الميكافيلية الجديدة : عندما تصبح الوسيلة غاية !؟

عمر جابر عمر
الأنسان بحكم تكوينه العقلى وتركيبته النفسية تحكمه نوازع الخير والشر بدرجات متساوية أو متفاوتة – أنه ليس كالملائكة كله خير وليس كالشيطان كله شر ولكنه مخلوق وسط يحمل ( بذور ) الخير والشر معا. ونمو وسيطرة كل من نزعة الخير أو الشر على تفكيره وفى سلوكه تتوقف على عوامل كثيرة منها التربية والثقافة والبيئة وقبل ذلك وبعده الهداية من الله ! ملايين من البشر يولدون ويعيشون ويغادرون الدنيا ولا نعرف أن كانوا أخيارا أم أشرارا ؟ كل ما نقوله عنهم : يرحمه الله كان رجلا طيبا . أذا أردت أن تعرف أى النزعتين ( الخير أم الشر ) تسيطر على شخص ما أعرض عليه السلطة !؟ ردود الأفعال تختلف … أصحاب نزعة الخير ينقسمون الى ثلاثة أقسام :
1- الأول يقول – كلا أنا لست أهلا لحكم الناس وأدارتهم – ليس لى تجربة ولا أملك مؤهلات ومقومات القيادة … لهذا نقول : بارك الله فى أمرىء عرف قدر نفسه.
2- الثانى يعرف أنه يملك المؤهلات والتجربة ولكنه يرى أمامه طريقا شاقا وطويلا  لا يملك له الأستعداد النفسى – أنه زاهد فى السلطة.
3- الثالث يعرف أن له القدرات والتجربة ويدرك بأن ( الناس با لناس والكل برب العا لمين ) لذا يقبل التحدى ويخوض التجربة ومن بين هؤلاء يخرج الحاكم العادل والصالح.
أما النوع الثانى –  الأشرار – فينقسمون الى :
1- الشرير الهاوى – الذى يتلذ ذ بالسلطة ويستمرىء بريقها وملذاتها – فى ظل هكذا حاكم ينتشر الفساد السياسى والمالى … لكنه أمام أى محنة يهرب نجاة بنفسه ( بن على – مبارك ).
2 – الشرير المحترف… تسكنه أشباح الموت – مصاص دماء – يقتل القتيل ويسير فى جنازته – لا يرف له جفن — لا دمعة فى عينيه ولا رحمة فى قلبه – كل ما عداه فانى الا هو !؟ ( منقستو – القذافى – على صالح – أسياس ) .

هؤلاء فهموا وطبقوا فلسفة ( ميكافيلى ) فى الحكم. وقد لخص ميكافيلى نظريته فى كتابه ( الأمير ) —  القرن الخامس عشر – وهى عبارة عن نصائح وتوجيهات للحكام حول أنجح السبل للاحتفاظ بالسلطة فى مواجهة الخصوم : ما هو مفيد فهو ضرورى – الغاية تبرر الوسيلة – أستخدام كل الوسائل مهما كانت وحشيتها من أجل سحق الخصوم !؟
لكننا فى أرتريا نعيش حالة فريدة وغريبة – من جهة شرير محترف أ ستولى على السلطة ومارس كل شىء – ما أوصى به ميكافيلى وما أضافه أبداعه الخاص – من أجل الحفاظ على السلطة. ومن جهة ثانية معارضة ( أداة التغيير ) تعيش فى حالة جمود مبرمج وسكون مزمن جعلها تعارض دون صدام وتقاتل من غير سلاح وتما رس الرفض حتى لمن يرفضون النظام ! أنها متناقضات لا تتعايش ولكنها فى الوقت ذاته لا تصطدم . المعارضة كوسيلة للتغيير يفترض أن تشكل بديلا لما تريد تغييره – لكن المعارضة الأرترية جعلت من وجودها ( غاية ) فى حد ذاته – أقعدها العجز السياسى عن التقدم والمواجهة وتوقفت عند مناقشة خيارات المواجهة – أيهما أفضل الوسائل السلمية أم الكفاح المسلح ؟ وكلا الخيارين ليس من أجل التطبيق والممارسة ولكن بهدف الأصطفاف والتمحور وكسب الأنصار ؟ لا من يلوح بالعصا يملكها ولا من يحمل زهرة يزرعها !  عندما تكون الوسيلة مثل الوباء المتوطن فأنها تصبح غاية وتكون هى محور الأتفاق والأختلاف ! أنه صراع سلطة ولكن خارج السلطة – خارج الحلبة – ومن هنا تظهر عبثيته وعدم جدواه.
الى الذين ينادون بالتغيير السلمى : ما هى الحدود الفاصلة بين وصف حركة ما بأنها سلمية وأخرى بأنها دموية ؟ هل هو عدد الضحايا ؟ وماذا عن رد فعل النظام ؟ الثورة الليبية بدأت سلمية وأ نتهت الى حرب دولية ؟ لا أعرف نموذجا خرج فيه المتظاهرون فى الشوارع وأسقطوا النظام من دون تدخل ومساعدة الجيش ( القوة العسكرية ) ؟ حتى ثورات البرتقال والبنفسج والياسمين وكل أنواع الزهور والعطور تدفقت فيها الدماء ثم تدخل الجيش وحسم الأمر. الآن يقولون أن الوسيلة هى ( الأنتفاضة الشعبية من الداخل ) ؟
لقد تم تجنيد كل من هم دون الأربعين سنة – بعبارة أخرى تم تجييش الشعب ! ماذا لو أنتفض ( الجيش الشعبى ) أى الشعب المسلح ؟ هل يكون ذلك مقبولا ومشروعا ؟ لماذا نرفض أن يقوم مسلحون من الخارج ( من المعارضة ) بعبور الحدود والقيام بأ نتفاضة ؟ المبرر أن الحالة الثانية هى تنفيذ لأجندة أثيوبية !؟
أذا سأ لنا رئيس النظام عن الأنتفاضة الداخلية سيقول أنها ( أجندة أمريكية ) ! أيهما أكثر خطورة – الأمريكية أم الأثيوبية وهل هناك تناقض بينهما ؟ أم أنها دعوة للتسليم بما قدر الله والأنزواء فى مخابىء المهجر لمتابعة مباريات كرة القدم الأوربية وأرسال أمنياتنا الطيبة للشعب الأرترى ؟ لحسن الحظ أن صناعة التاريخ لا تتم من خلال الأمنيات الطيبة وأحداثه لا تأ تى أستجابة لأحلام اليقظة – بل أن ذلك كله محكوم بآ ليات وقوى تتصادم فيها الأرادا ت وتتصارع وفق قوانين البقاء والفناء وتتولد عن ذلك طاقة أجتماعية ومادية وروحية تحدد شكل ومحتوى التغيير – ذلك ما حدث فى كل من تونس ومصر وما يحدث اليوم فى اليمن وليبيا – وسيحدث حتما فى أرتريا !؟
جميع ا لأديان – السماوية منها والوضعية – تنادى بالمحبة والسلام والتسامح والغفران … ذلك ما يقول به المبشرون والدعاة شفاهة وما هو مكتوب فى الكتب الدينية ولكن ما نشاهده على أرض الواقع شىء آخر تماما …هل نبدأ بالحروب الصليبية  عندما قاد ( ريتشارد قلب الأسد ) ملك أنجلترا – القرن الثانى عشر– حملة عسكرية لآسترداد بيت المقدس بأسم المسيح را فعا الصليب وقتل ثلاثة آلاف من الأسرى المسلمين ؟ وقبل تلك الحملة وفى يوم تتويجه حدثت مذبحة اليهود الشهيرة فى ( يورك ) حيث قتل جميع اليهود فى المدينة . وفى العصر الحديث قامت الجيوش الأستعمارية الأوربية بغزو أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بأسم الحضارة – ولكنها قتلت وأحرقت وقسمت شعوب تلك البلاد ونهبت ثرواتهم وكانت تبنى فى كل بلد كنيسة طلبا لنصرة السماء !
واليهود الذين يذ رفون دموع التماسيح كل يوم على حائط المبكى ويقولون  أنهم ( المعذبون والمنبوذ ون فى الأرض ) أقاموا دولتهم على جماجم وأجساد أطفال فلسطين …
                                                                                                                
 والأسلام ذلك الدين السمح والمتسامح و رغم جوهره المسالم ودعواته للتعايش  خرج من بين أبنائه من قام بتكفير الآخر وعمل قتلا وحرقا ونسفا فى كل مكان وضد كل أنسان ( القاعدة وطالبان ) .                                                                                                                      
البوذيون – أولئك الرهبان المسا لمون الذين تعلو الأبتسامة وجوههم أنقلبت بلادهم الى ساحة حروب وأبا دة ( كمبوديا وبورما …).
وحتى الهندوس الذين  يقد سون البقرة ويفسحون لها الطريق يدوسون بأقدامهم على رقا ب وجماجم المسلمين الهنود ويبقرون بطونهم !؟ أما الأيديولوجيات الوضعية فحدث ولا حرج … من الثورة البلشفية فى روسيا الى الثورة الفيتنامية مرورا بمسيرة المليون  ميل التى قادها ماو تسى تونج . كل ذلك وغيره – حتى لا نذكر النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا والأرهاب الأبيض ( الكوكلاس كلان ) فى أمريكا وحروب التحرير والأبادة فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية …الخ . ذلك هو حال البشر –  عالم تحكمه نوازع الشر وتسود فيه قيم ومبادىء النفاق والتضليل والدجل والتناقض بين الشعار والممارسة — عالم تحكمه نزعة  العنف للسيطرة على السلطان والبلاد ويستخدم فيه المال لشراء الذمم وأفساد العباد – ويا ويل للضعيف والفقير… أما أصحاب الضمائر ومن تسيرهم نوازع الخير تضيع أصواتهم فى الزحام وتظل توصياتهم حبيسة خزائن الأمم المتحدة والمنظمات الأنسانية والحقوقية.  كيف ومن أين ستجدون تلك الوسيلة السلمية الخالصة  فى عا لم الأشرار هذا ؟
السؤا ل : لماذا يرفض الغرب ( أو ما يسمى بالمجتمع الدولى ) أحداث التغيير بالقوة فى حين أنه يمارس نفس الشىء ؟ ( التدخل العسكرى فى كوسوفو – التدخل الأمريكى فى العراق وأ فغانستا ن وأخيرا تدخل الناتو فى ليبيا ؟ أنها الخشية من فزاعة القاعدة – يعرفون أن شعوب المنطقة هى أسلامية وأذا أمتلكت السلاح فأنها لن تتوقف عند شعار ( أسقاط النظام ) بل ربما تناولت أستراتيجية الوجود الغربى برمته !؟
رئيس الوزراء الأسرائيلى كان أكثر صراحة حيث قال فى مؤتمر صحفى فى ألمانيا منذ أسابيع قليلة : نحن لا نعرف الى أين ستتجه هذه الثورات – الى ما أنتهت اليه ثورات أوربا ضد الأنظمة الشيوعية
أم الى نموذج النظام الأيرانى … نتمنى أن تكون مثل النموذج الأول !؟
ليس السبب هو أذن الحرص على الديمقراطية وليس المنطلق هو الأقتناع بأن ما يأتى بالعنف لا يؤدى الى الديمقراطية ( مساعدة الكونترا با لسلاح ضد حكومة الساندينستا فى نيكاراجوا— محاولة غزو كوبا عسكريا فى خليج الخنازير ) . لماذا يتحالف الغرب مع الأنظمة الدكتاتورية أذا كان حريصا على الديمقراطية ؟ هل الغرب يرفض الديمقراطية ؟ كلا ولكن له أولويات – مصالحه وكيفية الحفاظ عليها !
وحتى يطمئن على تلك المصالح لا بد من أيجاد البديل – الغرب هو الذى أتى بزين العابدين وعندما رفضه الشعب وقف الى جانب التغيير بعد أن أطمئن أنها محفوظة. فى مصر تردد فى دعم الثورة الشعبية حتى أعلن المجلس العسكرى أنه ملتزم بأتفاقيات السلام مع أسرائيل وذهبت كلنتون الى ميدان التحرير !
وفى اليمن عبر الغرب عن  تردد وقلق وهو يتابع حليفه وعميله يتهاوى تحت ضربات الشعب حتى أطمئن الى اللقاء المشترك ( المعارضة ) وأيد المبادرة الخليجية. وحتى فى ليبيا ورغم تد خله العسكرى الا أنه كان يدقق ويبحث فى البديل ويسأل أكثر مما يقدم من أجابات أو دعم حقيقى على الأرض. هذه هى الميكافيلية الجديدة ( الأحتفاظ بالمعارضة وتجميدها حتى أشعار آخر – أى حتى ظهور البديل ). وأذا أضيفت عوامل ذاتية خاصة بالمعارضة تصبح الحالة لإى وضع سكون وجمود عن الحركة – مثل المعارضة الأرترية –
  وليس الأمر قاصرا على الغرب – لقد أصبحت الميكافيلية الجديدة فلسفة العصر –
 النظام الأرترى يحاول ممارسة هذه اللعبة مع المعارضة الأرترية ؟ الأساس هو النظام وما يمكن أن يحدث فى حالة الضرورة هو تجميل وطلاء لهرم الجبهة الشعبية.  المعارضة الأرترية ليست  بديلا – ولا حتى شريكا — فى منظور الجبهة الشعبية ولكنها  يمكن أن تكون فى حالة الضرورة  أضافة وتكملة للبناء دون تغيير الأساس !؟ أذا كان النظام جادا لماذا لا يدعو الى مؤتمر مصالحة وطنية بصورة علنية بدلا عن أرسال جنرالاته الى أوربا لعقد لقاءات سرية ؟
وأخيرا – حتى المعارضة الأرترية  – تمارس الميكافيلية الجديدة !؟ تريد أن تظل هناك موجودة حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
مشكلة المعارضة الأرترية  مزدوجة – من جهة تواجه نظاما شريرا لا يؤمن بالحوا ر ومن جهة ثانية يحيط بها عالم تحركه قوانين القوة والمال – وهى الضعيفة والفقيرة الى الله !
فى الجيوش العسكرية عندما تصل القوة الى حالة عدم اليقين حول الخطوة القادمة فى سيرها ويكون القائد مترددا فى أتخاذ القرار – يلجأ الى حيلة تعطيه مساحة من الوقت للتفكير وتحفظ فى الوقت ذاته القوة العسكرية فى حالة أستعداد وترقب – يأمرها بعمل ( خطوات تنظيم ) !؟ وبعدها يقول قف ويأمر أما بالأنصراف أو مواصلة السير . التحالف الآن فى مرحلة ( خطوات تنظيم ) والمحطة التى تحدد أنصرافه أو مواصلته السير هى المؤتمر الوطنى القادم ! وهذه أحدى أيجابيات التحالف – الدعوة الى المؤتمر الوطنى .
الخيار بين الوسائل تحدده الغاية والهدف من التغيير وذلك يأخذ فى الأعتبار مكونات وعقلية وتركيبة وطبيعة النظام المطلوب تغييره. ليس هناك من يهوى سفك الدماء  أو ممارسة العنف ولكن أذا كان الخيار بين الوجود والعدم – بين البقاء والفناء فأن الوسيلة ستفرض نفسها مهما كان شكلها وطبيعتها … تحديد الأولويات هو البوصلة التى تحدد الوسائل – هل المطلوب هو الأصلاح وتجميل النظام أم تغييره ؟
أخيرا أذا كان العالم من حولنا يستخدم نظريات فيلسوف عصر النهضة ( ميكافيلى ) – الغاية تبرر الوسيلة-
بل وأضاف اليها جعل المعارضة ( غاية ) يحتفظ بها حتى أشعار آخر للحفاظ على  مصالحه – ألا يحق للمعارضة الأرترية أن ترعى وتحافظ على ( مصالحها ) بحيث تنتقل من حالة السكون الى الحركة ومن الجمود الى الفعل و تصبح وسيلة لتحقيق غايتها : تغيير النظام وبناء دولة العدالة والمساواة !؟  كيف ؟
ذلك هو موضوع اللقاء القادم ..
كان الله فى عون الشعب الأرترى.

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=14638

نشرت بواسطة في مايو 26 2011 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010