القبيلة والطائفة بين التعارف وحق الاختلاف

بقلم أبو فايد

بادئ ذي بدئ أقر بأنني لست من المغرمين بالمعايير ذات الدلالات الضبابية غير النبيلة ، تلك المفاهيم والمعايير التي اقتحمت عقر فكرنا بقوة ، وملئت حياتنا بعقد وحساسيات وشكوك مفتعلة أفقدتنا مجرد التفكير في تحليلها وحلها بتروٍ ، ناهيك عن وضعها علي بساط البحث والتحليل والتدقيق ، لمعرفة الأسباب التي اشتركت وتضافرت في تكوينها ، وذلك للوقوف علي أهدافها ، وفهم منطلقاتها ، ووعي تداعياتها في تعاطينا للأمور ، وفي نظرتنا لواقعنا ومستقبلنا ، وفي سلوكنا في الحياة اليومية ، هذا إذا لم يكن مجرد التطرق إليها كبيرة من الكبائر ، وخطيئة من الخطايا تتضاءل أمامها كل الكبائر والخطايا . 

ومن هذه المفاهيم القبلية والعشائرية والطائفية… وهي مفاهيم رغم عمومها من حيث وضعها فإنها باتت موقوفة في إرتريا وبصورة متعمدة علي جهات معينة وكأنها أسماء لها ، إذ لم يعد إطلاقها يخضع لمعايير محددة تقاس بفعل أو رد فعل بل أصبحت سلاحا إقصائيا يستهدف تجفيف نفوس وعقول المستهدفين لشغلهم بالشقاق والشتات والفرقة التي تبلبل الأذهان ، وتفسد القلوب ، وتزعج الخواطر المطمئنة ، وتقوض المجتمع السليم ، ليخنع في النهاية خاضعا ساكنا لا حول له ولا قوة .  

ومن هنا فإن إضاءة هذه المفاهيم تحتاج لوقفة متأنية شجاعة ، ولعودة موضوعية إلي الوراء ، ولنظرة للمستقبل ، ننظر لثقافتنا ومكوناتها ، وللأديان وتداعياتها في نفوسنا وعقولنا ومواقفنا ، ونظرة أكثر جدية وموضوعية وصادقة لبيئتنا هناك في إرتريا كمقياس بدل النظر في الآفاق حيث التجمعات الإرترية في المهجر لأن هذه التجمعات وأقولها صراحة كانت وما زالت الهدف الرئيسي لصانعي هذه الأوهام والمرتع الخصب لعقد السياسيين المغرر بهم وأحلامهم الآنية ، حيث حوّل كلا الفريقين الصانع والمغرر به التنوعات الطبيعية الثقافية والإثنية للشعب الإرتري إلي لعبة تمارس في صالونات النفاق ، ودهاليز المؤامرات سعيا وراء مصالح سياسية غير نبيلة وذلك من خلال التركيز علي التجمعات الإرترية في المهجر لوجود الطبقة المثقفة الواعية ، أما داخل الوطن  ففي المدن فإنهم كانوا وما زالوا يعيشون حالة من العبودية والقهر بكل ما تعني هذه الكلمات من معني ، أما الريف حيث الجهل ضارب بأطنابه فهم يعيشون الثقافة الإرترية النقية حتى الأعماق ، وبما أنهم يعيشونها لا يستطيعون تحديدها نظريا ، ولا أن يسقطوها علي المستقبل الذي لم تتح لهم الفرصة للمشاركة في صنعه ، هذا بالإضافة إلي أنهم يعيشون وسط خضم واسع من الشقاء بلغت لجته من الارتفاع شأوا شُغلوا بمصارعته عن أيّ تفكير فهم يتحملون قدرهم بهدوء ولكن بمرارة ، والشقاء والجهل لم يكونا يوما وسطا مواتيا للوعي ومن ثم الفعل والإبداع .

والنتيجة النهائية أن المثقفين الذين كان يُنتظر أن يجلبوا اليقظة والوعي والخلاص للجمهور الذي ينتظر وقع الكثير منهم في وحل تلك المفاهيم التبخيسية ، وهو ما أدى إلي الواقع الأليم الذي نعيشه اليوم .

ويستحسن في البداية أن نشير إلي أنّ في الثقافة الإسلامية إن الله خلق الناس مختلفين إثنيا واجتماعيا وثقافيا ولغويا ، ولكنهم في الأساس أمة واحدة ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ) يونس:19

أي أن اختلافاتهم علي تعددها لا تُلغي الوحدة التي هي الأصل ، وهذه الوحدة تقوم علي الاختلاف وليس علي التطابق والتماثل ، ذلك أن الاختلاف آية من آيات عظمته سبحانه وتعالى ، ومظهر من مظاهر روعة إبداعه في الخلق ، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) الروم:22 .

وإذا كانت الوحدة لا تكون إلا مع الآخر ، والآخر لا يكون إلا مختلفا ، وإلا فإنه لا يكون آخر ، وجب المحافظة علي هذا الآخر إذا كنا نسعى إلي المحافظة علي الوحدة ، وهذا يعني أن الوحدة لا تعني إلغاء الآخر بتذويبه أو تهميشه ، وإلا تُصبح وحدة مع الذات . 

في ضوء هذه المبادئ نقول : إن القبليّة كواقع موقف طبيعي ، وليست صفة سلبية إذا فهمناها بأنها مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي ، وبأنها إحساس قبيلة بذاتها واعتزازها بهذه الذات ، وهذا أمر لا يرفضه الدين ولا العرف ولا منطق الحياة ، ولكننا نرفض القبليّة عندما تكون إحساسا فارغا من أي معنى ، أو إحساسا يتجاوز حقيقة الذات القبليّة ليوصل إلي التعالي علي بقية القبائل ، إذ تصبح في هذه الحالة جاهلية نتنة ، وهكذا يقال في القومية وفي الطائفية …

فالقبليّة التي نقبلها هي الوعي بالذات وعدم التعالي ، وفي الوقت ذاته ليست قبليّة مقهورة ، ولهذا فإن الإنسان السوي لا يجد غضاضة أن يدعوا إلي القبليّة بمفهومها القرآني ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات:13

إنها إذن جُعل إلهي من الخالق العليم بحقيقتنا ، الخبير بأحوالنا التي تفرض علينا بحكم الجُعل الإلهي هذا الإحساس القبلي ، ولكن الميزان الذي ينقذنا من الميل بهذه القبيلة استعلاء أو هبوطا قوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) إذن فالحكمة في خلق الناس شعوبا وقبائل كما أخبرنا سبحانه وتعالى إنما هدفها التعارف       ( لتعارفوا ) وأن عملية التعارف تلك التي تعني التفاعل الاجتماعي الإيجابي محكومة بميزان واحد فقط هو ميزان ( التقوى ) . فالتقوى التي تعني في أبسط معانيها مقاومة الشر واتقاءه ، والعمل من أجل الخير والانحياز له  معيارية سليمة للفصل بين القبلية الإلهية والقبلية المنحرفة .

فمعرفة الآخر شيء أساسي لنشوء علاقة سوية معه تتسم بالتعاون والتآزر والتسامح ، أي علاقة مبنية علي عناصر تلك المعرفة ، ولعل ذلك هو ما جعل كل الأديان والشرائع تحث علي المعرفة ، وتطالب بمحاربة الجهل والجهالة ، وإذا كانت الحكمة تقول : من جهل شيئا عاداه ، فمن المفيد أن نقول أيضا : من عرف شيئا أحبه . ففي التعارف يقوم الحب ، والمسيح عليه السلام يدعوا لفرح اللقاء حتى بالأعداء ( سمعتم أنه قيل أحبب قريبك وأبغض عدوك . أما أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم ) متي:5/43-47 .

وكما يقول الأسقف يونس : ( أنا أحب وأعرف الآخر ، إذن أنا موجود ، والخطيئة هي الانكفاء عن معرفة الله وعن معرفة الآخر والاكتفاء بالذات ) . 

ومن هنا نقول نعم للقبلية في ثوبها النقي ( التعارف ) وألف نعم للطائفية ( الغيرة علي الدين ) إسلاما كان هذا الدين أو مسيحية .

 وإذا رجعنا إلي مجتمع الأجداد والأباء بكل طهره ونقائه سنجد ( التعارف )  شعار هذا المجتمع ، تعارف لا يحتمل العداء والفوقية ، ولا يستغل الضعيف ، ولا يشد أزر القوي الظالم ، إنها مفاهيم سامية عبر ويعبر عنها مجتمع الآباء والأجداد بذلك الإلحاح الذي ألفناه عليهم للتعرف علي الآخر ، وبذلك التعاون والتكاتف والوقوف جنبا إلي جنب في المحن الفردية والجماعية التي لقنوها إيانا ونشأنا عليها ، إنها سلوكيات عريقة ضاربة في الجذور تنبع من ثقافة التعارف والتعايش واحترام الآخر ، وتنهل من عقائد سماوية متسامحة تنكر الاستعلاء والفوقية والعدوان والحقد وتقزيم الآخرين .

والمجتمع الإرتري كان ولا يزال مجتمعا متماسكا ، ومجتمع مشاركة ونزعة وحدوية تتجلى في تجمعاته العشائرية التي تٌكوّن مع اختلافها في الأنساب القبيلة ، وتكتلاته القبلية التي تُكوِّن القومية ، وعرف هذا المجتمع تضامنا في العمل يظهر هذا التضامن في أبسط صوره في الكيوا أو كبن ( النفير ) وفي أعلى مراتبه في الاستنفار الجماعي مسلمين ومسيحيين لدفع الظلم الذي يستهدف القيم والتراث والأرض ، ومن يتغمس في البيئة الاجتماعية الإرترية سيجد مظاهر الوحدة والعمل الجماعي بكل مضامينه المادية والمعنوية قانونا للحياة الذي وضعه أجدادنا بكل شرف وأمانة : احترام الآخرين ؛ ووعي عميق للمصلحة المشتركة المدعومة بأواصر الدين والدم وخيوطه القريبة والبعيدة ؛ تلك الأواصر التي كرسوها كجسر للتعارف والتلاحم حتى إنك لا تجد اليوم إرتريا إلا وله لحمة مع هذه القبيلة أو تلك كل حسب دينه ؛ واحترام للكلمة المعطاة ؛ وتهذيب تعبر عنه أمهاتنا وجداتنا بحركات توحي بالحنان واللطف ؛ ويظهر في سلوك آبائنا بالتآزر والتآخي والتوادد لدرجة أنهم يرفعون مقام هذا التآخي فوق قرابة الدم ؛ وبالتعاطف العارم والساذج الذي يبدونه تجاه كل من هم من بين الإنسان ؛ وبالروح الشاعرية التي تقبل الآخر الذي تراه مكملا وليس نقيضا ؛ ولونا أساسيا في لوحة الوطن لا هامشيا .

وإذا كان هذا هو فهم مجتمع الآباء والأجداد للقبيلة والقبلية وللعشيرة والعشائرية ، فإننا نتساءل : ما جذور هذه الجاهلية النتنة التي أحكمت قبضتها برؤوس النخبة ؟ وما هي الأسباب التي أوجدتها ؟ ومن هي الجهات أو العناصر التي كانت وراء وجودها والنفخ فيها ؟ .

قبل الإجابة علي هذه التساؤلات دعونا نقلَّب الصفحات ونعود بذاكرة التاريخ عشرين سنة ، أو خمسين سنة ، إلي ألف سنة أو يزيد ، فهل في جعبة التاريخ إجابات تبرر واقعنا أم أن المشكلة برمتها مفتعلة ؟ سجلات تاريخنا القديم والحديث وحتى المعاصر تمدنا بما يجعلنا نعلن وبضمير مرتاح أن المشكلة بقضها وقضيضها مفتعلة !!!!

ولا يخفى علي كل ذي بصر وبصيرة أن مهندسي المشروع الإقصائي وفي إطار تخطيطهم الدائب لرفض الآخر أو تبخيسه وتهميشه هم من صنعوا هذه المفاهيم المشوهة ، والأبواق والخدم لعبوا دورا مهما في تسويقها بمختلف الوسائل ، منها وسائل الإعلام التي ركزت علي نشر أعمال وصفت زورا بالقبلية والطائفية تم ربطها بشكل مباشر بالآخر المُقصى ، وإمعانا في إقصائه وتهميشه أو علي الأقل ابتلاعه تجاوز هذا التشويه الأفراد الذين كانوا في دائرة الفعل ليشمل كل من له أدنى صلة بأولئك الأفراد حتى وإن كان يخالفهم الرأي حتى باتت الصورة المترسخة عن هذا المُقصي تتشكل وفق مفردات الوحشية والتعصب والتخلف واللاعقلانية والرجعية  حيث أصبح الفرد من هذه الجموع المهمشة يُشكِّل صورة الإنسان الحاقد السيئ في الخلق والطباع ، بل وصُوِّرت العدوانية الحاقدة كطبيعة تميزه وتميز ثقافته ، وهو ما خلق حالة من الشعور بالإذلال ، والإذلال مسألة نفسية خطيرة مارستها الأدوات الاستعمارية ضد الشعوب المستعمَرة للتحكم عليها  لأنها تؤدي بصاحبها إلي فقدان التوازن والفاعلية وبالتالي الصمت ، والقبول بما يٌفرض عليه دون احتجاج أو معارضة .    

والحقيقة المرة التي نعترف بها هي أن تخطيطهم نجح وبنسبة مرتفعة في جعلنا نتقبل الفكرة وكأنها حقيقة مسلم بها ، كما أنه نجح بشكل يدعوا إلي القلق في تحويل انطباعاتنا عن الحقيقة ، لدرجة أصبحنا مهيئين للاقتناع إن لم نكن قد اقتنعنا بأن هذا الطرف أو ذاك يسعى لابتلاعنا أو إقصائنا تحت تأثير الكلمة السحرية المفزعة ذات الحروف الستة ( قبلية ) في حين أننا جميعنا في الواقع في مرمى التهديد بالإقصاء إن لم نكن قد أُقصينا فعلا .

وفي هذا السياق ليس من الضروري أن نعدد البراهين أو نتقصى بواطن الأمور لنؤكد صحة ما نقول ، فالغسيل منشور ، والظاهر هو المعول عليه وإن كانت البواطن طيبة ، وإن كان الظاهر كما يقول السادة الصوفية عنوان للباطن ، فالتنافر والسلبية القاتلة والشك من السمات التي لا تخطئها العين في الأوساط الإرترية السياسية والمثقفة اليوم ، لدرجة أننا بتنا وكأن جدارا من الحديد والإسمنت قد فصل بيننا ، أو كأننا نعيش ظرفا أشبه بلحظة الاشتباك في لعبة كرة القدم الأمريكية . 

ولعل أخطر تداعيات هذه المفاهيم غير النبيلة انهيار أنساق القيم وذلك بالتمرد علي الدين ، حيث تمرد الكثيرون وخاصة المسلمين ممن لهم ارتباطات ومصالح مع الحكومة أو الحزب علي الدين خوفا من إلصاق تهمة الطائفية عليهم .

ومن إفرازاتها كذلك الأنانية ، حيث بات الكثير منا في حل من الاحساس بالآخر ، وصار شعار الفرد التخلص من مسؤولية الأخوة والتكاتف الاجتماعي والتصدي الجماعي للمحن الفردية والاجتماعية الجمعية . هذا بالإضافة إلي الكثير من المعوقات النفسية التي حالت دون وصولنا إلي التعارف ومن ثم الوحدة كمصلحة مشتركة وضرورة وطنية ودينية . 

ولا بد هنا أن نشير من منطلق الموضوعية التي قررنا اعتمادها في نقد أنفسنا بأن هناك أخطاء في مسيرتنا ، ولكن هناك أيضا أعمال عظيمة استلزمت تلك الأخطاء التي يمكن وصفها بالعفوية ، إذ لو كانت قبلية منظمة أو طائفية مخطط لها هل كنا سنجد أنفسنا اليوم في مواجهة هذا الإفلاس والفقر الذي نعيشه في كافة مناحي الحياة ؟ والخطأ كل الخطأ إظهار تلك الأخطاء كأكثر أشكال تلك الأعمال العظيمة كما فعل ذلك الإقصائيون ، ثم كانت الخيبة عندما صدقنا نحن بل وروجنا لأسباب سياسية غير عقلانية تلك الفرية ، نحن إذن نتحمل مسؤولية الانجرار بوعي أو دون وعي إلي الفخ الذي نصب لنا ، ثم تضخيمه وتوظيفه بطريقة تنم عن جهل مركب ضد أنفسنا ، ونحن السبب دون شك أو ريب في ليلنا الذي عسعس ، ويبدو لي أننا لم نفق بعد من سباتنا لنقول صارخين وبأعلى صوتنا بأن صبحنا قد تنفس  لأننا لا نريد حسم خياراتنا من منطلق التعارف والمعرفة والمصلحة المشتركة وفي إطار المخزونات الجماهيرية الجمعية ( الوحدة ) ولا نذهب إلي المدى المجدي في استنتاجاتنا وتنبؤاتنا ، ولا نبني استراتيجيات العمل علي ضوء تراكم واعٍ للخبرة والفعل ضمن برنامج يستحضر مستخلصات الماضي الحافل بالتضحيات وعظم المعاناة ، والحاضر الحافل بكثير من المعوقات والمظالم والإحباطات ، وإن فعلنا ذلك فإننا نستحضر من ذلك الماضي سلبياته ، لتتراكم مع معوقات هذا الحاضر وإحباطا ته ، لتكوِّن بذلك سدا فولاذيا يقف عقبة كأداء دون الولوج إلي المستقبل . لنعيش بذلك معادلة سلبيتين داخلية وخارجية ، ويا لها من معادلة !!! ففي الداخل وحدة تعسفية ( ذاتية ) تهمش الآخر وتقصيه ، وفي الخارج تعددية مطلقة تأبى الوحدة .

الخاتمة

إذا كان الجهل والجهالة هي العقبة الكأداء في الوصول إلي التعارف كما ذكرنا ، إلا أن هذا الجهل بالشيء وعدم معرفته يبقى أهون من التجهيل به أو تقديمه على غير حقيقته كما هو حالنا اليوم ، ففي الحالة الأولى ليس على المرء إلا محاولة إزالة الجهل ، بينما في الحالة الثانية فإن علاقة خاطئة وغير سوية ستنشأ بسبب معلومات خاطئة ومزيفة ، وهنا تكمن خطورة تزييف الحقائق ، وأنا مقتنع بأن مشكلاتنا اليوم هي نتيجة معلومات غير موضوعية ، وأضاليل زائفة صنعتها آلهة الإقصاء وما زالت تنفث فيها الأفاعي فحيحها وتسوقها هنا وهناك لتخرب كل العلاقات الخلاقة التي لا تنفصم عراها وتدمرها .

إن هستيريا صناعة وتسويق هذه المفاهيم في أوساط الجماهير هي هستيريا سياسية بالدرجة الأولي ناتجة عن تبني رؤى مغالطة ، تعكس سوء فهم هؤلاء المغرر بهم ( السياسيين ) وجهلهم لتداعياتها ، وأخرى مقصودة تنم عن نظرة مريضة تجاه الآخر ، وما لم تكف الجهات السياسية المغرر بها عن استغلال هذه المفاهيم لأغراض سياسية ومن ثم وضع رؤية موضوعية تشكل بمجملها غالبية السلوك الإرتري تجاه نفسه، فإنني أخشى أن تكون لها ردود أفعال خطيرة في مجتمعنا ، فهي بصورتها المشوهة تربي العنصرية ، وتشجع علي إقامة كيانات منعزلة بالإضافة إلي أنها تدعم الآراء المتميزة ، وهنا تكمن إشكالية ضخمة ستواجه المجتمع الإرتري إن لم تكن بدأت في مواجهته . وإن الانطباع الكاذب الذي يريد أن يعكسه السياسي والمثقف الإرتري بتساميه عن الوجه المشوه لهذه المفاهيم في حين أنه غارق في لجتها لا يعني انتفاءها وتلاشيها ، فالحقيقة مهما تجاهلناها تكون لنا دائما بالمرصاد ، حيث تقفز بين اللحظة واللحظة لتضع أمام عيوننا وبصيرتنا معطيات دامغة تشير إلي استحالة إخفائها وستر تداعياتها الخطيرة .

وإذا كان حقا أنّ علينا أن نرفع من وتيرة ثقافتنا الاجتماعية إلي الأفضل دون أن نلبس جلدا جديدا أو نخرج من جلودنا ، فإن علينا أيضا أن نكنس كل أوهام الشك من عقولنا وهذا لا يتطلب جهدا استثنائيا ، فقط القليل من الجرأة والمصارحة للتغلب علي هذه الذات ودوافعها الضيقة ، لأن من الخطورة بمكان أن نخطط إذا لم يكن في مقدورنا أن نخطط إلا للأنانية والتشرذم .

إننا اليوم بحاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلي أصوات موضوعية وواعية تحاول الإفلات من عقدة ما أسميه ( الحساسيات ) لتقدم لنا توصيفا حقيقيا لهذه المفاهيم وتداعياتها ، وقراءة واقعية للمجتمع الإرتري في إطار الوجه الحقيقي غير المشوه لمفهوم القبيلة والطائفة بعيدا عن جملة الادعاءات المزعومة ، والتشويهات المخطط لها التي لا تزال منذ عقود عدة من المسلمات ، وأنا واثق من أنَّ ذلك سيمكننا علي الأقل من فهم أولي لقصة نشوء هذه المعايير ، والأهداف من وراء إلصاقها بالآخر زورا وبهتانا ، والتي بنيت لا علي تقزيم هذا الآخر فحسب بل ومحاولة إقصائه من خلال الإصرار علي محو مختلف مساهماته الحضارية والنضالية ، وتهميش ثقافته التي تشكل وبوضوح وعمق ملامح إرتريا .      

ومن هنا أقول إن نخبة الجماهير العريضة المهمشة عليها أن تختار  إما أن تبقى موضوعا للتاريخ أو صانعة له .

                                       والسلام

abofaieda@yahoo.com


روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6076

نشرت بواسطة في يناير 1 2005 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010