الصـورة والظـلال

بقلم/ مصـطفى كـردي     

الـغـربة .. هـذا البعـاد القسـرى المؤلم حفـرت فى الأعمـاق آبارا للـوحدة/ للهم/ للمهانة/ للاحسـاس العميق بقيمة المفقود/ الـوطـن، وتظـل الاسـرة الصغيـرة والحي والمـدينة وأصـدقاء الطفولة الاولى، التفاصيـل الأكثـر حضـورا فى نفـس الانسـان، ودومـا ماتــرنو الـذاكـرة الى تلك الـذكـريـات .. ذكـريـات الطفولة ومـراتع الصبـا .. تلك البطـاح الـذهبية التى شهـدت لحظات الطفولة الاولي، حينمـا كنـا نلهو ونلعب ونتصور العالم فى حجم أيـدينـا الصغيـرة، تكبـر قليـلا فيكبـر الصغيـر من اهتماماتك ويتحول المحيط  الضيق المحـدود الى فضـاء عملاق يتقاطع ابـدا مع طلقة الحق التى انطلقت من أدال ليبـدل كل شـيئ. بعض الأماكن رغم محـدوديتهـا وعاديتهـا تسـيطـر عليك، وكثيـرا ماتحاول السـباحة عكـس التيـار وافـراغ الـكل فى الجـزأ الكبيـر، فى الصغيـر، الطويـل فى القـزم،المبهم فى البـديهى حتى تقـدو امنياتك عظيمة كالقـزم، وتظـل صـورة الجـزء المتخيـل او المـوهـوم تسـيطـر على تفكيـرنـا وأحلامنـا وأوهامنـا حتى تتكسـر هـذه الصورة امام الواقع .. الواقع المؤلم الـذى يكسـر بـدوره كل شـيئ كمـا السـيل العـرم يتجاوز الجـزئية الموهومة الى عموم الوطن كحقيقة اكبـر وتحـدى أبقى وادوم على مـر الـزمـان وتعـاقب الأجيـال.

ويظـل عشـقنـا للوطن نخـن الـذين عانينـا من جـدلية الغـربة والشـتات لسـنوات تتجاوز اعمـارنـا الحقيقية .. يأخـذ أبعـادا كبيـرة ويشـق معنى خاصا به، عبـرت وتعبـر عنه اغنياتنـا الوطنية والعاطفية ومابينهـا ومجالـس أسـمارنـا بـدءا من ,, ود أميـر،، الـذى كتب العـديـد من القصائـد فى غـربته الطويـلة فى كل من الـرياض والكويـت كمـا أكـد لي المـرحوم رمضـان قبـرى، والصـديق العـزيـز أبو خالـد ادريـس محمـد علي والفنـان الكبيـر محمـد باعيـس وغيـرهم من مبـدعينـا وشـعـرائنـا، وعلى رأسـهم الشـاعـر الشهيـد أحمـد سـعـد الـذى ظل يـردد عشـقه للوطن وحـنينه اليه حتى عـدّ شـهيـدا رغم وفاته فى ليبيـا، ( يعـاودنى هـوى وطنى .. يـدس بطاقات الحب فى جيبي .. وفى أعماق أعماقي)، كمـا ظل يـردد ليتنـاول الـراية شـاعـرنـا الراحـل عبـد الـرحمن سـكاب ليعـزف تـرنيمته الكبـرى فى مهـرجان البـذل غيـر شحاح، ولتـداخـل الصور وطول ليل الاسـتعمار مع الظـلال، يعبـر تارة عن الوطن تعبيـرا طـلاسـميـا ,, أيتهـا العنقـاء  ياأنشـودة العشـاق،، والعشـاق هم الشـاعـر ونحن الـذين فقـدنـا نعمة الوطن او حتى قبوله على عـلاته فى ظـل الطغاة والعيـش فيه، وتبعـا لجـدليتنـا فى فقـد الوطن فان كل تـضـاريـس المهـاجـر تسـاوت لـدينـا، وهى طبعـا ليـست عـزيـزة علينـا رغم جمالهـا الظاهـر وعـزهـا الـبين لأهلهـا او لـذوى الأوطـان من سـياح وطـلاب متعة وعشـاق جمـال، وقـديمـا قال الشـاعـر ,, قـد تنكـر العـين ضوء الشـمـس من رمـد … ألخ، لأننـا رغم سـفـرنـا الظاهـرى ووجودنـا فى العـديـد من المـدن العالمية كلنـدن وباريـس وواشـنطن واسـتراليـا وغيـرهـا من بقاع العالم الا ان ارواحنـا وعقولنـا ووجـدانياتنـا تظـل متمتـرسـة فى دائـرة عشـقنـا السـرمـدى ووجعنـا الابـدى، ألم يقـل صـديقنـا الشـاعـر المبـدع همـد دين الأمين فى رائعته جوازك أل  UNيسـافـر ولا تسـافـر، الجوازات التى نحملهـا وحقائبنـا واشـيائنـا الصغيـرة تسـافـر تارة نحو الشـرق واخـرى غـربـا، ولكن وجـداننـا يظل فى دائـرة عشـقنـا المكانية.

بـعـد تحقيق الاسـتقلال الـوطنى بعـد سـنوات من النضال الاسـطورى حلّق شعبنـا الصبور فى سـموات الحـرية لتتكثف بصورة صوفية لحظة التـلاقى مع الوطن الانشـودة بعـد ان صنع التاريخ رجـال وقـفوا خـلف ماسـورة لأكثـر من 30 سـنة، وبـدأت لحظة التـلاقى المكثفة مع الـوطن الانشـودة بعـد عبور اللّفة بعـد سـنوات طويلة من الغـربة والضياع والانكسـار ولحظات المهانة. اللّفة هنـا اخـذت معنى خاصا بهـا، لكونهـا بالنسـبة لنـا فصلت بين زمـنين مأسـاويين بين ماضي وحاضـر ومسـتقبل .. بين رؤيـتين، بين تاريخـين هنـا فى هـذه البقعة كان لابـد ان تختصـر سـنوات طوال من الشـتات، وبعـد تفكيـر عقـلانى ورؤية الواقع على الأرض تجـد ان لا فارق حقيقى مابين قبيل اللفة وبعـدهـا، مابين لنـدن وواشـنطن وكسـلا والقضـارف وخـوخة، مابين 13 و 14 وتسـني، بـل وكـرن ذاتهـا ألم يقـل صـديقنـا عبـد الله ان هـذه ليسـت كـرن التى أعـرفهـا هلمـوا بنـا نبحـث عن كـرننـا. أمـا أغـردات فوجه اكلح من خشـم القـربة التى تقع قبـل اللفة ولا مجال هنـا للحـديث عن ,,سـتمو وعلي قـدر وألبو وكيـرو وعايلت وقمهـوت وامبيـرمى،،. تتارت الصورتان فى الذهن، الصورة التاريخية وصورة الواقع المؤلم منذ ان وطأت قدم اول جندى اثيوبى أرض ارتـريـا فصادرت الحـريات والغت المؤسـسات ومنعت اللغة العـربية، وجعلت الارهاب والتنكيل والقتل والسـجن مصـيرا حتميـا لكل يحتج او يـرفع رأسـه منـددا باجـراءاتهـا التعسفية ومطالبـا بحقوقه المشـروعة فى الحـرية والاسـتقلال والحلم بالغـد الآتى.

صـورة الأرض المصـادرة الحلم المسـتحيل، العنقـاء التى لا يمكن الوصول اليهـا تحولت الى أهـزوجة اجيالاتية تتـردد فى العيـدين :ـ السـنة الجاية ان شـاء الله فى بلـدنـا، قالهـا الكبيـر للكبيـر والصغيـر لم يكن قـد صـرخ بعـد صـرخته الاولى، وظـل الصغيـر يـرددهـا امام صغاره بعـد ان كبـر بـدوره وكبـروا، حتى غـدت تقال دون التعمق فى مـدلولهـا الحـرفى وعمق الامنية المصاحبة للعبارات.

تلك صـورة قـد خلت لتحـل محلهـا صـورة اخـرى بعـد عبور اللفة وهى الصـورة الحقيقية .. على الأقـل حتى اللحظة، وهى انهـا أرض عادية مثل كل الأراضي، وهى ليسـت العنقاء ولا خـدرا ولا فاطنة زهرة، ولا هى ذلك البنـد الثابت فى أدبيات الثورة الارتـرية، ليسـت جـدالا  ولا مجازا ولا تـرنيمة عـذبة تـرتل فى مهـرجاناتنـا، اذا ماهى خصوصيتهـا واسـتثنائيتهـا لو لم نكن حـرمنـا منهـا، هى أرض ككل البلـدان فهـل نقول لشـعـرائنـا ومبـدعينـا كفـروا عن ايمانكم فقـد كـذبتم.

احسـاس فظيع يقود الى اليأس والضياع وفقـدان الأمـل بعـد ان وجـدت الأرض ولكن بكيفية لا تمت بصلة لآمال هـذا الانسـان الارتـرى البائـس الذى عاش لسـنوات طوال فى تلك النقطة الصامتة، حامـلا تفاصيل حياة اخـرى لا تهم  طبعـا المحيطين به الـذين يقول الانسـانـيين منهم أنت بين أهلك وفى بلـدك، فى حين ان البلـد بالنسـبة له هى مابعـد اللفة وتقيم فى المتخيل، فالغـربة وتكثف الشـوق والحلم طبعـا لتلك البقعة صورة مثالية خيالية غيـر صورتهـا الحقيقية.

ان رؤية المتغيـرات الـرهيبة التى طالت تفاصيل وعموميات الوطن هى من العمومية بحيث اثّـرت حتى على التـركيبة الاجتماعية، رؤية المكان تـدحض الطنطنة التى تتغنى بمجـد الوطن الـذى عاد لأهله، فمصادرة ممتلكات المواطنين واعتقالات العـديـد منهم وجعل الوطن سـجن كبيـر يفككهـا ,,اعلام جاء أسـياس .. ذهب أسـياس .. بمبـررات غيـر منطقية، وغيـر مقنعة لمن عبـر اللفة بل هى الاسـتيطان ذاته .. المكان الـذى كان لنـا منـذ الأزل غـدا لهم، الاسـتيطان هو الفصل الآخـر من ,,نحنـان عـلامانان،، مثلهم الأول منـذ ,,شـفتـا قبـرى،، يفـرغ حقـده الـدفين على أرضنـا ,,اسـلاماي مـريت يبلون سـماي عنـدى يبلون،،.

مقاطع أخيـرة :

لا تحـزنى يابـلادي فغـدا يجتاح الاعصار

اعصار الحـق مابنى الباغي من أسـوار

فغـدا تنكسـر قضبان السـجن ويفـر مـذعورا

هـذا السـجان

ويعـود للطفل ابواه يهـديانه فى يوم

العيـد ثوب الحـرية

وينطلق الطفل مسـرورا نحو الأطفـال

ليـروا فى يوم العيـد رايات الظلم تأكلهـا النيـران

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=5937