناسبات العامة. حتى عندما عجزت الارجل عن حمل اصحابها بسبب الضعف والهزال الذى اصاب السجناء نتيجة تخفيض المصروفات اليومية الى ما دون النصف‘ كنا نحى المناسبات العامة بنفس المستوى من الروح المعنوية العالية وان كان بصوت مبحوح وقعودا (بدون نط او تنطيط!). كنا نعتبر عملية إسماع صوتنا الى سكان مدينة عدى خالا الذين تعودوا على سماعه فى كل مناسبة بمثابة رسالة سياسية لابد من ايصالها حتى يعرف الجميع أن صمودنا ما زال متصاعدا مهما ساءت الحالة بصفة عامة .كان يتطور نشاطنا، في بعض الأحيان، إلى درجة عرض تمثيليات تجسد الكفاح الوطني لرفع الروح المعنوية وفكاهية للترفيه. كنا نستخدم المكانس للتدريب (الدفاع عن النفس‘ الطابور العسكرى‘ كيفية امساك واستعمال البندقية‘ التصويب‘ التعمير والتفريغ، الاحتماء بالساتر، الزحف والانسحاب‘ استخدام القنابل مع شرح نظرى لاجزاء الكلاشنكوف). كان يتم ذلك كله في شكل افراد وسط العنبر بعد قفل الباب مساء وخصوصا في موسم الأمطار والبرد القارس حيث  كان يحتمي الحراس بعيدا طلبا للدفء. كان لتلك التدريبات تأثير معنوي ونفسـى ملحوظ .بهذا التحدي والروح المعنوية العالية كان يرتقى السجناء إلى مستوى طموحات شعبهم في الحرية والاستقلال. كان السجن مدرسة للرجال وميدان للابطال.

 

========================

اقتحام سجن عدى خالا عام 1975 .. فشل محقق ونجاح غريب

 بقلم/  عثمان بدوى عمريت

الحلقة  2/6

         ناقشنا مدى جدوى اطلاع كافة الزملاء في العنبر على الاتصالات الجارية مع الجبهة. ارتأينا انه من المصلحة العامة إبقاء المعلومات في نفس الإطار لعدة اعتبارات أهمها: حصر أية نتائج سلبية قد تترتب عليها، لأي سبب كان، في أضيق الحدود ولاسيما أننا لم نكن متأكدين تمإما من حقيقة الجهة التي كنا نتعامل معها، ثم إن علم الجميع من عدمه في تلك المرحلة ما كان ليغير شيئا. الاخذ في الاعتبار تجارب سلبية سابقة. عندما كنا فى سجن اسمرا ،على سبيل المثال، وكلنا من السجناء السياسيين، ناقشنا ذات مرة مدى امكانية الهروب وبالذات من العنبر الصغير الذى كنا فيه والذى كان ملاصقا للسور من جانبين. طرحت بعض الافكار القابلة للتنفيذ فيما لو توفرت لها بعض العوامل المساعدة. لم تمض سوى فترة وجيزة حتى فوجئنا بزيارة خاصة من شخصية معروفة ومشبوهة. ابدت الشخصية تعاطفها واسفها على حالنا وهى تذرف دموعا لم نصدقها، ثم ذكرت ان الوسيلة الوحيدة امامنا للخروج من السجن، ولاسيما بعد ان ابرمت محكمة الاستئناف الحكم علينا، تنحصر فى محاولة الهروب. وعبرت الشخصية عن استعدادها لبذل اقصى ما تستطيع للمساعدة على انجاح اية خطة نراها مناسبة. لاحظنا اثناء حديثها انها كانت تحاول قراءة افكارنا وردود افعالنا. شكرها صالح جابر وراك-   اكبرنا سنا – بالنيابة عنا على مشاعرها الطيبة وأكد لها بأننا سنصبر مع شعبنا الى يوم النصر القريب. فى الحقيقة، كنا قد اتفقنا فور رؤيتها قبل دخولنا المكتب على الا نتحدث معها باكثر من سلام واخبار الاهل والاولاد .سرعان ما عرفنا الغرض من تلك الزيارة وكيفية تسرب فحوى نقاشنا الى الخارج .. وكان بحسن نية! .

 

          الاهم من ذلك كله، كانت هناك مفارقات موضوعية لابد من التعامل معها بتجرد بعيدا عن العواطف والمثاليات. إن عملية الهروب من السجن بعمل عسكري كانت تعتبر بداهة مغامرة غير مضمونة العواقب اقلها في حالة النجاح والنجاة الانضمام إلى الثورة. فإذا أخذنا في الحسبأن مدى تفاوت الوعي الوطني من ناحية ،والتفاوت فى مدد الأحكام التي كانت تتراوح ما بين المؤبد واقل من سنة ،من ناحية اخرى، كان لابد من التساؤل جديا عما إذا كان بالإمكان ضمان تفاعل كافة السجناء مع ذلك السر المصيري بنفس الغاية والأهمية وليس كل واحد على حسب ما تمليها عليه ظروفه ومصلحته الشخصية. اتفقنا على الاعتماد على السرية المطلقة وتحمل النقد والعتب مستقبلا. اشعرنا سعيد صالح بذلك القرار.

 

          من ضمن العبر التى اخذتها انا شخصيا فى الاعتبار .. حكمة تفوه بها )مجنون(. عندما رفع إمامنا محمد احمد عوض يديه الى السماء استعدادا للدعاء، فى احد الايام عقب صلاة العصر، انتهره شخص يدعى ضيفان قائلا “يا هوى .. قبل ان تدعو “اللهم اجعل لنا فرجا ومخرجا” اسأل المصلين ان كانوا فعلا يرغبون فى الخروج من السجن ام لاء.”  ضحك المصلون والسـامعون علــى مقولة ضيفان ،وعلق معظمهم بما جادت به قريحتهم مؤكدين ان ذلك من وحى المجانين. سجن ضيفان (من كرن) بتهمة قتل زوجته وهو فى نوبة جنون وظل فى مستشفى المجاذيب حتى اغلاق القسم ضمن عملية تخفيض ميزانية السجون وتوزيع نزلائه على كافة العنابر! لم يكن ضيفان عنيفا ولا مؤذيا عدا بعض التصرفات التى تؤكد جنونه. صادف فى نفس الفترة ان اصدرت الحكومة عفوا عن بعض السجناء من غير السياسيين، فاذا باحد المفرج عنهم – كان ضمن المصلين – يصر على اكمال حكمه بحجة ان هناك من سيقتله ثأرا امام بوابة السجن. تمسك المعلقون بموقفهم من مقولة ضيفان على اساس ان تلك حالة شاذة ولا تنطبق على سياسيين. من ناحيتى، اعتبرت ضيفان دقيق الملاحظة وذى فراسة وخصوصا انه كانت له سابقة سمعت عنها، وصدق ظنى فيه. سمعت يوم تحريرنا بعض السياسيين يتذمرون. كان بعضهم يتمنى لو اكمل حكمه وعاد الى عائلته ليعيش (فى تبات ونبات – اولاد وبنات! )، وكان هناك من كان يتمنى لو اكمل حكمه وعاد الى دكانه، وكان هناك من كان يتمنى لو اكمل حكمه ويهاجر رسميا الى (…). كاد البعض منهم ان يعتقل ثانية بعد ان عاد الى منزله وفى داخل المدن. لم اورد هذه الاحداث لابرر اخفاء الاتصالات عن زملاء نعتز بمعرفتهم انما لاوضح ان من يحكم بالظاهر والمظاهر ويعمم بدون تدقيق ومعرفة حقيقية كثيرا ما يفاجأ بمواقف لا ينفع معها الندم.

 

        بينما كنا فى حالة تذبذب بين تفاؤل حذر، تشاؤم مفرط والشك المبين كشأن المضطر الذى يمشى على حبل مشدود لا يستطيع الوقوف فى مكانه وانما عليه ان يتحرك مهما كانت الاتجاهات مظلمة ومؤلمة، نترقب ورود شىء من سعيد صالح، تواترت أخبار تفيد توغل جيش التحرير الى اطراف منطقة سراي. تعاملنا معها بتحفظ شديد حسب المبدأ المتفق عليه خشية ان تكون إشاعة مضللة ومكملة لعملية مخابراتية تهدف إلى تطميننا بأننا فعلا نسير في الخط الصحيح.

 

        كان معنا في العنبر من ابناء تلك المناطق محمد قيتو. على سبيل التأكد، اقترحت عليه  بطريقة غير مباشرة الاستفسار من زائريه مدى صحة الأخبار التي تذكر ظهور الجبهة فى منطقتهم – كانت المقابلة الشخصية كل يوم سبت. بطبيعة الحال، لم يكن محمد بحاجة الى توصيتى حتى يسأل ولكننى اردت التأكيد عليه حتى يكون الرد من جهته. اخبرنى انه علم من والدته التى زارته فى ذلك اليوم ان الجبهة فعلا متواجدة فى منطقتهم.

 

        اتهم محمد قيتو بالمشاركة فى تنفيذ عملية فدائية صفت فيها الجبهة محافظ محافظة (عرزا) فى منطقة سراى وحكم عليه بالحكم المؤبد، ثم خفف عنه الحكم فى الاستئناف الى عشرين )او خمسة وعشرين) عإما. اما هو فكان ينفى بشدة ان كانت له اية علاقة بالجبهة وكان يصر على انه برىء حكم عليه ظلما. قلما كان يتحدث أي سياسي عن دوره او صلته الحقيقية بالثورة وخصوصا إذا كان دورا حساسا، وكان الجميع يحترم الخصوصيات الشخصية، وهذا كان سبب تحفظى. بعد ان اكد لى صحة تقدم الجبهة الى منطقتهم، سألته  مباشرة إن كان قد سمع في الجبهة عن شخص يدعى سعيد صالح. ابتسم محمد قيتو واجابنى بالإيجاب، ثم اضاف تلقائيا انه كان يعمل تحت إمرة سعيد صالح في فرقة الفدائيين وبالتالي يعرفه شخصيا، وان سعيد صالح قابل والدته منذ اسبوع وابلغها بأن الجبهة تفكر فى تحرير السجناء السياسيين قريبا. شكرت محمد قيتو على تلك الثقة والعفوية المطلقة التي تعامل بها معى، وشعرت بمدى سخافة موقفى وانا اخفى عنه الغاية من استفسارى ،ولكن كان موقفى سيكون اسخف لو اطلعته على الحقيقة ثم طلبت منه ان يكتم الخبر عن زملائه الذين كان بينهم من هو اسبق منى نضالا واوفر عطاءا. أعطانا ذلك التأكيد من محمد قيتو زخما معنويا كبيرا واستبشرنا خيرا. ولكن سرعان ما انتكست حالتنا وعاودتنا الهواجس وسوء الظن خشية ان تكون والدة محمد قيتو ذاتها ضحية لخطة مخابراتية محكمة تكون استغلتها لإيصال تلك المعلومات، دون إن تدرى، إلى ابنها ومن خلاله إلى السجناء السياسيين. تطابق كلام والدة محمد قيتو حرفيا مع كلام سهلي هو الذي أثار شكوكنا اكثر. ثم اننا لم نصدق بأنه من الممكن ان تغامر الجبهة بارسال سر بذلك القدر من الخطورة بمثل تلك السطحية وبدون اى داع. الجدير بالذكر، كثيرا ما كان يتشبه الكماندوس بجنود الجبهة ويستدرجون السذج من الشعب لكشف اسرار الجبهة وتحركاتها ونقل معلومات مضللة اليها!

 

          بمجرد ما اطمأنينا حول وجود شخصية حقيقية لسعيد صالح، مع قدر كبير من التحفظ حول كونها المصدر الحقيقى للمعلومات، تنازعتنا مشاعر متناقضة. تارة الاحساس بنشوة الانتصار الوشيك الذى سيزلزل الارض تحت نظام (الدرق) الفاشى، وتارة اخرى الاحساس بالخوف والاشفاق من حجم الخسائر التى قد تتكبدها الجبهة فى سبيل انقاذنا بينما نحن عاجزون لا حول لنا ولا قوة. استغلالا لتلك الاخبار المتواترة التى كانت تؤكد يوميا توغل الجبهة الى المرتفعات وخصوصا اواسط منطقة سراى وتحقيق انتصارات عسكرية كبيرة فى ضواحى اسمرا وطريق مصوع، بدأنا فى بث تحليلات وتفسيرات واحيانا اختلاق اخبار مناسبة بحيث يظل خبر تقدم الجبهة موضوع الساعة فى العنبر بهدف تهيئة الجميع معنويا للتفاعل مع المتوقع اذا وقع. بما ان السجين تواق الى الحرية، تلقائيا كان الجميع يكرر بالليل ما قالوه بالنهار.

 

========================

اقتحام سجن عدى خالا عام 1975 .. فشل محقق ونجاح غريب

 بقلم/  عثمان بدوى عمريت

الحلقة  3/6

 

         كنا مفعمين بالامل والرضى لسير الامور على ما يرام الى ان صدمتنا معلومات تسربت من داخل ادارة السجن. افادت المعلومات بأن الرئاسة العامة للسجون فى اسمرا طلبت وبصفة مستعجلة، ملفات السجناء السياسيين ولاسيما ذوى الاحكام الكبيرة ليتم نقلهم الى السجون الاثيوبية. لم نشك مطلقا فى صحة تلك الاخبار التى اعتبرناها منطقية جدا اذا ما تم ربطها بتوغل الجبهة الى منطقة سراى حيث يوجد سجن عدى خالا، وبمدى الاهمية والخطورة الامنية التى يشكلها السياسيون فى نظر الحكومة. فورا، ابلغنا سعيد صالح بالمستجدات وطالبناه بالاسراع فى التنفيذ قبل فوات الاوان. خلال ايام، تلقينا ردا يطمئنا فيه سعيد صالح بأن العملية ستنفذ قريبا وفى عز النهار! تنفيذ العملية فى عز النهار.. كان اخر شىء توقعناه ولم يخطر ببال احدنا كلية. كنا نتوقع تنفيذ عملية كماندو ليلية خاطفة، فتصورنا ان النتيجة ستكون تكرارا لمأساة حلحل المشئومة. سارعنا بالرد بهذا المعنى مستشهدين بوجود عدد من المسنين والمرضى الذين لا يقوون على السير طويلا وبالسرعة المطلوبة امثال الشيخ عمر كراى (الكبير – زميل محمد حامد، على بنطاز وحامد عواتى) وكان عمره فى ذلك الوقت يناهز السبعين، وتطرقنا الى النواحى العسكرية مع ان سعيد صالح كان ادرى بها منا. كم كانت تلك الايام عصيبة وكئيبة جدا.

 

          تقبلنا تنفيذ العملية نهارا كامر واقع وتركز نقاشنا حول ما يمكننا القيام به على ضوء   التوقيت حيث اصبح الان بيننا وبين البوابة الرئيسية خمسة ابواب بدلا من ستة فيما لو تمت العملية ليلا. كنا فى عنبر رقم 4. استقر رأينا على ان اقصى ما يمكننا القيام به هو منع الحراس الاحتياطيين الذين يتواجدون فى استراحة داخلية من الوصول الى المستودع لاستلام السلاح. انكب تفكيرنا على الطريقة التى تمكنا من الوصول قبلهم الى قبالة الباب الرابع المؤدي الى مخزن الاسلحة والذى لا يمكننا باى حال من الاحوال اجتيازه. بالتالى، انحصر تفكيرنا فى كيفية تجاوز الباب الثاني والثالث وصولا الى ذلك الموقع. بحكم عملنا كمدرسين كان من السهل جدا ان يتواجد اثنان منا خارج الباب الثاني وامام الباب الثالث ذهابا الى المدرسة او ايابا منها. ولكن اثنان فقط لا يستطيعان تجاوز الباب الثالث، وحتى لو تجاوزاه ووصلا الى قبالة الباب الرابع فانهما لا يستطيعان مقاومة ومنع الحراس الاحتياطيين من الوصول الى المستودع حيث يمكن القضاء عليهما بسرعة وسهولة.

 

        لكن اذا تمكن الاثنان من التغلب على الشاويش المناوب اثناء فتحه الباب الثاني لادخالهما الى ساحة العنبر وسارعا بفتح الباب على مصراعيه امام كافة السجناء الذين يتواجدون فى ذلك الوقت فى الساحة فبامكان بعض المندفعين بشكل هستيرى تسلق الباب الثالث، بالرغم من الاسلاك الشائكة، والوصول الى قبالة الباب الرابع حيث يفترض انهم سيواجهون الحراس الاحتياطيين العزل فى معركة متكافئة بالايدى. استبعدنا احتمال توجيه الحراس المسلحين على السور نيران بنادقهم الينا نظرا لتداخلنا مع الحراس الاحتياطيين ولانهم فى ذات الوقت سيتعرضون الى نيران خارجية من الجبهة. قدرنا الفترة الزمنية التى قد  تستغرقها هذه العملية ما بين اربعة وخمسة دقائق.

 

        تطبيق تلك الخطة عمليا، كان يتطلب توافر شرطين متزامنين. اولهما ان تنفذ العملية اثناء دوام المدرسة، وثانيهما ان يتواجد الشاويش المناوب فى الساحة الفاصلة بين العنابر فى التوقيت المطلوب بالضبط. كتبنا الى سعيد صالح بهذا التصور لاخذه فى الاعتبار عند تحديده ساعة الصفر واكدنا عليه ضرورة تأمين تواجد الشاويش المناوب الملقب بـ “ودى سنغال” فى المكان المحدد وعمل نفس الشىء مع بديله الشاويش سليمان تحسبا لاى طارىء يعترى سبيل الاول.

 

 

 

 

المصائب لا تاتى فرادى، كما يقال. كأن خبر تنفيذ العملية نهارا لا يكفى لتحطيمنا معنويا، تحددت صيغة الخبرين السابقين بشكل غريب. اصبح الخبر الاول: “تتقدم الجبهة الى ضواحى عدى خالا-  وضمنيا الى سجن عدى خالا”، واصبح الخبر الثانى: “طلبت الرئاسة العامة للسجون ملفات السياسيين ليتم اعدامهم.” لا غرو فى ذلك الوضع النفسى السىء ان يطغى الخبر الثانى على الخبر الاول وان يؤدى الى تدهور ملحوظ فى معنويات معظم السجناء لقناعتهم بأن العدو الذى لا يكن لهم الا حقدا، وان العدو الذى بقر بطون الحوامل ورمى بالرضع فى البيوت المشتعلة لن يتورع مطلقا عن تصفيتهم. سلم الجميع بأن عملية الاعدام لا محالة واقعة. حتى نحن لم نحاول بجدية التثبت من صحة ذلك الخبر والتطور الذى طرأ عليه لاننا لم نستبعد وقوع مثل تلك المجزرة عاجلا كان ام أجلا. تفتق خيال البعض من السجناء فزعم ان وفد المجلس العسكرى الادارى المؤقت (الدرق) الذى كان قد زار السجن قبل ذلك بفترة للاستطلاع والاستماع الى التماسات ومطالب السياسيين والذى لم يسمع ولو كلمة واحدة تسر خاطره هو الذى رفع التوصيات بالاعدام. اضاف اخرون ان عملية تغيير مدير السجن الارترى باخر اثيوبى منذ نحو شهر لم يكن الا لنية مبيتة وتمهيدا لهذه العملية. اخذت الاشاعات والتحليلات القاتلة تتدفق وتتطور على مدار الساعة وتنتشر كانتشار النار فى الهشيم.

 

          خفف خبر الإعدامات الوشيكة نسبيا من الضغوط النفسية التى كنا نشعر بها من احتمال فشل العملية ومن هول الخسائر المحتمل تكبدها، لان البديل سيكون الاعدام المؤكد. ارسلنا رسالة عاجلة الى سعيد صالح نذكر فيها خبر الإعدامات الوشيكة وشددنا على امكانية تنفيذها فى اية لحظة استباقا مع تقدم الجبهة الذى بات متداولا على نطاق واسع.

========================

اقتحام سجن عدى خالا عام 1975 .. فشل محقق ونجاح غريب

 بقلم/  عثمان بدوى عمريت

الحلقة 4/6           

 

        رد سعيد صالح مفيدا بأن العملية ستنفذ خلال اسبوع وتحديدا يوم الثلاثاء الموافق الثالث عشر من شهر فبراير من عام 1975 فى تمام الساعة التاسعة والنصف صباحا وان الشاويش ودى سنغال وبديله سليمان سيتواجدان فى الموقع المحدد وانهما سوف يتعاونان معنا بالشكل المطلوب. تنفسنا الصعداء بهذا التطور الدرامى الذى وفر لنا فرصة المشاركة فى ذلك الحدث التاريخى، مع اننا لم نقتنع باكتفاء الاثنين بالتعاون الشكلي فى مثل تلك اللحظات المصيرية. بناء على تلك المستجدات بدأنا فى تحديد دور كل منا على النحو التالى :

·        طبقا لبرنامج حصص التدريس اليومى المعتمد، يتوجه كل من ارمياس وقرماى الى  المدرسة فى تمام الساعة الثامنة والنصف. يتحركان من المدرسة الى باب العنبر فى تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة حيث سيفتح لهما الشاويش ودى سنغال (او بديله سليمان) فيعاجله قرماي  بضربة (جودو) يقع على اثرها ويغمى عليه  – حسب الاتفاق –  ثم يبادر ارمياس الى انتزاع المفاتيح ويفتح الباب على مصراعيه امام السجناء.

·        فى تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة يتأكد يعقوب من خلال شباك العنبر المطل على فناء المدرسة من الخلف من خروج قرماي وارمياس من المدرسة حسب الخطة، خشية ان يعرقلهما الحارس المرابط هناك.

·        فى تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة يقف برهاني بالقرب من الحارس داخل الساحة لسماع وقع اقدام ودي سنغال ومعه قرماي وارمياس، وبمجرد ما يفتح ارمياس الباب يعلن برهاني على السجناء بأن الجبهة تهاجم السجن وعلى الجميع الاستعداد للمعركة والتوجه الى مستودع الاسلحة.

·        فى تمام الساعة التاسعة وخمسة وعشرين دقيقة اقف انا بجانب الحائط المقابل لبرهاني مباشرة بحيث يكون باب العنبر من حيث سيخرج يعقوب على يساري وشباك حمام المستشفى من حيث سيطل سيوم على يميني وبهذا انقل ايماءات برهاني الى سيوم بحيث يتابع الجميع مدى تقدم العملية.

·        بمجرد ما يفتح ارمياس الباب ويعلن برهاني خبر الهجوم نكرر جميعنا نفس الاعلان بصوت عال ونندفع من مواقعنا المختلفة ونتسلق جدار الباب الثالث وصولا الى قبالة الباب الرابع حيث من المفترض سنواجه الحراس الاحتياطيين الذين حتما يكونون قد تنبهوا للجلبة الحاصلة وتحركوا نحو المستودع.

 

          اذا فشلت او الغيت المرحلة الاولى من الخطة لاى سبب كان، ينتظر الجميع فى مواقعهم اقتحام الجبهة وفتح باب العنبر ومن ثم تبدأ المرحلة الثانية بالتعاون مع جنود الجبهة على النحو التالى:-

 

·        بحكم قرب المستشفى من منطقة الاقتحام، يتولى سيوم ارشاد جنود الجبهة الى عنبر السياسين كما يرشدهم الى مكاتب الادارة والعيادة لنقل الاشياء المهمة.

·        فور فتح باب العنبر اتوجه انا الى مستودع الاسلحة واتولى عملية توزيع الاسلحة على السجناء المدربين بمن فيهم السجناء الغير سياسيين حسب كشف تم الاتفاق عليه مسبقا خوفا من ان يقع السلاح فى يد عناصر يمكن ان تستغله فى غير محله.

·        يرشد برهاني وقرماى الجبهة الى المستودع لنقل محتوياته.

·        يرشد ارمياس ويعقوب الجبهة الى موقع جهاز اللاسلكى والمولد الكهربائي.

·        يتم التنسيق بين الجميع للتأكد من خلو السجن تماماً من اي سجين.

 

          كتبنا لسعيد صالح بهذه التفاصيل وطلبنا منه تزويدنا بمسدسات ان امكن كما طلبنا منه موافاتنا باسماء المسئولين الذين ننسق معهم  بعد الاقتحام فى هذا الشأن. كان ذلك قبل ثلاثة او اربعة ايام قبل العملية.

 

      صدق من قال “وقوع البلية خير من انتظارها”. بدأنا نعد العد التنازلى بالدقيقة. تملكنا القلق والتوتر والشرود الذهنى ولولا ان الجميع فى العنبر كان مصابا بنفس الداء  -مع اختلاف التوقعات – للاحظوا مدى التغيّر الذى طرأ علينا. لم يكن الانتظار للخروج من السجن فحسب بل ومن تفادي الاعدام ايضا!

 

      قبل يومين من يوم التنفيذ تلقينا تأكيدا من سعيد صالح بالالتزام الكامل بالخطة وبساعة الصفر. فى اليوم الموعود – يوم الثلاثاء – فى تمام الساعة الثامنة والنصف صباحا تحرك قرماي وارمياس الى المدرسة بشكل طبيعى. فى الساعة التاسعة وخمسة وعشرين تحرك كل منا الى موقعه المحدد حسب الخطة. دخل يعقوب الى العنبر ليتأكد من خروج قرماى وارمياس من المدرسة، ثم خرج مؤكدا بايماءة متفق عليها “انهما خرجا فعلا.” أومأت انا لكل من برهانى وسيوم “انهما خرجا.” بعد لحظة اومأ برهاني انه يسمع وقع اقدام ودي سنغال – انه قادم – فنقلتها بدورى بايماءة مماثلة لحظها سيوم ويعقوب. بعد دقيقة سمعنا قرقعة المفاتيح فى الباب فتأهبنا للانطلاق اذا بنا .. نفاجأ بقرماي وارمياس يدخلان الى الساحة مطاطئي الرأس من شدة الانكسار واقفل ودي سنغال خلفهما الباب!.  صعقنا تماماً. خروجا على الخطة، وجدنا انفسنا مجتمعين حولهما نستفسر عن سبب عدم تنفيذهما للخطة. قالا “الشاويش ودى سنغال احضر معه مرافقا وبالتالي رأينا ان اية حركة ضده لن تفيد بقدر ما تنبه بقية الحراس وتكشف الخطة فاستحسنا الدخول وترك الموضوع للجبهة.”

 

      لم تتجاوز تعليقاتنا او ملاحظاتنا على ما قالاه تمتمات مبهمة . تذكر احدنا انه لم يتبق من ساعة الصفر سوى ثوان تقريبا فرجع كل منا الى موقعه مشدودا لسماع دوى القذائف والانفجارات. حانت ساعة الصفر ولكن .. لا شيئ يسمع. حاولنا تبرير التاخير بتقدم الساعة التى اعتمدنا عليها. تماسكنا حتى الساعة العاشرة الا خمسة وعشرين ثم عشرة الا عشرين ولا حياة لمن تنادي. فلتت الاعصاب ولاول مرة انتابتنا مخاوف حقيقية .. إذاٌ. ماذا واذا .. تساؤلات سريعة متداخلة ومتناقضة لم نستطع تحديدها ولا الرد عليها ولا حتى كبحها .. هل خاف ودي سنغال ام خان؟، وهل ابلغ الحكومة ام لا ؟، واذا كان كذلك ماذا ستكون ردة فعل الحكومة وماذا سيكون موقف الجبهة؟، الجبهة! آه  ..الجبهة ذاتها لماذا لم تهاجم؟، هل لانها غيرت ساعة الصفر ام الغت العملية نهائيا؟، واذا تم التغيير او الالغاء فلماذا لم تبلغنا بها فورا؟، وماذا كانت ستكون النتيجة لو نفذنا خطتنا ضد ودي سنغال الخ؟ يستحيل ان تقدم الجبهة على مثل هذا الاستهتار والاخلال بالقوانين العسكرية البديهية لما يترتب عليه من مخاطر، نعم لا يمكن ان تقدم الجبهة على تغيير ساعة الصفر او تلغي الخطة من جانب واحد. ولكن  ..الا يؤكد مضي اكثر من عشرة دقائق على ساعة الصفر فعلا اخلالا، اللهم الا اذا كنا نتعامل مع جهة اخرى غير الجبهة؟. جهة اخرى ..! جهة اخرى .. غير الجبهة.. من؟ ..من؟ فى الحقيقة نحن سذج واغبياء .. بل واغبياء جـدا. منطقيا، كيف صدقنا انه من الممكن ان تنفذ الجبهة عملية اقتحام بهذا الحجم وبهذه الخطورة فى عز النهار وعلى مرأى ومسمع من العدو وتحت رحمة سلاح طيرانه حتى نطالبها بالالتزام بساعة الصفر؟. نعم كيف ..! اليس عدم تزويدنا بالمسدسات التى طلبناها خير دليل على اننا كنا نتعامل مع غير الجبهة؟ . كيف انطلت علينا فكرة ان سهلي يمكن ان يتحول بين عشية وضحاها من مرشح فى البرلمان الاثيوبي الى وطني مناضل يطلع على ادق اسرار الجبهة؟ هل من المعقول ان يقبل ودي سنغال فى نفس اليوم وبمجرد ان طلب منه، التعاون مع الجبهة وبدون اية علاقة سابقة؟ كيف تغاضينا عن هذه الحقائق …؟ انه الخوف .. قاتله الله. نعم .. لولا الرغبة القاتلة فى الخروج من السجن والهلع الذي اصابنا من خبر الإعدامات لما عمى بصرنا وعميت بصيرتنا الى هذا الحد ولما وقعنا فى هذا الفخ القاتل وكدنا ان نوقع فيه الاخرين وارتكاب جريمة نكراء. نعم  ..كفاية مغالطة الواقع وخداع الذات ولابد من الاعتراف بأن العملية برمتها من تدبير المخابرات الاثيوبية ليس الا. وقعنا ضحية تلهفنا وتهورنا. نعم من المؤكد انها مكيدة من مكايد المخابرات الاثيوبية .. طبعا..  طبعا .. بدون شك. ولكن .. اذا سلمنا فرضا ان الامر كله من تدبير المخابرات الاثيوبية.. اذاٌ، لماذا لم تتركنا ننفذ خطتنا ضد ودي سنغال لتمرر هي بدورها مخططها الرامي الى تصفيتنا جسديا حسب ما افترضنا؟. وكيف تضيع على نفسها فرصة العمر هذه وخصوصا اذا كانت فعلا هي التى خططت لها؟ .. كيف! كيف! فى الحقيقة .. على ما يبدو، حتى المخابرات الاثيوبية لا علاقة لها بالعملية. اذا لم تكن العملية من تخطيط الجبهة ولا من تدبير المخابرات.. اذاٌ فمن الذي وراؤها؟ من الذى كلف سهلي، ومن الذى اتصل بوالدة محمد قيتو، ومع من كانت كل تلك الاتصالات؟ مع من؟ بدأنا نتصبب عرقا وكلما امعنا فى التساؤل تزايدت الحيرة وزادت سرعة خفقان القلب حتى كاد ينفطر مع الاحساس بالاختناق.  تبلد الذهن وفقدنا القدرة على التركيز.. وساد بيننا صمت مطبق.

 

      فى العاشرة الا ربع ضجت الساحة الفاصلة بين العنابر بأصوات صاخبة: ادخله، اقفل الباب، ارجع، قرقعة المفاتيح ،واصوات المزالج هنا وهناك واردتداد الابواب مع وقع اقدام كثيرة وسريعة تطايرت من جرائها الحصى. لاحظنا ان الحارس على السور فى الجهة اليمنى يتطاول الى الخارج مشدودا ويتنقل بنظره تارة الى يمناه واخرى الى يسراه ممسكا ببندقيته فى حالة استعداد غير عادية. الى ماذا ينظر ذلك الحارس؟ يبدو ان هناك شيئا ما يحدث .. ترى ما هو هذا الشىء؟ ايضا فى الداخل تجري تحركات غير عادية، هل هما نفس الشىء ام شيئان مختلفان، ماذا يجرى هنا وماذا يجرى هناك؟  ..ماذا؟.. ماذا؟ تمنى المرء لو كان له هدهد ياتيه بالخبر اليقين!

========================

اقتحام سجن عدى خالا عام 1975 .. فشل محقق ونجاح غريب

 بقلم/  عثمان بدوى عمريت

الحلقة  5/6

 

      برهانى الذى لم يفارق موقعه بالقرب من الحارس بجانب الباب ،فقد اعصابه وحاول فتح الكوة  – فتحة يتصل منها الشاويش بالحارس – ليرى ما يجرى فى الساحة الفاصلة. الغريب فى الامر، لم ينهره الحارس كدأبه ولم يأبه بفعلته لانه حتى هو – الحارس – لسبب ما، كان اقرب الى تمثال منه الى انسان. اخيرا .. تمكن برهانى من فتح الكوة مع انها لا تفتح الا من الخارج، واذا به يؤشر لنا بيديه ان مسلحين كثيرين يدخلون ويتجهون باتجاه معاكس للبوابة الرئيسية. ثم اضاف واضعا اصابعه الثلاث على خده (ان من بينهم مشلخين). فسرنا المسلحين بالجيش الاثيوبى واعتبرنا ملاحظته تلك بمثابة تعلق الغريق بالقشة.

 

      دخول مسلحين وتوجههم الى ذلك الاتجاه بديهيا كان يعنى ان الحكومة إما فى حالة فرض حصار على العنابر لتنفيذ عملية الاعدإمات كما اشيع، او فى احسن الاحوال، تقوم بتعزيز دفاعاتها لصد هجوم مرتقب. احتمالان لا ثالث لهما. اما ان يخطر فى بالنا فى حالة الانهيار تلك ان الجبهة التى لم تكن لها حتى الامس القريب اية عناصر متعاونة ناهيك عن عناصر بمقدورها تسليم السجن على طبق من ذهب، هى التى تقوم باقتحام ابيض .. كان ذلك الاحتمال بالنسبة لنا يعنى الجنون بعينه.

 

      لعل هذا الوصف كان ينطبق على كافة افراد المجموعة التى كانت على علم بالاتصالات الجارية مع الجبهة. اما بالنسبة للزملاء الاخرين، يمكن القول ان الحقيقة امامهم كانت واحدة وواضحة غنية عن التفكير والتفسير. الا وهى .. ان الجيش الاثيوبى هو الذى يتحرك فى الساحة وانه خلال دقائق سيقوم بتنفيذ ما جاء من اجله – الابادة الجماعية. جلس الغالبية حيث صادف لا يحسون حتى بانفسهم .. كل يسترجع شريط حياته ويترحم على روحه الطاهرة.

 

   فى الساعة العاشرة الا عشرة دقيقة تقريبا سمعنا شخصا لا يظهر من الكوة الا فمه يكرر بأنفعال “جاءوا .. جاءوا” ويضرب بكلتا يديه على الباب .لم يعبأ به احد لان الجميع كان يعلم علم اليقين “انهم” جاءوا وبالتالى لم يكن هناك ما يستدعى الاستفسار. مضت لحظات قبل ان يتذكر برهانى الذى كان ايضا متسمرا حتى ذلك الوقت بالقرب من الكوة ان سيوم كان فى المستشفى وانه كان مكلفا حسب الخطة بارشاد جنود الجبهة الى عنبرنا وان ذلك الصوت صوته. تقدم الى سيوم مستوضحا “من الذين جاءوا” وكرر سيوم بنفس العصبية “جاءوا .. جاءوا” وكرر برهانى نفس السؤال وبحدة مماثلة وتكرر الموقف حتى تنبه سيوم وقال “الجبهة .. الجبهة”. قال برهانى “اذاٌ.. افتح الباب” فرد سيوم “اصيب الشاويش ودى سنغال بالذعر وهرب ومعه المفاتيح والجنود خلفه يلاحقونه داخل السجن”.

 

      عملية استخلاص المفاتيح من ودى سنغال ثم تجربة عشرات المفاتيح المماثلة لتحديد المفتاح الخاص بعنبرنا استغرقت زمنا اتاح لنا فرصة لالتقاط انفاسنا واستعادة توازننا المعنوى ولو بشكل نسبى لاعلان الخبر على بقية السجناء. بالكاد كنا نسمع صوتنا المبحوح ناهيك ان نسمعه الاخرين الذين بلغ ببعضهم الانهيار حدا  يستحيل معه الاستماع الى اى شخص او الى اى شىء. لمحت بالقرب منى صالح عبد الله حبيب وصالح اسماعيل فتحدثت اليهما بحماس لاقناعهما بأن الجبهة هى التى احتلت السجن، واننا سنتحرر وما علينا سوى حمل السلاح. وقلت لصالح عبد الله حبيب “البرين يا ابو عبد الله  .. البرين ” كان صالح مدفعجيا قبل اسره. تأملانى برهة وكأننى شيئ غريب واكتفيا بالدخول الى العنبر بدون تعليق. التفت الى اخرين ثم تذكرت انهما لم يخرجا. رأيت صالح عبد الله حبيب يخرج وهو يحمل كل متعلقاته على كتفه.  قلت له “ما هذا يا صالح” رد بكل برود “الم تقل اننا سنخرج.” قلت له “ولكن لنحمل السلاح وليس لنحمل الفراش.” اما صالح اسماعيل فقد وجدته فى مرقده وقد شد عليه ملايته. هززته بعنف فقال لى “غمتيت انسأتو! (ساخذ غفوة).” لم يكن معقولا على الاطلاق ان تقنع خلال ثوان معدودة شخصا مقتنعا تماما بأن الذى امامه عدو يتهجمه .. بأنه مجرد صديق جاء لانقاذه!

 

      حسب المهمة الموكلة الي، سارعت فور فتح الباب بالتوجه الى مستودع السلاح. عرّفت احد مسئولى الجبهة الذى سبقنى الى هناك على اسمى وطبيعة مهمتى الا اننى وجدته بلا اية معلومات او تعليمات عما تم الاتفاق عليه مع سعيد صالح، ولاحظت انهم شرعوا فعلا فى نقل الاسلحة الى السيارات. عندما علمت من احد الجنود ان هناك سيارات وباصات جاهزة لنقل السجناء، غيرت مهمتى. خرجت من البوابة الرئيسية الى الشارع لاشاهد الاستعدادات القائمة على الطبيعة قبل توجيه السجناء. لم اصدق عينى لما رأيت. كان المنظر اقرب الى حفل استقبال او كرنفال كبير. مصورون وصحفيون اجانب يحملون كاميرات تصوير فوتوغرافية وتلفزيونية وجمع غفير من الشعب رجالا ونساءا واطفالا يحملون خبزا، ماءا و”فشار” يصفقون ويزغردون، وطوابير مختلفة من المستجدين فى طريقها للانضمام الى الجبهة وخلفهم رتل من السيارات والباصات. ربما لكانت تلك اللحظة من اسعد لحظات حياتى لو لم ارفع بصرى الى السماء خوفا من ان يتحول كل ذلك المشهد العظيم الى ركام وجثث بفعل سلاح طيران العدو. عدت بسرعة الى البوابة وقد بدأ السجناء يتدفقون وفى مقدمتهم محمد حامد (ابو جمل) وكان عملاقا فارع الطول. رأيته منذ ان عبر الباب الثالث مندفعا صوب البوابة الرئيسية حيث كل الابواب كانت مشرعة على مصراعيها. حاولت استيقافه لتوجيهه ليركب احد الباصات ولكن بدون جدوى. لو لم اتفاداه فى اللحظة المناسبة لحطمنى امامه وفى ثوانى اختفى كالطيف. حسب ما علمت فيما بعد، لقد وصل محمد حامد الى همبول،  وهى منطقته ، قبلنا باسبوع.

 

      محاولة استيقاف وتوجيه السجناء الذين لم يصدقوا انهم على وشك عبور ذلك السور اللعين وفى عز النهار، حتى لو كان لتوجيههم، كانت فكرة مثالية وساذجة للغاية، وبالتالى لم يأبه الكثيرون بالتوجيه وطار بعضهم الى حيث قادته قدماه دون ان يلتفت لا يمينا ولا  يسارا وخصوصا من الفوج الاول. تدارك الجنود الموقف بعمل حاجز بشرى فى محيط البوابة الرئيسية من الداخل وتم توجيه من تبقى الى الباصات والسيارات.

 

      تم توزيع الاسلحة على معظم السجناء وتم تعيين مسئول على كل باص وسيارة. صـادف ان كان معـى فى نفس الباص من المجموعة ارمياس، برهانى، قرماى ويعقوب. انتهـت العملية بسلام. قيل لنا فيما بعد ان الحكومة كانت قد قررت فعلا نقل السجناء السياسيين من سجن عدى خالا فى حدود يوم الخميس اى بعد يومين من خروجنا. لم نعرف بالتحديد الجهة التى كنا سننقل اليها ولا الغاية من ذلك.

 

     بينما كنا نتبادل قبلات التهانى، داخل الباصات والسيارات، ولساننا يلهج بالدعوات الصادقة لمن تبقى من الزملاء فى السجون الاخرى بالفرج العاجل، والموكب على وشـك التحرك  ،انفعل احد الفدائيين فاخذ يطلق الرصاص ابتهاجا بنجاح العملية وتحية للمساجين. تفاعل معه بعض الجنود فى بقية السيارات والباصات الاخرى وشرعوا فى اطلاق الرصاص بكثافة بحيث اصيب الكثير من السجناء بالذعر لاعتقادهم بأنهم يتعرضون لهجوم اثيوبى فقفزوا من الباصات والسيارات وتفرقوا فى التلال المحيطة. اعيدت الغالبية منهم بعد جهد ومطاردة ولم نر للبعض منهم بعذ ذلك اثرا. 

 

          كان واضحا ان الحراس اخذوا على حين غرة ولم يكونوا مهيئين لذلك الموقف. كان بعضهم يودع معارفه من الاهالى المحتشدين ويوصى باهلهم خيرا ثم يصعد الى السيارات لينضم الى الجبهة، ثم فجأة كان يغير رأيه وينزل. بعضهم لحق بالسيارات بعدما تحركت وبعضهم نزل منها فى منتصف الطريق!.

 

          لربما كان الشاويش “ودى حنزى” الوحيد الذى احتجزه السجناء من بين الحراس. كان لئيما، بذيئا ومستفزا ايضا. كان معنا فى نفس الباص، ولم يتعرض له احد سوى بالتهديد بمحاكمة عسكرية. وهو ايضا لم يستكن ولم يستسلم فقد بادلهم التهديد ولكن بابنته التى قال انها التحقت بالجبهة قبل اسبوعين! ظل لسانه سليطا الى ان وصل الباص الى بلدة لعل اسمها “عبى عدى”. بالكاد توقف الباص حتى سمعنا صوتا انثويا ناعـما ينادى “آبوى .. آبوى . . آبوى رأخيم دو!” واذا بالشاويش ودى حنزى يلتقط الصوت وكأنه كان على موعد معه. انتفض وسط دهشة محتجزيه واقفا ورد بصوت عال “ابزى الخو ذا  ..قوالي ابزى.. “. نظر الزملاء الى مصدر الصوت فاذا بفتاة حنطية اللون ممشوقة القوام تسر الناظر وتثير الخاطر، فى زى صاعقة وقد علقت على خاصرتها مسدس وخلفها فدائيان يبدوان حارسين اكثر من كونهما زميلين.  نزل “ودى حنزى” وعانق ابنته بحفاوة .. خده على خدها وعينه تغمز لحامد بئمنت الذى كان اشد محتجزيه! سألت حامد مازحا “اين اسيرك يا حامد” فرد قائلا “َيَي .. مِى بيى إتا بغل أبا بعلا ..يالطيف حَزي تو”. كان حامد مقاتلا وقضى فى السجن عشرة اعوام. 

 

          بعد فترة استراحة ، توزع الموكب على شكل فصائل وتحرك الجميع مشيا على الاقدام وفى اتجاهات مختلفة . فى ذلك الوقت، كان سلاح طيران العدو يمشط المنطقة بحثا عنا ولكنه كان بعيدا جدا.

         من المفارقات العجيبة، كنا نحن نجد فى السير الى همبول، بينما عشرات القوافل من السيارات والجمال كانت تتدافع الى جبهات القتال. كانت الرحلة فرصة اكتشفنا فيها عظمة شعبنا .. الفرق الكبير بين شذف العيش الذى كان يعيشه وبين الحفاوة والكرم اللذين كان يستقبلنا بهما. لم نمر بقرية او بلدة والا قدمت لنا اقصى ما تملك وكأننا اول ضيف مر بها او اخر ضيف سيمر بها. بل اكثر من ذلك، كانوا يتسابقون ليبشرونا بتباشير الوحدة والانتصارات التى سمعوها من اذاعة او اجهزة ارسال مع المسئولين لديهم. تحمس البعض ممن كانوا معنا فرجعوا على ادراجهم املا فى دخول اسمرا مع الفاتحين الاوائل!

 

        اخيرا وصلنا الى همبول حيث كانت اللجنة التنفيذية والمجلس الثورى يعقدان اجتماعاتهما استعدادا لعقد المؤتمر التنظيمى. اقيم حفل فنى احتفاءا بالسجناء والمستجدين. افتتح الحفل رئيس اللجنة التنفيذية الزعيم ادريس محمد ادم بكلمة ترحيبية موجزة. سدح   الفنان الشعبى يمانى باريا باغنيته الوطنية المؤثرة (ودبات عدى يرأينى آلو) وكاد يجهش بالبكاء فالهب المشاعر والوجدان. ثم حلق عثمان عبد الرحيم برائعته العاطفية (اب كتما مصوع …) التى تمازجت كلماتها مع لحنها الراقى فحلق كل من عرف مصوع مع ذكراه او ليلاه. استحضرت بدورى ذلك البحر الصافى والشاطىء الدافىء الذى طالما شهد منافساتنا فى الصيد والسباحة قبل ان يتحول الى بؤرة صراع دولى منذ ان نصب الامبراطور هيلى سلاسى تمثاله البغيض وهو على صهوة حصان امام بوابة الميناء مباشرة وهو يشير الى البحر بعصاه مؤكدا ملكيته. وتذكرت رجلا قيل ظلما انه كان مجنونا. كان يقف ذلك “المجنون” يوميا تحت التمثال ويخاطبه “والله انت كذاب يا هيلى سلاسى .. انت كذاب .. من اين لك هذا البحر.. من اعطاك هذا البحر .. هذا البحر حقنا.. حقنا نحن ..الخ”. كان يتجمهر العقلاء حول التمثال ليسمعوا ما يقوله “المجنون” بالنيابة عنهم!

 ========================

اقتحام سجن عدى خالا عام 1975 .. فشل محقق ونجاح غريب

 بقلم/  عثمان بدوى عمريت

 

الحلقة  6/6

          بينما كنا نعتزم طلب لقاء مع الجهات العليمة بعملية اقتحام سجن عدى خالا لمعرفة ما خفى عنا حول تطوراتها الخارجية والتغيير الذى طرأ عليها، والادلاء بافاداتنا لتوثيق الحدث باعتبارنا كنا طرفا فيه، وجدنا انفسنا فى قفص الاتهام بالانتماء لـ (المضادة) – قوات التحرير الشعبية، مع ان كل العناصر المنتمية والراغبة فى الانضمام الى قوات التحرير الشعبية انفصلت عنا طواعية فى اليوم الثانى لتحريرنا! لم يذكر عثمان ازاز – عضو المجلس الثورى – الذى تولى التحقيق معنا الحيثيات التى بنوا عليها التهمة ولم يستطع ان يثبت انه كانت لنا علاقة بقوات التحرير الشعبية لا قبل السجن ولا بعده. وبنفس القدر، لم يستطع زملائى الاربعة اثبات علاقتهم بالجبهة قبل السجن. لانهم ببساطة حكم عليه خمسة اعوام بتهمة كتابة منشورات وطنية وتعليقها فى المدارس .. ليس الا! لم يسألنى عثمان ازاز عن علاقتى بـ (بالمضادة) قبل السجن لان  التنظيم لم يكن موجودا، ولم يكن بحاجة ليسألنى عن علاقتى بـ (المضادة) بعد السجن لاننى عضو اصيل فيها بالميلاد “ان لم تكن انت فانه اخوك!”. هكذا كانت تنطق عيناه اكثر من لسانه!.

 

        رشحت بعض المعلومات التى جعلتنا نعيش فى حالة توجس واستنفار بحيث فزعنا جدا عندما جاء ابراهيم محمود قدم – عضو المجلس الثورى – الى الموقع فى وقت متأخر من الليل يسأل عنى. لم تكن لى معرفة سابقة به، ومع ذلك جاء لتهنئتى شخصيا! سعدت به وبزيارته كثيرا حيث خففت عنا الضغط.. وصادف ان خصنى الاخ محمود بشير – عضو المجلس الثورى – فى اليوم التالى بزيارة مماثلة وحتى فى التوقيت! الاخ محمود زميل دراسة وربما الوحيد الذى بقى فى الجبهة ممن كنت اعرفهم! ما زلت احفظ للاخوين ابراهيم ومحمود تلك اللفتة الاخوية المعبرة. الشهيد على عثمان حنطى – عضو المجلس الثورى – من الاشخاص الذين تعرفت بهم واطمأنت اليهم واكن لهم كل تقدير. كان يقضى معنا معظم وقت فراغه بالليل وعرفنا منه الكثير عن شئون الجبهة وشجونها فى حدود ما تسمح به مسئولياته التنظيمية. كان متواضعا، اجتماعيا، عفيف اللسان، يحب التحدث عن المستقبل اكثر من اجترار مآسى الماضى ورواسبها.

 

        قطع ذلك التحقيق الغامض الشك باليقين. كانت لنا قبله ملاحظات كثيرة لم نأخذها مأخذ الجد. فى اليوم الثالث لتحريرنا، على سبيل المثال، عقد سعيد صالح اجتماعا حضره المئات من المستجدين والسجناء والكثير من ابناء تلك الضواحى. قال ضمن حديثه وهو يخاطب السجناء “…  لقد خضنا غمار الحرب الاهلية ضد المضادة ونحن نضحك، وايضا سوف نخوضها اذا اضطررنا ونحن نضحك، ونعلم جيدا أنكم ايضا كنتم تخوضون داخل السجون نفس الحرب بنفس الروح ضد نفس العناصر ونحن نقدر لكم ذلك … الخ”. عقب صالح جابر وراك، وكان مفوها، على ما ذكره سعيد صالح قائلا “اولا .. يؤسفنا ان تقول انكم خضتم الحرب الاهلية وانتم تضحكون، فعلى الاقل، كان ينبغى ان تخوضوها وانتم تبكون لانكم فى النهاية كنتم تقاتلون اخوانكم فى الوطن. اما بخصوص قولك انه كانت فى السجن حرب بين السجناء السياسيين فقد كذب من قال لك ذلك لاننا لم نسمع انه حصلت ولو لمرة واحدة مشاجرة سياسية ناهيك حرب اهلية.” تألمنا كثيرا لسماع ذلك التشويه على لسان سعيد صالح والذى اكد لنا ما كان قد نما الى علمنا فى اليوم السابق. قيل لنا قبيل ذلك انه عقد فى اليوم التالى لخروجنا اجتماع برئاسة سعيد صالح وحضور بعض الزملاء من السجناء وانه تم فى ذلك الاجتماع تصنيف السياسيين على اساس انتمائهم التنظيمي، وانه بناء على ذلك الاجتماع تم توجيه بعض الزملاء الى مواقع تنظيمية مختلفة!

 

        صبيحة يوم التحقيق، كان من المقرر ان يعقد ابراهيم محمد على – عضو اللجنة التنفيذية – سمنارا امام حشد كبير من المقاتلين، الطلبة المستجدين وابناء الضواحى، ولكنه استبدل السمنار بالقاء خطاب. كان عصبيا حاد التعابير اعتمد على توجيه الاتهامات والادانات اكثر من اعتماده على السرد التاريخى والتحليل الموضوعى. وفى ختام خطابه رفض الاستماع الى اية مداخلات او الاجابة على اية اسئلة ولم يتم ترجمة ما قاله الى اللغة التجرينية. فوجىء الطلبة تماما بتحول السمنار الى مجرد خطاب، ثم بعدم اتاحة الفرصة للسؤال والمداخلات وبعدم ترجمة الخطاب. لم يكن بينهم من يفهم اللغة العربية. تفجر بينهم نقاش وجدل علنى واصبحوا بين مؤيد ومعارض لاشياء لم نعرفها جيدا، لانهم وحسب ما بدا لنا، كانت هناك اسئلة منسقة وربما محرجة لطرحها. فمنذ وصولنا الى الموقع، كنا نلاحظ وجود عناصر من خارج الموقع تقوم بتحركات واتصالات بالطلبة وخصوصا بعد حلول الظلام، مع ان الدخول الى الموقع كان ممنوعا الا بتصريح رسمى، وكنا نلاحظ، فى نفس الوقت، التباينات الكبيرة فى التعليقات والملاحظات التى كان تتبادلها بعض الكوادر والادارات التى كانت تتحرك فى الموقع ولكننا لم نعرف خلفيات ما يحدث بالضبط. عقب الخطاب، اتضحت الصورة وعرفنا ماهية الاتجاهات والتوجهات التى كانت تتنافس، ان لم تكن تتصارع، للتأثير علي الطلبة ومن خلالهم على نتائج المؤتمر التنظيمى المرتقب.

 

     استشفينا من خطاب سعيد صالح سابقا وخطاب ابراهيم محمد على وتبعاته لاحقا، ان النار تحت الرماد واننا لم نكن على مشارف الوحدة حتى داخل الجبهة ناهيك ان نكون على عتبة الحرية كما بدا لنا وللامهات اللواتى كنا يزغردن ويتغنين بها، بقدر ما كنا على وشك حرب اهلية لا هوادة فيها. وأدركنا ايضا، أن الإلتحاق بالثورة لا يستدعى الاستعداد الكامل لمقاتلة العدو فحسب، بل ويستدعى أيضا استعدادا مماثلا لمقاتلة الشقيق شقيقه في شقه (تنظيمه) وفى الشق الآخر من الثورة في حرب لا ناقة لهما فيها ولا جمل. عندئذ .. وفقط عندئذ اعترفنا أن السجن كان أوسع بكثير مما اعتقدنا وان الحرية أضيق مما تصورنا وانما الامور تقاس بما يحمله الانسان بين ثناياه من مفاهيم وقيم.

       

.

 

        تمكنا من الوصول الى كسلا بسلام بفضل تعاون بعض الاخوة ممن تعاطفوا معنا والذين كانوا قد نصحونا قبل ذلك، بطريقة غير مباشرة، بالخروج من الميدان .. ولكن بغرض “الاستراحة!”.

 

عندما سمع العم احمد دنكلى، طيب الله ثراه، – كان عضوا فى اللجنة الشعبية بكسلا – نقاشى مع جبداى – رئيس المكتب العسكرى – وعلم فيما بعد بأننى خرجت من السجن وطردت من بيت المقاتلين لاننى لم احضر توجيها من الميدان، ولا اعرف فى كسلا احدا، رقّ لحالى وعرض على، بدون معرفة سابقة، ان يستضيفنى فى بيته الى ان تتضح لى الرؤية.. وانا بدورى،عملا بقول الشاعر “يجود الاكرمون من جودهم ونحـن من جـود الاكرمـين نجود” استضفت فى داره زملائى الاربعة. تقبل العم احمد طلبى بطيب خاطـر وبموافقـة ابنيه عبد الرحمن وعمر، جزاهم الله عنا خيرا.

 

بعد اسبوع من التفاكر حول ما وصل اليه حالنا، اتفقنا على ان نوزع انفسنا بين التنظيمين لعلنا نساعد بذلك على دفع الوحدة! عاد كل من ارمياس وبرهانى الى الميدان وكأنهما كمستجدين قدما من الخارج، وانضم قرماى ويعقوب الى قوات التحرير الشعبية وبقيت انا فى الجبهة .. عضوا غير مرحب به او بالمعنى الاصح .. “دخيلا”. كنت الاحظ مدى عمق الكراهية وعدم الثقة التى خلقتها وخلفتها الحرب الاهلية .. حرب بدأها اناس كانت لكل منهم رؤيته، ولكل منهم تصوره بأحقيته لاكبر قدر من السلطة الوهمية. من الثابت ان عداء ذوى القربى لعوامل ذاتية وموضوعية يظل اشد ضراوة ومرارة من اى عداء اخر، وتأكد لى ان المنطق الذى اعتمدته، فى الواقع العملى، كان نوعا من القفز فوق الطبائع الانسانية.

 

 إن أحداث الماضي لا يمكن تصحيحها بأثر رجعى بقدر ما يمكن الاستفادة منها قدر المستطاع لخلق وطن آمن ومستقر ومستقبل افضل للأجيال المقبلة مع الإدراك التام انه لا يمكن أن يتأتى هذا الأمن وهذا الاستقرار ، بصفة عامة ، إلا من خلال الإشراك والمشاركات الفعلية والفعالة من كافة الفئات الاجتماعية وفى كافة مناحي الحياة بمستوى تتلاشى معه الفوارق والرواسب الشكلية وبما يقود إلى الحفاظ على المكتسبات المحققة وبما يؤدى إلى التقدم والازدهار.

 

        هذه رواية من شارك فى عملية اقتحام سجن عدى خالا، وخرج من السجن بل ومن الجبهة بنظرة محددة. بطبيعة الحال، قد يتذكرها الاخرون ممن شاركوا فيها على نحو مختلف. لا اقول انهم مخطئون ولكننى اقول ان هذا ما اسعفتنى به الذاكرة حول معظم الاحداث التي عايشناها داخليا منذ اليوم الاول للاتصال.

 

عندما شاركت فى السمنارات لجماهير كسلا، طلبت بعض الإيضاحات حول التطورات الخارجية للخطة وماهية التغييرت التى طرأت عليها ودواعيها، ولكن بدون جدوى. لاحظت فى بورتسودان انه حتى مسئولى المكتب الذين كانوا يعدون لنا السمنارات والجماهير، كانوا مقتنعين تماما بأن عملية اقتحام سجن عدى خالا وايضا سجن اسمرا نفذها الجيش الشعبى وليس جيش التحرير، وان السمنارات التى كنا نعقدها مجرد عملية دعائية لكسب الجماهير قبيل عقد المؤتمر! واجهت نفس الموقف المحرج عندما التقيت ببعض الصحافيين الاجانب فى الخارج حيث طرحت على بعض الاسئلة التى لم استطع الرد عليها الا بالاجتهاد الشخصى.

 

سمعت من بعض المصادر أن الخطة المنفذة اعتمدت على تنكر وتسلل بعض الفدائيين ضمن الاهالى الزوار إلى داخل البوابة الرئيسية للسجن ومن ثم ارغام الادارة على الاستسلام، وان هذا التغيير طرأ قبل موعد التنفيذ بيوم او يومين. بصرف النظر عن حجم التغيير وتوقيته، لمَ لم نشعر به فى حينه حتى لا يتعرض الزميلان ارمياس وقرماى للشاويش ودى سنغال او بديله سليمان وحتى لا تكشف الخطة قبل تنفيذها؟ اما اذا نفذت الجبهة الخطة التى كانت قد وضعتها منذ البداية، فما الذى اضطرها، اذا، للاتصال بنا وبذلك الاسلوب العفوى وتعريض خطتها للخطر؟ وهناك تساؤل اخر.. ماذا كانت ستفعل الجبهة لو تدخل سلاح الطيران سواء لاتصال من جهاز لمخبر سرى فى المدينة او حتى لو اكتشفت الطائرات عملية الاقتحام صدفة بينما تقوم باستطلاعاتها الروتينية؟

 

اثرت هذه التساؤلات من اجل الاستيضاح والتوثيق التاريخى حفاظا على الانجازات التى استشهد معظم صانعوها وتركوها امانة على اعناقنا، وحتى لا تتحول الى “الف ليلة وليلة” جديدة او تجد طريقها الى سلة المهملات كمثيلاتها من البطولات التأريخية.

استشهد من الاشخاص المشاركين المذكورين كل من: سعيد صالح – قائد العملية، ارمياس مرهزين، برهانى تخليزين ومحمد قيتو. التقيت بسيوم عقبا ميكائيل عام 1982 فى ظروف سياسية غير مؤاتية لاستعادة الذكريات ومناقشتها، اما يعقوب كدانى وقرماى (بوليسيا) سمعت انهما يعيشان فى اسمرا.

ختاما .. ارجو من القارىء الكريم اعتبار اي خطأ فيما كتبت هفوة غير مقصودة مع التكرم بالافادة والتصحيح.

 

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=8800

نشرت بواسطة في يناير 26 2005 في صفحة مواقع تأريخية. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010