القرن الافريقى : الى اين؟؟

 عمر جابر عمر

 استراليا – ملبورن

    

                                      الحلقة الاولى (1)  

اسم ( القرن) لا علاقة له بالتركيبة السكانية  ولا يعبر عن ثقافة او انتماء عرقى بل هو مصطلح جيوليجى يشير الى النتوء الذى يبرز فى الجانب الشرقى من القارة الافريقية جغرافيا. وربما كان للاسم علاقة بحيوان ( وحيد القرن) ( black rhino  ) الذى يتواجد فى اثيوبيا وكينيا والسودان وكان شعارا لجمهورية السودان بعد الاستقلال فشكل القرن وبروزه من رأس الحيوان الضخم ربما يماثل ذلك النتوء الجغرافى .

وربما كان لهذا الاسم مدلولاته المعنوية :

·       نتوء ( خارج المسار الطبيعى )

·       الشكل الحاد ( النفور والمزاجية و الانعزالية ! المنطقة مليئة بالكنوز والثروات الطبيعية – وتمتلك تاريخا عريقا وحضارات كانت سباقة فى تقديم صورة انسانية  رائعة – بل ان بعض الباحثين يرجحون بان اصل الانسان الاول كان من القرن الافريقى ( الحدود الكينية – الصومالة ), والاثار التى تم اكتشافها فى مختلف المناطق من شمال السودان الى الهضبة الاثيوبية وشواطىء البحر الاحمر الى الصحراء الصومالية تثبت بان شعوب المنطقة تركت       بصماتها على الحضارة الانسانية.

ولكن بالمقابل فان التاريخ يحكى بان شعوب المنطقة عاشت فى صراعات سياسية وحروب دينية حرمتها من الاستقرار وبناء حياتها بشكل طبيعى ( خاصة منذ القرن التاسع عشر).

·       حروب المسلمين بقيادة ( احمد جران ) ضد امراء وملوك الحبشة.

·       حروب الدولة المهدية ضد اباطرة الحبشة.

·       حروب اثيوبيا الحديثة ( هيلا سلاسى) ضد الصومال 1977

·       حرب التحرير الارترية ضد اثيوبيا 1961- 1991 تلك الصراعات والحروب جعلت المنطقة هدفا للتدخل الاجنبى واصبحت اوربا ولاحقا امريكا تستخدم تلك الخلافات بين شعوب المنطقة تحقيقا لمصاحها.

النتيجة النهائية كانت فقرا مزمنا وتخلفا فى جميع مناحى الحياة وفقدان للاستقرار  الا جتماعى ( اللجوء والهجرة الجماعية ) وغياب للامن والامان.

وكأن ذلك لا يكفى – وهو من صنع الانسان – فقد شاء حظ شعوب المنطقة ان تسهم الطبيعة فى تعميق الماساة – جفاف وتصحر واوبئة  حصدت ارواح الملايين وما تزال تهدد ملايين اخرى.

وبالرغم من ان ذلك يعد قدر لا مهرب منه الا انه ايضا يعكس عجز الانسان وقلة حيلته ليس لمنع حدوثه ولكن بالاستعداد له والتقليل من اثاره ومعالجة تبعاته, لماذا يحدث ذلك كله لشعوب لا تريد غير الاستقرار والامان والعيش بسلام ؟

لماذا تتقدم شعوب اخرى ( حتى فى القارة الافريقية) بينما شعوب القرن الافريقى تظل تراوح مكانها وتعيش فى دوامة من العنف والبؤس والشقاء؟

رغم نضالات شعوب المنطقة وتضحياتها وصبرها الا انها لم تجد المردود الطبيعى لما قدمته, هل هو قدر لا فكاك منه ولعنة اصابت شعوب المنطقة؟

لابد من ان تكون هناك اسباب حقيقية وموضوعية وراء ذلك.

كل اقطار القرن الافريقى ( السودان – اثيوبيا – الصومال – ارتريا – جيبوتى) تشترك فى اقتسام المأساة ولكن بدرجات متفاوته وفقا لخصوصية كل قطر.

سنترك جانبا (جيبوتى ) ليس لانها اقل سكانا ولا بسبب ان مساحتها اصغر حجما – بل لانها فى نهاية الامر نتاج خرج من رحم تلك الصراعات ولانها ايضا نموذج للتدخل الخارجى وكيفية معالجته لتناقضات المنطقة ( القاعدة العسكرية الفرنسية فى جيبوتى).

بقية البلدان اصيبت بافات ثلاث:

الافة الاولى : انتشار وتجذر الروح الاستعلائية والعقلية الاقصائية.

كل قومية او مجموعة ثقافية او اقليمية تعتقد انها صاحبة اليد العليا وانها احق بالحكم والاستئثار بالسلطة والثروة.

تلك الصفات التصقت بالامهرا فى اثيوبيا وابناء الشمال فى السودان وابناء المرتفعات الارترية من المسيحيين.

اما فى الصومال ففى محاولة لرفض ذلك الاستعلاء وعدم الاستسلام للاقصاء فقد قام كل طرف ( قبيلة) ببناء دولته والنتيجة كانت ضياع الوطن وتشتت الشعب الصومالى وانقسامه الى ولاءات لم تحقق لكل مجموعة  شيئا واضاعت عليهم جميعا حلم العيش فى دولة واحدة.

لماذا كان كل ذلك؟

هل هو امر طبيعى نجد تفسيره فى ثقافة وتركيبة شعوب المنطقة وموروثاتها – ام هى (مؤامرة) خارجية من اعداء شعوب المنطقة؟ربما كانت مزيجا من هذا وذاك- ولكن الامر المؤكد ان شعوب المنطقة حصلت على استقلالها الوطنى (المظلة الجامعة) وهى لم تستكمل بعد تطورها الطبيعى (الاجتماعى والثقافى) لتكون امة واحدة فى بلد واحد تحت حكم مركزى واحد.

العلائق والروابط الاجتماعية ( القبيلة – الادارة الاهلية والاحتماء بالنسيج الاجتماعى والقناعة بالعيش فى ذلك الحيز المحدود والشعور بالفخر والاعتزاز بذلك الانتماء) كل ذلك كان راسخا ومتجزرا فى المجتمعات قبل الاستقلال ومع بروز الاستعلاء القومى او القبلى او الاقليمى والاستئثار بالسلطة والثروة – لم تجد تلك المجتمعات ما يدفعها الى الدفاع عن المظلة الجامعة ( الوطن ) وعادت تحتمى بما كان لديها وما كانت جزءا منه بل وعملت على تجميع قواها واستقوت بمن كان عدو الامس (الاجنبى) !

علينا ان نذكر ان القيادات التى جلست على كراسى الحكم خلفا للاجنبى لم تكن هى ايضا قد خرجت من تلك الشرنقة – على الاقل فى ذاكرتها الخلفية

لذا فقد عملت على توظيف الدولة الجديدة لخدمة وتحقيق مصالح مجموعتها القومية او الدينية او الاقليمية تارة باسم (احزاب) ديمقراطية وتارة اخرى يشكل سافر لا يعترف بالاخر وهنا يجىء دور العامل الخارجى لاستثمار ذلك الوضع لمصلحته.

الافة الثانية :    غياب العدالة والمساواة.

بكل المقاييس والقونيين سواء كانت وضعية ام سماوية فان العدل غائب والمساواة ممارسة لم تعرفها قيادات وحكام شعوب المنطقة.

لا عدالة فى توزيع الثروة (الارض – التوظيف –الرخص التجارية- الاستثمار – مشاريع التنمية والبنية التحتتية – التعليم … الخ

لا مساواة فى المشاركة السياسية.

الغنى يظل غنيا بل وتزداد ثروته والفغير يزداد فقرا وجهلا.

الذى يسرق الملايين يجد الحماية ولا يطاله القانون , والذى يسرق الملاليم يطبق عليه القانون او الشريعة !!

الافة الثالثة : غياب الديمقراطية وحرية الرأى.

وان وجدت فهى : نخبوية  وفوقية و(معلبة) بمعنى ان شروطها محددة ومواصفاتها مقننة ونتائجها معروفة.

العلائق والروابط ذاتها (الولاء الجهوى والاقليمى ) ثم تغطيته بعباءة حزبية واطلق عليها اسما جديدا.

هل هو جهل بالمضمون ام مقاربة غير موضوعية بين الموروث والواقع من جهة والتطلع والتغيير من جهة ثانية ؟

الامر الذى لا شك فيه هو ان  القيا دات افتقدت الحكمة واصيبت بعمى سياسى وقادها الصمم العقلى الى اتباع هواها وايثار مصالحها الذاتية.

الديموقراطية اصبحت شعارا دون مضمون وسلاحا يستخدمه المعارض حتى يصل الى كرسى الحكم وبمجرد ان يصل فانه يكسر ذلك السلاح ويترك استعماله للمعارض الجديد !! تلك هى افات القرن الافريقى الثلاث – لنبحث الان عن (نصيب ) كل بلد منها وكيف تعامل معها والنتائج التى وصل اليها.

الحلقة القادمة : السودان 

================

الحلقة (2)

 

السودان   

البداية من السودان ليس لانه اكبر الاقطار مساحة وليس لانه كان سباقا فى التجربة الديموقراطية بل وايضا لانه يحتوى على فسيفساء تضم تعددا عرقيا وتنوعا ثقافيا ومعتقدات مختلفة تجعل منه مختبرا اجتماعيا وسياسيا تتفاعل فيه جميع المجموعات البشرية.

بعد نصف قرن من الاستقلال (1956- 2006 ) لنبحث ماذا كانت النتيجة وكيف كان تأثير الافات الثلاث عليه ؟

1/ الديموقراطية – قلنا فى الحلقة السابقة بان القرن الافريقى  يعانى من غياب مزمن للديموقراطية وان وجدت فهى نخبوية – فوقية و(معلبة) محددة شروطها ومواصفاتها ومعروفة نتائجها .

السودان نموذج لذلك وتجربته مع الديموقراطية تنطبق عليها تلك المقولة.

لنرى ماذا تحقق من تلك الديموقراطية خلال نصف قرن:

·       التجربة الديموقراطية الولى 1956- 1958

·       الحكم العسكرى الاول (عبود) 1958 -1964

·       التجربة الديموقراطية الثانية 1964-1969

·       الحكم العسكرى الثانى (نميرى) 1969- 1984

·       التجربة الديموقراطية الثالثة 1984- 1986

·       الحكم العسكرى الثالث (البشير) 1986- 2006

ماذا نفهم من ذلك ؟ انه خلال نصف قرن كان نصيب الديموقراطية تسعة اعوام – واربعة عقود عاشها السودانييون تحت انظمة عسكرية !! وحتى فى تلك الفترات  المتقطعة لم تنجح الاحزاب السودانية فى ارساء قواعد راسخة للمارسة الديموقراطية.

لم يكن هناك اعتراف بالاخر ولا قناعة بضرورة التعايش وانشغل قادة تلك الاحزاب بصراعاتهم الداخلية وتعرض كل حزب لانشطارات  اميبية اضعفت من قدرات تلك الاحزاب على التركيز على قضايا لمستقبل السودان الكبير ولم تفكر فى او تتواصل مع الاقاليم (خاصة الشرق والغرب ) الا فى فترة الانتخابات للحصول على الاصوات! هذا الفشل المركزى فى بناء الدولة ادى الى تهميش الاقاليم واصبحت الخرطوم هى (السودان ) كله – حتى وزراء ونواب الجنوب استقروا فى العاصمة لاقتسام غنائم ومستحقات هامشية.

وكلما وصلت التجربة الديموقراطية الى طريق مسدود قفز العسكر الى الواجهة وكان الشعب يستقبلهم فى الايام الاولى باعتبارهم منقذين ومخلصين ولكنه سرعان ما يكتشف انهم لا يختلفون عن القيادات الحزبية- بل ان العسكر حرموا المواطن حق الكلام والتعبير عن الراى!

التجربة الديموقراطية ادت الى مواقف وخلط للاوراق وتركت السودان مفتوحا امام كل الاحتمالات.

عدم مصداقية القيادات الحزبية وعدم ايمانهم بالديموقراطية فكرا وممارسة ظهر جليا فى موقفين :

·       القرار الذى اصدره البرلمان السودانى عام 1968 بحل الحزب الشيوعى السودانى وهو الذى كان جزءامن نضالات الحركة الوطنية السودانية من اجل الاستقلال وكان له نوابه فى البرلمان.

·       كلما وصلت الاحزاب الى طريق مسدود

وواجهت عجزا وفشلا فى تقديم برنامج يقنع الشعب لجات الى الجيش لتنسف العملية الديموقراطية من اساسها – او على اقل تقدير تخلق وضعا سياسيا ومناخا يشجع العسكر على التدخل :

1-   انقلاب ابراهيم عبود- وقد كان (تسليما وتسلما ) من الاحزاب الكبيرة الى قيادة الجيش.

2-   انقلاب نميرى – جاء فى ظل عجز تام وفشل مزمن لقيادات الاحزاب الكبيرة (حزب الامة والاتحادى الديموقراطى)

3-   انقلاب عمر البشير – وهو انقلاب خططت له ونفذته الجبهة القومية الاسلامية بقيادة الترابى – يؤكد مرة اخرى  بان العقلية الاقصائية التى قادت الى استصدار قرار حل الحزب الشيوعى هى نفسها التى ارادت اقصاء الجميع والانفراد بالحكم ولتذهب الديموقراطية الى الجحيم.

المضحك المبكى ان نفس الشخص( الترابى ) عندما فقد السلطة يتحاور الان مع الحزب الشيوعى السودانى!

ثانيا : الاستعلاء صفة تلازم الانسان الذى لا يرعى النعمة ولا يشكر الله على ما أسبق عليه من قوة (سلطة او مال ) او مواهب تجعله مرموقا ومتميزا بين اقرانه.

وفى الاطار الاجتماعى فانها قد ترتبط بموروثات  ثقافية وصراعات وتنافس بين المجموعات القومية والاثنية.

وبهذا المعنى فانها صفة ترتبط بتطور المجتمعات وتبرز فى العلاقات اليومية والمعاملات الحياتية (الزواج والمصاهرة ) ..

ولكن الاستعلاء بمضمونه السيا سى وكنهج يعبر عن مخزون فى الذاكرة الجمعية قد لا يجد له فى الواقع السودانى سندا قويا ودليلا  ملموسا.

المتهمون بالاحتكار (السلطة والثروة ) واقصاء الاخر وتهميشة والاستعلاء عليه هم اهل الشمال.

وقبل ان نتفق او نختلف مع هذه الرؤية لنعد قليلا الى الوراء لنرى كيف ولماذا وصل  اهل الشمال الى ذلك الموقع(موقع الاتهام).

1- قبل الاستقلال كانت الادارة الاستعمارية (بريطانيا) ترسم وتنفذ سياسة تهدف الى تأهيل كادر سودانى يشارك فى ادارة الدولة وعمال مهرة لتشغيل المنشأت والمصانع ونخبة متعلمة تتولى شؤن البلاد فى المستقبل.

على تلك الخلفية ظهرت ونشأت طبقة من العمال (سكة حديد) والكتبة والممرضيين  كانت هناك جامعة الخرطوم التى قدمت للسودان المئات من قادة الفكر والثقافة والسياسة.

ثم كان (مشروع الجزيرة ) الذى ساهم فى خلق بنية اقتصادية واجتماعية.

وبالمقابل فان الشريك الاخر فى ادارة السودان (مصر) كان له دوره فى انشاء المدارس فى كافة اقاليم السودان وارسال البعثات الدراسية الى مصر لتتوج فى النهاية بافتتاح جامعة القاهرة فرع الخرطوم. وعلى مستوى شعبى لم يتوقف المواطنون عن تنظيم حملات التنوير ونشر التعليم بمبادرات فردية احيانا وجهد جماعى احيانا اخرى – ( مدارس بابكر بدرى فى رفاعة وكلية الاحفاد… الخ

2- كانت الخرطوم هى مركز العمل وقبلة المهاجرين والنازحين – وكان الشماليون اسرع من غيرهم فى الوصول الى ذلك المركز والانخراط فى برامج التنمية والعمل الادارى.

السبب هو ان الطريق الى الخرطوم كان سالكا عكس القيود والحدود التى وضعتها الادارة البريطانية فى الجنوب والتخلف الذى كان يلف كل مناحى الحياة فى الشرق والغرب ما جعل اهل تلك الاقاليم يعيشون فى عزلة وغياب  تام عن تطورات الاحداث فى الخرطوم.

  3 – ذلك الوضع مهد لان يلعب الشمال دورا قياديا فى الحركة الوطنية السودانية ضد الاحتلال الانجليزى, كان هناك مؤتمر الخريجين – وكانت هناك نقابات السكة حديد (عطبرة ) وكانت هناك الاحزاب السياسية والتى كانت قياداتها فى معظمها من اهل الشمال, ذلك الاحتكار لم يتجسد فى تشكيل الحكومات والادارات وقيادات الجيش والشرطة – بل حتى البرلمان فان من يمثل الاقاليم (الشرق والغرب ) كان من الشمال ( خاصة فى تجربة الديموقراطية الاولى) 

هل يمثل ذلك كله استعلاء واقصاءا وتهميشا ؟ لا اعتقد اننا نصيب كبد الحقيقة باقرارنا بذلك .

الكل يتفق بان الغرب مهمش ويعيش حالة من فقدان مرتكزات الحياة الاساسية ناهيك عن المشاركة فى السلطة واقتسام الثروة والكل يؤكد بأن الشرق يعيش فى حالة من (النسيان ) ناهيك عن التهميش وأن المواطن فى الشرق لا يشعر بأنه يعيش فى دولة واحدة مع الاخريين.

كل ذلك صحيح لا ينكره الا مكابر او صاحب مصلحة. ولكن ما ينساه البعض هو ان الاقليم الشمالى ذاته يعانى من التهميش !!

لا تنمية ولا مشاريع اقتصادية واجتماعية. هاجر اهل الشمال من اقليمهم منذ زمن بعيد وانتشروا فى اقاليم السودان الاخرى ( الجنوب والغرب والشرق ) بل وحتى فى دول الجوار – يبحثون عن فرص عمل ومستقبل جديد ثم ان معظم المهاجريين ( المغتربيين ) فى العالم هم من اهل الشمال (البلاد العربية واوربا وامريكا ).

هناك اقليم يحسب لاهل الشمال فى حين انه مفتوح للجميع – انه الاقليم الاوسط.

الفرق ان اهل الشمال استقروا واستوطنوا فى ذلك الاقليم فى حين ان اهل الاقاليم الاخرى يأتون ويعملون كعمال موسميين ثم يعودون الى اقاليمهم – ربما بسبب روابط اجتماعية وثقافية لا يمكن الفكاك منها وربما بسبب احساس بالغربة بعيدا عن ديارهم وعشائرهم.

فاذا كان الاقليم الشمالى لا يقل تهميشا عن الاقاليم الاخرى فان من نسى اقليمه وتركه وراءه ولم يعمل على تنميته لا يمكن ان يتهم بالاقليمية والاستعلاء.

لكن تهمة اهل الشمال اكبر من ذلك – كانت فى يدهم – وما تزال – السلطة المركزية فى الخرطوم سواء كان ذلك بطريقة ديموقراطية او انقلابات عسكرية – والذى حدث هو تهميش السودان بكامله بكل اقاليمه – ادخاله فى دوامة من الصراعات والحروب التى جعلت وحدة السودان محل تساؤل.

لو كانت تلك النخب القيادية بدأت حل الخلافات الداخلية ولو امتلكت النظرة الشاملة لمشاكل السودان بعد الاستقلال مباشرة لكان السودان اليوم فى وضع مختلف.

ولو كانت قيادات الانقاذ قد بدأت ما تحاول تحقيقه الان منذ ان استولت على الحكم لاختلف الوضع – لكن الانقاذ اضاعت وقتا وجهدا دون مبرر  اللهم الا اذا كان السبب هو (الشيخ) الذى كان وما يزال لغزا فى فكره وايمانه وظاهرة لا يمكن التنبؤ بما ستتحول اليه من وقت الى اخر.

  يحاول الشيخ الترابى ان يجمع بين صفتين ومهمتين : العالم الدينى المجدد والحاكم الدنيوى المعاصر.

الاولى مهمة كبيرة ومسئولية عظيمة تتطلب تفرغا كاملا وعقلية تؤمن بالخطأ والصواب ولا تدعى العصمة تتطلب شخصية لا تعتمد على الكلام المرسل بل على الشواهد المسندة , شخصية تتمتع بنكران الذات وتغليب المصلحة العامة.

اما الصفة الثانية : الحاكم المعاصر – فتلك تتطلب العدل والحكمة والايمان بالمساواة بين البشر وحقهم فى حريتهم والتمسك بالحقوق الانسانية الاساسية.

كل ما جرى فى السودان منذ مجىء جبهة الانقاذ الى الحكم محسوب على هذا الشيخ – ساهم فى ذلك مباشرة او أمر به او غض الطرف عنه .

عرف عن اهل السودان التسامح والسماحة – ولكن الشيخ جاء بعقلية تصفوية اقصائية برزت سماتها المبكرة فى اقصاء جناح السيد/ صادق عبد الله عبد الماجد من الحركة الاسلامية التى كان يتزعمها ثم فى قرار حل الحزب الشيوعى السودانى ثم فى التعاون والتحالف مع نميرى واعدام الشيخ ( محمود محمد طه) واخيرا خلال حكم الانقاذ- حيث ظهرت بيوت الاشباح وتصفية الخصوم وامتهان انسانيتهم.

قد تكون للتنظيمات مسئوليتها ودورها ولكن هناك دائما دور الفرد فى اطار تلك التنظيمات والحركات – تلك الظاهرة تكررت فى بلدان القرن الافريقى كما سنرى – واذا كان (الترابى ) هو بلاء السودان ونموذجه فى الاستئثار والاقصاء فان فى كل بلد فى القرن الافريقى (ترابى ) محلى قام بنفس الدور.

ثالثا:    العدالة والمساواة – اهل الجنوب بلغوا غايتهم بتوقيع اتفاق (نيفاشا) بعد سنوات من الحرب الطاحنة.

واهل الغرب فى طريقهم  لبلوغ تلك الغاية , وفى ظل هذه (الصحوة) التى يعيشها نظام الانقاذ سواء كانت نتيجة ليقظة ضمير والاستفادة من دروس الماضى او بسبب ضغوط خارجية فان الشرق موعود بما سبقه اليه اهل الجنوب والغرب.

وهناك بعض الخصوصية بالنسبة لموضوع الشرق :

1-   العلاقة مع ارتريا – سواء كانت سلبا او ايجابا فان علاقة النظامين فى كل من اسمرا والخرطوم ستؤثر على سير عملية المفاوضات وتشكيل التنيجة النهائية.

2-   مع صحة ومصداقية المطالب المشروعة لاهل الشرق الا ان من تصدى للمطالبة بها ومن تحرك باسم الشرق بحاجة الى اجماع داخلى من ابناء الشرق انفسهم, اذا اخذنا (منظمة الاسود الحرة )كمثال وهى تمثل الرشايدة والزبيدية ومن لحق بهم أو تفرع عنهم  يمكن ان تطرح تساؤلات جدية:  ماذا وجد الرشايدة فى ارتريا واية عدالة ومساواة منحت لهم ؟ وبالمقابل ما الذى افتقده الرشايدة وحرموا منه فى السودان ؟

انهم فى حالة ترحال دائم لم يختلطوا ولم يتفاعلوا مع محيطهم وبالتالى لا يمكنهم الادعاء بتمثيل الشرق , يمكنهم ان يعيشوا فيه مع الاخرين وتضمن لهم حقوق كل اقلية تعيش فى وسط غالبية تختلف عنها ثقافة وجذ ورا وطموحا, ثم ان ا قليم الشرق يضم اليوم مجموعات قومية نزحت او هاجرت او تم ترحيلها من مناطقها فى شمال السودان ( المحس- حلفا) وهذه اصبحت بعد طول اقامة جزءا من النسيج الاجتماعى والبنية الاقتصادية للاقليم.

3-   اما بقية مجموعات المعارضة المقيمة فى ارتريا فهى جزء من اهل الشرق الاصليين ويرتبطون معهم بروبط الدم والقربى والمعاناة,ولكنها بحاجة الى التواصل والاتصال بتلك القاعدة حتى لا تفقد الاتجاه وتدخل فى معارك انصرافية.  المطالبة بالمساواة تتطلب ان تبدأ المعارضة بنفسها وتكسب رضا ( قومها ) والمطالبة بالديموقراطية تفرض عليها اخذ راى وموافقة من تقوم بتمثيلهم والا فان النتيجة ستكون صراعا داخليا يؤدى الى تداعيات اجتماعية وثقافية بعد ان تنزاح ( المظلة الشمالية ) التى يشكو منها الجميع الان وهذا ما حدث فى غرب السودان !

ثم ان التمسك والتمسح بجلابيب نظام دكتاتورى مثل النظام الارترى يلقى ظلالا على مصداقية المطالب والنوايا والرؤية المستقبلية. وحتى لا تحسب على المعارضة فى الشرق ممارسات النظام الارترى  وتنسى اجندتها الرئيسية فان عليها ان تحتفظ دائما لنفسها بمسافة تفصلها عن النظام الارترى وتقترب اكثر مع جذورها ورموزها فى داخل السودان وتجعلهم مرجعيتها ووسيلتها لتعزيز وتأكيد المطالب المشروعة لاهل الشرق

 

الحلقة القادمة :  اثيوبيا

=============

الحلقة (3)

 اثيوبياا : اثيوبيا الحديثة قامت على التوسع على حساب جيرانها وضم الشعوب المستضعفة.

لم تكن لها حدود ثابتة ومعروفة – بل كانت تتوقف عندما تجد مقاومة او تدخل خارجى كما حدث بالنسبة لارتريا بعد الاحتلال الايطالى.

كان ملوك الحبشة يستخدمون امراء الحرب والاقطاعيين فى الاقاليم الاخرى لتوسيع مملكتهم (رأس الولا) ولكن الهدف النهائى كان بسط سيطرة الاسرة الحاكمة وتحقيق هيمنة قومية (الامهرا).

الامبراطور (هيلاسلاسى ) كان يحتفل فى شهر مايو بعيد التحرير (1941) عندما هزمت ايطاليا بدعم من بريطانيا , ونظام (منقستو) العسكرى كان يحتفل بعيد الثورة فى 12/9/1974 بعد سقوط (هيلى سلاسى ) والنظام الحالى يحتفل بسقوط (منقستو).

ليس هناك عيد للاستقلال – والسبب : يقول الاثيوبيون انهم الشعب الافريقى الوحيد الذى لم يقع تحت الاستعمار !

ايطاليا احتلت اثيوبيا بين اعوام 1938-1933 تاريخ اثيوبيا ملىء بالاساطير والخرافات وكلها وضعت لتبرير حكم هذا الملك او ذاك والمسالة المركزية هى :

الملوك والاباطرة تم اختيارهم من قبل السماء وبالتالى فان طاعتهم والولاء لهم مسالة جوهرية ومركزية فى تركيبة الدولة الاثيوبية.

وفى قمة ذلك الهرم كانت قومية (الامهرا) هى التى تحكم وتفرض ثقافتها (لغة وممارسة ) وبقية القوميات (تقراى – ارومو – عفر- الخ ) مضهدة وتعامل كادوات لخدمة السادة الحكام.

وعندما حاول شعب تقراى التمرد عام 1948 تم ضرب الاقليم بالطائرات وتم تدمير المدن وتشريد عشرات الالوف.

الاستعلاء فى اثيوبيا كان منهجيا وجزءا من ثقافة وممارسة (الامهرا ) وكان الامبراطور (هيلاسلاسى) يستعين باوربا واخيرا امريكا لتوسيع مملكته واخضاع الشعوب المجاورة.

ربما كان اللون الفاتح والتقاطيع الغير زنجية هى ما استند اليه الامهرا لتاكيد تميزهم وانهم لا يحسبون على الافريقيين السود.

يحكى ان طلبة جامعة( اديس ابابا) قاموا فى عهد (هيلى سلاسى ) باضراب واعتصام طالبوا فيه بتحسين اوضاع السكن ومرافق الجامعة الاخرى.

وعندما علم الامبراطور بذلك طلب استدعاء ممثلين عن الطلاب لمناقشتهم.

وبدأ ا لطلاب يشرحون موقفهم ويضربون امثلة بجامعات افريقية  فى اوغندا  والسنغال وكيف انها توفر لطلابها خدمات ممتازة .

وفى النهاية قال لهم  الامبراطور :

(من حقكم ان تطالبوا بما تريدون ولكن يؤسفنى  انكم تقارنون اثيوبيا بهؤلاء العبيد !!

الامبراطور وصل مرحلة اصبح معها لا يصدق بان  هناك اثيوبى يتحرك دون امره وان هناك من يفكر فى الانقلاب عليه.

عندما بدأ(منقستواهيلامريام) ومجموعته يستولون على السلطة خطوة خطوة اصاب الذعر الشديد حاشية الامبراطور وقالوا للامبراطور : يجب ان تتحرك وتوقف هذا الزحف.

ولكن الامبراطور رد عليهم قائلا: انهم أبنائى يتحكرون بتوجيهاتى !

لم يكن فى عهد هيلاسلاسى مسموحا لاى وزير بالاستقالة – بل تتم اقالته!

التعيين فى الوزارة منحة من الملك لا يمكن رفضها.

التهميش والاقصاء كان شاملا حتى قومية الامهرا لم تكن كلها محظوظة – الا من كان من اصول اقطاعية او مقربة من القصر وحاشيته او امتلك ثروة او علما ومعرفة.

ذلك ساعد على تكوين جبهة المعارضة لاحقا من القوميات المضهدة وانضم اليها المحرومون من قومية الامهرا.

الامر اللافت للنظر هو ان المعارضة الاقليمية فى السودان لم تصل الى درجة المطالبة بالانفصال عن الوطن الكبير ,حتى فى الجنوب فان ذلك الشعار كان يرفع احيانا للتهديد والضغط على المركز اكثر مما كان يهدف الى تحقيق الانفصال بالفعل.

ولكن فى اثيوبيا فان جبهة تقراى قامت اول ما قامت بهدف الانفصال ولكن تلك الدعوة لم تجد قبولا خارجيا ولم تكن قادرة على اقناع القوميات المحرومة الاخرى.

وما تزال بعض المجموعات فى (ارومو) ترفع ذلك الشعار بين حين واخر ,رغم انهم (الارومو) الاكثر عددا ورغم ان (تقراى ) تاريخيا من المكونات الاساسية لما سمى اليوم باثيوبيا .

ولكنه الاستعلاء والاقصاء والتهميش يدفع صاحبه الى خيارات قد لا تكون فى مصلحته فى نهاية المطاف. الامبراطور(هيلاسلاسى)فشل فى بناء دولة جامعة بل وفشل حتى فى بناء دولة حديثة للامهرا – لا دستور – لا تنمية – لا حرية صحافة – لا جيش حديث – لا موصلات … الخ.

رغم ذلك كله كان يحاول خلق صورة اخرى فى الخارج – شارك فى الحرب الكورية عام 1950 وكان الجنود الاثيوبيون حفاة فتبرع لهم المارشال (تيتو) بأحذية وبعض الملابس.

كانت العاصمة اديس ابابا عبارة عن قرية وباستثناء القصر الملكى وبعض الابنية المجاورة فقد كانت المدينة قذرة تنتشر فيها بيوت الصفيح ورغم ذلك كان الامبراطور (زعيما افريقيا) وعندما ياتى الروساء الافارقة الى اجتماعات القمة الافريقية كانت الحكومة تضع (سورا ) عازلا فى وسط المدينة حتى لا يشاهد الضيوف البؤس الذى يعيشه المواطنون فى الاحياء الفقيرة.

بل ان الامبراطور (هيلاسلاسى ) اوحى لمعجبيه بانه موحى اليه من السماء الامر الذى جعل له اتباع ومؤيدين خارج اثيوبيا (جامايكا ) حيث توجد مجموعة (تفريانس) نسبة الى (تفرى) الاسم الاصلى للامبراطور هيلاسلاسى ومنهم المغنى المشهور (بوب مارلى ). وقد سبب ذلك ازعاجا كبيرا لدى (الفاتيكان ) حيث رأت الكنيسة الكاثوليكية ان فى ذلك النهج تهديدا لنفوذها فى امريكا اللاتينية . وكان ان طلبت من هيلاسلاسى  الذهاب الى (جامايكا )  ويقابل الجمهور حتى يراه الناس ويقتنعون بانه بشر عادى وليس ممثل للاله.

وبالفعل ذهب الامبراطور الى هناك وكانت  صدفة غريبة ان هطلت امطار غزيرة فى البلاد يوم وصوله وكان الناس فى اشد الحاجة اليها والنتيجة ان ايمانهم ازداد بالاله الافريقى وقناعتهم تجذرت ببركاته!

وبعد هيلى سلاسى جاء (منقستوا )الماركسى العسكرى الدكتاتورى. وبدلا عن اختيار السماء واساطير التاريخ كرس (منقستوا) حكما (ارضيا) يستند الى القوة والقمع واسالة الدماء.

حاول ان يحدث  منقستوا بعض التغييرات الشكلية – لاول مرة يجلس الى جانبه فى الاحتفالات الرسمية مفتى المسلمين  الى يساره وراعى الكنيسة الى يمينه.

ولاول مرة يصل ضابط من (ارومو) الى هيئة الاركان وكان معظم الجيش الاثيوبى مكونا من تلك القومية مع غياب تام فى الرتب العليا.

ولكن منقستوا دخلا طرفا فى الحرب الباردة بين الشرق والغرب واصبح حليفا للاتحاد السوفيتى ثم ان سياسته كلها اصبحت (مبرمجة) على اساس الصراع فى ارتريا – كان يريد ان يحسم ذلك الصراع عسكريا وفشل المرة تلو الاخرى – ثم حينما بدأت جبهة تقراى نشاطها واستطاعت ان تحرر قسما كبيرا من اراضيها – انسحب الجيش الاثيوبى واعلن (منقستوا) ان تقراى اقليم بائس لا يستحق الدفاع عنه ولا توجد به غير اربعة طواحين !!

الاستعلاء الاقطاعى – الارستقراطى – الامهرى تم استبداله بالاستعلاء الماركسى – العسكرى  الدكتاتورى الفردى.

وسقط (منقستوا ) ونظامه بسبب الثورة الارترية بالدرجة الاولى وبسبب الجبهة الاثيوبية التى ضمت قوى ناضلت من اجل حقوق القوميات المحرومة ومن اجل بناء اثيوبيا الجديدة.

جاء النظام الحالى وبدأ يطبق ما تم اعلانه فى برنامجه وكانت اول خطوة هى الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الارترى والقبول بالاستفتاء الذى جرى عام 1993 ثم الاعتراف بالدولة الارترية المستقلة.

وبدأ النظام الجديد فى بناء الدولة الاثيوبية المركزية من جهة  وانتشال الاقاليم المهمشة والارتفاع بها الى مستوى يسمح لها بالاسهام فى بناء الدولة الجديدة.

لهذا راينا مثلا ان اقليم(تقراى ) قد بدأ نهضة عمرانية وتنموية كبيرة جعلته مركز جذب للاستثمارات والعمالة.

هذا الامر من منظار اخر كان سببا فى توجيه التهمة الى ابناء تقراى فى الحكم المركزى باعطاء اولوية لاقليمهم وبممارسة (استعلاء) من نوع جديد على الاخرين ! ولكن الدستور الاثيوبى الجديد يعطى الحكم الاقليمى – اللامركزى – لكل قومية وكان نصيب القوميات الاخرى مماثلا  ولكن خصوصية كل اقليم تحدد مدى الاستفادة من الحق الدستورى.

هناك قضايا عالقة لم يتم حسمها – داخليا وخارجيا.

داخليا : 1/ جزء من موروثات الحقب الماضية والتى لم تجد الوقت الكافى لمناقشتها ولا   الجهد المطلوب لمعالجتها.

2/ والجزء الاخر هو نتاج لتطبيق الديموقراطية فى مرحلتها الجنينية , الخاسرون فى الانتخابات يرفضون النتائج بحجة التزوير والتلاعب واخرون يرون ان لعبة الديموقراطية تمارس بطريقة لا تمكنهم من الاحتفاظ  بمواقعهم ومكاسبهم السابقة.

3/ الصراع الاقليمى وما يؤدى اليه من تدخلات خارجية تهدد الاستقرار الداخلى – والانفجارات واعمال العنف التى تقع بين حين واخر دليل على ذلك.

خارجيا : المشكلة الاولى هى مع ارتريا – ظاهرها ترسيم الحدود وتطبيق قرارات المحكمة الدولية ولكن جوهرها اعمق من ذلك بكثير. طبيعة النظامين  وموروثات العلاقة فى مرحلة التحرير بل وما تم اختزانه فى الذاكرة الجمعية من حقب تاريخية سابقة هو ما يجعل ذلك الخلاف ياخذ طابعا شاملا – بمعنى انه يصبح بين شعبيين ومركز استقطاب لصراع اقليمى.

النظام الاثيوبى يمر بمرحلة انتقالية هامة ستحدد الى درجة بعيدة مستقبل التعايش بين قوميات اثيوبيا المتعددة وطبيعة علاقة الدولة الاثيوبية مع جيرانها .

وحدة الرؤية المركزية مع اختلاف الخصوصية واعطاء هامش لها هى البوصلة التى يجب ان توجه حركة النظام وتنظم علاقته مع مكونات المجتمع الاثيوبى .

اللقاء المركزى والتفرد الاقليمى مع تثبيت النهج الديموقراطى كاسلوب للتعايش واداة لتداول السلطة.

اثيوبيا تضم كنزا بشريا ( سبعين مليونا) متعدد الثقافات والاعراق والديانات وتتمتع بطبيعة جذابة وغنية وثروات تحت الارض وفوقها بحاجة الى استقرار وسلام وتنمية.

وبدلا من الاحتراب التاريخى الذى طبع علاقتها مع السودان فى القرون الماضية بدأت الان مرحلة التعاون الاقتصادى والتكامل بين البلدين الامر الذى يبشر بمستقبل جديد لشعوب المنطقة.

ومن المخاطر الاخرى التى تواجه النظام الجديد – دور امريكا والدول الغربية, خلال المراحل التاريخية المتعاقبة كان الغرب يرى فى  اثيوبيا جزيرة مسيحية محاطة ببحر اسلامى – لذا كان يقف معها فى اى صراع اقليمى ويوكل الها دورا تلعبه فى المنطقة لمنع بروز تيارات معادية للغرب وسياسته ( الصومال – السودان – ارتريا )

ذلك هو الاختبار بين ان يكون النظام راس حربة لاطماع خارجية ومشاريع لا تصب فى مصلحة شعوب المنطقة بما فيها اثيوبيا وبين ان تصبح اثيوبيا جزءا من منظومة سياسية

واقتصادية لدول المنطقة تتعايش فيها شعوبها بسلام وتعاون  .

الحلقة القادمة : الصومال

=================

الحلقة (4)

الصومال 

 

ربما كان الصومال البلد الافريقى الوحيد الذى  يتمتع بتجانس ثقافى (لغة واحدة ) وعقيدة  واحدة (الاسلام) وحتى الخلفية الاثنية مشتركة .

ورغم ذلك كله وقع فى شراك العلاقات الاجتماعية  الضيقة (القبلية) وكانت سياسة الاستعلاء والتهميش هى التى اعطت تلك التركيبة الاجتماعية بعدا أخطر مما تمثله وحجما اكبر مما تستحقه .

وفى محاولة لرفض ذلك الاستعلاء وتحقيق ( الاستقلالية ) افترق ابناء الوطن الواحد ودخلت البلاد فى شتات وتمزق واحتراب اصبح موضع تعجب ورثاء من المراقبين ولكن ومهما كان دور القيادات الحزبية او امراء الحرب او زعماء العشائر فان هناك لاعبا اساسيا وراء كل ذلك : الاستعمار الاجنبى .

عندما حصل الصومال على استقلاله عام 1960 كان هناك شمال وجنوب والادارة فى كل اقليم مختلفة :بريطانيا ايطاليا.

كان الجزء المستعمر من قبل ايطاليا اكثر تطورا ثقافيا (انتشار التعليم) واقتصاديا  مع وجود ثروة حيوانية كبيرة . وكانت هناك عملتان ومنهجان فى ادارة البلاد.

على الجانب الاخر كانت بريطانيا تدير المنطقة باعتبارها (محمية ) وكان وجودها عابرا وغير قائم على الاستمرارية.

وفى الاستفتاء الذى جرى حول الاستقلال رفض الشمال النتائج وقبل الجنوب لانه كان اكثر استعدادا لتولى شئون الدولة الجديدة .

ويقول بعض المراقبين : ربما كان من الافضل والاكثر واقعية تكوين دولتين (شمال وجنوب) بدلا عن دولة واحدة – خاصة وان الخلافات الداخلية والفوارق الاجتماعية والاقتصادية لم تتم معالجتها .

ثم انه كانت توجد قضايا اخرى تتعلق بالوطن (الام ) لم يتم الاتفاق عليها عشية الاستقلال(اوجادين والحدود الكينية )وقد بدأ الصومال تجربته الديموقراطية  ولكنها كانت تجربه بدائية مغلفة بعباءة القبلية والتى اصبحت تمارس بصورة علنية.

كانت القيادات السياسية تعبيرا عن مكانة ونفوذ العشائر اكثر منها قيادات حزبية تجمع كل الوان الطيف الاجتماعى .

وبعد تعثر وصراعات داخلية – حدث انقلاب الجيش عام 1969 (سياد برى ) وكان اول شعار له : الغاء القبلية ! وسرعان ما اصبح النظام الجديد طرفا فى الحرب الباردة وانحاز الى جانب الاتحاد السوفيتى .

برزت صورة (الرفيق سياد برى ) فى الساحات العامة  فى المدن الصومالية  والى جانبه لينين وماركس !!

ثم اصدر الزعيم الماركسى الجديد كتابه الازرق والابيض يفلسف فيه لامكانية الجمع بين الاسلام والماركسية (ومافيش حد احسن من حد ) .

فى عام 1976 تم انشاء الحزب الاشتراكى الثورى الصومالى (دولة الحزب الواحد ).

نفس التركيبة القبلية لبست عباءة الماركسية وفى عام 1977-78 هزم النظام فى حربه ضد اثيوبيا – وتبع ذلك لجوء وانهيار اقتصادى وتوتر سياسى ( اعتقالات – اعدامات ) وبالتدريج برزت مرحلة دكتاتورية الفرد (سياد برى ).

 ثم بدأ النظام يكشف عن وجهه القبيح – اقصاء وتهميش القبائل الاخرى والتحالف مع الاقوياء لضمان استقرار الحكم .

عشرة من اعضاء مجلس الثورة كانو من قبيلة (داروت) من اصل عشرين عضوا.

قبائل مثل (دجل ورحنا واين ) ثم تهميشها وشيئا فشيئا وصل ذلك الاقصاء الى قبائل اخرى فحدثت محاولة انقلابية عام 1978 بقيادة قبيلة (ماجرتين ) وفشل الانقلاب وتم اعدام سبعة عشر قائد وهروب البقية.

ودخل النظام فى مرحلة التخبط والهروب الى الامام – قام بتعديل الدستور حيث جعل مدة الرئاسة سبعة اعوام – ثم بدأ بمغازلة امريكا حيث قام النظام بتأجير ميناء(بربرة) للبحرية الامريكية ووعدت امريكا بتقديم المساعدات ولكن بشروط : التخلىعن المطالبة بحقوق فى اثيوبيا وكينيا واطلاق الحريات.

 ولكن النظام فى محاولة  للهروب للامام وقع فى فضيحة الاتصال بالنظام العنصرى فى جنوب افريقيا حيث قام (بوتا ) رئيس وزراء النظام  العنصرى بزيارة سرية الى (مقاديشوا) لعقد صفقة تسمح للطيران الافريقى باستخدام ارض الصومال .

وبدأ نظام (سياد برى ) باعلان الحرب على معارضيه – قبيلة (اسحاق ) فى الشمال ثم قصف المدن ( هرجيسا – بوراو- بربرة ) ما ادى الى تشريد اكثر من نصف مليون عام 1981 .

كذلك طالت الحملة (الماجرتين ) ثم جاء الدور على قبيلة (الهوية ) وهى فى حجم (الاسحاق ) وتأتى فى الدرجة الثانية بعد (الداروت ) قبيلة (سياد برى ).

·        عام 1990- اثناء مباراة فى كرة القدم تظاهر الجمهور ضد النظام وفتح الحرس الخاص للرئيس النار وقتل المئات .

·        عام 1991 انفصل الشمال (صومالى لاند) وبدأت الحرب الاهلية , بدأ بعد ذلك التدخل الخارجى – الامم المتحدة – امريكا – شركات البترول : CONOCO _ AMCO_ CHEVRON_PHILIPS

·        سقوط نظام سياد برى عام 1992 – وانسحاب امريكا وقوات الامم المتحدة بعد مقتل عشرات الجنود الامريكين والباكستانيين ومن يومها دخل الصومال طريق التيه والفوضى والحرب الاهلية .

ثم بدأت الانشطارات الاميبية والتمحور القبلى الاقليمى :

عام 1998  دولة (بونت لاند) فى الشمال ثم (جوبا لاند) ثم دولة (جنوب غرب الصومال ! فشلت الدولة المركزية وتلاشت او تراجعت فكرة الوطن الواحد والنتيجة :

1/ كيان فى الشمال (لا يعترف به احد ) ولكنه اكثر المناطق استقرار وامنا

2/ سيطرة الحركة الاسلامية (المحاكم الشرعية فى العاصمة مقاديشو- وهى اكثر توترا ولا يعرف مصيرها والتدخل الدولى والاقليمى فيها لا يتوقف .

3/ منطقة (بيداوا) حيث الحكومة المؤقتة والبرلمان – وهى توليفة ثم الاتفاق عليها فى كينيا بدعم عربى ومباركة غربية .

عاد الصومال الى المربع الاول (قبل الاستقلال ) مع الفارق : ان ما حدث خلال العقود الثلاث الماضية ترك شروخا اجتماعية وحواجز نفسية يصعب تجاوزها دون اجراء عملية جراحية فى جسد تقطعت اوصاله وتباعدت افكاره وغابت الرؤية الموحدة لاطرافه .

هناك من لا يريد للصومال ان يتعافى ويتجاوز محنته , وهناك من يعمل على ان تظل الاوضاع كما هى حتى يتسنى له دعم هذا الطرف او ذاك .

وهناك لاعبون كبار – واخرون صغار (وكلاء للكبار ) والجميع لا يريدون صومالا موحدا مستقرا.

المشكلة فى الصومال بدأت حين فشلت الهوية الجامعة للوطن فى ان تكون بديلا لما كان سائدا .

فكلما كان (المركز) جاذبا وموحدا كلما ازداد الانتماء الجامع وكلما كان (طاردا) تراجع الانتماء وتمحور حول عوامل المنشأ (الاسرة – العشيرة الخ .. ) ومهما اتسعت دائرة الانتماء او ضاقت فان استمرار (الهوية ) فى كل المراحل والدرجات وثباتها يتوقف على مسألة اساسية : الحرية – العدالة – المساواة .

انتهاء تلك الهوية الجامعة (الوطن ) اعطى الانتماء الاخر فى مختلف درجاته واشكاله بعدا جديد ومساحة قد تبدو صغيرة (جغرافيا ) ولكنها تتسع بقدر ما تحمل كل مجموعة من طموحات وتبحث لها عن مكان تحت الشمس .

البداية يجب ان تكون من اهل الصومال انفسهم (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم)

اما المؤمرات الخارجية والتدخل الاقليمى والدولى فذلك لن يتوقف ولكنه يكون اكثر تأثيرا اذا ضعف اهل الشأن وغابت عنهم الحكمة وفقدوا القدرة على رؤية الصورة الكبرى .

بلاد الغرب – خاصة امريكا – وضعت البلدان المعادية بعضها تحت مسمى (محور الشر ) – كوريا الشمالية وايران ) والبعض الاخر صنفتها كدول (متمردة ) – فنزويلا – بوليفيا الخ ولم تجد وصف للصومال فقا لت عنه :الدولة الفاشلة (failed ) بمعنى انه لا توجد دولة حتى يمكن وصفها !

ومن المؤكد ان الكيانات التى برزت فى مختلف بقاع الصومال لا تشكل بديلا ولا تتمتع بمواصفات وشروط بناء الدولة .

خمسة عشرة عاما مضت على غيا ب الدولة فى الصومال – فالى متى ينتظر الصوماليون وماذا تبقى حتى يحرقونه او يقطعونه ؟الى متى هذا الادمان فى تعذيب الذات وتغييب العقل ؟

لقد نشأ فى الصومال خلال العقد الماضى جيل كامل لا يعرف  غير القتال والدفاع عن القبيلة , اصبحت فكرة (الوطن ) عنده مسألة غيبية وصورة الدولة الواحدة اداة للقمع والاقصاء والتهميش

الصوماليون بحاجة الى البحث عن الذات وتحديد الاولويات والاتفاق على نقاط  اللقاء واخضاع القضايا الخلافية لمزيد من الحوار والفهم المشترك . كل ذلك يجب ان يرتكز الى الاعتراف بالاخر والتسليم بحقوق الجميع فى العدالة والمساواة وخلق بيئة صحية يتنفس فيه الجميع نسائم الحرية ويعيشون حياة امنة ومستقرة .

                                                        

الحلقة القادمة: ارتريا 

===============

الحلقة (5)

                                  ارتريا :      هذه بلاد وضعتها الاقدار فى مواجهة تحديات بدت فى مراحل مختلفة اكبر من قدراتها ومواردها وطاقاتها. اصبحت ساحة لتصادم وصراع ارادات اقليمية ودولية ولكن العامل الحاسم كان دائما ارادة اصحاب الارض.

كان موقع ارتريا الجغرافى ( على البحر الاحمر ) هو محور صراع القوى الخارجية .

وكانت البلاد عبارة عن امارات صغيرة وضعيفة يغلب عليها طابع الاحتراب فيما بينها حينا ومع العدو الخارجى فى اكثر الاوقات.

بدءا بالبطالسة وانتهاءا بالرومان كانت الغزوات تأتى من وراء البحر.

جاء البرتقاليون والاتراك والمصريون – ومن الغرب عبر اليابسة دولة الفونج السودانية ثم جيوش المهدية.

وخلال تلك الفترات كانت (اثيوبيا ) تقفز مرة تلوا الاخرى وتحاول ان تجد لها موطىء قدم او معبرا عبر البحر.

ورغم ذلك كله لم يستطع اى غزو اجنبى ان يغير من الواقع الاجتماعى والثقافى ذلك لانه – الغزو- كان اولا فوقيا, وثانيا كان مؤقتا وعابرا وثالثا وهذا هو الاهم – كان يواجه مقاومة مستمرة تجعل استقراره صعبا واستمراره مستحيلا.

حتى جاء الاحتلال الايطالى وظهرت مستعمرة ارتريا عام 1890 بحدودها الجغرافية الحالية.

ومرة اخرى شاءت الاقدار ان تجعل من ارتريا ساحة للمواجهة والصراع بين ارادات الدول الغربية- انهزمت ايطاليا فى الحرب العالمية الثانية وبرزت امريكا كقائدة لدول الغرب الاستعمارية وساعدت حليفتها اثيوبيا على ضم ارتريا اليها رغم قرارات الامم المتحدة وضد ارادات ورغبات ابناء البلاد.

ودخلت البلاد فى حرب مريرة وطويلة ضد الاحتلال الاثيوبى حتى حقق الشعب الارترى استقلاله واعلن دولته عام 1993 .

انبهر العالم وصفق لهذا الشعب قليل العدد ومحدود الامكانيات والذى استطاع ان يهزم اكبر امبراطورية افريقية معاصرة .

وهنا ايضا حددت الاقدار دورا لهذه الدولة الوليدة- فهى اولا تتوسط دولتين جارتين كبيرتين (اثيوبيا والسودان) كان بينهما عبر التاريخ ما كان من تنافس وصراع وشكوك حول النوايا.

وهى ثانيا بحكم صغر حجمها وقلة سكانها لا يمكن ان تكون طرفا فى اى صراع ينشأ فى المنطقة ومصالحها تفرض عليها سلوك طريق يحفظ لها امنها واستقرارها .

وهى ثالثا وبحكم الارتباط والعلائق الاجتماعية والثقافية مع كل من اثيوبيا والسودان تستطيع ان تكون جسرا للتواصل وان تصبح (واحة) لشعوب المنطقة خاصة اذا اتبعت نهجا ديموقراطيا وقدمت نموذجا للتعايش والتعاون بين شعوب المنطقة .

ذلك ما حددت الاقدار للدولة الوليدة – ولكن ذلك يتطلب ارادة محلية تواجه ذلك التحدى وحكمة تستوعب متطلبات المواجهة وعقلا مفتوحا يتعامل مع المستجدات بافق واسع ونظرة ثاقبة تتجه الى المستقبل ولا تتجمد عند موروثات تخطتها الاحداث.

لو عدنا قليلا الى الوراء لبحث ما ترسب فى الذاكرة الجمعية لابناء المرتفعات الارترية من المسيحيين لوجدنا ما يلى :

1/ مسالة الاستعلاء – كانت بمضامينها الاجتماعة والثقافية تمارس ضد ابناء (تقراى ) والحال ان المجموعتين تنتميان الى دين واحد وتتحدثان لغة واحدة (تقرنية ) وتجمع بينهما صلات التزاوج والترابط الاجتماعى – خاصة بين اقليمى (سراى ) و(اكلى قزاى ) من جهة واقليم تقراى من جهة ثانية , ثم فى مرحلة الثورة جمع بينهم الهم المشترك وهو الخلاص من الهيمنة الاثيوبية واستعلاء قومية (الامهرا ) بمعنى آخر فان ذلك الاستعلاء لا اساس موضوعى له ولا يستند الى فوارق اثنية اودينية او ثقافية.

كلما فى الامر ان الذاكرة الجمعية لابناء المرتفعات الارترية احتفظت بتلك الرواسب التى حجبتها الاحداث اللاحقة.

2/ خلال مرحلة الثورة – كان التعامل اليومى مع اجهزة الامن والادارات السودانية يثير مشاعر فى نفوس المناضلين الارتريين تتراوح بين الاستياء والغضب ولا تخلو من ( حقد ) ترسب فى الذاكرة الخلفية .

وبالرقم من ان تلك المشاعر كانت عامة لدى المناضلين الارتريين الا انها اخذت لدى الجانب المسيحى منحى آخر تمثل فى انتظار يوم قريب للانتقام ! ذلك هو الفارق الثقافى والاجتماعى بين رد الفعل لدى الجانب الاسلامى والاخر لدى الجانب المسيحى.

  وما زاد الامر سوءا هو ان الجبهة الشعبية انطلاقا من تلك الخلفية وبحكم تكوينها السياسى ومحاولة الظهور على المسرح بحجم لا يتناسب وقدراتها جعلت من ذلك الموروث عنصرا ثابتا فى سياستها الخارجية تجاه السودان .

لذا لم يكن غريبا ما حدث بعد استقلال ارتريا – حين بدأت وفود المعارضة السودانية تهرب من الخرطوم الى (اسمرة ) والتقت بمسئول ارترى كبير قال لهم : ستقيمون فى معسكر مثل (ودشريفى ) فى شرق السودان !!

ذلك الموقف وتلك المشاعر تنسحب على اليمن ايضا .

ماذا حدث بعد الاستقلال ؟ كانت الاقدار قد حددت دورا ومكانة للدولة الجديدة ولكن ارادة الحكام الجدد بدلت تلك الاهداف ووضعت  امامها اهدافا مختلفة بعضها ترجمة لما اختزنته ذاكرتها والبعض الاخر ما خيل لها بانه دور تستطيع القيام به فى منطقة لها حسابات معقدة وعلاقات متداخلة وتتطلب قدرات وموارد لا تتوفر لجميع اللاعبين.

تلك هى بالتحديد مأساة بطل رواية (دون كيشوت ) كان شجاعا ويريد مواجهة التحدى – ولكنه ادار ظهره للواقع واختلق خصما وهميا افترض بان مهمته هى القضاء عليه (طواحين الهواء) ! وعندما تصل المأساة الى مستوى الدولة ويصبح كل جهدها ووقتها مكرس لمعارك انصرافية وتسير  خطواتها فى دائرة حلزونية لا نهاية لها – عندئذ فان تطبيق معايير ومواصفات الدول على تلك الدولة يكون خارج المنطق ولا يقبله عقل سوى.

اصبحت ارتريا دولة لها عضويتها فى الامم المتحدة والاتحاد الافريقى , ولكن معايير الدولة ومواصافاتها تلاشت او كادت فى الداخل.

·       دولة بلا دستور (حتى لو كان سيئا )

·       دولة تمارس الاقصاء والتهميش ضد فئة (فئات) من شعبها.

·       دولة تمارس الاعتقال والاغتيال والتعذيب ضد كل من يعارضها

·       دولة الحزب الواحد – لا حريات وتحتل الموقع الاخير فى قائمة الدول الاكثر فقرا والاكثر انتهاكا لحقوق الانسان.

·       لا وجود لقضاء مستقل ولا برلمان منتخب ورئيس الدولة لم يتم انتخابه منذ اعلان استقلال البلاد وما زال على راس السلطة ! كيف ؟لماذا؟ وما هى الدكتاتورية اذا لم تكن تلك هى الدكتاتورية.

الحزب الحاكم فشل فى بناء دولة وبدلا عن ذلك قام بانشاء شركة استثمارية  كل مفاصل التنظيم وقواه وموارده مسخره وموجهة فى هذا المجال :

1/ تقسيم وبيع الاراضى

 2/ بناء وبيع العقارات  

     3/  تخزين وتهريب البضائع عبر الحدود وجباية الضرائب وفرض الرسوم .

ولكن ولان العمل التجارى لا حدود له – نرى قادة النظام يمارسون تجارة اخرى – تجارة السلاح – سواء كان الى دارفور او الصومال حتى لو كان لجهات لا تتفق معهم فى رؤيتها واهدافها (اتحاد المحاكم الشرعية فى الصومال )!

كل الضغوط التى تمارس على السودان فى الحدود الشرقية والمطالبة بضرورة وجود ارتريا كوسيط بين الحكومة السودانية ومنظمات المعارضة فى شرق السودان تهدف الى فتح الحدود وتطبيع العلاقة ليس لمصلحة الشعب الارترى الذى تضرر كثيرا من ذلك الاجراء (قفل الحدود) ولكن لاستئناف سير قوافل التهريب واتاحة الفرصة للشركة الاستثمارية لمضاعفة ارباحها.

بعض قادة افريقيا يعتقدون ان لهم رسالة خارج حدودهم ويتجاهلون رسالتهم الاساسية داخل بلادهم.

(اسياس افورقى ) هو احد هؤلاء – وبعد التحرير حاول استثمار ذلك الانجاز والمناخ الاقليمى والعالمى الذى كان ينظر الى ارتريا باعجاب وتقدير ليقدم نفسه كقائد افريقى لا ينافس.

نظر الى القادة من حوله كاشخاص بمعزل عن من يمثلون – وقال فى نفسه : من هؤلاء الاقزام ؟ تجاهل حجم  ودور وقدرات الدول المجاورة (اثيوبيا والسودان ) بل ان بعض مريديه والمعجبين قاموا بترشيحه لجائزة عالمية كمنافس للزعيم الافريقى ( نيلسون مانديلا) !

تلك الظاهرة شاهدناها بعد رحيل الزعيم جمال عبد الناصر حيث تقدم العقيد (معمر القذافى) الصفوف واعلن بانه وريث عبد الناصر وسيكون امين القومية العربية الجديد !

ما جهله القذافى هو ان مكانة عبد الناصر كانت من مكانة مصر – حضارة وتاريخا – وجغرافيا – سكانا وتحديات اقليمة ودولية. اذا استطاع القائد ان يرتفع الى مستوى ما تمثله بلاده وتحرك فى دائرة تحفظ له ولبلاده مكانة طبيعية – فذلك هو التوجه الصحيح والمعادلة المطلوبة.

واذا حاول القائد ان يلعب دورا اكبر مما هو ممكن ومتاح بحكم قدرات ومصالح البلاد سيصبح مثل لاعب السيرك قد يبهر المشاهدين لساعات ثم ينتهى دوره بانتهاء العرض.

وبالمقابل اذا عجز القائد عن الارتفاع الى مستوى ومكانة بلاده ودورها اصبح قزما لا يستحق الاستمرار فى موقعه.

ارتريا بلد غنى برجاله ونسائه وتجربته – ولكن قيادته  ضلت الطريق وغيرت الاهداف وخلطت الاوراق والنتيجة هى ما نرى – تبنى مظالم ومطالب الاخرين خارج الحدود وتهميش واقصاء الشركاء والمواطنيين بصفة عامة فى الداخل.

ومن هنا فان اصلاح الاعوجاج واعادة السفينة الى اتجاهها الصحيح ومجراها الطبيعى لا يمثل مسالة مستحيلة خاصة وان الانحراف تم على يد قلة معزولة عن محيطها الخارجى ومرفوضة من القاعدة الشعبية فى الداخل والخارج.

 =========================

الحلقة الاخيرة   

المنطقة مقبلة على متغيرات كبيرة وهامة الحسابات تم وضعها والادوات تم تحديدها والخارطة السياسية تم رسمها.

والبداية من الصومال بسبب الوضع الطارىء والتطورات التى فاجأت الجميع.

1/ الصومال – ليس بسبب ثروات نفطية او كنوز تحت الارض – ولكن بسبب ان الصومال هو بحكم موقعه الجغرافى (بوابة) تفتح على المحيط الهندى والخليج العربى وما يستتبع ذلك من جذب للقوى الاصولية الاسلامية.

وربما ان القلق لا ينبع من حرص على الصومال كبلد وشعب فالصومال فى نهاية الامر بلد اسلامى فى مجمله , ولكن الخوف هو ان يكون قاعدة انطلاق نحو دول الجوار وهى- تلك الدول- تحمل بذور الصحوة والاستعداد للتمرد خاصة الاورومو فى اثيوبيا.

المخطط هو دعم الحكومة الصومالية المؤقتة فى (بيدوا) وفرض الامن والاستقرار من خلال قوة خارجية اقليمية ودولية.

اما اتحاد المحاكم الشرعية فيمكن استيعابه فى عملية التشكيل ومنحه هامشا فى المساهمة فى ادارة الشئون الدينية وهو ما يقع تحت مصطلح الاصلاح الادارى ومحاربة الفساد – وذلك كله يتعارض مع المخطط الغربى.

ثم ان التركيبة الاجتماعية لاتحاد المحاكم الشرعية تضمن مشاركة قوى اجتماعية اضافية لها وزنها وهذا هو الاساس فى المعادلة الصومالية.

2/ اثيوبيا – هى حليف امريكا والغرب – ويقلقه كثيرا بروز وتوسع التيار الاسلامى – لذا فهى تؤيد الحكومة المؤقتة وستكون عنصرا فاعلا فى تنفيذ ذلك المخطط .

والغرب حريص على استمرار النظام الاثيوبى الحالى.

3/ السودان – الغرب لا يريد السودان بلدا مستقرا يتمتع بحكم مركزى قوى خاصة بعد اكتشاف الثروة النفطية الهائلة ووجود مصادر اخرى (زراعة- معادن  الخ … )

لذا فهو يحاول ان يكون شريكا فى حل المشاكل الداخلية الجنوب والغرب ولكن من خلال استخدام (حصان طراودة) يضمن وجودا دائما (القوات الدولية) الى حين انتهاء فترة السنوات الست الانتقالية لاتفاقية الجنوب وخلال تلك الفترة يتم اعداد قوى جديدة تتولى الحكم تضمن للغرب الولاء والتبعية.

وربما من هذا الفهم بادرت الحكومة السودانية الى اعطاء ملف الشرق لارتريا وهى تعرف ماهو ومن هو النظام الارترى – ولكن الهدف هو ابعاد امريكا عن ذلك الملف ومواجته فى الجبهات الاخرى.

4/ ارتريا – تبقى ارتريا – البلد المنغلق على نفسه والمغلق على اى تفاعل او تعامل مع ما يخطط للمنطقة.

الغرب يعتبر النظام الارترى نظاما (مارقا )  يعرقل حساباته ويتسبب فى خلق توتر فى المنطقة لا يريده الغرب.

كمية السهام ونوعيتها التى ستوجه الى النظام الارترى تتوقف على مدى تجاوبه مع حسابات الغرب ومدى تفاهمه مع اثيوبيا والاهم من ذلك كله قدرته على تغير نهجه وحل مشاكله مع المعارضة الارترية.

تلك هى حسابات الغرب – خاصة امريكا – ولكن ما هى ارادة شعوب المنطقة – وما هى خياراتها وكيف تضع اولوياتها وترسم سياستها التى تحفظ مصالحها واستقلاليتها واستقراراها؟؟    

المتفائلون كثيرون – دافعهم الى ذلك الموارد البشرية والثروات  الهائلة للمنطقة.

المتشائمون كذلك كثيرون واسبابهم فى ذلك التجارب المريرة  فى الماضى  والواقع الاكثر مرارة فى الحاضر.

ومهما كانت مساحة تلك المشاعر وعمقها فهى تعكس احساسا بان احلام شعوب المنطقة واقعية ويمكن تحقيقها ولكن العقبة هم الابناء الضالون الذين احترفوا اضاعة الفرص وهدر الطاقات فيما لا يعود بالنفع على بلدانهم.

الاحلام والمبادىء التى تقود حركة شعوب المنطقة هى :

1/ تحقيق العدالة والمساواة – بين قوميات وثقافات كل مجموعة فى كل بلد.

مساواة الجميع فى المواطنة حقا وواجبا والمشاركة فى السلطة والثروة.

2/ الحرية – حرية الرأى والتعبير وحق تكوين الاحزاب  وتداول السلطة بالاسلوب الديموقراطى.

3/ دولة سيادة القانون – حماية واحترام الحقوق الاساسية للانسان – حرية الحركة والعمل – حريته فى الدفاع عن نفسه ومنع التعذيب الجسدى والنفسى للمعتقليين.

ذلك يستدعى وجود قضاء مستقل ومنظمات المجتمع المدنى التى تحمى تلك الحقوق.

4/ المحاسبة والرقابة لاجهزة الدولة – والشفافية فى اداء تلك المؤسسات.

ذلك يتطلب وجود هيئة تشريعية منتخبة (برلمان ).

5/ لا بد من بناء مؤسسات للدولة تضمن استقرار واستمرار العلاقة بين المواطن والحكومة بحيث لا تصبح البلاد عرضة لمتغيرات مفاجئة تاتى اما عن طريق انقلابات  عسكرية او نتيجة لطموحات فردية تدفع بعض القادة الى تعديل الدستور او تعطيل قوانين  تسمح لهم الاستمرار فى الحكم.

اذا راجعنا سيرة ومسيرة تلك الرموز التى ابتلى بها القرن الافريقى نجد ان القاسم المشترك الذى يجمع بينها هو حب السلطة والاحتفاظ بها بأى ثمن.

1/ لم يصل اى منهم الى السلطة عن طريق الانتخابات

2/ عمل كل منهم على اقصاء وتصفية خصومه اما سجنا او قتلا.

3/ تقلب المواقف وتغييرها وفق الضرورة – وتبديل التحالف بما يحفظ لهم كرسى السلطة.

4/ الايمان المطلق بالقوة وسيلة لتحقيق اهدافهم ورفض الحوار والاقتناع بعدم جدواه طالما كان الواحد منهم فى موقع القوة.

5/ كل منهم حاول القيام بدور اكبر مما هو مؤهل له او قادر عليه وبما لا يتناسب وحاجات ومصالح البلاد التى يمثلها.  

القرن الافريقى مؤهل ان يلعب دورا قياديا فى افريقيا وان يقدم نموذجا للتعايش بين شعوبه.

المنطقة مليئة بالثروات والموارد الطبيعية ما يجعلها تحقق الاكتفاء الذاتى فى العديد من الحاجات الاساسية.

وفوق ذلك كله فهى كتلة بشرية (اكثر من مائة وثلاثين مليونا ) لها تجاربها واراداتها وطموحاتها اللامحدودة.

صحيح انها الان تمر بمرحلة انتقال ولتحقيق تلك الطموحات لابد من نهضة شاملة ( تنمية – تعليم – صحة – بنية تحتية – تاهيل وتدريب اليد العاملة – مشاريع انمائية – اصلاح ادارى وسياسى ولكن لابد لتلك النهضة من ان تبدأ فى اطار قطرى (فى كل دولة ) ومن ثم تصل الى مرحلة التكامل والتنسيق.

صحيح ان تلك النهضة لن تكون متوازية ولا متساوية ولكنها يجب ان تبدأ وخلال المسيرة على هؤلاء الذين قطعوا الف ميل مد يد العون والمساعدة لمن هم فى المائة ميل الاولى.

ثم ان المجتمع الدولى عليه مسؤلية  توفير المناخ الملائم والدعم الضرورى لانجاح تلك النهضة.

عجبت لامر المنظمة الدولية (الامم المتحدة ) والتى تلح وتضغط لارسال قوات دولية الى (دارفور ) وتتجاهل الصومال البلد الذى يحترق ليس بفعل ابنائه فحسب بل بسبب التدخل الخارجى وتدفق السلاح من عدة اطراف الى الفصائل الصومالية.

عجبت لامر (الاتحاد الافريقى ) الذى يتولى مهمة حفظ السلام والامن فى القارة الافريقية ولا يذكر الصومال الاببيانات مقتضبة وكأن ما يجرى هناك موجود فى امريكا اللاتينية.

ان عدم تحقيق التطور فى بلدان القرن الافريقى  من خلال النهضة الشاملة سيترك جزءا من تلك البلدان متخلفة الامر الذى يدفعها الى ان تكون عبئا اقتصاديا وبؤرة للتوتر قد تعيق ما تم  انجازه  فى البلدان الاخرى.

القرن الافريقى بحاجة الى اكتشاف ذاته وقدراته وتحديد مصادر قوته.

القرن الافريقى ليس بحاجة الى قادة (عمالقة ) فى بنيتهم واقزام فى قدراتهم العقلية. المنطقة بحاجة الى قادة يمتلكون نظرة واسعة وشاملة وعقول تتسع لاستيعاب المستجدات وتشخيص التحديات – وامتلاك الارادة لمواجهتها.

وعندما يكون الامر بيد الشعوب لاختيار قياداتها فان تلك المواصفات ستكون الحد الادنى الذى يجعله الناخب معيارا ومقياسا لاختيار من يقوده.

علاقات الجوار بين دول القرن الافريقى تتسم بعدم الثبات والانتقال من حالة العداء الكامل بل والحرب وقفل الحدود الى التحالف التكتيكى بين هذا النظام او ذاك ضد نظام اخر.

لتكن العلاقات طبيعية بين دول المنطقة ولتكن العلاقات الدبلوماسية قائمة ولتبقى الحدود مفتوحة – وبعد ذلك وقبله فلكل دولة سياستها ومصالحها.

ليكن الحوار وسيلة لحل الخلافات وليكن احترام كل دولة لموقف ورأى الدولة الاخرى سلوكا يوميا لقادة تلك الدول .

ولكن كل ذلك يكون من بعد ان تعمل كل دولة على حل مشاكلها الداخلية وتطبيق الديموقراطية واشاعة الحرية والعدالة بين ابناء الوطن الواحد.

لا يعقل مثلا ان تقوم ارتريا بتبنى مطالب ابناء شرق السودان وتطالب الحكومة السودانية بالجلوس مع المعارضة فى شرق السودان.

فى  الوقت الذى ترفض فيه – اى الحكومة الارترية – الاعتراف بوجود معارضة ارترية !

العا لم كله يعرف ان حكومة  ارتريا هى حكومة الحزب الواحد ولا توجد ديموقراطية ولا حقوق انسان ولا اعتراف بالشراكة  فى السلطة والثروة.

هل يريد النظام الارترى ان يغطى على كل ذلك بتقديم خدماته للحكومة السودانية فى حل مشاكلها ؟ يخطىء كثيرا النظام الارترى اذا صدق نفسه بأن تلك اللعبة يمكن ان تنجح ويخطىء النظام السودانى اكثر اذا حاول التنكر لحقوق الشعب الارترى وعدم الاستماع الى صوت المعارضة الارترية , النظام الارترى الذى يحاول ان يلعب لعبة ( شيلنى اشيلك ) مع النظام السودانى يهاجم نظام الانقاذ فى نفس الاسبوع الذى زار فيه نائب الرئيس السودانى ارتريا- ولكن عن طريق السفير الارترى فى واشنطن والذى اتهم الحكومة السودانية بتدريب حركة الجهاد الاسلامى الارتريه واتهم الجميع بالارتباط بتنظيم القاعدة !! ان النظام الارترى يحاول استجداء عطف وتأييد الولايات المتحدة والغرب عموما ولكنه يعلم انه خسر معركته بسبب تفوق النظام الاثيوبى عليه فى كسب تاييد هؤلاء الحلفاء.

الدرس الذى يجب على الجميع تعلمه هو عدم جعل قضايا الشعوب وحقوقها مادة للمساومة وموضوعا للبيع والشراء من اجل الاحتفاظ بكراسى الحكم .

ان انتشار منظمات الحقوق المدنية ومنابر الراى الحر وامتلاك شعوب المنطقة لرؤية موحدة لمستقبلها وتمسكها بقيم الحرية والعدالة والمساواة كل ذلك يبشر بان المستقبل واعد وان والمنطقة مقبلة على متغيرات اساسية.

قد يستغرق ذلك وقتا وقد يتطلب تضحيات ولكن فى نهاية الامر لا يصح الا الصحيح .

الشعوب قد تتعثر فى خطاها وقد تتعرج مسيرتها ولكنها لن تتوقف تماما واحلامها وطموحاتها تظل دائما فى ذاكرتها.

 

                            دولة الظلم ساعة

                             ودولة الحق الى قيام الساعة

        

 

 

 

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6912

نشرت بواسطة في مايو 15 2006 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010