الــــــــظــــــل

 جمال عثمان همد
صورة زنكوغرافية لاستراحة المحارب…….
في الزمن الباهت، عندما وضع رجليه علي رأس البرزخ المدبب، الفاصل بين عالمين، رغم وحدتهما في تضاد مبهم عند اقترابه من وضوح الرؤية والرؤي، وبيده المرتجفة الممتدة لقبض الراهن: دوت الصفعة.. اتي الدوي مكتوما.. قادما من الجو.. اقترب بخفة وسرعة (المغيرات صبحا) وهوت كانفجار.. نصل حاد انشك داخل جمجمته.. لآن الجسد أصبح خفيفا مرنا. صفا الجو كصباح خريفي.. شفافية عذبة سربلت روحه.. الارض تميد تحت رجليه، يفقد توازنه.. تدفق سائل لزج من هامته، غشيت عيناه وغام كل شيء.. اذرع كثيرة امتدت اليه.. تتنازعه كادت أن تمزقه مد يده يمسح اللزوجة المالحة المتسربة لفمه، فلم يقو.. القصف يتباعد، أصوات آليات ومجنزرات يتردد صداها في منعرجات جبال (بارنتو) ہ
صور مشوشة تتداخل.. تتباعد.. تتقارب.. تتضح معالمها.
(حدث ذلك منذ زمن بعيد…لا..انه قريب جدا..
البيانات العسكرية تتوالي.. فترات ارسال اذاعة صوت الجماهير تزداد
انه شهر مايو… يقتربون من العاصمة.. فرار جيش العدو عبر البحر الي جيبوتي. الاناشيد تتقد حماسة.. انهم ينتظرون عودة الامين العام من لندن ليعلن كل شيء بنفسه…
الاصابة ياالهي اين هي؟!) مسح رأسه لا اثر!!!.
(إذا.. انا.. لماذا هذا الاحتفال من اين اتي (ارعدوم)؟
ارعدوم يرسل مفرداته التي شوهتها الخطابة عبر مكبر الصوت فوق رؤوس الجميع. (ارعدوم ال… ارعدوم اصبح قائد…. ها ها)!!.
ودوت الصفعة.. انتزعت المدية الصدئة التي انشكت ذات يوم في جمجمته، فاشتعل الذهن
بصور شتي أتت متوالية واضحة حافلة بتفاصيل يومية.. كانت تأتي من جب سحيق..
من ذاكرة اكد الطبيب انها تهشمت وفقدت خاصية تنظيم وترتيب الزمن والحدث.
(اعدوم…دوووم…م م م)
كان يرنو الي الطريق المتعرج الصاعد الي الجبال في طريقه الي المدينة (بارنتو) المدي رصاصي ساكن، والهواء الجبلي ثقيل، الخوف الأبدي الذي يسبق الاشتباك يسيطر عليه، اعصابه متوترة وابهامه خلف الزناد يحس به ضخما وصلبا. ودوي الانفجار صحو استثنائي سيطر علي ذهنه وشفافية عذبه تملكته. بغتة خرجت كتلة دامية من وسط هامته وغام كل شيء. الصورة جرفت صور الحاضر.. ارعدوم ببزته الرسمية يتصدر الاحتفال اقترب اكثر، دعك عينيه بكلتا يديه.. افسحوا له ممرا ضيقا في وسطهم اقترب اكثر انشك ظله بين الارجل طبل قرع بصوت نشاز.. تحفزت حواسه… انشدت.. تراجع.. لم يتراجع ظله.. تقدم ريح هوجاء عصفت براسه. تفكك ذهنه المتكلس..دخان حار مشبع ببارود قديم يخرج من فوديه. (ارعدوم.. ارعدوم….دووووم……م م م).
صرخ.. وانقسمت الابصار بين ارعدوم ببزته الرسمية وبين الرجل (صاحب الظل) الذي ارعد وازبد بنعوت واضحة وقاطعة وسري الاكتشاف لماهية الرجل الذي عاش بينهم كسريان الحياة في الاجساد الواقفة علي مضض تحت لهيب شمس الضحي.
وحسم الأمر… مفرزة من الجنود بملابسهم الجديدة انتزعت الرجل الذي لم يقاوم الي حيث سيارة ذات ماركة TATAتلتمع تحت أشعة الشمس الصباحية. تكوم تحت الأحذية ذات الاعناق الطويلة واللامعة وتابع وقائع المهرجان الذي يتباعد، وهو يتأمل لمعان الاحذية الجديدة.وصفير حاد تحدثه الأحجار الصغيرة تحت وطاة الدواليب المسرعة في الطريق الترابي الصاعد.
أما المدينة فتحصنت خلف ذاكرتها، وسردت الوقائع الآتية عن حياة الرجل الذي تجذر في حياتها:
عندما ظهر لأول مرة في المدينة، استشعر الناس الخطر واحسوا بضيق ينتابهم. وتصرفات بلهاء تصدر عنهم. نزق شديد يحكم علاقتهم مع الأشياء، وعداء اخرق يعكر صفو حياتهم. ذلك شأنهم مع كل وافد ينكبون علي ملفاتهم، يعيدون حساباتهم، سيراجعون عقود الشراء، والمستأجرون يعودون لفواتير التوريد للبلدية، اما السماسرة فيبحثون عن المداخل المناسبة للتعرف علي القادم الجديد، عسي ان يفوزوا بصفقة رابحة.
لم يهدأ كل ذلك القلق الذي يخفونه عن عيون بعضهم والذي ينسل من بين ايديهم، او من تلك الاستفسارات الماكرة او الاجابات الغامضة. لم يهدا كل ذلك الا عندما عرف الرجل وتناقلت الألسن اسمه الذي لم يعرف من اطلقه عليه (صاحب الظل) ظله يتابعه، أم هو يتابع ظله لا فرق ظل يمتد متطاولا أمامه وخلفه. ظل بكامل تقاطيعه يمتد بيسر وسهولة يتسلق الحيطان،
يتمدد في الطرقات، في منعرجات الخيران الصغيرة، في خرائب الدور المهجورة.. ظل مميز،مستفز ونابض بالحياة،ظل يرتدي بزة عسكرية عند الكتف منها يبرز اخمص الكلاشنكوف.يلوب الرجل انحاء المدينة، يلاحقه ظله بالحاح،فيزداد توتره وتتسارع حركة فكيه.ريح صرصر تمور في داخله.. تصل حلقه فتخرج كلهيب يشوي العينين الصغيرتين فتزدادان اتقادا. عند انتصاف النهار يلوذ الرجل بحجر الرحي الذي ينام امام المبني العتيق للطاحونة ذات محرك الديزل يجلس ساهما وقد تصلبت عضلات الوجه، وركزت العينان باتجاه اللاشيء بالتياع حزين. يختفي الظل الي حين، فتتوقف هزات الراس التي تصاحب حركة الفكين، يسرع اليه عامل المقهي الاصم، يربت علي كتفيه وهو يمد اليه (الجبنة) ہ
بسعادة بالغة. فتنبسط اسارير الوجه المتعب.. تسري بين الاثنين حياة مرحة في هذه الساعة التي تموت فيها الظلال ويهجر الناس الدروب. ومع هدير ماكينة الطاحونة يستقبل شوارع المدينة لينبعث الظل كعنقاء.. ويظل يلوب انحاء المدينة التي اشتهرت بمعابثات ومداعبات مخابيلها، الي ان جاء الاحتفال ليعكر كل ذلك.
توقفت السيارة بصرير حاد أمام المبني العتيق للأمن العام، ترجلت الاحذية ذات الاعناق الطويلة واللامعة.. انتزعته اياد كثيرة… صداع حاد يعصف براسه دون ان يشل تفكيره.. ألم يمتد من الرقبة الي المتن ليهبط الي بقية انحاء الجسم. بحث عن ظله متلفتا، فتحسس أحدهم مكمن مسدسه. ابتسم في وجه العسكري..
فتمتم الأخير واشاح بوجه حزين.. دار بعينيه يبحث عن ظله اللعين فالفاه هرما.. هزيلا مجردا من بزته العسكرية.

هوامش:

ہ بارنتو: مدينة استرتيجية في غرب اريتريا
ہ الجبنة: اناء من الفخار أوالصفيح تصنع فية القهوة.

AZZAMAN NEWSPAPER — Issue 1449 — Date 11/3/2003

جريدة (الزمان) — العدد 1449 — التاريخ 2003 – 3 – 11

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=7935

نشرت بواسطة في نوفمبر 13 2005 في صفحة القصة القصيرة. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010