اللغة العربية في ظل نظام الجبهة الشعبية هل تستعيد مكانتها بعد تهميش متعمد ؟

يكابر من يجادل في ما للغة العربية من وجود ثقافي في المجتمع الإرتري، وفي ما تحظى به من تقدير كبير، وولاء وجداني عميق، من أكبر وأوسع شريحة إرترية مفعمة بشعور الانتماء الحضاري، والتاريخي، والديني، إلى محيطها العربي، ومؤمنة كل الإيمان بوحدة المصير المشترك بينها وبين هذا المحيط العربي في تبادل المصالح الأمنية، والاقتصادية، والسياسية، بكل ما فيه من ضعف، وما يعانيه من هزيمة، ليس من أول يوم أشعل فيه الإرتريون المضطهدون فتيل الثورة على نظام الإمبراطور وسياساته الإقطاعية وإنما من قبل ظهور المشكلة الإرترية بوصفها قضية سياسية في الأربعيينيات.

 وما أثار أحد من اللغط والجدل حول شرعية اللغة العربية في إرتريا، وحقها في استغلال وجودها الثقافي والتاريخي، كما أثارته المجموعات الطائفية من قومية التجرنية وشوفينييها في فترة تقرير المصير من أمثال القس ( دي. بطروس ) ثم ـ للأسف ـ في فترة الكفاح المسلح مجموعة (سلف ناطنت) بقيادة المناضل (إسياس أفورقي) الذي سجل في وثيقته الشهيرة ( نحن وأهدافنا ) موقفه السلبي الواضح والمبدئي من العربية والعروبة، حين أبى أن يعترف للغة العربية بشرعية الوجود التاريخي وشرعية الإقرار الدستوري، ضاربا عرض الحائط بالفقرة الدستورية التي تضمنها دستور إرتريا في العهد الفيدرالي، إذ كتب في الوثيقة المذكورة تحت فقرة ( اللغة ) قائلا:( على الرغم من وجود أكثر من تسع لغات يتكلمها الشعب الإرتري فإن اللغتين الرئيسيتين هما (التجرنية والتجري ) ـ وهما من أصل سامي واشتقتا من لغة الجعز ـ أما اللغات الأخرى التي لم تشتق من الجعز فهي البلين، البجا، البازا، الساهو، الدناكل، وبصفة عامة يتحدث سكان المرتفعات التجرنية بينما يتحدث سكان المنخفضات وسواحل البحر الأحمر التجري ).

 ثم مضى الرفيق إسياس مشنعا على العربية والعروبة، متهما قيادة الجبهة بترويج الأكاذيب، وقلب الحقائق فيما تكشف عنه من انتماء إلى العربية والعروبة، حيث قال: ( استعمل زعماء الجبهة الإقطاعيون اللغة العربية لإثبات عروبة إرتريا، فقد أعلنوا أن اللغة العربية هي لغة الشعب الإرتري… إن هذه الأكاذيب قد ضللت كثيرا من الناس الذين لا يعرفون لغات الشعب الإرتري وقد قدمنا شرحا مختصرا عن تلك اللغات في بحثنا هنا ).

 ومع هذا التهميش الصريح للغة العربية في تنظيره هذا  أقر المناضل إسياس أفورقي في وثيقته تلك ببعض الروابط التي تصل الشعب الإرتري بالعروبة، لكنه رفض أن تكون هذه الروابط دليلا على عروبة إرتريا، وكأنه يرى تباينا بين (الهوية الإرترية) و(الهوية العربية) من غير أن يوضح لنا خصائص الهوية الإرترية ومميزاتها عن خصائص الهوية العربية، وفي هذا يقول: (وليس هناك أحد ينكر تلك الحقيقة التاريخية وهي أن الإرتريين مسلمون كانوا ومسيحيون لهم بعض الروابط العرقية مع العرب لكن علينا أن نقر أولا وقبل كل شيء أننا إرتريون ولسنا عربا).

 هكذا تصور المناضل إسياس أفورقي العلاقة بين (الهوية الإرترية) و(الهوية العربية)، إنها علاقة تنافر وتباين، فكوننا ( إرتريون) تعني وتساوي بالضرورة عند المناضل إسياس أفورقي أننا (لسنا عربا).

 وبموجب هذه المعادلة دخل تنظيم (سلف ناطنت) إطار الوحدة التنظيمية مع قوات التحرير الشعبية وكان وفيا لموقفه السلبي من اللغة العربية ومتمسكا به، حيث أثار سؤالا حول اللغة التي سيعتمدها التنظيم في إدارة شؤونه، ووفقا لما ذكره المناضل الأمين محمد سعيد في كتابه (الثورة الإرترية الدفع والتردي ) أن القرار الذي اتخذ بشأن اللغة وقتها جرد اللغة العربية من حقها في الاحتفاظ بنفوذها في إدارة التنظيم، وترك الأمر للغة التي تفرض نفسها، أيا كانت هذه اللغة، وفي هذا يقول لنا الأمين محمد سعيد: ( لايمكن أن تكون مسألة اللغة عائقا أمام توحيد المقاتلين، وإن اللغة المشتركة يمكن أن تظهر من خلال الاحتكاك والممارسة المشتركة في الحياة اليومية، وبالتالي تفرض نفسها بشكل تلقائي في كل المجالات ) (ص 91 )

 على أساس من هذا القرار همشت اللغة العربية في الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، وتفردت التجرنية بإدارة التنظيم، لتكون هي سيدة الموقف في التخاطب السياسي داخل التنظيم، وفي تدوين وثائقه التنظيمية والسياسية حتى كان تحرير إرتريا عام 1991م.

 اللغة العربية بعد الاستقلال

 شاء القدر أن تكون الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بكل ما تحمل من موقف سلبي مهمش للغة العربية هي من يصوب رصاصة الرحمة على المستعمر البغيض، لتنال إرتريا استقلالها الرسمي عام 1993م.

 بهذا عادت إرتريا إلى شعبها الأصيل لتكون لهم وحدهم، ويكونون لها وحدها، وبعودتها عاد الحديث عن (اللغة العربية) ومكانتها بعد أن شاهد الناس تهميشها عمليا، وخلو دستور الجبهة الشعبية المجمد من التنصيص على اللغة الرسمية خلافا للدستور الإرتري السابق، مع تفرد (التجرنية) من الناحية العملية بالملفات الإدارية وتداول الخطاب السياسي، والإستئثار بالحيز الإعلامي الكبير جريا على ذلك القرار الذي حدثنا عنه الأمين، والذي سماه أبو عري لاحقا بـ(فلسفة آلية السوق ).

 عندما سئل الرئيس إسياس أفورقي لماذا لا تكون اللغة العربية جنبا إلى جنب مع التجرنية في إدارة البلاد أجاب سيادته طبقا لما نشرته صحيفة ( إرتريا الحديثة ) العدد الخامس 1995م بقوله:( اللغتان العربية والتجرنية تم استخدامهما في إرتريا إبان الانتداب البريطاني الذي استهدف من وراء ذلك شق المجتمع الإرتري إلى كتلتين … إلى منخفضات ومرتفعات، ومسلمين ومسيحيين، وإلى عرب وتجرنيا ).

 ثم مضى إلى أبعد من ذلك في تطرفه من اللغة العربية والمطالبين بها معيرا إياهم بأزمة هوية، ومؤكدا لهم أن لا مكان لهم في هذا الوطن ما داموا يتنكرون لغاتهم الأصلية، ويستعيرون ـ على حد تعبيره ـ لغة غريبة عليهم ودخيلة فيهم، حيث قال في الصحيفة نفسها: ( من لديه أزمة هوية ويقول: إن هذه اللغة أو تلك اللغة ليست لغتي، وليست لغة شعبي، ولا أرغب في الحديث بها أو سماعها، وأرغب في استعارة لغة أخرى، ويريد أن يكرس ذات المفاهيم التقسيمية التي حاول الإنجليز غرسها فعليه أن يدرك أن لا مكان له في هذا الوطن ).

بهذا يكون الرئيس إسياس أفورقي حسم الأمر في عهد الدولة المستقلة بعد أن مهد له في عهد الثورة المكافحة وفقا لتنظيراته، وطبقا لإرادته وقناعته، وبقوة سلطانه الأمني، ونفوذه السياسي المتفرد بكل شيء، متهما كل من يطالب باللغة العربية لتكون جنبا إلى جنب مع التجرنية بـ(تكريس المفاهيم التقسيمية التي حاول الإنجليز غرسها ) ومؤكدا (أن لا مكان له في هذا الوطن)!!.

 وبهذا الحسم الأمني فرض سياسة التعليم بما عرف بلغة (الأم) وأجبر أولياء الأطفال على الامتثال، وغابت الصحافة العربية عن الظهور، والكتاب العربي عن الدخول، وغاب معهما كل مظاهر الحراك الثقافي من أمسيات شعرية، وحوارت فكرية وثقافية، ومتديات ومعارض تبرز مكانة اللغة العربية وعمقها الثقافي في المجتمع الإرتري، وأضحى كل شيء (تجرنة في تجرنة) ورقص في رقص، باسم إحياء ثقافة القوميات وتطوير لغاتها!!

 لكن هذا الحسم لم يوقف الجدل الدائر حول اللغة العربية حتى الآن حيث بدأ النقاش حول جدوى التعليم بلغة الأم داخل أروقة التنظيم الحاكم وبين كوادره الذين استفز بعضا منهم التهميش الواضح للغة العربية، وفرض التجرنية من الناحية العملية، ففي العدد 105 تاريخ مارس 2001 نشرت جريدة ( النبض ) التي يصدرها اتحاد الشباب الإرتري الموالي للنظام وقائع الندوة التي عقدت في أسمرا تحت عنوان ( لغة الأم ما بين التنظير والخيار ) وفيها كتب أحد المشاركين ردا على مسؤول قسم التعليم وقتها (تسفا مكئيل قرهتو) الذي قال: (هناك رؤية خاطئة في ربط اللغة بالسلطة) يقول فيه كاتبه: ( أنا أقول: لا يوجد أي خطأ في هذه الرؤية، وهو كلام صحيح جدا؛ لأنك لو ذهبت إلى أي مرفق من مرافق الدولة إذا لم تتحدث بالتجرنية لا تجد حتى من يرد عليك).

 الأمين محمد سعيد من جانبه نفي أن تكون التجرنية هي المهيمنة، ففي مقابلة تلفزيونية أجريت معه في أسمرا بمناسبة العيد العاشر للاستقلال قال الأمين عندما سئل عن اللغة: ( لا توجد مشكلة لغة، فاللغات الإرترية متساوية، أما الذين يتحدثون عن وجود مشكلة هم أفراد يعيشون في الخارج، ولهم أغراض سياسية، يريدون أن يقولوا: بأن لغة التجرنية هي المسيطرة، وأن اللغات الأخرى غير موجودة، وهذا الكلام غير صحيح، فاللغات الإرترية: التجري، والعربي، والتجرنية متساوية، وهي بخير ).

 تصدى المناضل الأسير أبو عري لهذا الكلام مكذبا الأمين محمد سعيد حين كتب في موقع عواتي بتاريخ 1/12/ 2001 تحت عنوان ( سيدي هل لي أن أختلف معك ) قائلا: ( أنا هنا لا يساورني أدنى شك بأن هذا الكلام مضر جدا تنظيميا ووطنيا وهو يتنافى والسياسات التي أقرها التنظيم في مؤتمراته، فضلا عن أنه لا يعكس ما هو على الأرض … إن بعض الجماعات اللغوية لا تملك موظفا واحدا في مكاتب الوزارات المركزية، ومن ضمن أهم الأسباب في ذلك هو حاجز اللغة، فاللغة المستخدمة في المكاتب ضمن فلسفة آلية السوق هي لغة قومية واحدة، وهي شرط ضمني للحصول على الوظيفة ).

 كتب أبو عري هذا الرد على السيد الأمين محمد سعيد مكذبا إياه ثم اختفى من على ظهر الأرض ليعيش في حفرها معتقلا بتهم الخيانة والعمالة، وإثارة النزعات القبيلية، وصدق فيه قول الرئيس إسياس أفورقي (فعليه أن يدرك أن لا مكان له في هذا الوطن ) وهكذا أصبح أبو عري بلا مكان في هذا الوطن الذي ناضل من أجله، وأعيق في سبيله، لأنه يريد حسب  قناعة الرئيس (تكريس المفاهيم التقسيمية التي حاول الإنجليز غرسها )!!.

 اللغة العربية في ورقة (بادوري) و(هيجي)

 والآن وفي تطور لافت للأنظار ومفاجئ عقدت وزارة التعليم الاريترية من 9 ولغاية 10 ابريل 2010 ندوة حول أهمية ومكانة ودور اللغة العربية في اريتريا، قدمت خلالها عدد من الأوراق والأبحاث التاريخية وذلك بحضور كبار المسئولين في الدولة، وفي الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، وعدد من الكتاب والمفكرين وممثلين للأقاليم الاريترية الستة.

 ولقد قدم السفير عبده هيجي ورقة بعنوان ( اللغة العربية في اريتريا ماضيا وحاضرا ومستقبلا ) وحسب إفادة موقع القرن الأفريقي المناصر للنظام (كانت الورقة محط نقاش ومداخلات وإشادة من قبل الحضور).

 حشد السفير هيجي ما استطاع حشده من دلائل تبرهن على الوجود الثقافي والتاريخي للغة العربية في إرتريا موثقا ذلك بالعودة إلى المراجع التاريخية.

 كذلك قدم السفير أحمد طاهر بادوري ورقة بعنوان ( أهمية اللغة العربية كلغة تواصل في منطقتنا) تناول فيها ضمن ما تناول دخول اللغة العربية إرتريا، وتطور استخدامات اللغة العربية في بلادنا، ثم تطرق إلى عالمية اللغة العربية، عقب ذلك تحدث عن تصحيح جوانب القصور، خاتما ورقته هذه بالحديث عن (متطلبات تدريسها).

 أيا كانت الدوافع الكامنة من وراء هذه الإلتفاتة إلى اللغة العربية في هذه اللحظة الحرجة من توتر علاقات إرتريا بمن حولها من دول الجوار وعزلتها الأقليمية والدولية المتزايدة، وسوء سمعتها في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة، وبغض الطرف أيضا عما إذا كانت إلتفاتة صادقة، نبعت من إرادة صادقة في مراجعة ما كان سائدا، ومن غير الخوض أيضا في الجدل حول متانة وقوة ما اشتملت عليه ورقتا السفيرين من حجج ومسوغات تجعل منهما أفضل وأجود ما يمكن أن يقدم في الارتقاء بالأطراف المتشككة في جدوى اللغة العربية في إرتريا والرافضة لشرعية وجودها الثقافي، فإن العمل في حد ذاته جهد يستحق الشكر، وإن في إشادة الحضور بالورقتين معا، أو بإحداهما دليلا على كسب إعجاب المستمعين، وغالبا ما يكون هؤلاء المعجبون من حملة الثقافة العربية والناطقين بها الشاعرين بالتهميش والمعايشين له، لكن ماذا عن من بيدهم عقدة النكاح، الذين يربطون ويحلون من قيادات التجرنية في الجبهة الشعبية، الممسكين يتلابيب الحزب والحكومة معا، الذين نظروا من قبل لتهميش اللغة العربية، وتعمدوا إزاحتها، والتضييق عليها بوسائلهم الخاصة فيما قبل الاستقلال وما بعد الاستقلال، وفي مقدمتهم سيادة الرئيس إسياس أفورقي، هل هم معجبون أيضا بما قيل في الورقتين؟ وهل هم متهيؤون نفسيا للأقرار بالحق الدستوري للغة العربية أم ما زالو على تنظيراتهم ولم يتغير فيهم شيء؟!! هل لهذه الإلتفاتة من أثر على الدستور وما طبيعة هذا الأثر؟ وما أبعادها في مجال الحريات الفكرية والسياسية إذ لا يمكن أن نتصور إزدهار لغة ما وتطورها في مناخ مغلق تنعدم فيه حرية الصحافة والكتابة والإبداع الفني والفكري؟!! لا أدري لماذا لم يتطرق السفيران إلى هذه الناحية في ورقتيهما وبالذات عند حديث السيد بادوري عن جوانب القصور ومتطلبات التدريس!!

 هذه هي العقدة الكبيرة، وهذه هي المشكلة الأساسية، وفي حلها فقط يكمن الحل، وليس في مجرد إعجاب المهمشين بما تضمنته ورقة السفيرين (هيجي) و(بادوري)، فكل ما سرداه قيل من قبلهما، وسيقال من بعدهما، وما أتيا بما لم يأت به الأوائل، ويكاد يكون قناعة   50  %  من المجتمع الإرتري، ولكن ما جدوى قناعة يبطش بها سلطان من لا قناعة له بشرعية اللغة العربية ؟!!

  أنا هنا لا أقلل من نضالات السفيرين (هيجي) و(بادوري) ومن على شاكلتهما الذين يؤسفهم واقع التهميش الذي يعيشونه ثقافيا على الأقل، ويهمهم رفع الضيم عن اللغة العربية، ولكني أتحدث عن الواقع الماثل أمامي كما أراه ويراه غيري، وكما وثقته بالأرقام وثيقة المفتي!!.

 إني أشكك فقط في قدرتهما السلطانية على تنفيذ قناعتهما هذه من غير قناعة من بيده عقدة النكاح الرئيس إسياس أفورقي وحده الذي قال يوما ـ كما هو منشور في صحيفة إرتريا الحديثة العدد المذكور أعلاه ـ وهو يبين موقف حزبه وحكومته من اللغة العربية: (سياساتنا ثابتة، ولا مجال للمساومة فيها، أو التراجع عنها بأي حال من الأحوال ).

 إلى أي حد قبل الرئيس ـ يا ترى ـ بالمساومة فيما وصفه بالسياسات الثابتة في مسألة اللغة وإلى أي قدر يمكن أن يتراجع الرئيس عن ثوابته هذه؟

 ربما قيل: لولا تراجع وليونة صاحب الشأن، وولي الأمر، ما كانت الندوة التي عقدت، ولا كانت ورقة السفيرين (هيجي) و(بادوري) التي ألقيت، وهذا حق لا أماري فيه، ولكن  السؤال يبقى قائما: ماذا بعد؟ هل هو تحول جزئي، لا يتجاوز النطاق التعليمي في مستويات ما قبل الجامعة أم أنه أوسع من ذلك بكثير يشمل أيضا الإطار الوظيفي؟ ذلك ما ستبينه لنا الأيام القادمة ولا نستعجل.

 وأيا ما كان المنتظر من قابل أيامنا فإن هذه الخطوة هي في نظري خطوة تقدمية من الجبهة الشعبية نفسها تستحق عليها الإشادة، وموقف نبيل وغيور من السفيرين (هيجي) و(بادوري) يستحق أن يسجل لهما تاريخيا إلا أني أرجو أن لا يكون كل ذلك مجرد جعجعة ليس من ورائها طحين!!

الحلقة الثانية

يرفض كثير من الإرتريين مقولة الرئيس إسياس أفورقي في صحيفة (إرتريا الحديثة) العدد الخامس 1995م، من أن اللغتين ” العربية والتجرنية تم استخدامهما في إرتريا إبان الانتداب البريطاني الذي استهدف من وراء ذلك شق المجتمع الإرتري إلى كتلتين… إلى منخفضات ومرتفعات، ومسلمين ومسيحيين، وإلى عرب وتجرنيا”.

ليس مقبولا بأي حال من الأحوال من مسؤول على مستوى الرئيس إسياس أفورقي تحليل إرادة الشعب الإرتري كله أو جانب منه كبير في تحديد دوافع خياراته الثقافية من خلال سياسات المستعمر ومكايداته فقط دون استصحاب نمط تكوينه الثقافي، وشكل تركيبه الحضاري، وأصول تراثه الفكري، والعقدي، وإلا فإن المعيار الاستعماري نفسه يصلح لأن يكون في الوقت ذاته منطلق تحليل وتفسير دوافع سياسات الجبهة الشعبية السلبية نفسها من اللغة العربية، وعندها تبقى المسألة مجرد تبادل تهم لا معنى لها.

 من هنا يخطئ الرئيس إسياس أفورقي خطأ فادحا في تاريخه النضالي حين يتخذ قرار تهميش اللغة العربية بناء على تحليله هذا، وحين لا يعير أدنى إهتمام لتساؤلات الشعب الإرتري حول دواعي وأسباب تهميش اللغة العربية، بحجة أنها تساؤلات ـ كما يقول الرئيس ـ : ” ناجمة عن تراكم المفاهيم السياسية الندية التي عمل الإنجليز على تكريسها منذ خمسين سنة “.

 الملاحظ في الرئيس إسياس أنه يجابه تساؤلات الشعب عن اللغة العربية بنبرة غاضبة ونفس ثائرة ومتوترة، هي إلى الزجر والاستفزاز أقرب منها للحوار.

 وفي حين أنه يحيل أمر إثارتها تارة إلى التأثر بسياسات الإنجليز التفتيتية، وتارة إلى عوامل اللجوء وتأثر شعبنا على حد تعبيره ( بثقافات أخرى ) نراه عندما يتحدث عن دوافع استخدام نظامه للغة العربية في جوانب محدودة من نشاطاته يقول: ” نحن ندرك من هم جيراننا، وندرك الروابط التاريخية والثقافية التي تربطنا بهم، ومن أجل ذلك نتبنى هذه السياسات، وظللنا نعتمد اللغتين في معظم الأوقات “.

 فإذا كنا ندرك إرتباطنا مع جيراننا العرب بروابط تاريخية وثقافية، فما المانع إذن من أن يكون هذا الإدراك هو دافع من يلح على تفعيل اللغة العربية وعدم تهميشها أو تجميدها في حياتنا السياسية والثقافية، وتكرار المطالبة بذلك عند كل لقاء؟

 وما المانع من اعتماد هذا الإدراك معيارا لتفسير هذا الإلحاح بدل المعيار الاستعماري؟ ثم كيف يمكن أن نوفق بين تفسير الرئيس إسياس أفورقي للمواقف المطالبة باللغة العربية بأنها وليدة (أزمة هوية ) والتأثر بثقافات أخرى فرضها عامل اللجوء قبل التحرير وبين إقرار سيادته بهذا الارتباط التاريخي والثقافي مع الجوار العربي؟ !!

 هذا التفكير من الرئيس إسياس أفورقي على ما فيه من تناقض وتضارب وغرابة، فإنه غير دقيق من الناحية العلمية، ويتنافى كليا مع الحقائق التاريخية التي أجمع عليها المؤرخون، وأورد السفير (هيجي ) بعضا منها في ورقته المقدمة إلى ندوة وزارة التعليم، مقتبسا إياها من المصادر التي استعان بها، لعلها تقنع الرئيس قبل غيره، حيث قال(هيجي ):  ” تشير بعض الكتب التاريخية الى دخول اللغة العربية هذه المنطقة قبل دخول المسيحية اليها، والبعض منها يربط دخول اللغة العربية بوصول المبشرين المسيحيين من أرض الشام الى هذه المنطقة “.

 ومعنى هذا أن جذور اللغة العربية في هذه البقعة من القرن الأفريقي المعروفة حاليا بـ( إرتريا) أعمق بكثير من وجود المستعمر الإنجليزي أو الإيطالي فيها، وان سكانها عرفوا اللغة العربية وتعاملوا معها وتثقفوا عليها منذ وقت أبكر من الوجود الاستعماري فيها.

 ليس أدل على ذلك من الوثيقة التي حررت عام 1925 في العهد الإيطالي باللغة العربية من الساحل الشمالي إلى كرن والموقعة من الإيطالي (غاسبرين).

 بل كانت اللغة العربية أيسر وسيلة تفاهم وجدها المستعمر في التواصل مع السكان يوم دخل البلاد، ليس بمثقفيهم فحسب، وإنما أيضا برعاتهم، حيث حكى لنا ( نايدل ) مؤلف كتاب (التركيب السكاني في إرتريا) قائلا: ” اضطر واضع هذا الكتاب ـ يعني نفسه ـ أن يقوم بدور ترجمان مزدوج في لقاء جمعه في ( أكلي غزاي ) برعاة من التجري ومزارعين من التجرنية، فكان يتكلم بالعربية مع رعاة التجري، وبالإيطالية مع مزارعي التجرنية ” ص 16.

 ويذكر نايدل في الكتاب نفسه أن اللغة العربية تستخدم كلغة ثانية عند مجموعات وأفراد من القبائل التي اعتنقت الدين الإسلامي، وقد أخذوها عن طريق بلاد العرب أو السودان، كما أنها أصبحت اللغة الشائعة الوسيطة في الأحياء الإسلامية في المدن الإرترية وخاصة تلك الواقعة على ساحل البحر الأحمر ” ص 18

 ويذكر مؤرخ شرق السودان( ضرار صالح ضرار) في كتابه ( هجرة القبائل العربية إلى وادي النيل مصر والسودان ) إن الحروف العربية كانت الأحرف المعتمدة في كتابة لغة التجري “فكثيرا ما كان يكتب أهل مصوع لأهلهم وذويهم سواء أكانوا في إرتريا أيام الحكم العثماني أو المصري الخديوي أو الإيطالي، وكانت تصل هذه الرسائل إلى ذويهم في بورتسودان، وسواكن وعقيق، فيقرؤونها بسهولة… فعرفوا الأحرف العربية، وأخذوا يستعملونها في كتابة هذه اللغات السامية ” ص 614

  ومن هذا العمق التاريخي للغة العربية بقيت صلة جزء كبير من الشعب الإرتري بها قوية، تزداد قوة ومتانة عبر مدار التاريخ، بالرغم من المحاولات التي جرت وما زالت تجري لإضعافها في نفوسهم، وفصلهم عنها كليا بشتى السبل الممكنة وغير الممكنة، وتحت أكثر من عنوان وشعار.

 وما زالت لغة تدوينهم الوثائقي هي اللغة العربية حتى الآن منذ قامت لهم صلات ثقافية وعقدية بمواطنها ومراكزها في الجزيرة العربية، حيث زبيد في اليمن، والحرمين في بلاد الحجاز، والأزهر بمصر، وحديثا السودان بجامعاته ومعاهده المتعددة، حتى الكنيسة الحبشية حفظت للغة العربية سلطانها الديني، إذ كان القساوسة الأقباط المبتعثين إليها من الكنيسة القبطية بمصر يتلون تراتيلهم الإنجيلية باللغة العربية، وما الجئز التي ما زالت حتى اللحظة لغة الكنيسة في إرتريا إلا أصل من أصول اللغة العربية.

 من هنا يمكن القول وبكل جزم: إن الإنجليز ليسوا هم من ربط الشعب الإرتري باللغة العربية، وإنما أصالة اللغة العربية وعمق ارتباطها بالتاريخ الإرتري هو الذي ربط الشعب الإرتري بها، وإن تشبث جزء كبير منهم باللغة العربية يعود إلى أصالة هذا الارتباط وعمقه ومن ثم الإحساس بأهميتها وضرورتها في تشكيل الهوية الإرترية، ولا يعود بأي حال من الأحوال إلى ما أسماه الرئيس إسياس أفورقي بـ( أزمة هوية ) !!.

 هذا ما عبرت عنه مذكرة الرابطة الإسلامية التي رفعت إلى (ما تينزو ) في 10/10/ 1951 ردا على وزير خارجية إثيوبيا ( إكليلو هبتي ) حين طالب باعتماد الأمهرية لغة رسمية للبلاد مدعيا أنها (اللغة الأم).

 من المفترض أن تعتز قيادة الجبهة الشعبية بهذا الموقف الوطني من اللغة العربية، وتجعل منه عامل تعزيز التلاحم الوطني بدل أن تشذ عن الإجماع الوطني بتنظيرات لا قبول لها في مجتمعنا أفرزتها ضغوطات نفسية، ومخاوف حضارية لا مبرر لها، ومن الإجحاف والشذوذ أن تنعته على لسان رئيسها بـ(أزمة هوية ) وتصوره على أنه مجرد (مفاهيم وتفكير سياسات تقسيم المجتمع إلى كتلتين)!!.

 هذه نظرة في منتهى الضيق والسطحية، وتثير كثيرا من الشكوك، ما أظنها تجدي في حل المشكلات الثقافية، وعلى قيادة الجبهة الشعبية إعادة النظر فيها بكل تحرر.

 هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ليس بالضرورة أن تكون لغة الثقافة سبيلا إلى التجرد من لغة الأم والقوم أو التنكر لها، فكم من شعوب اعتمدت الفرنسية أو الإنجليزية لغة ثقافة لها من غير أن تتنكر للغاتها الأصلية، فعلى سبيل المثال اختارت الهند عام 1947 اللغة الإنجليزية وسيلة اتصال قومي، ومثلها نيجيريا في أفريقيا، كذلك السنغال نموذجا للدول الأفريقية المتحدثة بالفرنسية لغة رسمية للبلاد.

 على كل إن الأمر جد خطير حين تبلغ السلبية من اللغة العربية إلى حد توعد قطاع كبير بالنفي من أرضه ووطنه بتهمة ( تكريس المفاهيم التقسيمية )؛ لأن تهديد الآخر بسلب المكانة الوطنية سيؤدي لا محالة إلى سلب الوطن من الجميع.

 اللغة العربية والرشايدة

 وفي سبيل إثبات دعوى استخدام اللغة العربية من الإنجليز بغرض تقسم الإرتريين وضرب وحدتهم ” إبان الانتداب البريطاني الذي استهدف من وراء ذلك شق المجتمع الإرتريري إلى كتلتين… ” ـ كما يقول الرئيس إسياس أفورقي ـ يحاول حملة هذه الرؤية حصر اللغة العربية على (الرشايدة) وحدهم لتكون حبيسة خيمهم، ولترحل معهم حين يرحلون، أو تستقر باستقرارهم في مضاربهم فقط ومدارسهم فقط !!.

 هذه مغالطة كبرى لا أرى لها من مبرر غير النزعة الشيفونية التي تود أن تتجاهل الرصيد الحضاري الهائل للغة العربية الضارب في أعماق التاريخ العلمي والفكري والثقافي الذي امتد من بغداد شرقا إلى الأندلس غربا، والذي يغطي اليوم مساحة كبيرة من محيطنا الجغرافي الذي نحن على تداخل وثيق معه، ثقافيا، واقتصاديا، وأمنيا، لا نستغني عنه ولا يستغني عنا، وله وزنه الكبير في الإثراء الفكري والأدبي لمختلف الفنون والعلوم الإنسانية وغير الإنسانية في عالمنا اليوم، حيث تعد اللغة العربية أحد أبرز اللغات العالمية وأهمها، وقد نوه السفيران (هيجي) و(بادوري) إلى هذه الحقيقة في ورقتيهما عسى أن يكون لتنويههما هذا أثر في تغيير قناعة الرئيس للارتقاء بهؤلاء المتأثرين بتنظيره إلى ما فوق هذا التفكير المتدني.

 إنها بحق مغالطة كبيرة تكشف عن أزمة ثقافية حادة ما زال قطاع كبير من مثقفي التجرنية للأسف عاجزا عن التخلص منها وخاضعا كل الخضوع لتأثيراتها الضارة ذات الانعكاسات السلبية على الوحدة الوطنية.

 أضف إلى ذلك إنها أكذوبة تفندها الحقائق التاريخية ولكن ـ مع ذلك ـ دعنا نسلم بها جدلا ونقول: لا بأس لتكن العربية كما تودون لها أن تكون لغة (الرشايدة) أو لغة غيرهم، لكن المهم في الأمر إن ذلك لا يمنع الآخرين ممن هم ليسو بـ(رشايدة) من اختيارها لغة ثقافة لهم، فإنها في نهاية المطاف إحدى اللغات الوطنية باعتبار الرشايدة فئة من فئات المجتمع الإرتري ومجموعاته اللغوية، وهذا يكفل لها حق التساوى مع سائر اللغات بموجب دستور الجبهة الشعبية الذي ينص على تساوي اللغات!!

 وعليه، يجب أن تتمتع اللغة العربية كما يتمتع غيرها من اللغات الإرترية بحق التنافس في شتى الميادين الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ومن حقها أن تحظى بقبول غير الناطقين بها لغة لهم مثلها في ذلك مثل (التجرنية) و(التجري) ومن حق الراغبين فيها والمعجبين بتراثها الأدبي، والمعتقدين بعظمتها اختيارها لغة لهم لأي سبب كان، فلماذا إذن تعمد تهميشها وإخلاء السبيل للتجرنية وحدها؟!!.

 هل بالإمكان أن تمحو ورقتا السفيرين ( هيجي ) و ( بادوري ) مثل هذه المغالطات على نحو يرضي المجتمع ويلبي رغباته الثقافية والتعليمية من تلك العقول التي ابتليت بها، وبدورنا ابتلينا نحن بتحكمها علينا، وتسنمها سدة صنع القرار في حكومة الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة؟!!

 ذلك ما نرجوه، ولكن دعنا نتظر ونترقب، فالقدر ما زال بين الأثافئ يغلي، والملعقة وحدها تبين ما في داخله، على قول المثل العامي الشهير ( اللي في القدر تبينه المعلقة )!!.

.

الحلقة الثالثة

اللغة العربية والتعليم بلغة الأم

 في اللقاء الذي عقده الرئيس إسياس أفورقي بتاريخ 28/7/ 1991م مع وفد قبيلة ( الماريا ) في أسمرا وبثته الإذاعة، تحدث سيادته عن سياسة حكومته في التعليم من خلال التركيز على ثلاثة محاور، كان المحور الأول منها (لغة التعليم) وبشأنها قال الرئيس: بعد الفصل السادس يكون التعليم يواصل باللغة الإنجليزية… ما عايزين نفرق شعبنا، جزء يتعلم في جانب، وجزء يتعلم في جانب” في إشارة منه إلى عدم اعتماد العربية والتجرنية لغتي التعليم.

وعندما سئل عن غياب وضعف التدريس بـ(اللغة العربية) قال في لقائه الذي نشرته إرتريا الحديثة العدد الخامس 16/9/ 1995م : ” في واقع الأمر لا يوجد في هذا البلد معلمون مؤهلون للتدريس باللغة العربية، فعند الطلب لم نجد سوى شخصين مؤهلين باللغة العربية، هذا هو الواقع”.

 بالتأكيد ليس هذا هو الواقع ـ يا سبيادة الرئيس ـ وإنما الواقع هو موقف نظام الجبهة الشعبية من اللغة العربية، ولو فرضنا جدلا أن هنالك فقرا في المؤهلين لما عجز النظام عن تأهيل غير المؤهلين، ولكن المشكلة أنه لم يؤهل ذاته للتخلص من رواسبها السلبية في الموقف من اللغة العربية، ثم إن إرتريا بارتباطها الثقافي والتاريخي مع العالم العربي ودراسة أبنائها في العواصم العربية يصعب معه بل يستحيل خلوها من مؤهلين ذوي كفاءات علمية.

 إن عقدة المشكلة لا تكمن إلا في فلسفة النظام ومنهجية تعامله مع اللغة العربية، فمتى راجع النظام سياساته العامة في موقفه من اللغة العربية غير متأثر بمخاوف حضارية انحلت العقدة، واكتظت إرتريا بالمؤهلين من أبنائها في شتى فنون اللغة العربية، فكثيرون هم الذين طرقوا الأبواب، وكثيرون هم الذين ينتظرون الأدوار.

 لكن ـ كما يذكر أبو عري ـ في إرتريا الحديثة العدد 82 تاريخ 10/2/2001 ” أن وزارة التعليم أصدرت أوامرها لإيقاف التسجيل في بعض المدارس التي تدرس باللغة العربية، وأوقفت في نفس الوقت مادة اللغة العربية في بعض الأقاليم، الأمر الذي زاد من مشاعر الاستياء والقلق…”.

وذكر أيضا في العدد نفسه : “أنها استغنت عن عدد من مدرسي اللغة العربية في الإقليم الجنوبي”.

 وأعرب أبو عري عن استيائه الشديد من هذا التصرف متسائلا عن نوايا وزارة التعليم، وواصفا تصرفها هذا بالأمر المزعج، حيث قال في الصحيفة نفسها: “ولا يدري المرء ما ذا تنوي الوزارة أن تفعل، ولكنه أمر مزعج بالتأكيد “.

 فعلا إنه أمر مزعج ليس لإبي عري وحده وإنما لأكبر جزء من المجتمع الإرتري يهمه شأن اللغة العربية ووضعها الدستوري والثقافي في تنشأة أبنائه وتكوينهم التعليمي والفكري، ولمس أبو عري هذا الإنزعاج فعبر عنه بالطريقة تلك، فكان جزاؤه ما هو عليه الآن، بتهم أوهى ما تكون من حبال العنكبوت أمام قضاء عادل.

 ويقول أحد المشاركين في مداخلات الندوة التي لخصت جريدة ( النبض ) الناطقة بلسان اتحاد الشباب وقائعها في العدد 105 مارس 2001 : ” نحن في دنكاليا قد اخترنا الدراسة باللغة العربية لكن هذا الأمر لم يطبق حتى الآن”.

 ويقول محمد أبو القاسم حاج حمد الذي شغل منصب مستشار دولة إرتريا لشؤون الاستثمار في محاضرته التي ألقاها في قاعة الشارقة بالخرطوم: وإنه لمن المؤسف حقا أن تعمد إرتريا في ظل هذه الأوضاع الحرجة ( يقصد الحرب الإرترية الإثيوبية ) لاستفزاز العفر حين عقدت لهم ورشة عمل في الخامس من مايو أيار 2000 في مدينة عصب بهدف كتابة اللغة العفرية بالحروف اللاتينية في حين يفضل العفر كتابتها بالحروف العربية تبعا لانتمائهم الإسلامي، وقد ترأس ورشة العمل السيد (تسفامكئيل قرهتو) المدير العام لقسم التعليم العام.

 بهذا ندرك أن المعضلة برمتها في السياسة التعليمة للجبهة الشعبية التي أخذت على عاتقها مهمة التضييق على اللغة العربية على نحو يثير كثيرا من الشكوك، ويضع عددا من الاستفهامات.

 ويستغرب المرء على ترشيح الحرف اللاتيني ليكون هو حرف التعليم بلغة الأم مكان الحرف العربي بالنسبة للغات الأخرى وتكون التجرنية هي المستثناة بحكم أنها لغة متميزة بحرفها الخاص بها، ويرفض مثقفوها حتى الماركسيون منهم أن تكتب بالحرف اللاتيني لما للحرف التجرنياوي من مكانة دينية وتاريخية لا يمكن تجاهلها وتجاوزها.

 هذا ما أكده كادر النظام المعتقل المناضل الأسير أبو عري الذي قال في جريدة إرتريا الحديثة العدد 82 تاريخ 10/2/2001م : أذكر في الثمانينيات عندما عقد أول مؤتمر لغوي في الميدان، طرحت قضية استبدال حروف الجئز بالحروف اللاتينية … عندها ثارت ثائرة الكثيرين، معتبرين ذلك سلخا عن الواقع الثقافي، والديني، والتاريخي، ولحسن الحظ توقف المشروع في المهد، وللتاريخ فإن جل من اعترضوا كانو ممن اغترفوا ما يكفي من محيط الماركسية، وكنت مؤيدا لهذا الرأي مع أنه لم يحالفني حظ المشاركة في ذلك المؤتمر…”.

 وتعجب أبو عري من دفاع هؤلاء الماركسيين التجرنياويين عن حرف التجرنية بكل قوة وصلابة لاعتبارات دينية وتاريخية دون أخذ هذه الاعتبارات نفسها حين الحديث عن اللغة العربية!!

 لقد رأى أبو عري في هذا الموقف المتضارب من مثقفي التجرنية الماركسيين ربكا في المعايير إذ قال: ” إلا أن المفارقات التي تنتصب دوما أمامي هي ذلك الرفض الحازم للإنسلاخ عن الجئز، والتصميم الحالي للإنسلاخ عن العربي، الأمر الذي يربك المعايير…”.

 لا أعتقد إن في المعايير ربكا بل فيها انسجام وتناسق مع ما يحمله الاتجاه المعادي للغة العربية من موقف ثابت ومبدئي لا يتغير أبدا، وإذا كان هنالك ربك فإنما هو في عقل من كان مخدرا بالأفكار الحالمة على حد تعبير (جورباتشوف) أو كان مثاليا يقرأ الواقع قراءة إفلاطونية.

 أما الماركسية فما كانت إلا مرعى الخراف الضالة على حد وصف المسيح عليه السلام للمعادين له من بني إسرائيل، فقد كانت ظهرا يمتطى، وبمثابة الديدان التي وضعت في السنارة لاصطياد الأسماك، وقد قال عنها سكرتير الجبهة الشعبية الأمين محمد سعيد عام 1994 في اجتماع جماهيري بجدة: موضة وانتهت.

 على كل لا أدري ما الذي تحمله الآن فلول الماركسيين وبقاياهم المحنطة في متحف التاريخ من موقف عن اللغة العربية وحقها الدستوري، ولكن الذي يلزم إدراكه هو إن العملية التعليمية يجب أن لا ينظر إليها مفصولة عن إرادة المجتمع في خياره الثقافي والتربوي وإلا كانت عملية مضادة غير شرعية مهما كانت مبرراتها، وبهذا نستطيع أن نقول: إن أزمة السياسة التعليمية للجبهة الشعبية تكمن في استهدافها للغة العربية بالعزل والتهميش بالرغم من الإلحاح على تدريسها، والإصرار على حقها الدستوري في الممارسة السياسية والثقافية، والتربوية، وهو ما يجعل منها ( عملية مضادة ) تحوم حولها الكثير من الشبه والعديد من الشكوك والتساؤلات.

 ومن حق مجتمعنا أن يدلي برأيه في هذه السياسة التعليمية المضادة لرغبته ووجهته الثقافية والتربوية، وقد أدرك شعبنا خطورة هذه السياسة على مستقبل أبنائه الثقافي وعبر عن رفضه لها بوسائله الخاصة التي لخصها الأسير (أبو عري) بقوله: ” إن الرفض للغة الأم … يتجلى في الامتناع عن إرسال الأطفال إلى المدارس، تهريبهم إلى الدول المجاورة ، تفضيل إرسالهم إلى الخلاوي “.

 وهذا أكبر فشل سجلته هذه السياسة التعليمية التي ما زالت حتى اللحظة مفروضة على شعبنا بالرغم من رفضه لها، وعدم تجاوبه معها، ومنذ وقت مبكر من تنفيذها بدأت تظهر من داخل زوايا ودوائر الجبهة الشعبية أصوات تتحدث بلغة الأرقام عن فشلها، من هذه الأصوات الجريئة التي دفعت ثمن نطقها بالحقيقة صوت الأسير المناضل أبو عري الذي بات مرجعا لنا في توثيق النقاش حول هذه المسألة، حيث كتب عن ما دار من مناقشات في المؤتمر الذي نظمته في مارس 1997م كل من وزارة التعليم والجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة قائلا: ” والحق أن مسؤولي وزارة التعليم دافعوا بحرارة عن مشروع لغة الأم إلا أن حججهم تضاءلت أمام الأوراق التي قدمها بعض خبراء المناهج العاملين في مشروع لغة الأم والتي أشارت بالأرقام والحجج إلى الكثير من جوانب عدم النجاح، حيث ذكرت شح الإمكانات البشرية والمادية وعدم قبول أولياء الأمور وتفضيلهم اللغة العربية بدلا من لغة الأم…”.

عدم قبول أولياء الأمور وتفضيلهم اللغة العربية على لغة الأم هو الجدار الصلب الذي اصطدمت به سياسة التعليم بلغة الأم ولكن السؤال المطروح هنا هو: ما الذي ستحدثه ورقة السفيرين (هيجي ) و ( بادوري ) في تغيير وجهة هذه السياسة وفي إعادة مياه التعليم إلى مجاريها الطبيعية كما يريدها أولياء الأمور؟

 هل سيلين لما جاء في هاتين الورقتين  عقل الرئيس إسياس أفورقي صانع القرار الأول، أم سيكون له رأي آخر غير الذي تضمنته الورقتان؟

 ذلك ما أثرته من قبل وهو ما أثيره الآن، وكما قلت: لا نستعجل، فإن غدا لناظره قريب.

.

الحلقة الرابعة

مصالحنا الاقتصادية واللغة العربية

ليست إرتريا بالتأكيد جزيرة معزولة، نتقوقع فيها حول ذواتنا، بعيدين عن غيرنا، بل هي جزء من عالم واسع وكبير، اتسم بتشابك المصالح إلى حد أصبحت فيه التكتلات الإقليمية، والدولية بمختلف أهدافها أهم خاصية يتميز بها عالمنا اليوم بكل ما فيه من تعقيدات، وفي عالم كهذا لا بد أن نعي من نحن ومن هم حلفاؤنا الحقيقيون؟ ولابد من أن تكون لنا ثمة أولويات ضرورية في سلم مصالحنا الوطنية، وثمة وسائل ضرورية أيضا للوصول إلى هذه المصالح وتحقيقها.

 من أهم أولويات مصالحنا الضرورية المصالح الاقتصادية بالطبع، وعند الحديث عن هذا النوع من المصالح يبدو من المهم والمناسب جدا في نظري الحديث أيضا عن دور (اللغة) وأثرها في جلب هذه المصالح الاقتصادية وتحقيق أكبر قدر منها، وهو ما تناولته ورقة السفير بادوري.

 بالنسبة لنا نحن الإرتريين لا يمكن أن ندير النقاش في هذه المسألة عبر المفاضلة بين اللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية، أو الإيطالية، أو الفارسية؛ لأننا لسنا محاطين بدول تسودها هذه اللغات، وإنما غالب من حولنا دول عربية، وهي عمقنا الاقتصادي، بل والأمني، والثقافي، ولا يمكن الفصل بين هذا الثلاثي من المصالح، إذ لا يمكن أن نرى في المحيط العربي عمقا اقتصاديا لنا دون أن نرى فيه عمقا ثقافيا وأمنيا، والعكس صحيح، وإلا اتسمت سياستنا في ترتيب علاقاتنا بالربك والاضطراب والتشوش في الرؤية كما هو الحاصل، وعليه فإن المفاضلة لابد أن تكون بين اللغة العربية وبين غيرها من اللغات العالمية المذكورة أعلاه، أما التجرنية فليست مؤهلة لأن تكون ضمن هذا التنافس، ومن ثم فإن سؤال المشكلة المفترض طرحه هنا لابد أن يكون محصورا على اللغة العربية وحدها دون التجرنية على النحو التالي: ما أهمية اللغة العربية بالنسبة لإرتريا في تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية بالنظر إلى محيطها الجغرافي؟ 

 قد ثبت علميا أن الشعوب التي توحد بينها لغة واحدة تكون أكثر انسجاما فيما بينها من تلك التي تتعدد لغاتها، وإن هذا الانسجام اللغوي ينعكس بدوره في نموها الاقتصادي، واستقرارها السياسي بخلاف التباين اللغوي، ذلك أن الانتاج الصناعي كما يقول ( جلنر ) في كتابه ( الأمم الوطنية ) : ” يتطلب أساليب موحدة ومنظمة، كما يحتاج إلى سكان متحركين ومتجانسين، وعلى درجة عالية من التعلم، وهذه المتطلبات تعني استعمال لغة واحدة موحدة، عن طريقها يمكن أن يتواصل جميع أعضاء المجتمع الذين يشاركون في العملية الاقتصادية “.

 من غير شك يعي الرئيس إسياس أفورقي هذه المسلمة، لهذا نراه يسعى إلى جعل (التجرنية) هي اللغة الرابطة والموحدة بين جميع فئات الشعب الإرتري، وليست اللغة العربية، ولكن إن التجرنية وإن كانت إحدى اللغات المحلية بجانب اللغة العربية في المجتمع الإرتري لا يمكن أن تبلغ منزلة اللغة العربية في تحقيق أهداف اقتصادية عليا، لكونها محدودة التداول، فقيرة في ذاتها، مجهولة في محيطها الجغرافي، لا يتجاوز نطاق استعمالها إقليميا حدود التجراي، ومحليا جبال الهضبة، مهما قيل الآن من انتشار التحدث بها محليا في ظل سياسة الجبهة الشعبية المنحازة ضد اللغة العربية، وهو انتشار سطحي لا عمق ولائي له، ذلك أن ضمان سيادة اللغة أيا كانت ليس هو انتشار النطق بها وفرضها بقوة السلطان في أوسع رقعة جغرافية، وإنما هو بالدرجة الأولى والأساسية في ولاء مستخدميها لها من خالص قلوبهم، وهو الأمر الذي تفتقده التجرنية حسب تقديري عند أكبر جزء من مجتمعنا لكونها أضحت لغة السلطان الوحيدة، بقوة السلطان الوحيد، المتفرد بتحديد خياراته الثقافية والسياسية والاقتصادية، ثم إلزام الشعب بها بغض النظر عن قناعة هذا الشعب وإيمانه بهذه الخيارات المفروضة عليه.

 ومع أن إثبات صحة هذا التقدير من عدم صحته يحتاج إلى استبانة تقيسه في دراسة ميدانية على عينات مختارة من الشعب، أو من خلال استفتاء شعبي ـ وهذا ما لا يمكن تصوره في ظل نظام الجبهة الشعبية فضلا عن القيام به عمليا ـ إلا أنه يظل هو التقديرالأقرب إلى الواقع والصحة، بناء على ما أظهرته الأوراق والمناقشات التي قدمت في المؤتمر الذي نظمته في مارس 1997م كل من وزارة التعليم والجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة وفقا لما نقله إلينا أبو عري.

 وعند مقارنة أهمية التجرنية بأهمية اللغة العربية في تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية لا بد أن تكون النتيجة تفوق اللغة العربية التي تعد لغة عالمية في ذاتها، واسعة الانتشار عالميا، وعميقة الوجود إرتريا، إذ تربط إرتريا بمحيطها العربي، حيث السودان برقعته الواسعة، وثقافته العربية، وسوقه العريض، وتداخله البشري، وحدوده الجغرافية الملاصقة، وكذلك اليمن، والخليج العربي بمدخراته النفطية، وثرائه المميز، من هنا لا بد أن تكون هي وحدها المؤهلة في تحقيق التجانس اللغوي في المجتمع الإرتري، ومن ثم الرخاء الاقتصادي، والازدهار العمراني بالانفتاح على أوسع رقعة عربية غنية بإمكانات اقتصادية هائلة، تحتل فيها اللغة العربية من مساحات العمل والإنتاج ما يستحيل على التجرنية الاقتراب منه،  تماما كاللغة الإنجليزية في كندا مقابل اللغة الفرنسية، حيث فضل ” ثلاثة ملايين ونصف مهاجر إلى كندا بعد عام 1945 تعليم أبنائهم باللغة الإنجليزية التي تفتح آفاقا وظيفية في شمال أمريكا أوسع بكثير مما تفعل اللغة الفرنسية “.

 في هذا دلالة على أن اللغة بتأثيرها الإقليمي في محيطها الجغرافي تلعب دورا بارزا في نهضة الشعوب الاقتصادية، ويعد هذا الدور من أهم ما يحفز الآخرين على الإقبال عليها، واللغة العربية هي من يقوم بهذا الدور بالنسبة لنا نحن الإرتريين ـ وليس التجرنية ـ ومن الضروري أن تكون اللغة الإنجليزية بحكم أنها لغة عالمية أيضا رفيقتها في تأهيل الطالب الإرتري لدخول سوق العمل في المحيط الجغرافي الذي هو فيه، والذي يمثل بالنسبة له عمقا اقتصاديا لا يمكنه بأي حال من الأحوال الاستغناء عنه.

فهل بالإمكان أن يعي هؤلاء الرافضون شرعية اللغة العربية الدستورية وحقها الثقافي والتعليمي هذه الحقيقة ويسلموا بها لا سيما بعد أن أشارت إليها ورقة السفير بادوري أحد رجالات النظام؟

 هذا ما نأمله ونرجوه فهل من سبيل إلى رؤية أثره قريبا؟!!.

.

الحلقة الأخيرة

هل لي أن أشك ؟ 

ذكرت من قبل أن الرئيس إسياس أفورقي يحلو له أن يشير إلى الإنجليز بأنهم ـ حسب رأيه ـ  من وراء إدخال اللغة العربية في إرتريا، بقصد شق المجتمع الإرتري إلى عرب وتجرنيا، ومسيحيين ومسلمين، ومنخفضات ومرتفعات، كما يحلو له أن يتهم كل من يخالفه في قناعته هذه وينادي بأحقية الوجود الدستوري والثقافي للغة العربية في إرتريا، بتكريس سياسات الإنجليز التقسيمية، وأن يوبخه متى ما تجرأ على طرح سؤال من هذا النوع!!.

 وإذا كان الرئيس يشك في وطنية من هو على خلاف معه في هذه المسألة، ويتهمه بأزمة هوية فهل من حق مخالفيه المتهمين من جهته بأزمة هوية، أن يشكوا هم بدورهم في نوايا سياسات الرئيس إسياس أفورقي ودوافع موقفه وموقف نظامه السلبي من اللغة العربية، من غير أن يبادلوه الاتهام نفسه؟.

 الشك غير السوفسطائي هو ـ في حد ذاته ـ  أول خطوة في طريق التفكير الصحيح عند بعض المدارس الفلسفية، فقد شك (ديكارت) في جميع الأشياء التي تأتيه عن طريق الحواس وبواسطتها، ولكنه مع شكه هذا فهو لا يشك بأنه يشك، أي لا يشك بأنه مفكر؛ لأن الشك فكر، ولا يشك أنه موجود؛ لأن الفكر صفة لا تقوم بغير موجود يتصف بها.

 والشك عندما يكون فكرا كما يقول ديكارت من الممكن أن يكون طريقا إلى اليقين، وكثير من الأبحاث العلمية التي تجيئ بحلول لمشكلات تعاني منها البشرية في كثير من قضاياها الاجتماعية، والفكرية، والسياسية تبدأ من الشك، ومن حق كل فرد منا أن يشك فيما حوله ما دام شكه هو أول طريق يقينه، ولكن لا بد أن يكون ذلك ضمن معطيات واقعية ومقدمات منطقية، تؤدي في نهاية المطاف إلى نتيجة تفسر حقيقة المشكلة القائمة، وتشخص ماهيتها والدوافع الكامنة من وراء وجودها ومن ثم طرح الحلول الممكنة.

 عزل اللغة العربية والتضييق عليها وحرمانها من حقها الدستوري والثقافي، ومحاولة تجرنة المجتمع الإرتري هو أحد المشكلات الجزئية حاليا ـ وليس الكلية ـ في ظل نظام الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، بقيادة الرئيس إسياس أفورقي، بحكم أن المشكلة الكلية والرئيسة تتمثل في انعدام العدالة الشاملة، وسلب الحريات العامة، وغياب الدستور وسيادة الفرد!!.

 وهذا مما يستدعي الشك في كل ما يقدم إلينا من سياسات يقول عنها منظروها ومنفذوها في نظام الجبهة الشعبية: إنها بنَّاءة، توجبها حسب قناعتهم الوحدة الوطنية ومصلحتها العليا!!

 وصف اللغة العربية بالمشكلة

 وفي حالة من الشك في مثل هذه المقولات التي تردد على أسماعنا بين الحين والآخر، يمكن القول: ليس ثمة جدل حول وصف حالة اللغة العربية بـ(المشكلة) الجزئية، فهي بلا شك مشكلة بغض النظر عن حجمها، وتباين الآراء في تفسيرها، وإلا لما كان إنعقاد ندوة وزارة التعليم في مارس 1997م بشأن التعليم بلغة الأم، ثم هذه الندوة من الوزارة ذاتها التي عقدت من 9ـ 10 إبريل 2010 عن (أهمية ومكانة اللغة العربية في إرتريا) قدمت فيها ورقتا السفيرين (هيجي) و(بادوري) وشهدت حضور كبار الشخصيات القيادية من الحزب الحاكم ومنظريه!!

 هي مشكلة بالنسبة للنظام؛ لأن الشكوك ما زالت تحوم حول سياسته المتبعة بشأن اللغة العربية وتسبب له نوعا من العزلة مهما أظهر أنه في عافية من أمره، وفي تلاحم مع شعبه، ومهما تجاهل الأصوات المطالبة بها، وهي مشكلة بالنسبة لشريحة كبيرة من المجتمع الإرتري باعتبار أنها جزء لا يتجزء من هويتها الوطنية والثقافية ويزعجها كثيرا أن تفقد حقها الدستوري والثقافي في المجتمع الإرتري، ومن غير شك يصبح الوطن بالنسبة لها بلا معنى ما دامت العزلة مفروضة على اللغة العربية والفيتو مرفوع ضدها!!

لكن من المعلوم بداهة أن حل المشكلة الجزئية لا يمكن أن يكون مجديا ونافعا من غير حل المشكلة الكلية الأساسية، وبما أن عزل اللغة العربية في إرترية وتهميشها، مع فرض سياسات التجرنة، جزء من مشكلة كلية وأساسية، تتمثل في ما أشرت إليه من إنعدام العدالة الشاملة، وسلب الحريات العامة، وغياب دستور مجمع عليه، وسيادة الفرد، واحتكار السلطة، فإن حلها لا أتوقع أن يكون من خلال ندوة أو ندوتين من وزارة التعليم أو غيرها من الوزارات، ولا من خلال ورقتي السفيرين (هيجي) و(بادوري) مع كبير التقدير والإحترام للجهد الذي بذلاه في محاولة إقناع الاتجاه الشيفوني من التجرنياويين في الجبهة الشعبية بأهمية اللغة العربية، وعمقها التاريخي والثقافي في المجتمع الإرتري.

 وبغض الطرف عما إذا كان جهدهما هذا سينال رضا وقبول من بيده عقدة النكاح الرئيس إسياس أولا، بوصفه صاحب التنظير الأول في تهميش اللغة العربية؛ فإن ثمة مخاوف حضارية تقف في نظري من وراء تعقيد الأمر، وهذا ما يجعلني أنا شخصيا ومن يشاطرني الرأي ممن هو على شاكلتي نتساءل عن نوايا سياسات الرئيس إسياس أفورقي السلبية ودوافعها الحضارية من اللغة العربية في إرتريا، ونشك في قدرة هاتين الورقتين غلى تخطي الخطوط الحمراء في مسألة اللغة العربية، وإلا لما أهمل أبو عري في كهوف السجن وظلامه!!

 وتأسيسا على نظرية الشك هل لنا أن نتساءل عن نوايا الرئيس إسياس أفورقي تجاه اللغة العربية عما إذا كانت هي نوايا ومخاوف المستعمر الأوروبي نفسه الذي وقف من اللغة العربية في عالمنا الإسلامي يوم احتلها الموقف نفسه الذي يقفه منها الرئيس إسياس أفورقي في إرتريا حاليا بعد الاستقلال، ووقفه منها الإمبراطور الإثيوبي يوم دخل إرتريا غازيا ومستعمرا بمساندة المستعمر الأوروبي؟

 هل ثمة إنسجام وتوافق بين سياسات الرئيس إسياس أفورقي السلبية من اللغة العربية في إرتريا وسياسات المستعمر الأوروبي منها في العالم العربي والإسلامي وأيضا سياسة أباطرة الحبشة وملوكها الإقطاعيين؟

 للإجابة على مثل هذه التساؤلات من الضروري استعراض سياسات المستعمر الأوروبي أولا، وبعض ملوك الحبشة الإقطاعيين ثانيا ثم ترك المجال للقارئ الإرتري ليقارن بين السياستين من أجل أن يصل إلى نتيجة هو يراها.

أولا: الفرنسيون واللغة العربية في الجزائر

 أصدر وزير داخلية فرنسا في الجزائر قرارا في 8/3/ 1938م زعم فيه أن اللغة العربية في الجزائر أجنبية، وأن الجزائر أمازيغية، وعلى هذا طبقت فرنسا سياسة تهميش اللغة العربية وعزلها كليا عن الحياة العامة في سبيل فرنسة الشعب الجزائري التي واجهها رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الحميد بن باديس الأمازيغي البربري بشعاره الشهير: شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب. 

 وما زالت فرنسا حتى هذه اللحظة تطبق هذه السياسة على أبناء الجالية المغاربية المهاجرة إلى فرنسا، فقد كتب السيد عثمان سعدي رئيس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية في جريدة الحياة 19/4/2000 يقول: ” في يوم 7/1/2000م أصدرت وزارة التربية الفرنسية قرارا يطبق في امتحانات البكالوريا ينص على أن يكون امتحان اللغة العربية بالنسبة للطلاب العرب من المغرب العربي بالحرف الفرنسي، أي أن النصوص العربية التي تقدم في ورقة الامتحانات تكون مكتوبة بالحروف الفرنسية، وإن الجواب يكتب بتلك الحروف، ويشمل هذا القرار الغريب التوقف عن تدريس العربية الفصحى التي يعتبرها القرار لغة تعاهدية غير حية، واستبدالها باللهجات العامية العربية… وحجة وزارة التربية الفرنسية أن الفصحى غير مستعملة في بيوت الطلبة المغاربة، وإن العربية مفروضة أيدلوجيا من طرف القومية العربية التي انتهت وماتت”.

المنطق نفسه يقوله منظروا الجبهة الشعبية ( لا يتحدث العربية غير الرشايدة) ( اللغة العربية غير مستعملة في البيوت) ( إنها مفروضة من الإنجليز ) (وافدة من الخارج نتيجة التأثر بثقافة ما بعد اللجوء) !!

 ثانيا: الإنجليز واللغة العربية في جنوب السودان

 كذلك فعل الإنجليز في جنوب السودان حيث كتب السكرتير الإداري في السودان ( ماك مايكل) في مذكرته التي أعدها في 10 سبتمبر 1928 عن مسألة اللغة العربية قائلا: إن نشر اللغة العربية بين زنوج الجنوب يعني نشر الثقافة العربية والديانة الإسلامية “.

 وبعد دراسة اللورد ( ليود ) المندوب السامي البريطاني في مصر لآراء حكومة الخرطوم حول اللغة العربية في الجنوب كتب إلى لندن قائلا: ” إنه من المرغوب فيه، ولاعتبارات سياسية، وإدارية، ودينية، وتعليمية، اختفاء اللغة العربية من جنوب السودان، وأن تحل اللغة الإنجليزية محلها في المناطق التي يكون التخاطب غير عملي باللهجات المحلية، وينبغي تشجيع الإداريين البريطانيين تعلمها”.

 تنفيذا لهذه السياسة كتب مدير بحر الغزال إلى المفتش ( راجا ) من مركز المديرية التي انتشرت فيها اللغة العربية قائلا: ” أرجو أن تذكر دائما أنه ينبغي عمل كل شيء وإن كان صغيرا تافها يكون من شأنه المساعدة ولو بقدر ضئيل على محو اللغة العربية، وتشجيع اللهجات المحلية، والوعي القبلي، واللغة الإنجليزية بدلا عنها، وإيقاف الكلمات العربية مثل: شيخ، وسلطان، واتخاذ العبارات المقابلة لها في اللهجات المحلية كلفظة ( بنج ) مثلا في مناطق الدينكا، كما ينبغي حث زعماء العشائر وعامة الناس على الحفاظ على أسمائهم القبلية، فيجب أن يشجعوا على استعمالها”.

السياسات نفسها ينتهجها نظام الجبهة الشعبية (الحرف اللاتيني) بدل الحرف العربي ( لغة الأم) بدل اللغة العربية، كتابة (التجري) (بحرف الجئز) بدل كتابتها بـ(الحرف العربي)!!

 ثالثا: ملوك الحبشة واللغة العربية في الحبشة

 على الخط نفسه سار ملوك الحبشة وأباطرتها حيث اتخذ جميعهم مواقف سلبية من اللغة العربية ومعادية لها لمخاوف حضارية، وأسباب عقدية، فقد منع (منيليك) ” استعمال اللغة العربية في هرر” وفقا لما ذكره فتح غيث في كتابه (الإسلام والحبشة عبر التاريخ).

 ولما جاء الإمبراطور هيلي سلاس اتبع سياسات أكثر تشددا وتزمتا، يقتفي أثر من سبقه من أباطرة الحبشة المتعصبين، في محاربة اللغة العربية في الحبشة كلها، وفي إرتريا على وجه الخصوص، وإحلال اللغة الأمحرية محلها، حين دخلها غازيا مستعمرا، وهو ما لاقي مقاومة حادة وجادة من كل الإرتريين الأحرار الذين آمنوا بوحدة الشعب الإرتري في كيان إرتري موحد ومستقل عن الإرادة الإثيوبية ورغبات أباطرتها الإقطاعيين الشيفونيين وناضلوا في سبيل ذلك إلى أن تحقق وجود هذا الكيان بشكل رسمي عام 1993م.

هل لي أن أشك؟

 هذه هي سياسات المستعمر الأوروبي في  التعامل مع اللغة العربية، وهذه هي سياسات الجبهة الشعبية في الموقف من اللغة العربية في إرتريا وعلى المواطن أن يقارن ليحدد أين نقاط التلاقي وأين نقاط التباين والاختلاف.

وإذا كان من حق كل فرد منا أن يشك وأن يجعل من الشك منطلقه في تحليل الظواهر التي حوله فهل لي أن أشك ـ وفقا للمعطيات التي أوردتها ـ في دوافع سياسات الرئيس إسياس أفورقي السلبية من اللغة العربية في المجتمع الإرتري؟

 هل لي أن أشك في براءة هذه السياسات ووطنيتها حين تتهم كل من يطالب باسترداد الحق الدستوري والثقافي للغة العربية بأنه يعاني من ( أزمة هوية) على حد تعبير الرئيس إسياس أفورقي؟

 هل لي أن أشك في مرامي ومقاصد فرض سياسات التعليم بلغة الأم وشغل الناس بما يعرف بتطوير ثقافة القوميات وبعث فلكلورها التراثي؟

 هل لي أن أشك في قدرة ورقة السفيرين (هيجي) و(بادوري) على تغيير هذه السياسة أو التعديل فيها بحكم أن الأمر أكبر من إرادتهما وفوق قناعتهما؟

 هل لي أن أشك في أهمية وجدوى ندوة تعقد هنا أو هناك حول جزئية من مشكلة كبرى وأساسية، وهي مشكلة السلطة بحذافيرها، والتي أضحت حكرا في يد فئة بعينها، وحرم منها الآخرون كما أبانتها وثيقة المفتي بإحصائية في منتهى الدقة والشفافية؟

 هل لي أن أسأل: ماذا يجدي اعتماد اللغة العربية بشكل وآخر والسلطة على هذه الحال حكر في يد هذه الفئة؟

 أليس من حق المظلومين والمهمشين أن يشكوا في أهداف وجدية ندوات لا تلامس أساس المشكلة، ولا تقترب منها، وأن يشكوا في نوايا صانعي القرار الحقيقيين في نظام الجبهة الشعبية ما دامت العدالة على هذا النحو مقصوصة الجناحين تعجز عن الرفرفة في سماء البلاد؟

 أليس من الجدية الوطنية، وضرورات العدالة الحقيقية أن تعالج المشكلة من جذورها وأساسها، في ندوة تحاورية، يشارك فيها الإرتريون جميعهم، بكل أطيافهم السياسية، وفئاتهم القومية، ومعتقداتهم الدينية، وتبايناتهم الجهوية، وليس عبر معالجة جزئية، في ندوة جانبية، لا تمثل أدنى ثقل سياسي في معايير النظام الذي أقامها، وليس لقراراتها ولا للأوراق التي ألقيت فيها أي تأثير فاعل من غير موافقة عليا؟!!

وكتبه د. جلال الدين محمد صالح

  2010-6-10

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=38974

نشرت بواسطة في يونيو 20 2010 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010