التعليم فى ارتريا

    بقلم الاستاذ/ محمد نور احمد

كان التعليم فى ارتريا تحت سيطرة النظام الاستيطانى الايطالى محصورا فى الخلاوى بالنسبة للمسلمين وكان قاصرا على تحفيظ القرأن ومحو امية الدارسين من الاعمار المختلفة لأن الخلوة كانت تضم حتى البالغين الى جانب الاطفال كما كانت الكنيسة القبطية تقوم بنفس الدور بالنسبة للمسيحين.

لكن دراسة للاستاذ يس محمد عبد الله فى مجلة الدراسات الافريقية فى صفحة (135/ العدد29 ) تقول ان اول مدرستين فتحتا فى ارتريا  كانتا فى كل من مصوع وكرن بحكم وقوع كل من منطقة سمهر والمنخفضات الغربية الارترية تحت الادارة التركية منذ عام 1857وقد اعتمدتا اللغة العربية لغة للتدريس.

 اما بداية التدريس فى العهد الايطالى فكانت عند احتلال ايطاليا للساحل الارترى ومدينة مصوع فقد كان بافتتاح مدرسة مصوع فى عام 1924 اذ كانت الادارة الايطالية فى حوجة الى تدريب موظفين من الدرجة الدنيا فى السلم الادارى باجور زهيدة, لان استجلاب موظفين من وراء البحار كان سيكلف الادارة الاستعمارية مبالغ لا قبل لميزانية الدولة بتحملها وهو ما انتهجته الادارة البريطانية فى ما بعد عند احتلالها لارتريا بعد هزيمة ايطاليا فى الحرب العالمية الثانية.

كانت الايطالية هى لغة التدريس, سواء فى مدرستى مصوع وكرن او تلك التى افتتحت فى مدن اخرى بعد انشائها بالاضافة الى تدريس اللغتين العربية والتقرنية كلغتين فحسب لما تلمسته الادارة من اهميتهما للتخاطب مع رجال الادارة الاهلية من نظار وعمد ومشايخ  وهو مادرجت عليه تلك الادارة عند مكاتبتها لهؤلاء بالعربية للمسلمين والتغرينية للمسيحين .

كان مستوى التعليم فى ذلك العهد لا يتجاوز المرحلة الابتدائية فى مدارس الحكومة كما كان عددها محدودا لكن هناك مدارس وان كانت محدودة, اقامتها البعثات التبشيرية الكاثولوكية والبروتستانتية ,كان مستوى التعليم فيها افضل, الا ان المسلمين لم يستفيدوا منها بحكم اهدافها التبشيرية القاصرة على الدعوة الى اعتناق الديانة المسيحية لذلك  كان طلاب العلم من المسلمين يهاجرون, اما الى مصر, للالتحاق بالازهر الشريف, او زبيد اليمنية او المدينة المنورة. وان استأثر الازهر بالاولوية للهجرة اليه وهناك القليل من طلاب العلم المسلمين الذين قصدوا فى وقت مبكر المعاهد السودانية.

بعد انهيار القوات الايطالية امام قوات الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية وايلولة ادارة ارتريا الى بريطانيا واجهت الاخيرة نفس المشكلة التى واجهت سلفها  بعدم امكانية الاستعانة بالموظفين من الدرجة الدنيا فى سلم الادارة من بريطانيا او حتى من مستعمراتها الاخرى لعدم تحمل الميزانية التى كانت تحت تصرف الادارة  لذلك لم تجد بدا من اللجوء الى انتاجهم محليا كما ورد فى كتاب المفوض السياسى أنذاك السيد تريفاسكس (ارتريا مستعمرة بين احتلالين) ولكن باية لغة للتدريس؟.

لقد كان من البديهى ان تعتمد الانجليزية كلغة للادارة لغة للتعليم الا ان ذلك كان غير ممكن للاسباب التى ذكرنا من هنا كان يجب اعتماد لغة لها جذور فى المجتمع اى كان مداها لهذا لجأت الى السكان. فاختار المسلمون العربية والمسيحيون التغرينية على ان تدرس الانجليزية كلغة منذ البداية حتى الفصل الرابع فضلا عن الفصول المسائية المدفوعة الاجر للراغبين فى تقوية لغتهم الانجليزية وقد اقبل على ذلك الكثيرون وكان المعلمون بالنسبة للغة العربية اما ارتريون درسوا فى السودان او سودانيون فى حين كانوا معلموا التغرنية ارتريين خلص.

وفى فترة وجيزة استطاعت الادارة البريطانية ان تخرج عددا كبيرا من المدرسين والموظفيين فى الجهاز الادارى وتوسعت رقعة التعليم حتى شملت الرعاة الرحل فى بعض مناطق الساحل الشمالى وتدرج مستوى التعليم الى المرحلة الوسطى التى تغطى اربعة سنوات اخرى, بذلك اصبحت مرحلة التعليم الاساسى ثمانى سنوات وكان التدريس فى المرحلة الوسطى بالغة الانجليزية بينما كانت العربية والتغرنية تدرسان كل منهما كلغة.

ان عدم وجود منهج معدا سلفا ومقررات مطبوعة هى الصعوبة التى واجهت بداية التعليم غير ان الجانب العربى تمت الاستعانة له من كتب المطالعة التى كانت مقررة على المدارس الابتدائية فى السودان, مثل كتاب الاطفال حسب افادة الاستاذ محمد احمد ادريس نور وهو من الرعيل الاول للمدرسين فى حين تم وضع مطبوعات محلية بالنسبة للتغرنية. اما بقية المواد والرواية ايضا للاستاذ محمد احمد ادريس نور فقد تركت لاجتهاد المدرسين كل حسب تحصيله المعرفى.

كان فريق الادارة البريطانية المشرف على التعليم يتكون من ثلاثة تربويين فى بزاة عسكرية هم الرائد( كنزستون اسنيل) ونائبه النقيب (ديفدال) والصول (روبونسون ) الذين خلعو بزاتهم بعد انتهاء الحرب فصار الاول الدكتور كنزستون متخصص فى التربية ونائبه النقيب متخصص فى علم الاجتماع بينما الصول متخصص فى علم النفس.

ويعود الفضل لقيام التعليم فى ارتريا على اسس علمية حديثة حسب ذلك الزمان الى هذا الفريق واقد استمر على هذا النحو حتى فى العهد الفدرالى  وتفرع منه جانب مهنى عندما انشأت مدرسة للتدريب المهنى بمساعدة امريكية وفق برنامج ما كان يطلق عليه وقتئذ (النقطة الرابعة )  point four حتى قامت الحكومة الاثيوبية بالغاء ذلك المنهج والغاء اللغتين العربية والتغرنية كلغتيى تعليم بعد الغاء الاتحاد الفدرالى, ودمج ارتريا كليا بالامبراطورية الاثيوبية .

فى العهد الاثيوبى:

فرضت الامهرية فى العهد الاثيوبى كلغة تدريس فى مرحلة التعليم الاساسى بعد ان مهد لذلك باعطاء دورات فى اللغة الامهرية للمدريسين الارتريين فى بداية الامر فى اثيوبيا فضلا عن استجلاب معلمين اثيوبين وبذلك اكتملت عملية امهرة التعليم الاساسى بينما واصلت الانجليزية كلغة تعليم فى المرحلة الثانوية وحتى فى الكلية الجامعية لى (سانتا فاميليا ) فى اسمرا ولم تكن تستوعب هذه الكلية الجامعية او جامعة اديس ابابا او معهد بحر دارالاثيوبى المهنى الا اعدادا محدودة من الطلاب الارتريين الذين اكملوا المرحلة الثانوية كما كانت البعثات الخارجية شبه محصورة على الطلاب الاثيوبيين ولم يكن نصيب الارتريين منها الا فى نطاق محدود للغاية

فكان ذلك الجيش الجرار من الشباب العاطل ولكن بعد ان نشطت خلايا الثورة فى المدن وتوالت العمليات الفدائية ضد عناصر الامن المتسلطة على رقاب الشعب مما اضطرها لان ترخى قبضتها تمكن هؤلاء الطلاب من اعلان اضراب مفتوح فىعام    1972 وذلك عندما فرضت الحكومة الاثيوبية رسوما تفوق الطاقة المالية لاولياء الامور  ولم تعر الحكومة الاثيوبية اى اهتمام لهذا الاضراب فقد كان تقديرها ان اولياء الامور سيضطرون فى نهاية المطاف لدفع هذه الرسوم وسيستانف الطلاب دراستهم. ما لم يكن فى حسبان الحكومة الاثيوبية أن لهيب الثورة قد امتد الى المدينة ودخل كل بيت فكانت الاستجابة لنداء الواجب الوطنى , وهكذا بدأت صفوف هؤلاء الشباب تتدافع نحو الالتحاق بالثورة واصيب التعليم بتدهور منذ ذلك الحين بشكل لم تشهده البلاد منذ أن وضعت الحكومة الايطالية نواته وارتقت به الادارة البريطانية ووسعته وواصلته حكومة ارتريا الفدرالية .

لقد كانت الامهرية هى لغة  التدريس فى التعليم الاساسى كما سبق ان ذكرنا وقد الحق ذلك اضرارا كبيرة بالطلاب الارتريين , فهى مثلها مثل اى لغة اجنبية ستكون هناك صعوبات فى تعلمها على الاقل فى بداية الامر خاصة وانها مقرونة بالاستعمار مما لا يشجع على الاقبال عليها الا بالاكراه لان فرض اللغة الامهرية كان يعنى طمس الهوية الارترية واذابة المجتمع الارترى فى بوتقة الامهرا مثلهم مثل بقية سكان الامبراطورية المتعددة الاثنيات والثقافات والذين بدأو التمرد على هذه السياسة وانتظموا فى حركات قومية افرزت الوضع الحالى , لكن الضرر الاكبر وقع على الطلاب المسلمين لانهم وان اشتركوا مع اخوانهم المسيحين فى حداثة اللغة الامهرية عليهم وعدم الاستعداد النفسى لتلقى العلم بها للاسباب التى ذكرنا فان الحروف الجئزية كانت جديدة عليهم على عكس الطلاب المسيحيين الذين درسوا بها فى التعليم الاساسى كما كانو يجدون معينا فى ذويهم واقاربهم خارج المدرسة لتقديم المساعدة لهم بينما كان ذلك متعذر على الطلاب المسلمين الذين درسوا نفس المرحلة باللغة العربية ومنهم من كان يلتحق بخلاوى تحفيظ القرأن فتخلفت اعدادا كبيرة منهم عن مواكبة التعليم ومنهم من هاجر الى البلاد العربية بحثا عن فرص للتعليم او العمل ومنهم من ظل قابعا فى داره حتى اجتذبته الثورة فالتحق بها.

التعليم فى عهد الثورة :
لم يبدأ التعليم فى عهد الثورة الاعندما تمكنت من تحرير ساحات مأهولة بالسكان واقامة القواعد      في الخلفية المحمية او في اوساط اللاجئين في السودان والذين بدات اعدادهم تتكاثر منذ تنفيذ اثيوبيا لسياسة الارض المحروقة التى بداتها فى عام 1967 بقرية عد ابراهيم فى داسى فى اوساط القاش وهى سياسة تعتمد على احراق القرى والابادات الجماعية لارهاب المواطنيين وحشر من بقى منهم على قيد الحياة فى قرى استراتيجية لمنعهم من الاتصال بقوات الثورة.

 وقد فشلت هذه السياسة رغم العنف الذى طبق .

لم يكن هناك عدد كافى من المعلمين المتفرغين لذلك كان يستعان بطلاب الخدمة المدنية الذين كانوا يؤدونها لمده سنة ثم يعودوا الى الجهات التى اتو منها لمواصلة دراستهم وكان للاتحادات الطلابية وخاصة الاتحاد العام لطلاب ارتريا دور ملحوظ فى ذلك ولم تكن سنوات التعليم تتجاوز المرحلة الاعدادية على احسن الفروض وحتى مساحاتها كانت ضيقة للغاية اما لغة التعليم فكانت العربية والتجرينية الى جانب الانجليزية بالنسبة لمنهج جبهة التحرير الارترية فى حين اعتمدت الجبهة الشعبية التدريس باللغات المحلية .

التعليم بعد الاستقلال

نقلت حكومة الجبهة الشعبية تجربتها التعليمية فى مدرسة الثورة كما كانت تطلق على مدارسها والقائمة كما ذكرنا على اعتماد اللغات المحلية بدلا من الاختصار على اللغتين العربية والتغرنية وكان تبريرها, انها اقرب الى التكوين النفسى للتلميذ واسهل فهما فضلا عن وجود من يساعده فى محيطه, كما يحمى تلك اللغات من الانقراض لكن ذلك كان يتطلب معرفة تاهل هذه اللغات لنقل المعرفة ووجود مرجعيات مدونة لها وحروف ابجديه وفق مخارجها الصوتيه وقواعد مدونة تضبط تراكيب جملها والتعامل بها فى احهزة الدولة وفوق هذا وذاك الاستئناس براى اولياء الامور وهو ما لجأت اليه كما تقدم ذكره الادارة البريطانية .

فى الحقيقة تمت عملية فرض ما اطلق عليه (لغة الام) بشكل تدريجى فقد تضمن المرسوم التعليمى الذى اصدرته الحكومة المؤقته فى عام 1992 باعتماد اللغتين العربية والتجرنية لغتين للتدريس وترك لغة الام كخيار لاولياء الامور على ان تدرس العربية والتجرينية كلغتين فى المناطق التى تختار التدريس بلغة الام .

كان من البديهى ان لا يرحب المسلمون الارتريون بالتعليم بلغة الام بدلا من العربية التى يعتبرونها لغة دينهم كما يشاركون من خلالها فى ادارة امور الدولة رغم المحاولات التى بذلتها وما تزال تبذلها الحكومة عبر كادرها لاقناعهم بان لغة الام هى تعبير عن الهوية المميزة وان رفضها يعنى التخلى عن الهوية وما تزال احكومة تمضى فى اصرارها على فرص التعليم بلغة الام رغم المقاومة السلبية لاولياء الامور ولا سيما فى الريف بالامتناع عن تسجيل ابنائهم فى المدارس التى تدرس بلغة الام مما يودى الى تكريس الامية فى وسطهم لان المشكلة فى الاصل ليست مشكلة الطفل لانه لا يقرر لنفسه فالقرار فى يد ولى امره أن كان يرسل ابنه او ابنته الى مدرسة تدرس بلغة لا يقتنع بجدواها فالطفل لا يفقه قيمة التعليم وهو ان خير فانه بلا شك يختار ان يمضى وقته فى اللعب بدلا من ان تقييد طاقته وسط  اربعة جدران فمن وجهة نظر اولياء الامور المسلمين أن اطفالهم سيتعرفون من خلال الدراسة باللغة العربية على امور دينهم فضلا عن كونها لغة المحيط الاوسع واللغة المؤهلة الى جانب التجرينية لتسيير دولاب العمل فى الدولة. فاللغة ليست مجرد وسيلة للاتصال وانما هى ايضا وسيلة للمشاركة فى السلطة .

ويتساءل الناس عن سبب اصرار القائمين على ادارة البلاد على فرض( اللغة الام) فى التعليم الاساسى, رغم كل ما ذكرنا. وان وجهة نظر الكاتب تقول: ان التدريس بلغة الام كما تسميها الحكومة رغم ما تدعيه من محاسنه وحمايتها من الانقراض اثبت بالتجربة فشله فقد تراجعت نسبة النجاح والانتقال الى الصفوف التالية وانخفض الاقبال على الالتحاق الى حد بعيد رغم الدعاية المكثفة التى تقوم بها الحكومة بالادعاء عكس ذلك  كما انه لم يتوصل الى هذه المحاسن بحكم تجربته كمعلم ودارس لهذه القضية فى الوسط الارترى ولا سيما القطاع المسلم وانما يعتبرها مجرد ستارة يتخفى وراءها مشروع السيد اسياس وبطانته لمحاربة اللغة والثقافة العربية فى ارتريا. ان عملية تطوير لغة ما تسبقه وترافقه خطوات اهمها ايجاد الحروف اللازمة لكتابتها ووضع الضوابض النحوية والمعجم الذى يحتوى ويفسر كلماتها حتى لا تتعرض لتفسيرات تحكمها الاهواء. وتسجيل ادبها الشفاهى المتناقل عن الاجيال وترجمة اداب اخرى اليها لاثراء مفراداتها ولا يتم ذلك,بين عشية وضحاها فى قفذة نوعية انما بفعل التراكم حتى لو خلصت النية وفوق هذا وذاك رغبة اهل اللغة انفسهم, وتلك تحددها حاجاتهم المتعددة والماسة سواء كمصدر لرزقهم او لعقيدتهم فأن اقتضت الحاجة  اليها طورها والا استبدلوها بمن تلبى حاجاتهم وتلك سنة التطور فى اللغات واللغة العربية لم تفرض من قبل قوى استعمارية خارجية وانما هى خيار شعبى

فهذه القوى كانت دوما تفرض لغاتها سواء فى التعليم او الادارة ولكنها كانت تضطر للاستعانة بالعربية والتجرينية لتلبية حاجاتها الاستعمارية لتجذر هاتين اللغتين فى الواقع الارترى, وكانت اثيوبيا الامهرا هى الاستثناء لان هدفها كان اذابة مكونات الامبراطورية فى بوتقة القومية الحاكمة (الامهرا) ولم تكن النتيجة مقاومتها فقط وانما اكتسابها لكراهية بقية القوميات وانحسارها التدريجى مع الزمن فى اطار القومية الامهرية لهذا فان تطوير اللغات يجب ان يترك لاهل تلك اللغات وتعمل اجهزة الدولة والمؤسات التعليمية بما يتفق عليه الشعب لا ان يفرض عليه اشباعا لنزوات بعض الحكام او تمريرا لمخطط ضد مصلحة اهل تلك اللغة التى يتستر وراءها ذلك المخطط.       

 

 

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6873

نشرت بواسطة في سبتمبر 12 2006 في صفحة الأخبار. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010