النظرية: المفسرة والدليل الارشادي العملي

فتحي_عثمان

فتحي عثمان

“في اللحظات الحالكة نحتاج إلى تشاؤم الذهن وتفاؤل الإرادة”
غرامشي
أثارت مسألة النظرية في الندوة الأخيرة تساؤلات وحوارات من ضمنها حوار هاتفي مع الأخ محمد إسماعيل هنقلا وأتبع النقاش منشور على صفحته في الفيس يؤكد بأن الجبهة كان لديها نظرية وأنزلتها على الواقع ونجحت في تطبيقها وعاب عليها انعدام المراجعة والتحديث.


أحب أن أشير أنني عندما آخذ النقاش إلى درجة أعلى بالإضافة والزيادة ليس غرضي تحقيق كسب لمناظرة أو تحصيل نقاط، بل محاولة للإيضاح لأننا، وكما ظهر من النقاش، وبعض الأخوة لا نقصد نفس المفهوم لذلك تتباين افتراضاتنا وخلاصاتنا تبعا لذلك.
الحقيقة أنني لم أنكر وجود دليل نظري للعمل وموجهات إرشادية نظرية للمسار سواء كان في داخل الجبهة أو الشعبية. التنظيمان كان لديهما برامج حركة التحرر الوطني الديمقراطي أو الميثاق الوطني ومرشدات العمل النظرية والعملية داخل الأجهزة والتكوينات الفئوية، بل داخل الوحدات العسكرية. يعني أن الأيديولوجيا كانت حاضرة داخل التنظيمين وذلك لا ينكر وإن كان يجب أن يعامل بحذر كبير ودون أحكام مطلقة.
ما قصدته في الندوة هو النتاج الفكري النظري الذي يجيب على أسئلة الواقع وأزماته ويجيب عليها عمليا عبر تنزيل النظرية على الصعيد العملي، علما بأن التنظيمين متهمين من خصومهما بأنهما داخل الحزبين السريين الماركسيين أخذا بقشور النظرية الماركسية وطبقا مفاهيمها بشكل خاطئ على الواقع المحلي، وهذا حديث آخر.
الأسئلة التي أقصدها هي من شاكلة:
ما تأثير التباين الاقتصادي في الدولة المستعمرة “إيطاليا” على نوع الاستعمار في كل من الصومال وليبيا وبالأخص نمط وسياسات الاستعمار الايطالي في الحالة الارترية؟
ما تأثير تباين أنماط الإنتاج الاقتصادي في ارتريا وتأثيره على البني الاقتصادية والثقافية وانعكاسه على الثورة؟
والتحليل الاقتصادي والسياسي لقدرات الإمبراطورية ومراميها التاريخية في ارتريا مع ربط مسألة استحواذ الأراضي وملكيتها على ميول الأحزاب السياسية في فترة الاربعينات.
ما هي مشكلات “تكييف حرب العصابات في الواقع الارتري على ضوء تجريه تقسيم البلاد إلى مناطق عسكرية؟
ما هو دور الأسلحة الثقيلة في التوجه الهجومي للثورة في النصف الثاني من الثمانينات؟
مسألة تصفية الاستعمار والبعد الدولي للقضية الارترية؟
هذه مجرد أسئلة ومحطات الإجابة النظرية عليها يمكن أن تشكل دليل عملي مرحلي وهي مجرد أمثلة وليست أسئلة حصرية ” وتم مناقشة جزء كبير منها في كتابي ارتريا من حلم التحرير وكتاب الشرعية السياسية وبإسهاب”
هذا هو المقصود بالإنتاج النظري، وهو الإنتاج “المفسر” لأزمات المجتمع والساع إلى وضع حلول نظرية وعملية لها.
اليسار الماركسي داخل جبهة التحرير لم يقدم حتى اليوم، حسب علمي، قراءة ماركسية لهزيمة الجبهة أو حتى قراءة نظرية للحرب الأهلية في أطوارها المختلفة.
الجبهة الشعبية بالمقابل قدمت، تاريخيا، وليس بشكل مكتوب وموثق تفسيرا نظريا “لإخراجها” جبهة التحرير من الميدان وهو التفسير القائم على “التحالف” مع قوي “تقدمية” وياني تيغراي لإسقاط قوي “رجعية” وهي جبهة التحرير الارترية. وهذا التفسير النظري الفطير حضر كاتب هذه السطور مناقشاته مع أعضاء وكوادر عليا في التنظيم في مطلع الثمانينات.
الأسباب التي منعت ظهور الإنتاج النظري المفسر للأزمة الاجتماعية كثيرة ويمكن أن يفرد لها كتب من قبل المختصين، ولكن عوامل التعليم “المشار اليها بتوسع في كتاب الشرعية” أبرز العوامل، ولكن تجربة الماركسيين داخل الجبهة والشعبية كانت تضم مقاتلين ذوي قدرات كتابية وتنظيرية متميزة منهم على سبيل المثال لا الحصر: الزين ياسين، إبراهيم محمد علي وابراهيم توتيل في الجبهة، وفي الشعبية رمضان محمد نور ومحمد علي عمارو واحمد طاهر بادوري
فإذا كان هناك جهد تنظيري لاحق فلماذا لا نحصل على تفسير ماركسي أو بعثي للكارثة التي تعرضت لها جبهة التحرير وهي التي كانت تضم الطيفين السياسيين؟ البعض قد يظن أن هذه أسئلة اكاديمية تعني فروعا من العلم بعينها ولا تخص النظرية بشيء ويمكن أن تسقط عن المنظرين الثوريين بإدائها في حرم الجامعات. الرد على ذلك أن النظرية وعندما تبناها الماركسيون الارتريون كانت بالنسبة لهم “نظرية علمية” يمكن تطويعها لخدمة الثورة، من خلال هذا الفهم الإجابة على هذا النوع من الأسئلة وما يشابهه يقع من ضمن اختصاص المثقف الثوري. وهو الذي أشار إليه الأخ هنقلا بأنه “المثقف الجماعي” وهو يقصد حسب توضيحه لي أن المثقف الذي ينتج باسم الحزب وليس باسمه الشخصي، مثلا كما كان يفعل غرامشي أو تروتسكي، ولكن ليس هناك ما يسمي بالمثقف “الجماعي” فصفة الجماعي يمكن أن تصف “النقل” أو “العمل” ولكنها لا تصف الأشخاص لطبيعة التناقض في التكوين بين الفرد والجماعة. عليه ليس هناك ما يمكن تسميته بالمثقف الجماعي.
في هذا السياق يحضرني، وعلى سبيل التمثيل أيضا، وليس المقارنة المجهود النظري للحزب الشيوعي السوداني “أيضا قد تثار مشكلة التعليم، وأننا لا يمكن أن نقارن بالآخرين” ولكن هذا المثال هو بيان لدور الكادر والمنظر الحزبي، محمد إبراهيم نقد مثلا قدم للمكتبة الحزبية والعامة إسهاما متجاوزا وتاريخيا عبر تأليفه لكتاب: ” علاقات الرق في المجتمع السوداني: النشأة والسمات والاضمحلال، توثيق وتعليق”
وهو كان يمكن أن يدفن رأسه في التراب باعتبار أن تناول مسألة الرق في المجتمع السوداني مسألة “معيبة ومخجلة” ومضى زمنها وعفى الله عما سلف.
وكذلك فعل خالد حسين عثمان الكد في كتابه القيم: “الأفندية ومفاهيم القومية في السودان.”
والأن دعونا نأتي إلى جوهر هذا الحديث والغرض من إثارته في الندوة، والذي حجبه الكلام عن التاريخ في الجبهة وفي الشعبية. الحقيقة أن ما حدث في الجبهة والشعبية وغيرهما هو تاريخ أو هو في ذمة التاريخ ولا يهمنا إلا بمقدار “تكرره” المؤسف اليوم.
نقطتي الأساسية من إثارة الموضوع هي أننا اليوم نعيش نفس واقع انعدام النظرية المفسرة للأزمة الاجتماعية والقدرة على وضع الحلول العملية للأزمات والعمل من أجل حلها.
الجيل الماضي كان يعاني من نقص التعليم، ولكن ما هي حجتنا اليوم ومواليد الستينات من القرن الماضي أصبحوا الآن على أبواب العقد السادس وتمتعوا بتعليم ليس داخل ارتريا، بل خارجها وفي دول متعددة وجزء كبير منهم الآن يعمل في المعارضة ولا يقدم لها الإرشاد النظري.
ما حدث في تنظيمات الماضي يتكرر في تنظيمات وأحزاب اليوم والعثرات البادية في المسار ما هي إلا الدليل على غياب النظرية المفسرة، هذا الغياب الذي دفعنا ثمنه في الماضي والكارثة أننا ندفع ثمنه في الحاضر أيضا.
أرجو ان يتيح هذا المنشور توسعا خلاقا في الموضوع وتصحيح للقصد، مع الإشارة أنني لن أتداخل في النقاشات لاعتبارات خاصة وهذا لا يمنع، كما أرجو، كل الأخوة والأخوة من التداخل وإثراء النقاش من كل الجوانب.

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=46614

نشرت بواسطة في سبتمبر 18 2022 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010