الراقصون على أنغام الديكتاتورية هل فقدوا مشاعرهم الإنسانية؟

الإنسان كتلة من المشاعر والأحاسيس الرفيعة، ولكن بمقدار ما يفقد من مشاعره وأحاسيسه الإنسانية يقترب من المشاعر والأحاسيس الحيوانية، و يعد الحمار ـ (أ دج) بلغة التجري ـ أشهر من يُشبَّه به الإنسان ويعير، عندما يتبلد في الإنسان حسه، فيفقد حينها قدرة إدراكه بالمهانة، وعندما تستوي عنده الكرامة بالمذلة، والجمرة

بالتمرة.

ويمكن أن توصف الديكتاتورية بأنها حالة من تبلد المشاعر والأحاسيس الإنسانية وغيابها كليا عن وجدان الديكتاتور؛ لتحل محلها مشاعر وأحاسيس الحيوانات الكاسرة، ذات الأنياب الحادة، المتجردة من أدنى مشاعر (الرحمة) بوصفها الإنساني.

الديكتاتور أيا كان وأينما كان عندما تتمكن منه هذه الحالة يتصور أنه (أسد هصور) يزأر في غابة، وأن كل من حوله ما هم إلا (جرذان) على حد وصف القذافي لشعبه، ومن حقه أن يفتك بهذه الجرذان شر فتك، متى ما أحست هذه (الجرذان) أنها بشر تستحق الحياة الكريمة، والمعاملة الإنسانية النبيلة.

الرئيس الإرتري إسياس أفورقي هو أحد هؤلاء الدكتاتوريين الشوفينيين الذين تبلدت مشاعرهم وأحاسيسهم الإنسانية، حيث غابت كليا عن وجدانه قيمة (الإنسان الإر تري) كما تصورها مواثيق (حقوق الإنسان) ويؤكدها مبدأ حق (المواطنة) في كل دولة تحترم ذاتها وتقدر شعبها، وقبل ذلك كله  كما قام عليها وتأسس شرف ميثاق الكفاح المسلح، وحرب التحرير الطويلة التي خاضها الإنسان الإرتري بكل جسارة وجدارة، وذاق آلامها المريرة طوال الثلاثين عاما من عمر النضال الوطني، في سبيل التمتع بآمالها اللذيذة، تحت ظل قانون يحمي كرامته من الامتهان، ويحفظ حقوقه من الانتهاك، ويضمن له السلامة والأمن من كل عدوان، يستهدف ماله وعرضه وأرضه.

كل هذه الآمال ذهبت أدراج الرياح، وخنقت شيفونية إسياس وديكتاتوريته الشعب الإرتري من حلقومه، وبات الإنسان الإرتري مجرد عبد مأمور، قلق خائف، لا حول له ولا قوة، تقمعه أجهزة الأمن، وتخفيه دهاليز الاستخبارات في مخابئ لا يميز فيها الليل من النهار، يَكِرُّ من غير اعتراض متى ما أمره الرئيس بالكر، في معارك هنا وهناك، لا رأي له فيها، من غير أن يقول لرئيسه ما قال عنترة لأبيه يوم طلب منه الكر في وجه العدو: إن العبد لا يكر. فقال له أبوه كر وأنت حر.

نعم العبد لا يكر، لكن الإنسان الإرتري بوضعه الحالي أضعف من أن يقول لرئيسه الجبار ما قال عنترة لأبيه، بل يفر عن وطنه متى ما رأى فرصة الفرار سانحة، لا يبالي بلدغة ثعابين سامة ربما تنتظره في طريق فراره، ولا بهجمة ذئاب جائعة ربما تمزق جسده وتتنازع أشلاءه، ولا بغرق في بحار تجعل منه وجبة حيتانها، المهم عنده أن يفر، وأن يجازف بحياته مهما كانت النتيجة، فليس مشاعر الإنسانية وأحاسيسها في نفسية إسياس كمشاعر الإنسانية وأحاسيسها في نفسية أبي عنتر حتى يقول له المواطن: حريتي أولا فإن العبد لا يكر.

 لأن مشاعرإسياس بحالته هذه هي نفس مشاعر الذئاب الجائعة، ونفس مشاعر الثعابين السامة، ونفس مشاعر الحيتان القاتلة.

إلى هنا قد تهون المصيبة بكل ما هي عليه من وحشية، وبكل ما يترتب عليها من معاناة، ما دام في المجتمع إحساس بوجودها أولا، ثم بخطورتها ثانيا، وأخيرا بالتنادي لمقاومتها والتحرر من أغلالها وقيودها، لكنها تكون هذه المصيبة أعظم وأكبر وأشد عندما يفقد المجتمع كله أو معظمه إحساسه بها، وحين تتبلد مشاعر الإحساس بالكرامة الإنسانية في الضحية نفسه، فيرقص هو بنفسه على أنغام جلاديه، على مرأي ومسمع من أخيه المذبوح، ويطرب أيما طرب لقيثارة من ينتهكون كرامته، حين تعزف هذه القيثارة بأمجاد الشيفونية المتسلطة على حساب أمجاده الضائعة من وراء السجون المظلمة، ويغيب هو أيضا بكليته وبمحض إرادته عن كل ما يجري لأبناء وطنه، من تقتيل، وتشريد، وتجويع، وظلم وإجحاف في المواطن وكرامته، وينكر كل ذلك أو يتجاهله فضلا أن يقاومه.

نراه يختزل الحرية الإنسانية في تلك الرقصة الهابطة التي يرقصها هو في حفل غنائي ينظمه الديكتاتور نفسه بإرسال فرقه الغنائية، وفي ما يرتوي به هو من كؤوس الخمرة إن كان من مدمنيها أو متعاطيها، أو في مقعد وظيفته إن كان من العاملين في دواوين حزب الديكتاتور وزبانيته، ويرى فيما عدا ذلك من المعارضات القائمة خيانة عظمى، ومآمرة كبرى على حرية الوطن والمواطن معا، لا يستحق القائمون بها، والمحرضون عليها إلا العقاب الشديد، والموت الزؤام، والرئيس في نظره محق كل الحق أن يذيق هؤلاء المعارضين وأمثالهم وبال أمرهم، بصفتهم خونة، وبصفته حامي الديار، وحارس الاستقلال.

وهنا دعني أذكر لك قصة من تاريخ الفراعنة، تصور هذه المأساة التي نعيشها، وتعكس حالة التبلد التي قد يعاني منها الضحية نفسه  نتيجة دجالين مضللين، ودعاة كذبة، وروح مهزومة، فتسلبه الشعور بحقيقة مأساته، وحجم معاناته ربما إلى درجة يجعل من نفسه هو الجاني، ومن المطالبين بإنقاذه جناة مجرمين، ومن معذبيه وقاتليه حماة العدالة.

إنها قصة ذكرها (سنوحي) طبيب الفرعون (أمفسيس) في مذكراته التي تحدث فيها عن حياة هذا الفرعون الذي عاش في القرن العاشر قبل الميلاد، وعن الشعب المصري الذي كان يعاني من استبداده، واكتشف علماء الآثار هذه المذكرات، وترجمت من اللغة (الهيروغليفية) إلى اللغات العالمية الحية.

يقول (سنوحي) في مذكراته : كنت أمشي في شارع من شوارع مصر وإذا بالرجل الثري (اخناتون) ملقى على الأرض مدرجا بدمائه؛ وقد قطعت يده ورجله من خلاف، وجدع أنفه؛ وهو قاب قوسين أو أدنى من الموت، فحملته إلى دار المرضى، وجاهدت جهادا عظيما لإنقاذه من الموت، وبعد شهرين أو أكثر أفاق من غيبوبته وقص علي قصته المحزنة قائلا: لقد أمرني الفرعون (أمفسيس) أن أتنازل له عن كل أرض أملكها، وأن أهبه أزواجي، وعبيدي، وكل ما أملك من ذهب وفضة، فاستجبت لما أراد مني بشرط أن يترك لي داري التي أسكن فيها، وبعض ما أملك من الذهب والفضة، فأبى وأخذ كل ما كان عندي، ثم فعل بي ما تراه.

يقول سنوحي: دارت الأيام ومات فرعون، وحضرت مراسيم الوفاة بصفتي كبير الأطباء، وكان الكهنة يقولون: يا شعب مصر لقد فقدت الأرض والسماء وما بينهما قلبا كبيرا، كان يحب مصر وما فيها من إنسان وحيوان ونبات وجماد، كان للأيتام أبا، وللفقراء عونا، وللشعب أخا، ولمصر مجدا… ذهب أمفسيس لكي ينضم إلى الآلهة الكبار وترك الشعب في ظلام.

ويضيف (سنوحي): وبينما كنت أصغي إلى كلام الكهنة ودجلهم … رأيت رجلا يبكي بصوت عال فنظرت إليه، فإذا هو (اخناتون) الذي أنقذته من الموت … أسرعت إليه لأهدئه، فقد ظننت أنه يبكي سرورا، ولكن (اخناتون) فاجأني عندما قال لي: يا (سنوحي) لم أكن أعلم أن (أمفسيس) كان عادلا وعظيما، وبارا بشعبه على هذه المرتبة العظيمة إلا بعد أن سمعت ما قاله كهنتنا فيه، وها أنا أبكي ـ يا سنوحي ـ ؛ لأنني حملت في قلبي حقدا على هذا الإله العظيم، بدلا من الحب والإجلال طوال سنوات عديدة، حقا لقد كنت في ضلال كبير.

يقول سنوحي : عندما كان اخناتون يكرر هذه الكلمات بإيمان راسخ كنت أنظر إلى أعضائه المقطوعة، وصورته المشوهة، وأنا حائر فيما أسمع وإذا به يصرخ في وجهي: لقد كان (أمفسيس) على حق فيما فعله بي؛ لأني لم أستجب لأوامر الآلهة، وهذا هو جزاء كل من يعصي الإله الذي خلقه وأحبه.

هذه هي قصة (اخناتون) الثري مع (أمفسيس) الفرعون، كما رواها لنا (سنوحي) في مذكراته، والآن دعني أقول لك: هذه حالة من الضياع يعمقها في نفس الشعب أولئك الذين فقدوا مشاعرهم وأحاسيسهم الإنسانية من كهنة النظم الديكتاتورية، الذين باعوا ضمائرهم وتخلصوا من إنسانيتهم، يرفعون الحكام الظلمة إلى درجة الإله ، تماما كما فعل كهنة الفرعون (امفسيس) الذين وصفوه بالألوهية إلى حد جعل من اخناتون المظلوم يشعر بالندم على كراهيته لهذا الفرعون الظالم، ويرضى بالذي فعله به.

كهنة أفورقي الذين فقدوا مشاعرهم وأحاسيسهم الإنسانية ها هم  يبذلون اليوم ـ كما نراهم ـ أقصى جهد يستطيعونه في تصوير سياسات أفورقي بنزع ملكية الأرض، وسلب حرية الفرد، وتجريده حتى من أولاده، والتهجير القسري، وأعمال السخرة، على أنها سياسات عادلة، وأنها تجسد قمة حب إرتريا، وقمة حب كل ما فيها من إنسان، وحيوان، وجماد،  وأن كل ما يفعله بضحياه نابع من مشاعر الحب لإرتريا، ويعد من ضروريات حمايتها، وأن جزاء كل من لا يتجاوب معه في حبه هذا هو عين ما فعله (أمفسيس) بـ(اخناتون) لقد كان إسياس محقا في سحق المعاقين من مقاتليه، واعتقال رفاقه من قيادات تنظيمه.

وإذا سألت عن أمفسيس هذا وما قدمه لمصر تجد التاريخ يقول لك: إنه أول حكام الأسرة الخامسة من تاريخ الفراعنة في مصر، حكم مصر بالحديد والنار طوال عشرة سنوات، دخل في حرب خاسرة مع النوبة، قتل فيها خمس شعب مصر وقتها، أباد شباب مصر متهما إياهم بالهزيمة أمام النوبة.

ما الذي يميز إسياس أفورقي في تعامله مع شعبه عن (أمفسيس) نفسه في تعامله مع شعب مصر؟ وما الذي يميز كهنة إسياس الذين يرسلهم إلى الجماهير ليمرروا عليها جرائمه البشعة عن كهنة (أمفسيس) نفسه الذين مرروا جرائمه الفظيعة على الشعب المصري حين قالوا عنه (إله) اندمج مع الآلهة؟ وما الذي يميز هؤلاء الذين يأتون من شعبنا في جدة والرياض وغيرهما ليرقصوا على أنغام فرق أفورقي الفنية عن (اخناتون) نفسه الذي شوه (أمفسيس) خلقته بعد أن سلبه كل أمواله؟ يعطون أموالهم بسخاء في حفلات الرقص، ويرقصون ويمرحون كل المرح وكأن الأمور على ما يرام، بينما كثير من أقربائهم، وإخوانهم ومناضليهم الأشاوس يقبعون في السجون، أو يقتلون، أو يهربون، ترى أين الخلل؟ هل بلغت بنا حالة فقدان الشعور بالظلم الحد الذي وصله اخناتون؟ أرجو أن لا يكون!

د. جلال الدين محمد صالح  

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=39656

نشرت بواسطة في أكتوبر 30 2011 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010