الوصل أو الفصل بين الدين والدولة

أفكار وآراء للمناقشة….

الإسلام والسياسة
مصطلح فصل الدين عن الدولة مصطلح غربي لا علاقة له بالإسلام، ولذلك يجب أن يعرض مصطلح الفصل بين الدين والدولة من خلال الواقع التاريخي الثقافي الاجتماعي الذي ظهر فيه، بعد الوقوف على حقيقة هذا الواقع، وعلى مدى الاختلاف والتباين الشديدين بينه وبين واقعنا الثقافي الاجتماعي الذي نعيش فيه.

فلا وجه للمقارنة بين الأوضاع التاريخية الثقافية السياسية الاجتماعية للمجتمعات الأوروبية التي ظهر فيها هذا المصطلح وبين الأوضاع التاريخية الثقافية الاجتماعية السياسية للمجتمعات الإسلامية.

لما ساءت الحال في أوروبا في القرون الوسطى، و بلغ الظلم والاستبداد بالمخلوقات مبلغا لم يبلغاه في أظلم عصور التاريخ القديم، ثار الناس على هذه الأوضاع فنادى مارتن لوثر بالإصلاح الديني واتبعه الكثير من الناس.

لهذا نشأ المذهب البروتستانتي وكان من آثاره رغبة الشعوب في التحرر من سلطان الملوك، وقامت الثورات ومنها الثورة الفرنسية، فنادى المفكرون والحكام بفصل أمور الدين عن أمور الدنيا.

إن الإسلام كشريعة ومنهاج يختلف عن غيره من الرسالات والشرائع السابقة عليه بما يتضمنه من أنساق للعلاقات والمعاملات بين الناس ومن قدرة على التشريع لقيادة الحياة العامة في المجتمع المسلم وبما يقرره من أحكام وقواعد ومعايير تؤسس للاجتماع السياسي وتجعل من الشورى مبدأ أصيلا من مبادئ الحكم في المجتمع المسلم، تجذر الأخوة والمساواة، وتقيم العدل بين الناس وتنشر الإحسان بينهم.

وهذا ما يجعل للإسلام مكانة خاصة به دون غيره من الرسالات عند الكلام عن الوصل أو الفصل بين الدين والدولة، أو عند الحديث عن علاقة الدين بالسياسة في الإسلام أو عند الحديث عن دور الدين في الحياة العامة للمجتمع المسلم، فهو الدين الخاتم، الجامع، المهيمن ، المحفوظ، الخالد، العالمي.

الإسلام دين وليس سياسة، ولكنه دين يؤسس للسياسة فيضع لها من المبادئ والأحكام والقيم والمعايير ما يمكنها من إقامة المجتمع السياسي على أسس وقواعد تحقق له الوحدة والقوة والعزة والمنعة وتقيم الأخوة والمساواة بين أفراده والعدل بين الناس.

فالقرآن نزل من أجل إرساء أنساق الحلال والحرام، والخير والشر، والحق والباطل، والفجور والتقوى، والصلاح والفساد، ومن أجل تأصيل و تجذير مبادئ الأخوة والمساواة والعدل وحرية الرأي والشورى ليوجه من خلال ذلك الأفعال الاجتماعية، ويشكل الأطر العامة للتوجه السياسي للمجتمع.

بل هو الذي يحدد أحيانا طبيعة الفعل السياسي أو يوجه إليه، بما يضعه من مبادئ دينية أخلاقية سياسية، تفرض أشكالا من التعامل دون غيرها في مواقف معينة، كالتعامل مع الدول والمجتمعات الأخرى ووضع مبادئ السلم والحرب، وطرق معاملة الأسرى ووضع الاتفاقيات والمواثيق والعهود.

لذلك فإن العلاقة بين الدين والدولة لم تنفصم في يوم من الأيام، قد تضعف، و قد لا تكتمل ولكنها لا تنفصل ولا تنفصم.

ولم تكن العلاقة بين الدين والدولة مثار تساؤل ولم يكن هناك أحد يتوقع في المجتمع المسلم أن تقوم سلطة أو نظام أو أن تؤسس دولة دون أن تكون موصولة بالدين، ودون أن تكون في خدمة الدين، ودون أن تعمل على تحقيق مقاصد الدين في المجتمع.


لم ينص القرآن على نظام محدد للمجتمع من حيث أداة الحكم وطرقه، بل ترك ذلك للناس ولاجتهادهم، ولم يضع أحدا حجة على غيره يفرض كيفية معينة أو نظاما دون آخر

بناء الدولة
السلطة المطلقة أو الحكم المطلق شأن إلهي يختص به الله وحده لا شريك له فهو الآمر الناهي وهو الحق الحكم العدل، ومع ذلك هناك حكم جزئي أو سلطة سياسية اجتماعية (في الواقع الإرادي)، الواقع الذي سخره الله للإنسان وأمره بإعماره، وهو تخويل من الله سبحانه وتعالى للناس أجمعين ليلتئم شملهم وينتظم أمرهم، والمستخلفون في هذا الحال مسؤولون عن تنفيذ هذا التخويل.

لم ينص القرآن على نظام محدد للمجتمع الجديد من حيث أداة الحكم والطرق، بل ترك ذلك للناس ولاجتهادهم، ولم يضع أحدا حجة على غيره يفرض كيفية معينة أو نظاما دون آخر.

لكن التجربة السياسية التاريخية أو الإلزام التاريخي غير المحكوم بنص لبناء السلطة السياسية أو لاختيار نوع النظام السياسي أو لاختيار أداة الحكم، محكوم بحكم التطور التاريخي نفسه للفكر الإنساني السياسي الاجتماعي وكذلك محكوم بحركة الإنسان في الواقع السياسي الاقتصادي الثقافي الاجتماعي المتغير، وبقدرته على تطوير آلياته وأدواته السياسية وطرائقه التي يتوصل إليها تنظيم المجتمع وبناء الدولة.

بناء الدولة كآليات أو كمؤسسات وهيئات وهياكل سياسية أو إدارية أو شعبية أو مهنية هو ما يجب أن يخضع للتطور التاريخي، ويحكمه تقدم المجتمعات وتطور المعارف والعلوم من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة ومن مجتمع إلى مجتمع.

هذه الآليات تنشأ وتتحقق في المجتمع بحسب الحاجة إلى مثل هذه المؤسسات، بل إن هذه الحاجة كثيرا ما تدفع إلى ظهور آليات ومؤسسات جديدة يمكن أن تسهم بشكل أكثر فعالية في تنظيم المجتمع.

والإناء بما فيه ينضح، لأنه محايد وما فيه هو ما يظهر عليه، وكذلك آليات الدولة، كما هو الحال بالنسبة للمؤسسات الديمقراطية والسياسية، فهي مؤسسات محايدة في ذاتها، ولذلك لا يجوز أن نحكم عليها بالحلال والحرام أو بأنها موافقة للدين أو متعارضة معه إلا من خلال استخدامها، وما يوضع فيها من أفكار وقضايا للنقاش، بل من خلال ما يصدر عن هذا الاستخدام من قوانين وقرارات ومواقف واتجاهات سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية، وليس من خلال ما يتعلق بها في ذاتها كآليات أو أدوات من تسمية أو تنظيم.

وعندما نتحدث عن الديمقراطية أو عن البرلمانات والمؤسسات فنحن نتحدث عنها كآليات ومؤسسات لا كمبدأ من مبادئ النظرية السياسية الغربية، فلا يجوز اعتبارها من الإحداث الديني، فهي ليست بدعة مذمومة أو محظورة لا ينبغي الأخذ بها أو الالتفات إليها أو الاستفادة منها، ليست ضلالة لأنها ليست مضمونا، بل هي مجرد آليات تنظيمية تمنح الفرص والإمكانيات للحد من سلطة الحاكم ومن استبداده وطغيانه، وتوفر الأسلوب الصحيح للناس لتنظيم شؤونهم السياسية ولممارسة حقهم في التعبير وفي المشاركة السياسية وتحقيق المساواة بينهم وحفظ حقوقهم السياسية.

ولكن ما يصدر عن هذه المؤسسات يجب البحث فيه من حيث الفصل أو الوصل بالدين، وهو ما يجب أن يقيد بالشريعة وبمقاصد الدين، فلا يخرج عنها ولا يخالفها، وهو المضمون الذي يجب أن نتعامل معه في مسألة الفصل أو الوصل بالدين وليس الديمقراطية.


الشورى كمبدأ سياسي اجتماعي وكقيمة سياسية اجتماعية بل كقيمة أخلاقية أيضا هي ما يجب أن يتصف به المؤمنون بل ويعملون به في تفاعلهم وتعاملهم وفي اتخاذ مواقفهم وقراراتهم

الشورى والديمقراطية
يلحظ الباحث في تاريخ مفهوم الشورى وفي أشكال حضوره المختلفة في الكتابة السياسية المعاصرة ظاهرتين جديرتين بالانتباه، أولاهما أننا لا نجد في نصوص الأقدمين اهتماما بموضوع الشورى في الإسلام بل تكاد لا تشير إليه نصوص السياسة الشرعية المرجعية، وثانيهما أننا لا نكاد نعثر في ما حرره المثقفون الإسلاميون في الموضوع على رصيد فكري في التنظيم لمسألة الشورى.

لكن الشورى كمبدأ سياسي اجتماعي وكقيمة سياسية اجتماعية بل كقيمة أخلاقية أيضا هي ما يجب أن يتصف به المؤمنون بل ويعملون به في تفاعلهم وتعاملهم وفي اتخاذ مواقفهم وقراراتهم التي يصلون إليها من خلال ذلك.

وفي الحديث عن الديمقراطية وعن علاقتها بالشورى نتحدث عن ديمقراطية محايدة، أوعن أجهزة ديمقراطية محايدة في ذاتها، ولا نتحدث عن ديمقراطية علمانية أو رأسمالية أومسيحية أوغربية، ولا نتحدث عن قيم ملحقة بها أو تابعة لها، بل نتحدث عن الديمقراطية كآلية لا كمضمون، كمنهج للممارسة السياسية لا كموضوع للممارسة.

فالديمقراطية ليست قانونا قطعيا صارما، إما أن يطبق كله بما يحمله أو بما يلحق به من أفكار وقضايا وفلسفات سياسية اجتماعيـة أخلاقيـة، أو يترك كله بما فيه من أجهزة وآليات وأدوات لممارسة العمل السياسي.

إضافة إلى ذلك فإن العلاقة بين الديمقراطية والشورى لا ينبغي أن تصل إلى حد التماهي، لأن للشورى خصوصيتها الثقافية الأخلاقية السياسية الاجتماعية، وللديمقراطية أيضا خصوصيتها في وسطها الذي ظهرت فيه، خصوصيتها الفلسفية السياسية الاجتماعية.

ولذلك يجب أن تكون العلاقة أو هذا التأسيس على مستوى الآلية لا على مستوى المضمون، حيث يمكن أن تستوعب الشورى (كمبدأ أو كقيمة) الديمقراطية كآلية، فتتأسس بذلك الشورى على طرائق وأدوات وآليات ديمقراطية، وتنشأ علاقة منهجية بين المفهومين، ويندمج المفهومان في حركة واحدة ومنهج واحد ومؤسسة واحدة للرأي والقرار.

فتتحول الشورى بذلك من مبدأ أو من قيمة سياسية اجتماعية أخلاقية إلى آليات وأدوات وطرائق للعمل السياسي، ثم إلى آلية سياسية ثم إلى مؤسسة للشورى.


التنكر لأهمية وصل الدين بالدولة من حيث المضمون تجاوز غير منطقي للواقع الديني الثقافي الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية وهو في نفس الوقت محاولة تعسفية لإبعاد الدين من الحياة العامة وإهمال متعمد لشخصية الفرد المسلم ولشخصية المجتمع

مستوى المضمون (مستوى الوصل)
إن ما يختص به المجتمع وما تختص به السلطة وبتطبيقه من الأحكام والمبادئ والقيم والقواعد والأوامر والنواهي ومن الواجبات الشرعية يشكل في ذات الوقت جزءا من الواجبات الشرعية التي يؤمن المسلم بأنه مكلف شرعا بتطبيقها، ومكلف شرعا بمطالبة السلطة بتطبيقها في المجتمع، لأنها على هذا النحو من الواجبات الشرعية التي يجب أن يقوم بها المجتمع الذي هو أحد أفراده أو أن تقوم بها السلطة التي تحكم المجتمع الذي هو أحد أفراده.

وفي الإسلام لا نستطيع فصل جانب عن جانب، لا نستطيع فصل جانب العبادات عن جانب المعاملات أو عن جانب الأخلاقيات ولذلك لا يجوز لأحد أن ينقص شؤون السياسة والسلطان من تكاليف شرع الله ولا أن يعزلها عن عبادته، فالالتزام بشرع الله يعني أن نتعبد الله في كل ما نعمله في الصلاة والزكاة والحج وفي السياسة والاقتصاد وفي الثقافة والاجتماع وفي الحرب والسلم.

إن وصل الدين بالدولة يقوم على مستوى المضمون وليس على مستوى الآلية، ليس على مستوى المؤسسات والهياكل السياسية أو الديمقراطية أو المؤتمرات الشعبية أو النقابية أو المهنية في ذاتها كآليات وأدوات وأبنية وتراكيب محايدة تخضع لكيفية استخدامها، وبالتالي فإن الوصل الذي يجب أن يتحقق في المجتمع المسلم هو الوصل على مستوى المضمون.

إن التنكر لأهمية وصل الدين بالدولة من حيث المضمون أو من حيث الموضوع أو المحتوى السياسي الاقتصادي الثقافي الاجتماعي للدولة من قبل السلطة في المجتمعات الإسلامية إنما هو تجاوز غير منطقي للواقع الديني الثقافي الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية وهو في نفس الوقت محاولة تعسفية لإبعاد الدين من الحياة العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية..إلخ، وإهمال متعمد لشخصية الفرد المسلم ولشخصية المجتمع الدينية والثقافية والاجتماعية على السواء.

حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله

كلمة أطلقها ابن القيم منذ ألف عام. ورغم أنها أخذت عليها إلا أنها ماتزال تتردد على ألسن المصلحين والفقهاء.

عن أي مصلحة تحدث ابن القيم؟ ما هو ضابط المصلحة؟ وما هو معيارها؟ كيف يمكن إعادة رصف المصالح المعتبرة في حياة الناس؟ هل ماتزال الأحكام التي استوعبت الجسم الاجتماعي الإسلامي قادرة على استيعاب الجسم الاجتماعي المعاصر حتى اليوم؟ ألم يكن الثوب الاجتماعي أو السياسي ابن البيئة، مع أنه إلى حد ما، ابن الشريعة؟ فهل يمكن للبعد الزماني أو المكاني في هذا الثوب أن يهترئ؟ ألم يتقلص الثوب الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي من بعض نواحيه فهو في حاجة إلى عود على بدئه؟

المصالح المعتبرة في إطارها الشرعي هي الضابط والمعيار لاستئناف حياة إسلامية تنطلق من نصوص الشريعة ومن تحسس مشكلات المسلمين وتطلعاتهم.

نماذج دستورية لعلاقة الدين بالدولة :ـ

فالعالم المعاصر يشهد أنماطا أربعة لعلاقة دستور الدولة بالدين، اثنان منهما شموليان، حتى وإن كان أحدهما محايدا تجاه كل الأديان، واثنان منهما ليبراليان وإن نص أحدهما صراحة على دين رسمى للدولة. وفيما يلى تفصيل هذا الإجمال.

1- دستور شمولى منزوع الدين يتفق مع نمط من العلمانية يقوم على «الحرية ضد الدين» (freedom against religion) وهى الصيغة السوفييتية ومعها التركية الكمالية، حيث ترى النخبة القابضة على الدولة أن الدين فى ذاته خطر وأن التدين مؤشر تخلف. وهى صيغة متراجعة تاريخيا لأنها بذاتها تتناقض مع حق الأفراد فى أن يكون لهم مجالهم الخاص والعام الذى لا تتدخل فيه الدولة. فالدولة استغلت اختصاصها التشريعى واحتكارها للعنف كى تقبض على هذين المجالين. فالفرد بهذا ما مارس حقه الطبيعى فى الاعتقاد والتدين وما كانت الدولة حامية لمثل هذا الحق باعتبارها المنتهكة الأولى له. فدستور كوريا الشمالية لا يوجد فيه نص على أى دين، ومع ذلك لا يمكن أن يكون هو النموذج الذى ينبغى الاحتذاء به فى علاقة الدين بالمجتمع.

2- دستور شمولى يميز دين الأغلبية ويحظر أديان الأقليات الأخرى. وهذه الصيغة الدستورية ترتبط مباشرة بتأويلات متشددة التى يتبناها أتباع دين الأغلبية، أى ليست قضية عقيدة بالضرورة بقدر ما هى قضية اعتقاد. ومن أمثال تلك الدساتير، دستور 1990 فى نيبال، الذى جعل منها مملكة هندوسية مع الرفض الصريح للاعتراف بحق المواطنين النيباليين المسلمين والبوذيين والمسيحيين فى ممارسة شعائر دينهم، وقد تم تعديل هذه المادة مع الانقلاب العسكرى فى 2007. وماثلهم حكم طالبان، رغما عن عدم وجود دستور مكتوب. ولو تمكن اليمين الدينى فى إسرائيل من تطبيق الهلاخا (Halacha) والتى تعنى الشريعة، لمحوا ما عدا اليهودية من أديان. والخطر الحقيقى فى هذا النمط أن تزعم أى طائفة حقا لها فى أن تشرع لكل المجتمع باسم الدين فى حدود تفسيرها الضيق لنصوصه غير عابئة بحقوق الأفراد من الديانات الأخرى أو من داخل نفس الدين فى أن يكون لهم مجالهم الخاص ومجالهم العام المدنى الذى يتحركون فيه. وهنا يكون الدين قد تحول إلى أداة قمع لا تحكم فقط المجالين الخاص والعام لأتباعه ولكن السياسة والحكم والتشريع للمجتمع بأسره أيضا.

ومن هنا تأتى أهمية أن يكون الدستور ليبراليا حتى وإن كان فيه نص على دين رسمى؛ حيث إن الليبرالية تضع قيودا على الاستبداد باسم الدين والاتجار به، كما ترفض أن يكون البديل عن الاستبداد باسم الدين، استبدادا بغيره. فالليبرالية متصالحة مع الدين تحترمه وتضعه فى مكانه اللائق به سواء على المستوى الفردى أو كإطار عام لحياة الناس فى مجتمعهم دون أن يسمح للسلطة بالتعسف فى استخدامه.

وهذان النمطان السابقان لا يشكلان، ولا ينبغى لهما، أمل أو مستقبل أى قوة سياسية ، لأنهما لا يتفقان مع روح الليبرالية الحقة من ناحية، كما أنهما نمطان متداعيان عملا بحكم استحالة وجود النقاء الدينى فى أى مجتمع، فضلا عن الالتزام الرسمى من معظم حكومات العالم بمواثيق حقوق الإنسان والتى تؤكد حرية العقيدة وحق ممارسة شعائر الدين.

3- دستور ليبرالى محايد دينيا كمقدمة لاحترام جميع الأديان صراحة. ويقف خلف هذا النمط الدستورى فلسفة علمانية تفترض »حرية الدين« (freedom of religion) وهى النموذج الليبرالى الأصيل، كما هو فى الصيغة الأمريكية والكندية والاسترالية واليابانية، حيث تحترم الدولة المجالين الخاص والعام تماما بضابطين اثنين وهما ألا تحابى الدولة رسميا دينا على حساب دين آخر ولا تسمح الدولة بأن تكره أى طائفة شخصا على الشعور بالحرج من التعبير عن رموزه الدينية أو تبنى دين دون آخر. فالدولة تتدخل بالتشريع لحماية حقوق الأفراد ولا ترى أن عليها مسئولية فى دمج أبناء الديانات فى المجتمع بإجبارهم على التخلى عن رموزهم ومعتقداتهم ولكنها تهدف إلى التعايش بينهم. ويمثل الخوف الأوروبى من مظاهر التدين الإسلامى المتنامى هناك، خروجا عن المبادئ الليبرالية الأصيلة. وصعوبة هذا النمط من الدساتير، كما يشير الفيلسوف الأمريكى العظيم جون رولز، تكمن فى أنه يقتضى توافقا مجتمعيا سابقا على الدستور ولا نتوقع أن ينشئ الدستور بذاته مثل هذا التوافق دونما حاجة للقمع وإلا أصبح الدستور نفسه سببا للصراع الاجتماعى بما يعد انحرافا عن دور الدستور الأصلى، وهو منع الصراع وحسن إدارته إن ظهر.

4- دستور ليبرالى يقرر وضعا خاصا لدين الأغلبية مع توافر شرطين: أولهما أن يكون دين الأغلبية نفسه لديه القدرة على استيعاب الحقوق الأساسية لأتباع الديانات الأخرى، وهو الشرط المتحقق فى الإسلام بحكم نصوصه وقدرته على التعايش مع الأديان الأخرى فى مناخ من »البر والقسط « كما نص القرآن الكريم، وهو ما بدا واضحا حين يطالب بعض المسيحيين في مصر بتطبيق نصوص الشريعة الإسلامية والتى تجيز للكنيسة إدارة شئونها، وفقا لقوانينها الكنسية دون تدخل أحد فى شئونها. وثانيا أن يقرر القانون نصوصا فوق دستورية (supra-constitutional) تقرر لكل أتباع الديانات حقوقا متساوية أمام القانون. الأقل شكليا والأمثلة كثيرة لهذا النمط ، حيث تبنت هذا النمط الدنمارك وأيسلندا والنرويج وفنلندا التى تنص دساتيرها وقوانينها صراحة على أن المسيحية اللوثرية هى ديانتها الرسمية، وهو نفس الحال مع المسيحية الأنجليكانية فى انجلترا والمسيحية الأرثوذوكسية فى اليونان وقبرص والكاثوليكية كديانة رسمية فى كل من الأرجنتين وبوليفيا وكوستاريكا والسلفادور. ولا توجد دولة مسلمة لا يظهر الإسلام أو إشارة له فى دستورها صراحة سوى تركيا بعد التعديل الدستورى فى عام 1928، ولبنان وألبانيا وعدد من الدول الشيوعية السابقة فى وسط آسيا.

وأخيراًَ

تعتبر العلاقة بين الدين والدولة واحدة من أكثر علاقات المجال السياسي تعقيداً، ذلك أن الدين والدولة ينتميان إلى حقلين مختلفين، لكنهما متداخلان بقوة، حتى ليصعب تصور أي فصل بينهما وأيضاً أن الدولة تتعين بهذه الدرجة أو تلك تعيناً غير مباشر ومجرد بالدين، ما دامت تتعين، خاصة إن كانت دولة ديمقراطية، بمواطنين قد يكونون مؤمنين تعترف بحقهم في تقرير شؤونهم، سواء عبر انتخابات نيابية، أو عبر انتخابات بلدية ومحلية، أو بما يحمله الممسكون بها من إيمان يسهم في تحديد نظرتهم إليها، بما هي الأداة الرئيسة لتنظيم الحياة العامة.

إلى هذا، فإن دور الدين في تعيين وعي المواطن الدنيوي لطالما حدد بدوره نمط الدول، وعلى سبيل المثال، فإن الإصلاح الديني أسهم أعظم إسهام في قيام الدولة الحديثة، اللا دينية، في الغرب، منذ فترة ما قبل الثورة الفرنسية، وخاصة في ألمانيا، حيث اعتبرت الثورة أيديولوجية الدولة القومية البادئة، دولة الأمراء المستقلين، الذين أسسوا سلطة ملكية لم تقم على الحق أو التفويض الإلهي، انفصلت عن دولة العصر الوسيط، التي لعبت الكنيسة دوراً رئيساً في تحديد هويتها، وآليات إعادة إنتاجها، وتوزيع السلطات والصلاحيات فيها، حتى ليمكن القول إن الدولة الحديثة، وهي بحق تكوين غير ديني، تشتغل في حاضنة يقرر الدين جوانب مهمة من حياتها العامة وإطارها وحاملها، لذلك تواجه الدول العلمانية، التي تقوم على فصل المجالين الديني والدولوي، مأزقاً حقيقياً، عندما يكون شعبها متديناً أو مؤمناً، فترى نفسها أمام وضع مفارق يجعل منها دولة غير ديمقراطية، إن هي ضربت عرض الحائط بإرادته ـ الشعب ـ وتشبثت بعلمانيتها، أو قبلت، كدولة علمانية، بما يترتب على إيمان مواطنيها الديني في المجال التمثيلي والسياسي.

ومع أن العلمانية تفصل الدين عن الدولة على الصعيد المؤسسي، فإنها تواجه مشكلات كثيرة في تطلعها إلى جعل الدين شأنا ًعمومياً تضبطه معايير قانونية وممارسات إجرائية لا يمليها الدين أو الإيمان به على الفرد السياسي: مواطنها، الذي يتعين بقيم غير دينية حتى إن تقاطعت في جوانب منها مع الدين. بكلام آخر: تشطر العلمانية الإنسان إلى مواطن وشخص خاص، فتحدد للأول حاضنة تنظيمية وقيمية تقرر أموره وتمكنه من الإسهام في الشأن العام، وتترك للثاني حرية تحديد شؤونه الخاصة بالطريقة التي يختارها، على أن لا تفضي إلى تقويض المجال السياسي، العلماني، وإن تعينت بالدين وتأثرت به. ومع أن هذا الشخص الخاص لا يشعر باضطهاد الدولة العلمانية له، لأنها لا تضطهده ولا تمنعه من ممارسة إيمانه في الحقل العام، فإنه يعتبر تمثيلها له محدوداً أو مثلوماً، ويعد مشاركته فيها نوعاً من التواطؤ على ذاته، ما دامت المشاركة لا تقيم تطابقاً بينها وبين الصورة التي يقترحها للحياة العامة، بل تقتصر على منحه الشعور بحرية فردية لا يحقق من خلالها ما يريده، بما أن الدولة تبقى علمانية بغض النظر عن نتائج التمثيل السياسي، وممارسة حريته لا تحدث أي تبدل في طبيعتها. لا يعني هذا، طبعاً، أن الدولة العلمانية، أو الدولة عموماً، لا تكترث بعقائد مواطنيها، وأنها لا تتأثر بها إطلاقاً، حين تعترف بحق مواطنيها في التأثير في المجال العام عبر معاييرهم الأخلاقية، الدينية المنشأ والطابع، وتسمح بتفاعل أنشطتهم مع أفعال الدولة، بصفتها فاعلية مقابلة لها ومستقلة نسبياً عنها.

ثمة في علاقة الدين بالدولة جانب عرفناه خلال السنوات الخمسين الماضية في المجالين الدولي والإقليمي، هو عبادة السلطة، القائمة على دين أيديولوجي علماني المفردات، رموزه ومكوناته غير دينية، تستبدل الآلهة بالبشر، والطقوس الدينية بالطقوس السياسية، وتضفي القداسة على السلطة ورجالها باعتبارهم كنيسة جديدة لا يجوز لمواطن الخروج عليها، وإلا اعتبر هرطوقاً واستحق أنماطاً من العقاب تشبه تلك التي تم إنزالها بالكفار في تاريخ الدعوات الدينية.

ولهذا من الضروري إعطاء اهتمام خاص للعلاقة بين الدين والدولة، ومن الحيوي جعلها موضوع تفكير جدي ومعمق، يدرس دور الدين في بناء الدول الحديثة، ودور الدول الحديثة في رعاية القيم الدينية، وخاصة منها قيم الحياة والحرية والكرامة الإنسانية، التي حفظ الدين من خلالها الوجود البشري، ويعد من أهم واجبات الدولة الحديثة حمايتها وتنميتها.

مجموعة تجديد الصحوة

sahwah1@hotmail.com

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=10072

نشرت بواسطة في ديسمبر 23 2010 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010