القوميات وحق تقرير المصير ..إتجاهات الرأي و إشكالية التنظير والتنزيل (1-2)

عبد الله محمود

توطئة:

لعل التطور الأكثر أهمية وخطورة الذي طرأ مؤخراً على  طروحات المعارضة الإريترية بشأن قضية الوحدة الوطنية هو ما ورد في الإعلان الختامي لملتقى الحوار الوطني للتغيير الديمقراطي ،ضمن القرارات ، في فقرتين  تضمنت اولاهما الوحدة الطوعية ،اما الثانية فقد نصت صراحة على حق تقرير المصير للقوميات .

صحيح إن هذا الأمر ليس جديداً على ساحة المعارضة الإريترية  حيث ظل مطروحاً منذ تأسيس التحالف ضمن أجندة التنظيمات القومية ( الكوناما ثم العفر) ، إلا أنه ظل صوتاً  معزولاً  وخافتاً بسبب التفاف جميع القوى السياسية الإريترية والرأي العام الإريتري حول قضية وحدة الأرض والشعب بوصفها أولى الثوابت الوطنية التي تحظى بإجماع الإرتريين.

دواعي انبعاث هذه الطروحات :

شهدت اطروحة حق القوميات في تقرير مصيرها انبعاثاً خلال الفترة الأخيرة وذلك لجملة من الأسباب الداخلية والخارجية :

أولاً :النشاط المحموم الذي انتظم اروقة التنظيمات القومية خلال العام الماضي، منذ أن دخلت فكرة ملتقى الحوار حيز التنفيذ ، من أجل تهيئة المسرح السياسي الإريتري المعارض لقبول هذه الطروحات ،وإحداث الضغط اللازم على التتنظيمات والأفراد ، وقد اتخذ هذا النشاط مسارات عدة وهي :

  • توسيع رقعة التنظيمات القومية بتأسيس لافتات أخرى مثل تنظيمات ( الساهو ، البلين ، النارا) تحت إشرافها المباشر ( ولتصنع على عيني ) .
  • عقد ملتقى القوميات في مقلي بتاريخ 28يونيو 2010م قبل شهر من انعقاد ملتقى الحوار.
  • عقد المؤتمر الثاني لشعب عفر البحر الأحمر بسمارا بتاريخ 26-27 يوليو قبل أيام من انعقاد الملتقى تحت شعار حق تقرير المصير حتى الإنفصال ، وقد خلص المؤتمر إلى قرار مفاده أن نجاح ملتقى الحوار الوطني رهين بالإستجابة إلى مطالب القوميات التي لخصت في حق تقرير المصير حتى الإنفصال .
  • إصدار إعلان أديس أبابا عن عفر البحر الأحمر والذي اشتمل على ذات المطالب وهي حق تقرير مصير القوميات حتى الإنفصال .
  • العمل المنظم لإختراق الذهنية الوحدوية للتنظيمات والأفراد بإشاعة خطاب ترهيبي مفاده إن التركيز على الوحدة الوطنية ورفض حق تقرير المصير يعني المطابقة للنظام في سياساته الإقصائية لجميع المكونات الإجتماعية الإريترية .

ثانياً : تسريب فقرة تقرير المصير للقوميات في البيان الختامي لملتقى الحوار ،على نحو غير مشروع ودون التوافق حولها .

ثالثاً : التطورات التي حدثت في الشأن السوداني منذ نيفاشا  وتصاعد أدبيات حق تقرير المصير والوحدة الطوعية في قضية جنوب السودان ( كنت قد أشرت في مقال سابق إلى عدوى تقرير المصير ) .

رابعاً : تأثير المكان :لا ينكر أحد الوقفة الإثيوبية المشرفة مع حق الشعب الإريتري في أن ينعم بوطن يسع الجميع، ودعمها اللامحدود لتخليص الشعب الإريتري من ربقة النظام القائم وإحلال البديل الديمقراطي ، بيد أن اتخاذ  المعارضة الإرترية أديس أبابا منصة للإنطلاق قطعا له أكلافه الفادحة  خاصة على  صعيد التأثر التلقائي بالنموذج الإثيوبي في إدارة البلاد دون مراعاة لخصوصيات الوضع في إريتريا ومغايرته ، وما التطور الذي برز مؤخراً في طروحات المعارضة إلا إحدى تمظهرات وتمثلات هذا الأمر ، ولو القينا نظرة عجلى  في برامج التنظيمات التي تتمركز في اثيوبيا وهي ( التنظيمات القومية ، الجبهة الديمقراطية الشعبية ( هدقئ ) نجدها تخرج من مشكاة واحدة في التعاطي مع قضايا حقوق القوميات في تقرير مصيرها  بما يشكل خير دليل على تأثير المكان .

إعلان أديس أبابا .. تفاعلات واستجابات

أحدث تسرب فقرة ( حق تقرير المصير للقوميات ) ، على نحو غير مشروع ، إلى الوثيقة الختامية لملتقى الحوار الوطني للتغيير الديمقراطي ، تفاعلات عديدة في الوسط الإريتري ، تتخلص إتجاهاتها فيما يلي :

أ. الإتجاه الرافض للفقرة :

يمثل هذا الإتجاه غالبية التنظيمات السياسية بشقيها الإسلامي والعلماني حيث تنص صراحة على وحدة إريتريا أرضاً وشعباً في برامجها السياسية ، وقد أصدرت  أربعة من التنظيمات الرئيسة في التحالف و المشاركة في الملتقى ، وهي (جبهة الإنقاذ والمؤتمر الإسلامي والحزب الإسلامي وحركة الإصلاح )، مواقف مكتوبة ترفض فيها الفقرة المذكورة، بجانب عدد من المشاركين في الملتقى من بينهم الأستاذ عمر جابر وتتلخص مواقفهم فيما يلي :

  • الفقرة تخالف ما تم إقراره في الملتقى حول قضية الوحدة الوطنية ويجب تصحيحها بالرجوع إلى محضر سكرتارية الملتقى . (جبهة الإنقاذ ) .
  • لم تحظ بالتوافق في جلسات الملتقى و أن إدراجها ضمن القرارات يخالف لائحة الملتقى الداخلية التي نصت على ضرورة التوافق حول القضايا المصيرية ( .المؤتمر الإسلامي ).
  • تفاجأ بها الجميع في النسخة الأخيرة من البيان ولم تكن محل اتفاق بين المشاركين في الملتقى .إنما كانت فقط توصية من أحد المشاركين في الجلسة الختامية يطلب إدراجها في البيان . ( الحزب الإسلامي).
  • الفقرة لم تكن ضمن النسخة التي أجيزت في المنصة وانما الحقت فيما بعد، وهو اجراء يستدعي الوقوف عنده. (حركة الإصلاح)
  • قضية حق تقرير المصير خارج نطاق صلاحيات واختصاصات الملتقيات الجزئية و هذا الحق خاص بالأجهزة التشريعية المنتخبة والمفوضة من قبل الشعب .(المؤتمر الإسلامي )
  • إصرار بعض المكونات على إلزام القوى السياسية بتبني قضاياها الخاصة يثير التساؤلات حول مستقبل الكيان الإريتري أرضاً وشعباً .(المؤتمر الإسلامي)
  • الإرباك والإتباك وصياغات اللحظة الأخير هو سبب ورود الفقرة  ،وأنها لم ترد في الأوراق التي ناقشها الملتقى  ( عمر جابر).

وينضم إلى هذا الإتجاه عدد من التنظيمات غير الأعضاء في التحالف مثل (جبهة الثوابت ، وجبهة التغيير ) بالإضافة إلى حزب الشعب ،المقاطع للملتقى، الذي وصف المطالبة بحق تقرير مصير القوميات بالخاطئة وأن ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة للقوميات لا ينطبق على الحالة الإرترية الحالية وإنما يعني الدول الواقعة تحت سيطرة المستعمر .

ويلاحظ في هذه الإتجاه، الذي ينضوي تحته عدد كبير من الذين يكتبون في المواقع الإلكترونية ،  بشكل عام موضوعيته نسبة لاتساق مواقفه مع وثائقه المنشورة وأراءه المعلنة،وإن كان يعاب عليه حصر مناقشاته في الإجراء الذي تسربت به الفقرة إلى البيان دون مناقشة القضية بشكل كلي.

ب. الإتجاه المؤيد للفقرة :

انحصر الإتجاه المؤيد لفقرة حق تقرير المصير في جبهة القوميات التي اعتبرت الفقرة ،في بيان صادر عنها بتاريخ 6 سبتمبر ، إنجازاً لها واتهمت  الإتجاه الرافض بطمس الحقيقة وقالت أنه ليس لأي جهة الحق في تغيير القرار وأنها سوف تدافع عنها ، وساندها في ذلك عدد من الكتاب ينتمي معظمهم لتنظيم سياسي معين ، ويتبوأ بعضهم مقاعد قيادية في هذا التنظيم ، وشاركوا في الملتقى ضمن حصته ، الغريب في الأمر أن  التنظيم الذي ينضوون تحت سقفه لا تعرف له سابقة في تبني حق تقرير المصير سواء في  وثائقه المنشورة أو طروحاته الشفاهية .

  • المفارقة الأساسية  أن جميع الكتاب الذين هبوا للدفاع عن فقرة حق تقرير المصير لم يعرف لهم جهد سابق في التبشير بهذه المفاهيم أو التنظير لها ، مما يقدح في الذهن  بأن  عملية تغيير الثوابت والقناعات عندهم مثل ( تبديل الملابس ) لا تحتاج إلى كثير جهد وعناء ، ولا أدعو هنا إلى الجمود والتكلس في المواقف بيد أنني أزعم أن المبادئ والثوابت الحاكمة للمرء لا يتأتي تغييرها إلا كنتاج لقراءة معمقة تستوعب الجانب النظري وتعمل على إسقاطه بشكل سليم على الواقع الماثل ، أو كمحصلة لسجال معرفي جاد وجدال علمي معمق  .

ولا ابتغي  القول هنا بأن تبديل القناعات على النحو الذي ذكرنا يدل على هشاشة البنية العلمية وضحالة المخزون المعرفي ، وإنما أعزوه  إلى الكسل الذهني بقبول كل جديد دون إخضاعه إلى المنهج النقدي  بالإضافة إلى الركون إلى المنهج التبريري التسويغي في التعاطي مع القضايا المصيرية التي تستوجب الوقوف المتأني والنظر العميق.

  • يلاحظ أيضاً أن بعض كتابات هذا الإتجاه تنطلق من المغايرة لحزب الشعب وتكرس جهدها ، بحق أو بباطل ، في سد الثغرات التي يمكن أن يتسرب منها حزب الشعب للنيل من الملتقى ،وبغض النظر عن مواقف حزب الشعب وتعنته غير المبرر الذي القى به بعيداً عن مسرح التأثير السياسي في العمل المعارض ولم يوفر له حليفاً او صديقا ،  إلا أن هذا الإتجاه في الكتابة والتفكير يقود صاحبه إلى النهج التسويغي بما يجعل دفوعاته تفتقر للمصداقية والإتساق .
  • بعض كتابات هذا الفريق نحت منحىً هتافياً واستخدمت خطاباً هجائياً يعمد إلى تحقير المخالف وتسفيه رأيه مستخدماً تعبيرات من شاكلة ( عبدة الكيان) في إشارة للمستمسكين بوحدة إريتريا أرضاً وشعباً ، وبعضها عمل على إشاعة مناخ من الإرهاب الفكري وإشهار سلاح التخوين والعمالة  وحاول مصادرة حق التنظيمات في الإعتراض على الفقرة قائلاً إن  ( ظاهرة البيانات التنظيمية التي ترمي الي تحوير وتلفيق وتبرير مقرارت الملتقي ، فهي بمثابة إعلان إعتذار صريح من هذه التنظيمات للنظام . وتؤشر إلى أن النظام هو من يحدد سقف المعارضة لهذه التنظيمات ويضع محدداتها)محجوب محمود : القومية الغيبة والغيبوبة.(مقال).
  • جزء من هذا الفريق سعى لخلق اصطفافات تنظيمية على أساس هذه الفقرة واضعاً التنظيمات (القومية ) والتنظيمات (الفيدرالية)  في جهة والتنظيمات (الوطنية ) والإسلامية ( تارة يسميها بالثيوقراطية) وقال إن الطرف الأخير يتساوى مع النظام  في موقفه من حقوق القوميات ( فسها ناير .. حق تقرير المصير ..النظرية والتطبيق ( مقال باللغة الإنجليزية ).

يمكن وصف الغالب الأعم من الخطاب المؤيد للفقرة بأنه خطاب تبريري يفتقر إلى الحجة مما يجعل دفوعاته لا تقف على سيقان المنطق السليم ولا تصمد أمام النقاش الموضوعي والواعي ، كما أنه تجاوز قضية الإجراء غير المشروع  التي تسربت الفقرة عن طريقه إلى البيان الختامي .

القومية .. إثبات العرش أولاً

قبل أن نلج إلى النقاش التفصيلي لقضية حق تقرير المصير ينتصب أمامنا سؤال محوري مفاده ( هل هنالك قوميات في إريتريا ؟ والإجابة على هذا السؤال تعد المدخل الصحيح لمناقشة حق تقرير المصير إثباتاً للعرش قبل النقش .

وبعيداً عن الخوض في متاهات النظريات الواردة في هذا المجال نستطيع القول إن مفهوم القومية ، شأنه شأن جميع المفاهيم ، ذو طابع  إشكالي ، وهو من المفاهيم الوافدة التي نشأت في بيئة مغايرة محكومة بظروف ومحددات تختلف عن بيئتنا ، وإن ما يقوم البعض من استنبات هذا المفهوم في التربة الإرترية  دون مراعاة  لصلاحيتها لهذا النوع من المفاهيم ومواءمة طقسها الإجتماعي لنموه يعد ضرباً من الشطط الفكري  .

مفهوم القومية .. الأصل و المنشأ

  • نشأ مفهوم القومية في الغرب في القرن الثامن عشر بهدف الإفلات من قبضة الكنيسة وولايتها على الافراد وهو يشير إلى الصراع الذي دار بين السلطتين السياسية الدينية في أوروبا .
  • وبحسب تعريف جويس ماتينزي السياسي القومي الإيطالي عام 1935م أن القومية هي جماعة بشرية واحدة ،ولغة واحدة على أرض وطن واحد ، وأضاف العلماء الألمان وعلى رأسهم هريدر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحدة الثقافة النابعة من وحدة اللغة ووحدة مصادر التأثير الروحي ، وأضاف الماركسيون أسساً أخرى أهمها وحدة التكوين النفسي ووحدة السوق .
  • إذن نحن أمام نظريات متعددة بعضها يركز على وحدة اللغة ( النظرية الألمانية ، والبعض الآخر يركز على وحدة الإرادة ( الرغبة في العيش المشترك ) ( النظرية الفرنسية ) وقد نشأ هذا التباين بسبب الصراع حول إقليم الإلزاس الذي يتحدث قاطنوه اللغة الألمانية ويقع ضمن الحدود الفرنسية . أما النظرية الماركسية وفقا لخلفيتها الفكرية  فترى أن المصالح الإقتصادية هي أقوى الأسس في بناء الأمة أو القومية .

فبحسب ما سبق من إشارات نخلص إلى أن مفهوم القومية تخلّق في الغرب لمعالجة قضايا خاصة به مثل هيمنة الكنيسة ،وتفرع إلى نظريات متعددة وفقاً لظروف المناطق التي نشأ فيها أو الخلفية الفكرية ، فمحاولة إسقاط هذا المفهوم على الواقع الإجتماعي الإريتري يعد تطبيقاً متعسفاً  لنظريات نشأت في مجتمعات حديثة التكوين على بيئة إجتماعية  يعد التنوع الثقافي في أصيل تاريخياً ومتجذر إجتماعياً.

مفهوم القومية والساحة الإريترية :

وبالرجوع إلى تاريخ هذا المفهوم نجد أنه تسرب إلى الساحة الإريترية في مطلع السبعينيات في إطار تجريب  الأحزاب الماركسية في الثورة الإريترية ،مثل حزب العمل ( الذي سيطر حينها على مركز القرار في جبهة التحرير الإريترية) ، والجبهة الشعبية ( حزب الشعب )، لنظرياتها على الواقع الإريتري الذي كان في ذلك الوقت معملاً كبيراً لتجريب الأفكار والمشروعات الوافدة منها على سبيل المثال ( تجربة تقسيم المناطق الجزائرية التي أدت إلى تشرذم الثورة ) .

جبهة التحرير الإريترية خلصت إلى نتيجة مفادها إن التركيبة الإجتماعية لإريتريا لا ينطبق عليها مفهوم القوميات وفقاً للتحليل الماركسي الذي يدفع باشتراطات عدة للقومية وهي( الرقعة الجغرافية ، وسيكولوجية السكان، واللغة المشتركة ، والوضع الإقتصادي والإجتماعي والسوق المشترك ) وخلصت  إلى أن أريتريا تتكون من جماعات لغوية وعرقية ،إلا أنها رأت ضرورة السعي لتطوير المجتمع للوصول إلى مرحلة القوميات بتطوير اللغات والثقافات.

أما  الجبهة الشعبية فقد أسقطت مفهوم القوميات على الواقع الإريتري في إطار المغايرة لجبهة التحرير الإرترية معتمدة اللغة كأساس ، ومن الواضح أن الجبهة الشعبية كانت تستبطن التوجه الطائفي في تطبيقاتها الإجتماعية وتتخذ الماركسية ستاراً تواري به سواءتها، وقد قدمت الحركة الفيدرالية تحليلاً معمقاً لهذه القضية   في ورقة أكاديمية قدمتها في مؤتمرها (منشوره في موقعها الإلكتروني قبيل ) ذكرت فيها أن : ( القوميات هي الأداة النظرية للجبهة الشعبية لتفتيت وحدة الأمة وتماسكها .. وهو مشروع طائفي يهدف لضرب ما وحد المجموعات العرقية واللغوية التي عاشت مع بعضها وتشاركت في القيم الإجتماعية والسياسية) وأن ( العديد من المجموعات لا ينطبق عليها التعريف وصفت بالقوميات وتمت دغدغة عواطفها القبلية وتضخيم التباين فيما بينها والتي استغلت في تحقيق أهداف خبيثة تدعو للفرقة والإنقسام ).

ولا نحتاج لكثير جهد للتبصر في حقيقة مقاصد ومرامي الجبهة الشعبية في التقسيم القومي حيث عملت من خلاله على توحيد النسيج المجتمعي المسيحي ( التجرنة ) بعد أن كان ولاءه وشعوره مقسماً على الأقاليم الجغرافية ( حماسين،اكلي قوزاي، سراي) ، وبالمقابل  فإنها عمدت إلى تفكيك النسيج المسلم  إلى ثماني قوميات وهي (التجري ،العفر،الساهو ، البلين ، الكوناما ، النارا ،الرشايده ، الحدارب ).

وقد أدى تقسيم القوميات  على أساس اللغة وحده دون مراعاة للمحددات الأخرى مثل (الدين ، العرق ، الرقعة الجغرافية ) لخلق إشكالات مجتمعية وإختلالات داخل معظم هذه المجموعات كادت أن تصل أحياناً إلى حد الإحتراب ولا أريد أن أخوض تفصيلاً في هذه القضايا فجميع أحداثها معروفة وموثقة للجميع .

وبعد أكثر من 15 عاماً على تطبيق نظريته أقر أفورقي – عراب نظرية القوميات في إريتريا –بأن(  شروط القومية لا تنطبق بشكل متكامل في اريتريا إذ ليس هنالك تركيبات إثنية أو قبلية أو عرقية أو تجانس متطابق )  ساقم اكتوبر1990م .إلا أنه مضى قدماً في سياسته لأنها أتت ثمارها المرجوة .

التنوع الإجتماعي في اريتريا ..:

إن المجتمع الإريتري مجتمع تحكمه أربع محددات وهي رابطة الدين ، ورابطة الدم ، والملازمة ( الرقعة الجغرافية ) ، واللغة ، فهو يتكون من ثنائية دينية ( الإسلام والمسيحية ) وثماني أقاليم جغرافية وفقاً للتقسيم الإداري القديم الذي اسقطته الجبهة الشعبية الحاكمة في إريتريا.  والمجتمع الإريتريا ،كغيره من المجتمعات المماثلة له ، مجتمع يتكون من كيانات قبلية حيث تم حصر ( 293 قبيلة مسلمة تقيم في السهول و95 قبيلة  تقيم في الهضبة وتضم مسلمين ومسيحين بالإضافة إلى قلة وثنية ) السيد رجب حراز، “الأمم المتحدة، وثيقة إريتريا 1945 –1953″،  وتتحدث هذه القبائل عشر لغات سامية وحامية وكوشية وهي ( العربية ،التجرنية ، التجري ، الساهو ، العفر ، البلين ، الباريا ، الكوناما، الإيليت )  وتتحالف على شكل تجمعات عريضة لحماية مصالحها .

قطعاً فإن العدد الذي ذكره الكتاب أعلاه لا يتناسب والقبائل الإريترية ،ويمكن أن نعزو ذلك لتضمينهم فروع القبائل وأفخاذها  ، إلا أنها تشكل دلالة واضحة على تعدد  مكونات المجتمع الإريتري وتنوعه القبلي والعرقي واللغوي والديني ، وهنالك العديد من الكتب التي ألفها المسئولين البريطانيين والإيطاليين إبان فترة الاحتلال تتناول التركيب السكاني لإريتريا مثل نايدل وتريفاسكس وغيره إشارت إلى قضية التنوع القبلي  .

ظاهرة التنظيمات القومية :

لم تشهد الساحة الإريترية طيلة فترة الكفاح المسلح وما بعده نشوء تنظيمات ذات توجه قومي أو قبلي رغم تعدد الفصائل وتكاثرها الأميبي ، وقد برزت قضية التنظيمات القومية إلى السطح مع تأسيس التحالف الديمقراطي الإريتري عام 1999م و كانت تنحصر حينها في الحركة الديمقراطية لتحرير كوناما اريتريا ثم تأسست لاحقا المنظمة الديمقراطية لعفر البحر الأحمر .

ويمكن أن نعزو هذه التوجه الجديد في الساحة الإريترية  إلى تأثير المكان ،حيث تأسس التنظيمان في الأراضي الإثيوبية ، وقطعاً كان للإنبهار بالتجربة الإثيوبية المعتمدة على القومية في تجربتها السياسية والتنظيمية تأثيراً بالغاً ، فعمدوا إلى استنساخ التجربة دون مراعاة طبيعة الشعب الإريتري وخصوصياته ،  ولقد تغذى هذا التوجه على الفشل الداخلي للنظام في الإجابة على إعضالات التنوع الإجتماعي بالهيمنة الأحادية على مقاليد السلطة والثروة وإقصاء وتهميش الآخر وفق سياسات مرسومة ومعدة لذلك الغرض .

ومهما قيل في هذا الصدد فإنني أعتقد أن هذه التنظيمات تمثل الذين ينضوون تحت سقفها فقط ، وإن التعامل معها على أساس تمثيلها لمكونات إجتماعية لم تفوضها في الأساس يعد خطأ استراتيجياً ، خاصة وأن أبناء هذه المكونات الإجتماعية لديهم وجود مقدر ضمن التنظيمات الأخرى ويلتزمون ببرامجها السياسية وتوجهاتها الفكرية .

خلاصة القول إن قضايا الحقوق والتقسيم العادل للسلطة والثروة لا تخص مكون دون آخر ، وإن النظام ،الذي يمثل مكون إجتماعي، بعينه يمثل خطراً على الشعب الإريتري بأسره ، وأن الحصول على الحقوق السياسية والإجتماعية والإقتصادية رهين بإسقاط هذا النظام مما يستدعي إصطفاف الجميع لإسقاطه بأعجل ما تيسر. ومن المعلوم أن جميع المكونات الإجتماعية قد عملت معاً في فترة الكفاح المسلح حتى أنجزت مشروع الإستقلال ، وأن التنظيمات القائمة الآن ينضوي تحت سقفها جميع الوان الطيف المجتمعي ، وتتنوع على أساس الطرح السياسي والفكري مما يدل على أن الحواجز بين أبناء هذا الشعب مصطنعة.

وفي اعتقادي إن إنشاء قوالب سياسية تستند على مكونات إجتماعية مثل القبيلة والعشيرة ، سيغذي المخطط الرامي لتمزيق النسيج الوطني والإجتماعي الذي يسعى له النظام الإريتري ،كما أن قضية التجزئة على أساس المكونات الإجتماعية تؤدي إلى  تجزئة وتشظي لا نهائي  إلى المكونات والوحدات الإجتماعية الأصغر . مما يستوجب إجراء حوار هادئ ومعمق مع المعنيين بهذه الظاهرة وصولاً إلى مخرج مناسب من المأزق الراهن .

  • وسنتناول في الحقلة القادمة قضية حق تقرير المصير والوحدة الطوعية

للتواصل :abdu974@hotmail.com

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=9386

نشرت بواسطة في سبتمبر 29 2010 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010