جامع عبد الرحمن الصومالي الرحيل الهادئ .. والفراق الأليم

 غادر هذه الفانية ، والتحق بالآخرة الباقية ، أخونا الكريم ، والمناضل الجسور ، والمجاهد الباسل ، والسياسي الماهر، والرياضي المطبوع ، جامع عبد الرحمن محمد ( الصومالي ) ، ومضت روحه الطاهرة بهدوء إلي بارئها ، في الثاني والعشرين من فبراير الجاري ، وارتاحت النسمة الطيبة في مستقر رحمة الله الرحيم ، فنسأل الله لفقيدنا المغفرة ، وسكني الجنات في الفردوس الأعلى برفقة ( النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) ، وأكرم بها من صحبة ومعية ، وأنعم بها من عاقبة . فارقنا الفقيد العزيز جامع دون وداع ، وما كنا نحسب أن رحلة الاستشفاء إلي الخرطوم ستكون آخر العهد بيننا وبينه ، ولكنها مشيئة الله الغالبة ، وقدره الناجز ، ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) ، صدق الله العظيم . لقد خلّف فراق أخينا جامع في النفس أسي ولوعة ، وشيء من حتى ..! . وبعض الحوارات عن هموم الوطن وآمال وأشواق الحركة الإسلامية ، لا تزال عالقة في الفضاء لم تكتمل فصولها ، ولم تجد أسئلتها الكثيرة الحيرى الإجابات والتعقيبات ..!!. فارقنا ذو النفس الآبية ، والهمة العالية ، وترك الحزب الإسلامي الارتري ومنتدياته ومحاضنه التربوية بفرع كسلا ، متشحة بالسواد ، يعتصرها الحزن والألم ، وما تزال جنباتها تردد صوته الجهوري ، بقامته المديدة ، وطرحه القوي ، ودفوعاته الشجاعة ، مسنودة بخبرات متراكمة من لدن حزب الرابطة الإسلامية وهو في ريعان الصبا ، وحركة تحرير ارتريا ، ثم جبهة التحرير الارترية في فرعها العمالي بمدينة كسلا .. ولد أخونا الكريم جامع في ثلاثينيات القرن الماضي ، بمدينة كرن ، وما أدراك ما كرن ؟!. في أسرة كريمة عميدها مكافح يعمل في تجارة الذرة ، ربى أبناءه علي الاعتماد علي النفس ، والإقدام ومكارم الأخلاق .. وألحقهم بالدراسة حيث تلقي فقيدنا تعليمه الابتدائي علي أيدي معلمين وطنيين ، ثم المرحلة الأولية علي أيدي معلمين أكفاء جلبهم المستعمر الانجليزي من السودان الشقيق .. فنهل العلم ، واقتبس من الآداب والأخلاق ، وتشكلت شخصيته الفذة ، المتقدة ذكاء ، والمتدفقة حيوية ونشاطا ، والمتطلعة إلي الآفاق الرحبة ، والمستقبل المشرق ، والغد المأمول الذي تسوده الحرية والانعتاق من الاستعمار لوطنه ، والعزة والكرامة لمواطنيه .. كان الأخ جامع – عليه الرحمة – منذ نعومة أظافره رياضيا ، عشق كرة القدم ، ومارسها كلاعب في صفوف فريق (استيلا) بكرن ، ثم فريق (الميرغني) بكسلا .. وعندما تقدمت به السن ، ظل وفيا لهذه اللعبة ، متحليا بروحها ، داعيا لأخلاقها النبيلة ، باذلا التشجيع لفريقه المفضل ، وللعبة الجميلة .. انخرط أخونا جامع في سوق العمل بعد إكمال تعليمه بالمرحلة الأولية ، ومن ضمن المهام التي تقلدها الإشراف علي مشروع زراعي بمنطقة القاش ، برزت فيه مهاراته الإدارية ، وتجلت قدراته الذهنية وذاكرته القوية .. حيث كان كالنحلة يتحرك بين العمال ، وما أن تنقضي سحابة اليوم ، إلا وصرف لكل عامل أجره قبل أن يجف عرقه ، وعندما يسدل الليل أستاره ، ويأوي إلي بيته يقيد كل المصروفات التي قام بها خلال اليوم اعتمادا علي ذاكرته الحديدية ..!. وقد لفت نشاطه الجم ، وذكاءه الحاد ، رجل دين مسيحي ( قسيس ) من سكان المنطقة ، والذي بادره بسؤاله : ما اسمك يا بني ؟ فقال له ( جامع ) ، ومن فرط الدهشة ، والمفاجأة غير السارة ، وضع القسيس كلتا يديه علي رأسه وقال : ( اتي عابي رأسوم ) يقصد مسجد المسلمين الجامع !. وانطلق القسيس في سبيله ولم ينبس ببنت شفة مرة أخرى ؟!. إن موقع مدينة كرن التي ترعرع فيها فقيدنا جامع ، من ارتريا موقع (السرة) ، ضمت مزيجا فريدا من مختلف الأعراق من مناحي ارتريا بل ومن خارجها .. افرز هذا التمازج والتعايش الايجابي مجتمعا راقيا متحضرا ، يسوده التعاون والمشاعر الأخوية التي تعلي من رابطة الانتماء إلي الجغرافيا ، وتنعم بمزية عبقرية المكان !. لذلك كانت كرن منطلق حزب الرابطة الإسلامية ، وموئلا للأحرار ، تضج بالشرفاء ، وتعج بالمناضلين ، وقد أنجبت الأفذاذ ، وسطرت تاريخها المشرف علي سجل الوطنية بأحرف من نور ، ولا أدل علي دور مدينة كرن الريادي في النضال الوطني من مقولة ممثل الإمبراطور هيلي سلاسي في ارتريا ، أسرات كاسا الأصلع مهندس سياسة الأرض المحروقة ، والتي بلغة التقرنجه : ( أب كرن دلوّس أب ملوء ارترا يسنكت ) وترجمتها غير الحرفية : ( ما يحاك ويخطط في كرن ينفذ في جميع أرجاء ارتريا ) ، هكذا كانت كرن ، في هذه البيئة وفي هذه الأجواء عاش فقيدنا جامع ، ممتلئا وطنية وحماسا ، باذلا جهده وعرقه وفكره ، بل وروحه فدى للوطن .. ومناضل جسور من هذا الطراز، بروحه الوثابة ، وقلبه الشجاع ، كان طبيعي أن تستهدفه سلطات الاستعمار الإثيوبي عندما كثّف من نشاطه السياسي في تشكيلات حركة تحرير ارتريا ، فأودعته المعتقل ، وسامته وزملائه مر العذاب .. وعندما اندلع الكفاح المسلح بقيادة جبهة التحرير الارترية ، كان عليه الرضوان ، من أوائل الملتحقين بصفوفها ، وظهرت نضالاته الصادقة وسط الجماهير الارترية بمدينة كسلا ، وأبلى بلاء حسنا مع زملائه من كوادر جبهة التحرير ، خاصة وسط شريحة العمال .. تعبئة وتوعية وقيادة ، وحشدا لطاقات الجماهير دعما للثورة ، للتعجيل برحيل الاستعمار ، وبزوغ فجر الحرية . ولنشاطه المشهود في فرع العمال بمدينة كسلا ، رحمه الله ، اختارته القواعد ضمن أول مكتب قيادي للفرع ، بعد إنشاء الاتحاد العام لعمال ارتريا ، كما حضر المؤتمر العام لاتحاد عمال ارتريا بالميدان ممثلا لفرعه ، علاوة علي حضوره المؤتمر العام الثاني لجبهة التحريرعام 1975م . شارك فقيدنا العزيز بالتوقيع علي المذكرة الشهيرة التي رفعها المكتب القيادي لفرع العمال بمدينة كسلا إلي قيادة جبهة التحرير ، يستنكر فيها استحواذ حزب العمل الشيوعي علي الجبهة ومراكز اتخاذ القرار فيها ، وصبغ جميع أنشطتها بلونه الأحمر الفاقع ؟!.. ونددت المذكرة بالآثار السالبة التي تخلفها مثل هكذا ممارسات علي جدار الوحدة الوطنية ، وعلي قوة وتماسك صف الجبهة !!. وأتبعت المذكرة الاتهامات بالأدلة مستشهدة بما نشر في أدبيات الجبهة ، وبما اتخذ من ممارسات .. فمن ذلك تساؤلها : بماذا يخدم القضية الوطنية نشر الإلحاد في صفوف القيادات والمواطنين ، وبث الشكوك في وجود الخالق عبر الكتابات المسماة تثقيفية ، ومن ذلك ما جاء بمجلة النضال ، في عمود القاموس السياسي : ( إن الكون ليس بحاجة إلي عقل كلي يدير شئونه ، ويتدبر شئون الناس ) ؟!. ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) . ساهم المناضل جامع عبد الرحمن مع زملائه من القيادات العمالية في إصدار البيانات في إطار التيار الوطني المناهض لحزب العمل الشيوعي داخل جبهة التحرير .. فقد صدرت العديد من البيانات منددة بالممارسات القمعية التي كانت تقوم بها قيادة الشيوعيين في حوادث متعددة ، وأوقات متفرقة ، كتصفية المناضل سعيد حسين ورفاقه ، واعتقال الشيخ محمد إسماعيل عبده ، والشيخ حامد تركي ، والشيخ إبراهيم إدريس محمد آدم وغيرهم من المناضلين والشرفاء .. مما كان يثير انزعاج وقلق المجموعة الاقصائية من قيادات حزب العمل المندحر .. كان المرحوم جامع ورفيقي دربه عبد الحميد قايد وضياء الدين عبد الرحمن يقيمون منتدى يوميا مفتوحا بقهوة النجيلة بمدينة كسلا يؤمه جمهرة من الطلاب بجانب الشرائح الأخرى .. ومن ثمرات هذا المنتدى ، والحوارات البناءة التي كانت تجرى فيه ، والنصائح المخلصة التي كانت تسدى فيه ، أن سرت روح المقاومة والتصدي في أوصال الجماهير ضد موجة الإلحاد والإباحية وعرابها حزب العمل الشيوعي .. فبعد أن كان محظورا رفع الاجتماعات لأداء صلاة الجمعة ، وممنوعا علي أي أحد أن يغادر الجلسة للصلاة ، تكاثرت الأصوات التي تنادي بالسماح لها بمغادرة القاعة لأداء صلاة الجمعة ، خاصة وسط الطلاب ، ولم يكن أمام قيادات حزب العمل إلا الرضوخ والانصياع ؟!. كان يعدّ جريمة نكراء وعار لا يليق بتقدمي ثوري التلفع به ، أن يبتدر حديثه باسم الله ( البسملة ) ، دعك من أن يصلي ويسلم علي الرسول صلي الله عليه وسلم .. فلا شك سيرمي من يتجرأ علي اقتراف ذلك !. بأقذع نعوت الرجعية والطائفية .. والحال هكذا قام مجاهدنا جامع رحمه الله ، في إحدى احتفالات أعياد الثورة باعتلاء المنصة مفتتحا بتلاوة آيات من الذكر الحكيم ، موجها لطمة قوية لدعاة الإلحاد والمتحللين من كل فضيلة وخلق !. جعله الله في ميزان حسناته ، وأثابه الأجر الجزيل . فلما تصاعدت روح التحدي والتصدي لموجة الإلحاد والإباحية ، وكثرت الاستنكارات القوية ، والتنديدات الجريئة بممارسات شرذمة حزب العمل ، وكان المرحوم جامع وزملائه في مكتب فرع العمال بكسلا رأس الرمح في هذا التصدي والمواجهة .. كان لابد من عزلهم عن قيادة الفرع ، وصدرت التوجيهات بذلك إلي رئيس اتحاد عمال ارتريا الذي قدم إلي كسلا ، ودعي لاجتماع بالقواعد دون علم قيادة الفرع التي كانت تتابع عن كثب .. فاقتحمت عليه الاجتماع وواجهته وخطأت تصرفه الذي يتصادم والقواعد التنظيمية والنقابية .. كما عرت وكشفت ممارسات حزب العمل وخطورتها علي مستقبل الجبهة وتماسكها .. وعاجلت قيادة الفرع المناضل علي حنطي باستقالتها قبل أن يتمكن من إعلان إقالتها ..!. سلمته خطاب الاستقالة أمام المجتمعين ، ومن ثم أعلنت تنحيها إلى مواقع الأعضاء العاديين مع كامل التزامها بخط جبهة التحرير والنضال من أجل الوطن .. فكان درسا بليغا في الالتزام والانضباط والانحياز للوطنية الحقّة .. واستحقت قيادة الفرع بذلك وصف المناضل عبد الله إدريس لها بأنها ( حكومة كسلا ) !. بغض النظر في أي السياقات ورد الوصف !. وبعد انهيار جبهة التحرير الارترية عام 1982م ، أعلن الوطنيون والإسلاميون منظمة الرواد المسلمين الارترية ، فكان فقيدنا جامع – عليه الرحمة – من مؤسسيها ومن قياداتها بفرع كسلا .. مواصلا نضاله وجهاده بحركة الجهاد الإسلامي الارتري ثم الحزب الإسلامي الارتري إلي حين ترجله والتحاقه بالرفيق الأعلى ، مخلفا سيرة عطرة ، ونضالا مشهودا ، وجهادا مأجورا ، وصحائف ذاخرة بجليل الأعمال .. نسال الله له الأجر والثواب العظيم . فقد كان الراحل المقيم جامع جوادا كريما مضيافا ، منزله مفتوح للجميع ، وكان نزلا لقيادات وكوادر جبهة التحرير ، منهم علي سبيل المثال : صالح إياي ومحمد عمر يحي وجروي تدلا بايرو وعلي محمد صالح .. وغيرهم كثر . فاللهم يا كريم أغدق علي عبدك جامع من فيض آلائك ، وأنعم عليه في بحبوحة الجنة ، انك سميع مجيب . وفي الختام نسوق العزاء الحسن ، والسلوان الجميل لأسرته الكريمة : زوجته الصابرة حواء وأبنائه عبد الصمد وعبد الرحمن وابنتيه الكريمتين ، أما ابنه البكر محمد فقد سبقه شهيدا دفاعا عن العقيدة والعرض .. فاللهم ألحقه به وشفعه فيه .. وأحسن العزاء كذلك لشقيقه عبد الله بالسعودية ، ولشقيقته رقية بكسلا ، ولكل ذويه ولإخوانه بفرع الحزب الإسلامي الارتري بكسلا ، ولأصدقائه الكثر ، وأخص رفيقي نضاله وجهاده عبد الحميد قايد وضياء الدين عبد الرحمن . ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، و (إنا لله وإنا إليه راجعون ) .

 علي عبد العليم  

27/2/2010م

 alialawe2000@hotmail.com

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=1961

نشرت بواسطة في فبراير 28 2010 في صفحة اعلانات وبيانات. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010