التحدي الذي يواجه المثقف

في مقال سابق نشر تحت عنوان ( التحدي الذي يواجه المعارضة ) تساءلن عما إذا كانت المعارضة قد شرعت فعلا في العمل الحقيقي، ولم تمض أيام قلائل عشناها محبوسى الأنفاس وكل حواسنا مشدودة نحو مواقع الصمود التي ظلت تتابع المسيرة منذ البداية من خلال رصدها لمجرى الأحداث وتوثيقها لسير خطاها واستشرافها الواعي لآفاقها وإشكالاتها وإفرازاتها قبل وقوعها ثم التعامل معها بأسلوب المبادرة الذاتية المستوعبة لذاكرة التاريخ وهموم الحاضر ومهام المستقبل بعيدا عن الأسلوب المتبع في التعامل مع الأحداث التاريخية القائم على رد الفعل دون استلهام المعطيات الصانعة لتلك الأحداث – وحتى اللحظة التاريخية الحاسمة التي حولت الوحدة إلى حقيقة ملء السمع والبصر مشكلة بذلك تعبيرا تاريخيا لطموحات الشعب الإرتري وإنجازا نوعيا يمثل ذروة الانتصار في مسار التطور السياسي للشعب الإرتري.

ولا أعتقد أن اختيار اسم ( تحدي ) كإطار جامع جاء من فراغ فدفن بؤر التناقضات المتلبسة بالأمراض المفتعلة لتمزيق وحدة الشعب تحت ركام من الوعي الزائف بالذات والتاريخ والدين والحياة، ونقل التفاعل من مستوى الحوار إلى المواقف العملية يمثل قفزة نوعية ناضجة تدل فعلا على تصميم القوى الوطنية على مواجهة التحدي بالتحدي.

وبهذه الخطوة – التي نأمل أن تستمر إلى الأمام لتحقيق طموحات الشعب الإرتري التي من أهمها بناء مجتمع إرتري ديمقراطي حر تحكمه مؤسسات دستورية- تكون العبارة المأثورة ( أعطونا الوحدة نمنحكم الثقة ) التي كانت للجماهير وخاصة المثقفين بمثابة المعين الذي لا ينضب للتبرير والتسويف والتهرب من المسؤولية قد انقلبت بعد اجتماع الخرطوم التاريخي إلى ( أعطيناكم الوحدة فامنحونا الثقة )!! لتكون بذلك المعارضة قد وضعت جماهيرها في الملعب بعد أن كانت من المتفرجين.

فهل حقا آن الأوان الذي تستحق فيه المعارضة ثقة الجماهير ؟ وما هو دور الجماهير في هذا المنعطف التاريخي ؟!.

للإجابة على هذه التساؤلات تتجه الأنظار إلى المثقف الإرتري باعتباره صوت الشعب الذي يتحدث به ويعبر من خلاله عن آلامه وآماله، وأذنه التي يصغي بها  وعينه التي يرى بها، والمثقف ولاسيما في المنعطفات التاريخية الخطرة التي يمر بها المجتمع، هو من ارتفع بشرف وأمانة إلى مستوى المسؤولية التي يلقيها التاريخ على عاتقه باعتباره شاهد عيان في مجتمعه، والشاهد ليس بمرآة جامدة بل يتطلب الحضور والحركة الفاعلة داخل أطر الوعي الجمعي، وإننا نتساءل:هل  المثقف الإرتري حاضر؟! ومتى تردم الهوة الواسعة بين طموحات المثقف النرجسية وبين قضايا الجماهير؟ متى يربط المثقف همومه بهموم الجماهير؟ متى سيبدأ المثقف الإرتري في توجيه وجدان وعواطف المواطن نحو غاياته الحضارية الخلاقة ؟ إلى أيّ مدى يصل إيمان المثقف الإرتري بقضية وحدة الوعي الإرتري ووعي الوحدة ووحدة الثقافة الإرترية في أصولها وثقافة التنوع في فروعها ؟ متى يقوم المثقف الإرتري بتعريف المواطن الإرتري بقضاياه الجمعية وينتشله من براثن الوعي المزيف الذي تبثه مجموعة الزير والزار ؟ متى يشرع المثقف في القضاء على ثقافة الأنا الفردية والانحطاط التاريخي والثقافي ويبشر بثقافة (نحن) الجمعية الخلاقة ؟ متى يؤدي دوره في التوعية الحضارية حتى يعي الإنسان الإرتري كامل وجوده وكرامته كإنسان ويكتشف قدراته الحضارية الكامنة ؟!!

ليس المقصود من طرح مثل هذه التساؤلات التي قد يراها البعض بالغة القسوة إن رصيد المثقفين صفرا، فنحن لا نستطيع أن ننكر الجهود الفردية الرائدة التي أسهمت ولا زالت بإخلاص في إنارة الطريق، والتكوين الفكري للجيل الجديد كتلك الجهود التي تضطلع بها مواقع الصمود ( النهضة ، فرجت ، عونا ) وكذلك عواتي مما اضطر النظام إلى إغلاق مقاهي الإنترنت القليلة بعد التقارير الأمنية التي رصدت الإقبال الجماهيري الواسع علي تلك المواقع، ولم يستثنى من ذلك إلا المقاهي التابعة للحزب مع الرقابة الشديدة عليها، ولم تسلم كذلك تلك المواقع والقائمين عليها من التشويه سواء كان من عناصر حزبية كبيرة نافذة، أو أبواق هامشية متملقة وجدت ضالتها في تلك المواقع لتأكيد ولائها مستخدمة رأس مالها التاريخي من الشتائم المبتذلة كتلك التي ينفثها بين الحين والآخر الكير (حمدان).

كناطح صخرة يوما ليوهنها :: فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

ومع ذلك فإن ما تحقق حتى الآن لا يزال دون الحد الأدنى لما يجب تحقيقه من مهام بالغة الحيوية تنتظر وفاء المثقف بها.

وفي هذا السياق وباستثناء القلة التي أشرنا إليها فإنه يمكن تقسيم المثقفين الإرتريين إلي ثلاث فئات:-

الفئة الأولى: وتتكون من المثقفين الذين يدينون بالولاء للحاكم وليس للوطن وبعض الأفراد المغرر بهم بالإضافة إلى العناصر التي لا تتمتع بأي هامش في ميزان الفاعلية عند الحزب وإن كانت تتساقط على الفتات في باب الحزب كتساقط الذباب على العذرة وكلهم يمارسون ما يمكن أن نسميه (دعارة ثقافية ) باسم الثقافة مهمتهم تزيين ممارسات النظام القمعية، وتتميز العناصر الأخيرة التي يمكن أن نمثل لها بـ ( حمدان ) بأنها لا تحمل ثقافة نابعة من المجتمع، وليست لها قضية ولا مبدأ ولا موقف.

الفئة الثانية: وهي فئة المثقفين غير المتنورين وهؤلاء رغم ما يحملونه من ثقافة في إطار تخصصاتهم إلا أنهم نسوا أو تناسوا ثقافة شعبهم وتهربوا من المسؤولية تجاه المطالب التاريخية لشعبهم والقضايا المصيرية التي تواجهه والمحن والعوائق التي تعوق خلاصه وانعتا قه من القهر والظلم، فهؤلاء مثلهم كما ضرب القرآن الكريم مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ولم ينفعوا بها أنفسهم ولا الناس من حولهم كالحمار يحمل أسفارا لكنه لا يعلم ما فيها ولا ينفع الناس بما فيها.

الفئة الثالثة: وهي فئة المثقفين الذين يشكلون اليوم تجمعات قد تربو عددا على تجمع المعارضة السياسية وهؤلاء أصبحوا يشكلون( إنتلجنسيا ) سيوقافية   يعيشون في أبراج عاجية، لا يحملون من هموم الشعب شيئا ذا بال، لأنهم دائما ينظرون إليه من أعلى، وهم مع ذلك يتفارقون منطقا وتحليلا وغاية حتى القطيعة والموت، والأدهى من ذلك أنهم يتلبسون بعض المظاهر الاجتماعية ليزيدوا بذلك من حدة الأمراض الاجتماعية التي أفرزتها سياسات غير رشيدة بدل أن يكونوا     Antivirus يقضي على تلك الأمراض.

إن المثقف الإرتري المتنور عليه أن يدرك أن أولى واجباته هي توعية الجماهير لا ممارسة السياسة، إذ إن الجماهير هي الهدف من التغيير، وهي أداة التغيير، فالجماهير إن تمكنت من الوعي أصبحت قادرة على معرفة الظلم، لأن الذي يحرك الجماهير في الحقيقة ليس الظلم بل الإحساس به، والكلمة التي يقولها المثقف بصدق واقتناع ويعمل على توصيلها إلى الجماهير هي بمثابة حبل الأمان الذي ينقذ الشعب من المصير الذي يراد له أن يقع فيه، وتفعل فعل التيار الكهربائي الذي يُشعل في الشعب الحماس من أجل التغيير المنشود وتحمل الناس إلى التحول من المطالبة السلبية بالحقوق إلى دور القيام بالواجبات وبالتالي التسلح لمواجهة الظلم والاستبداد.

ولا أقصد بالمثقف هنا كل من نال حظا من التعليم ونال الشهادة الجامعية العليا -وإن كنت أتطلع إلى هبوط هؤلاء من عليائهم ليستقصوا أحوال شعبهم – لأن العلم قد يشكل مرضا من الأمراض التي نعانيها وخاصة عندما يرمي بصاحبه إلى منافي التيه بعيدا عن مشاكل المجتمع وهمومه، أو عندما يكون حامله من الإنتلجنسيا الدلالين الذين يستغلون معرفتهم الضحلة للاتجار بمشاكل المجتمع في دهاليز السياسة وسوق النخاسة، بل أقصد به ذلك الإنسان الذي ثقف هموم مجتمعه، وحدد مشاكله أي هو الإنسان الفاعل المؤثر في المجتمع، لديه معرفة بالذات، وامتلك الفكرة والمنهج، وحدد الهدف من أجل التغيير، وبالاختصار مثقف يكون على استعداد لتجرع كأس سقراط من اجل الحق والحقيقة، مثقف يقوم بالثورة داخل الوعي، ووعي داخل الثورة، مثقف يحقق الثورة الرافضة في المجتمع ثم يقودها على أساس هذه الثقافة، ثورة يطالب فيها المجتمع بنفسه بتصفية كل الأدران والشوائب الذي علق بهذه الثقافة، عندها سنشهد كساد سوق مهرجانات التسول، وإفلاس أبواق الدعارة، وتلاشي كل المساحيق المزورة التي طلي بها وجه إرتريا الثقافي والحضاري، وستعبر الجماهير عن احباطاتها بالفعل الواعي بدل التعبير عنه بهز الجسد في مهرجانات التسول، وفي سمنارات الدعاية الممجوجة.

ولا يظنن أحد بأنني ضد الموسيقى، فالنقد الموجه هنا لا يوجه إلى الموسيقى بقدر ما يوجه إلى ثقافة المجتمع الطارئة، فالموسيقى فن تعبيري عن طبيعة المجتمع، إلا أنه كلما كثر التعبير بالجسد دل ذلك على عجز في التعبير، أي كلما تحولت الموسيقى إلى فن راقص يحرك الجسد دلت على قصور في التعبير لأسباب ذاتية أو مفروضة على المجتمع، وفي كل الأحوال يدل على مرحلة هبوط مادي ومعنوي لوضع الإنسان في هذا المجتمع الذي يحيى أفراده في ظل القهر والقمع والتهميش فيعبروا عنه بهذا الشكل المزري الذي نلاحظه في احتفالات الضحايا للدعاية في الداخل، وفي قوافل مهرجانات التسول التي يقودها مجموعة الزير والزار.          

وفي رأيي المتواضع لا أعتقد أن المثقفين سيحققون شيئا يعتد به من المهام التاريخية التي تنتظرهم إلا إذا وضعوا نصب أعينهم الأهداف التالية:-

1- فتح قنوات الاتصال بين كل المثقفين الذين يملكون الوعي والإحساس بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم، وبذل الجهود الحثيثة لتأسيس مؤتمر أو رابطة جامعة تجمعهم مسؤوليتها الدفاع عن الثوابت وحراسة القيم الأخلاقية، وإعداد تحليلات وحلول ودراسات لمشاريع الحوار وأساليب الوحدة وصيغ التعايش.

2- تنقية ساحتهم من الاختلافات المؤثرة في وحدتهم وايجاد صيغة من صيغ الحوار مع العناصر المغرر بها من قبل النظام لتحقيق الصالح العام ولو في القضايا الرئيسية على الأقل.

3- العمل على استعادة الثقة بالقيادات السياسية ، لأن من شأن ذلك أن يعزز موقف هذه القيادات للقيام بدورها، وهذا لا يتم إلا بثقة المثقفين أولا بقياداتهم السياسية ثم دفع الجماهير نحو تعزيز هذه الثقة.  

4- التخلص من مشكلة انعدام الرابطة بينهم وبين الجماهير وذلك بأن يتوجهوا بعد أن ينظموا أنفسهم إلى الجماهير من أجل إنقاذها من شراك العبثية المقرفة التي يقودها حزب الزير والزار، وتحرير الجيل الجديد والزج به في معركة الوعي، وكشف كل أكاذيب وخداع الإقصائيين الذين يريدون إخراج هذا الجيل من إطار الفعل، والتصدي للظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يخيم على المجتمع الإرتري.

5- التصدي لكل أساليب التهميش والتقزيم والصهر بالقهر والإكراه، ومحاربة كل الأمراض الاجتماعية المفتعلة التي تؤدي إلى شلل روح الجماعة وتسميمها.

6- الالتزام بمبدأ النقد الذاتي والمصارحة والسمو بمستوى الشعور، والابتعاد عن النرجسية والتمسك بالعمل الجمعي والمصالح الجماعية حتى لو أدى ذلك إلى أن يقف المثقف ضد مصالحه الذاتية أو مصالح طائفته أو قبيلته.

7- التصدي لكل المشاريع غير النبيلة التي تستهدف الإفساد والسقوط الأخلاقي للمجتمع وعلى الأخص الشباب مثل: ثقافة ( أبو سلامة ) ومعسكرات التدجين والدعارة في ” ساوة ” ومهرجانات الرقص والمجون التي تهدف بالإضافة إلى دعم مشاريع الإقصاء سلب قدرة الشباب على الوعي، وإدخالهم إلى دوامة العدمية والعبثية.

8- فضح أبواق الإقصائيين المنافقين الذين ينفثون سمومهم على الهواء متلبسين قيم المجتمع النقية بعد تشويهها، الذين يعبدون الوثن البشري من أجل الفتات، ويحرفون بل ويتطاولون على تاريخنا تحت شعار الوطنية المشوشة الملامح، ويبيعون كل القيم والناس تحت شعار آخر.

9- تعميق مفاهيم الحرية والتي تعني في أبسط معانيها الاعتراف بالآخر، والقبول به كما هو، وبهويته الثقافية والحضارية والتاريخية وعلى وجه الخصوص الدينية لأنه لا قيمة للإنسان إذا لم تكن له خلفية ثقافية يستمد منها معنى لحياته، وبالتالي فإن تذويب أي ثقافة خاصة هو تذويب للقيم التي تقوم عليها إنسانيته وتدمير لها، وعندما يتداخل الدين مع الثقافة يأخذ الدفاع عن الخصوصية الثقافية بعدا مقدسا وهو ما شهدناه ونشهده في العديد من مناطق العالم، وملحمة مسيرتنا النضالية أبلغ مثال على ذلك، فالصراع المستميت في المسألة الثقافية الذي خاضته الحركة الوطنية والذي وصل أوجه بإلقاء الإمبراطور هيل سلاسي اللغتين الرسميتين العربية والتجرتية كان إرهاصا لبزوغ فجر أدال وإعلان الحرب المقدسة التي حددت وجود إرتريا من عدمها.

10- تفعيل الحوار وثقافة التعايش الذي يسوده الاحترام والسلام والتواصل والتكامل في إطار الاعتراف بالحق واحترام الاختلاف والعمل على إبراز الفسحة الهائلة من تراث التسامح التي تتبدى جلية في مختلف المراحل والحقب من تاريخنا، والتخلص من مصدر التنافر والتناحر والإلغاء، ومحاربة ثقافة إما ” أنا ” أو ” هو ” التي ينتهجها النظام، والتبشير بمنطق ” أنا وأنت ” معا للمستقبل في حوض المحبة وليس في وحل الكره وحمأة الصراع. فعيشنا المشترك الذي يمتد على قرون طويلة وملاحم نضالنا الطويل المشترك يشكل – بالرغم من الوضع الاستثنائي الذي وضعنا فيه النظام – الأرضية الصلبة التي نبني عليها عملنا المشترك حاضرا ومستقبلا في سبيل مجتمع متساوي ومتكافئ لا يشعر فيه أحد أنه منبوذ أو مهمش أو غريب.

صحيح أن هذه المهام الحركية تبقى للظروف الاستثنائية التي نعيشها محصورة في نخب من المثقفين وأصحاب القدرة على التحرك والانتقال والسفر، ولا تحقق تواصلا فعليا بين قطاعات عريضة من المثقفين الفاعلين في شتاتهم إنما غير معروفين أو غير قادرين على الحركة لظروف اقتصادية أو سياسية، كما لا تتمكن من الوصول المباشر والسهل إلي قطاعات واسعة من أبناء الشعب المهمشين أساسا والمستلبي الإرادة والحرية في الداخل، إلا أن كل هذه العوائق والتحديات لا تعفي المثقفين من مواجهة قدرهم، والاضطلاع بدورهم التاريخي كشهداء حاضرين في مجتمعهم، فهل هم حاضرون فعلا ليكونوا أهلا للشهادة ؟! هذا هو التحدي الحقيقي الذي يوجه المثقف!!!. وإلى اللقاء

أبو فايد

Abofaieda@yahoo.com 

 

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6075

نشرت بواسطة في فبراير 26 2005 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010