حين نتحسس الطريق فوق اجسادهم!

بقلم/ كرار هيـابو

Hiabu1_k@yahoo.com

تعددت الأسباب والموت واحد،

أتحدث عنهم ،

 عن هؤلاء الأولاد السبعة،

 (ولاد شقريت) ،

او حتى (ولاد قيحيت )

(.. طلايم..)

( طعادي)

اتحدث عن موتهم، لا عن أسباب الموت،

 (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) الأنبياء 35

لايهم كيف ماتوا، أو اين ماتوا، المهم انهم الان في عداد الموتى، كما لا يهم فيما اذا كانوا قد وجدوا من يكرمهم، اكرام الموتى، بدفنهم.

اني لأتساءل:

هل كان اخاهم حين قتلهم بنفس (الحماسة) ليواري اجسادهم تحت الثرى، أم جلس ينتظر أن يأته الغراب ليريه كيف يواري سوءاتهم.

لكني اعرف أن الناعي  كان شجاعا  إلى الحد الذي أمكنه من نعيهم إلى الملأ، فقد ترددت أصداؤه على جنبات الوادي ، وسرى الخبر على ألسنة النسوة  اللائى ودعن أبناءهن منذ زمن بعيد حين كان نقل الأخبار بـ (المراسل) أو مندوب الثورة. فما الذي  يجعلنا نقتتل دون نية البعض منا نيل حياة آمنة بموت الآخرين ، وهو ما أدركنه النسوة حين وقف الناعي على الضفة الأخرى من الوادي!

 انهم افضل الموتى ، أفضل من لقى نحبه على يد أخيه، مقارنة بمن سبقهم من الضحايا والمغدور بهم .

ان تموت في زمن يكثر فيه الموت اهون من ان تموت في زمن يندر فيه الموت، فالذئاب في زمنهم  قد شبعت لحوما من قبلهم ، بل تحولت الى نباتية فيما تحول النباتيون من اهل الغابة الى أكلة اللحوم، لحوم القتلى الذين سقطوا في الحدود منذ ان بدأت الحرب وحتى توقفت، لكن الموت لم يتوقف ، والجرحى مازالو يسقطون حتى اللحظة.

عوامل الموت في بلادي  كثيرة  وقديمة، كثيرة  كثرة  الحروب  والحرق  وزرع الألغام  في الحقول والوديان، وقديمة  قدم التناحر الذي نعيش آثاره.

 كم من قبلهم سقط  قتيلا  حين  بدأناها أول مرة ، بداية التصفية، والتقينا بدون سابق  موعد في ذلك الوادي ، في جبهة تمددت  حينا وانحصرت  حينا آخر، وحين احترق بنا الوادي  وسفح الجبل في (قرقر)، احترقت  القرى الامنة ، واحترق معها زرعها  وضرعها، تلك الحرب التي امتدت  بين (قادم قفريت) على الحدود الشمالية و(مرافيت) ، وتلك القرى التي مازال ابناؤها من ذلك الجيل يعانون آثار الحرب القذرة، أبناء وادي عيت ، وقرى عدوبنا وعيتربة  وعيدب وعيترة  وجلهانتي  وما جاورها.

ان النسوة اللائي يجدن فنون النواح في مثل هذه الظروف هن اللائي خبرن فنون القتال في الحرب، وحين علمن بخبر موتهم ، اكتفين بالسؤال عن عدد الفتيات بينهم ، فالناعي لم يحدد ما اذا كان بين القتلى اناث ، أو ربما مدنيين عزل  ممن يحملون المؤن أو يجمعهم الطريق ، ثم ماذا يفيد التقصي ، اذ هو مضيعة للوقت ، ومضيعة للجهد ، طالما الحرب لم تضع أوزارها ، هذه الحرب القديمة الجديدة ، حرب (قرقر) من أجل السلطة. فالتناحر والخصام كله من أجل السلطة وكل السلطة، ومن أجل عيونها فقط  نتشرذم  ونتقاتل ويحترق الوطن وتزهق الأرواح ودونها والطوفان .

 من يقتل نفسا من اجل السلطة يقتل وطنا باكمله! 

ان الخلافات بيننا  يجب ان لا تتعدى حدود ادبها ، أدب الخلاف،  بل لا يجب ان تصل حتى مرحلة نشرها على حبل الغسيل  ناهيك  من نشرها موتا على ابناء الوطن .

اننا قد نجد عشرات الحلول لمشكلاتنا لو اهتدينا سواء السبيل ، لكننا  وفي ظل نشر ثقافة الخلاف والموت لا نجد الا حلا واحدا هو أن نقتل بعضنا البعض ثم نحتفل بقتلانا في بيوتنا إحتفال الأحياء بالموتى ، تماما مثل ما أفعل أنا في كتابة هذه (الشخابيط) ، بينما يلف الحزن العميق بيوت القتلى ، وتتقطع قلوب اسرهم الما على الفراق  الأبدي  لآباء  ذهبوا  قبل ان يربتوا على اكتاف ابناء  لهم  ولدوا  في أجواء حرب  بدأت  في غير أزمانهم  ولم تنته  فصولها بعد.

ان ما تناقلته وسائل الاعلام الالكترونية من التراشق بالبيانات الصحفية المقتضبة التى تعلن نبأ القتل وتلك التي تعلن الإدانة والشجب لا تتجاوز أكثر من كونها ( محبوب اليوم يعقب المكروه غدا ، ومكروه اليوم يعقب المحبوب غدا ) ، ولن تزد  الجراح  الا ألما ، فبعضها يتحدث عن قتلى والبعض الاخر يتحدث عن شهداء ، وفي غياب من يدعو الى ذكر محاسن الموتى ،  تتنافر الأنفس ، وتتناحر الشعوب التي هدها الهم هدا، وبين هذا وذك يضيع الوطن من بين ايدي الجميع.

ان العبر التي يمكن ان يستفاد منها في مثل هذه الظروف ونحن نتحدث عن الوطن ، الحكم والسلطة، هي أن نبحث عن محاور أخرى اكثر واقعية ، محاور تجنبنا الوقوع  في مستنقعات   الطائفية البغيضة ، وتجنب الوطن شر التشرذم والتخلف.

 ومن يعرف قيمة السلام لا يخض الحرب!


1.     قادم قفريت : منطقة حدودية (قرورة السودانية) بها معسكر للاجئين.

2.     عيت : وادي جبل (قرقر) الشهير بالحرب الأهلية عام 1972م.

3.     القرى تنتشر بين قادم قفريت ومرسى عقيق وعقيتاي ، وكل القرى تبدا اسما ؤها  بحرف (ع) !

 

 


 

حين نتحسس الطريق فوق اجسادهم!

بقلم/ كرار هيـابو

Hiabu1_k@yahoo.com

الحلقة الثانية

( شاميي  بتا باطع  مندي اسفللا  أرحوا  منا  قبي  سلام  جل  إيبلا سربيب من لكهلا )

(رائعة سعيد عبدالله)

سعيد عبدالله…هذا العندليب في أغنية التيجري.. اختلف حوله الناس.. لكنهم اتفقوا على انه العندليب… عندليب الأغنية.

يقول سعيد عن نفسه بأنه يتربع على عرش الأغنية ( كلام في الاذاعة 1997م)، وانه حين تغنى بالجبال والسهول والوديان والأنعام (الجمل) ، بدأ الآخرون بانتهاج اسلوبه. ويؤكد ذلك باشارته الى بعض ممن غنى لمنطقته او مدينته ، مثلا غنى سعيد (ماي أتكموم)، فجاء يوسف أبوشنب وغنى (أفعبتيي)، وعلى ذمة سعيد بدأ الآخرون من حيث انتهى هو. اذن فقد سلمهم الراية وذهب في استراحة أتمنى ان تكون قصيرة ليعود بعدها الى الساحة. ويبقى سعيد ، في نظري على الأقل .. القيثارة التي يطرب لها الوطن.

 

مضوا  لنبقى … ومازال بئر الألم غويطا!

 

وعودة الى الموضوع ، المقطع ، باطع .. باضع.. مصوع.. ثاني أكبر مدينة ارترية ومن أهم موانئ البحر الأحمر. تبعد عن العاصمة أسمرا (115) كم ، وهي ميناء ارتري كبير. وردت مصوع كغيرها من مدن العالم الكبيرة في كثير من كتب التاريخ وذكرت في كتابات الرحالة والبعثات الاستعمارية، ويسكنها اناس من أصول وجذور مختلفة ، يشكلون اليوم شريحة اجتماعية ارترية كبيرة ومتنوعة.

وللحديث عن مصوع أسباب عدة ، وأهمها ذكرى تحريرها (10/2/1990م)، وكانت قد تعرضت المدينة الى عدة محاولات تحرير في السابق، كما تعرضت الى محاولات تخريب ، لكنها فشلت مثل كثير من المحاولات التخريبية التي تعرضت لها المدن الأرترية الأخرى.

 

شيــا طــين وأبالســـة المـدينـــة:

 

حين بدأت الثورة الارترية التف حولها الناس كافة، واهتم بها المواطنون ، وتابع اخبارها الجميع… اكوبام…. سلومام… آنف قدوي…أرضكم زالم…مالكم وأدامكم ساكب… وأخيرا اضيفت الى هذه الكلمات عبارات أخرى خاصة بالثورة من قبيل (ولاد مي هلو…) وهي عبارات مستحدثة تتعلق بأخبار الثورة وأحوالها، انتصاراتها وهزائمها ، تقدمها وتراجعها. أصبح المواطن ملازما للثورة ،  يشاطرها فرحة النصر ، ويؤازرها وقت الحاجة والشدة. ويتفنن حين يسأل عنها ، في حشر الأسئلة  وتمريرها بحيث لا تكون انعكاساتها سلبية ، وحتى لا يجلب على نفسه عواقب وخيمة اذا ما إلتقطته آذان شيطان، وكان لابد من طرد الشيطان بالتعويذة  قبل الحديث  في أمور كهذه.

هذا الشيطان الذي رفض السجود حين أمره الله في بدء الخلق، هو نفسه الذي رفض الإمتثال لإرادة الشعب حين اعلن ثورته المسلحة بقيادة الزعيمين ادريس محمد آدم وحامد ادريس عواتي. وبدأ الشيطان يتحرك في أوساط الشعب ، يعمل ضده وضد ثورته وضد الوطن، حشر نفسه بين المقاتلين في الوحدات العسكرية الصغيرة ، والسرايا والكتائب ، وفي القيادة والأركان ، بل وفي كل الأجهزة ، وكان في القرى والأرياف والمدن ، وكان في مصوع ، في أسواقها، وشوارعها، وأزقتها، وكان في برها  وبحرها، كان في كل مكان من المدينة، حتى في الحياة الزوجية كان هؤلاء الشياطين والأبالسة بين المرأة وبعلها!

لم يكن لسكان المدينة وأطرافها ما يكدر صفو يومهم قبل ذلك الا حين جاء هؤلاء النفعيون وقلبوا حياتهم ضنكا، وكان اهل القرى المحيطة بها  ضحايا هذا التوغل الشيطاني ، اذ هم الذين يحركون آليات المدينة قبل صياح الديك ، يستقبلون السفن والمراكب على الرصيف ، يفرغون ويشحنون ، ثم يدلفون عائدون الى  قراهم  وهم  فرحون  بما كسبوا رزقا.

الحديث عن شياطين مصوع هو حديث من نوع آخر، حديث عن اناس هم من بني جلدتنا، منا وفينا، مثلنا تماما، يفعلون مثل ما نفعل، يأكلون ويشربون، يفرحون ويحزنون مثل ما نفعل نحن في المدينة، لكنهم سيئون في أفعالهم واعمالهم، وكل تفاصيل حياتهم. دخلوا المدينة الفاضلة رغما عنها، وانتشروا بيننا رغما عنا، تحدثوا كثيرا عن خططهم ، عن نهجهم في تقسيم الوطن وتجزئته، عن برامجهم لتفتيت القرى وتشريد السكان. وضعوا المتاريس والمطبات ، المتاريس الشيطانية التي قسمت المدينة الى مناطق مقفولة، وشوارع  محصورة  لتصبح وقفا على اناس دون غيرهم ، صاروا أئمة مساجد لكنهم لم ينادوا الى الصلاة، وصاروا قضاة محاكم لكنهم لم ينصفوا مظلوما، بل نصروا أخاهم (الدرق) وعملوا على تمكينه ، فقد جيء  بهم على حساب نضالات الشعب ، ولما لا والمثل العربي يقول: ’جمل يعصر .. وجمل يأكل العصارة‘! اذن جاءوا هؤلاء ليأكلوا جهد الثورة وتضحيات الشعب.

المدينة تحولت الى مدينتين، وربما مدن، كل شئ فيها أصبح ثنائي، تم تقسيمها بالقلم والمسطرة في مكاتبهم ، ثم انزلت الخارطة على أرض الواقع، خارطة الطائفية التي من خلالها أريد بيع الوطن والناس مقابل جاه زائف وحكم باطل ، فقد جاء العمل مدروسا ومنظما ، ومخطط بعناية ، ومعد له سلفا. وبموجب هذا التقسيم ، صار كل شئ في المدينة اثنين اثنين ، لا يلتقي الأول بالآخر، حتى البحر صار (بحرين)! هذا ما اشتمل عليه برنامجهم .

أما على أرض الواقع، لم يكن الحال كذلك.. بل ظلت المدينة صامدة .. ظلت أرض واحد.. شعب واحد .. بر واحد  وبحر واحد.. مصير واحد وظلت كذلك عصية حيث لم يجالسهم من أهل المدينة الا من أكره على ذلك ، ولم يستمع اليهم أحدا الا مرغما.. فقد لزم الجميع الصمت الى حين.. الى أن يأذن الله بأمر كان مقضيا.. مستعينين بالصبر والصلاة.

ولما بلغ الأمر مبلغا، وطفح الكيل، وحين أراد ربك أن يخلص المستضعفين ، كان قرار دك حصون المدينة وفتحها قد تم تنفيذه ، وما كانت الا ايام حتى ارتمى سعيد في احضان مدينته التي احبها وغنى لها (سلف شاميي…).

لم ييأس الشياطين والأبالسة ، بل قرروا التحدي  ومنازلة الفرسان ، لكن ليس بالخروج اليهم والمبارزة  في الميادين ، وانما بحشد الأولاد الذين لم يفطموا بعد  والصبية الذين لم يبلغوا سن الرشد ولم يبلغوا أشدهم ، وجاءت التعليمات الى الأسر التي لها صبية أن تخرجهم دون تردد وتدفع بهم الى جبهات القتال ، والا كان مصير كل أسرة ترفض الامتثال لهذا الأمر القتل ، ثم تم تنفيذ الأمر بإقتحام البيوت وانتزاع  الأبناء من مضاجعهم وارسالهم مباشرة الى مواقع القتال. كثير من الصبية لم يتبين وجهته الا حين فتح عينيه على وميض الرصاص الذي أضاء لهم الطريق على الجبهة المقابلة ، وجاءت الاحصائيات الأولية بهذا الشأن على ان مايزيد على 300 صبي من المدينة جلهم من ديانة واحدة اقتيدوا الى مواقع القتال لمجابهة الثورة التي تنوي تحرير المدينة، فقد وضع هؤلاء الصبية في الدفاعات الأمامية كـدروع بشرية من أجل إعاقة تقدم الثورة.

وحين احتدم القتال ، وبلغت القلوب الحناجر، تعالت صيحات الصبية تستنجد وتطلب الرحمة ، فما كان من الثوار إلا ان أوقفوا القتال وطلبوا التفاوض بشأن هذا الأمر ، وكانت النتيجة فظيعة .

(it was too late!) ، لم يكن الوقت كافيا لإنقاذ هذه الأرواح البريئة، فقد إنشغل قادتهم في ترتيب الأمور، أمور الهرب ليس من ارض المعركة فحسب ، بل من المدينة أيضا ، ومعهم الشياطين بالطبع ، وراحوا في تهيئة الأوضاع التي تساعدهم على الخروج ، في حين استمرت قواتهم في القتال ، لكنها  من  وراء  تلك الدروع البشرية من أبناء  مصوع  الذين  قضوا  نحبهم. وبحسب الرواية السابقة ، فان محاولات إنقاذ الصبية أوقفت القتال ، وأخرت الهجوم الأخير على المدينة ، ومكن هذا الوقف الشياطين  ومن  معها للخروج  من المدينة ، فقد خرجوا  )بجلودهم( فوق اجساد هؤلاء الفتية والصبيان!

 

من يسقط مدافعا عن بيته …. فهو شهيد………

ومن يسقط مدافعا عن طفله …. فهو شهيد……

مضوا …. لنبقى….

لنحيا بكرم أو……  نموت دونه……..

مضوا ….. وما زال  بئر الألم غويطا!

ستظل أحلامنا بالسلام  والأمان  كبيرة

وثقتنا بالله……… أكبر

 

عاشت مصوع  حرة أبية

المجد والخلود لشهدائنا الأبرار

 

يتبع…………

نشر أول مقال من هذه السلسلة في وقت سابق تحت عنوان:’ حين نتحسس الطريق فوق أجسادهم ‘  وقد خلا من الاشارة الى رقم الحلقة، ولزم التنويه على اعتباره الحلقة الاولى من ’ الشخا بيط ‘ في هذه السلسلة


 

حين نتحسس الطريق فوق اجسادهم!  (3-3)

بقلم/ كرار هيـابو (أبو علي)

Hiabu1_k@yahoo.com

الحلقة الثالثة

  أنهينا الحلقة السابقة فيما انتهى فيه دور الشياطين والأبالسة بمدينة مصوع ، ورأينا كيف تمكن هؤلاء من الهرب فوق أجساد الصبية الذين جمعوهم من مدينة مصوع  وقرى  حرقيقو وامبيرمي وزولا بفرعيها ، وهي النهاية التي وضعت حدا لأحلامهم بالتفريق بين الناس . ولكن هل اقتصر أمر هؤلاء الشياطين على مدينة مصوع أم كانت لهم امتدادات خارجها؟ هذا ما سنجيب عنه في هذه الحلقة الأخيرة.

جنود الشياطين في مدينة الخير والجمال:

كرن مدينة الجمال ، تنام وتصحى على أصوات المآذن وأجراس الكنائس ، يتلو أهلها الذكر الحكيم ، وترانيم الانجيل ، يحرسها أولياء الله الصالحون وكذلك القديسون ، القديسة ’طنقلحس‘ – جبل النحس  – والقديسة ’دعاريت‘ والقديسة ’دبرسينا‘ ، ويحرسها القديس مكئيل وهو ممسك بسيف القضاء والقدر ، والقديس حمبلاي  وهو على  صهوة  جواده. هي جنة الله في الارض أو هكذا كانت ربما في بداياتها ، ترقد تحت سفوح الجبال الراسيات اللائي يقفن شامخات بطول الدهر وعرضه في حمايتها من جور الزمان وغدره ، والانهار تجري عبر المنحدرات الجبلية المختلفة الى المدينة وبساتينها ، وحقولها التي تغطيها اشجار الفواكه المتعددة . ان ما يربط كرن بجبالها وحقولها وانهارها عشق أبدي  ولقاء حميم ، يتجدد مع بزوغ  فجر جديد من كل يوم ، لم يخلف أحدهما موعدا  للآخر.  وان عددت  محاسنها فلن أوفيها حقها.

انتشرت قوات العدو على اطراف المدينة في محاولة منها رد الإعتبار لجيشها المندحر في احدى الجبهات القريبة، فأحكمت سيطرتها على كل القرى المحيطة بها بمعاونة جنود الشياطين كما أسلفنا، وعملت على تجميع هذه القرى وترحيلها الى المواقع الخلفية، خلف العدو، بغرض الاحتماء بهم عند الحاجة او لضرورات الحرب. وقد اضطرت القرى القريبة من خطوط العدو بالامثال للأمر، فيما غادرت تلك البعيدة  مناطقها الى خلف خطوط الثورة.

عاش القرويون والفلاحين ظاهرة جديدة، لم يألفوها من قبل، ظاهرة التهجير والنزوح تاركين وراءهم حقولهم وبساتينهم ومواشيهم، وان كانوا قد تعرضوا من قبل للمذابح والاحراق في عونا وبسديرة، وسلبا وإتئتبا وفي كثير من المناطق الاخرى.

في التهجير الأخير تشتت الأسر، وتقطعت بهم السبل، سبل التلاقي، أزواج هنا وزوجاتهم هناك، أطفال وعجزة وجدوا أنفسهم مضطرين للبقاء خلف الحواجز، وحول المعابر، لا يصل اليهم من أخبار الأهل والأحباب والأبناء الا القليل، وربما شائعات يصدقون السارة منها، أو يتظاهرون بتصديقها لتخفيف وقع الفراق والضغوط النفسية التي يعيشونها.

كثير من الفلاحين اقتحموا المدينة، مدينة كرن، انضموا الى ذويهم أو تم استيعابهم في مجمعات نازحين  اعدت لهم، فقدوا للحياة طعما، فلا المدينة بها عمل، ولا العودة الى حقولهم أضحت ممكنة، احتضنتهم المدينة ولسان حالها يقول:( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).

 بعض الشباب تم ترحيلهم الى مصوع للقتال الى جانب جيش العدو وجنود الشياطين، ثم أعيدوا الى كرن حين تعددت التفسيرات حول العلاقة، علاقة كرن بمصوع وفق مذهب الشياطين.

بعد التهجير الذي تعرضت له القرى، والانقسام الذي عاشته بين معسكرين أو ثلاث، تأكد هؤلاء القرويون من حقيقة وجود الأعوان الذين يعينون قادة الحرب والعمليات، ويستهدفون المدنيين، والحيوانات التي اختفت جميعها، وربما ذهبت الأغنام والذئاب في الفيافي او ترتع في مراعي مشتركة! وتسلقت القردة على الأشجار تتشبث بأغصانها دون حراك.

أيـن كانت المصلحـة كان الديـن!

لم يعجب الحال شيوخ المناطق ووجهاؤها، وأعيان القبائل، فقرروا التحرك ومواجهة الموقف، في محاولة تحريك الجوانب الانسانية لدى العدو والقتلة. أرسلوا وفودا بهذا الشأن تطلب التخفيف من القبضة، والسماح للناس بممارسة حياتهم الاجتماعية ولو بالقدر الذي تسمح به ظروف الحرب وعملياتها العسكرية الجارية في مناطقهم، وكان الوفد يتكون من (19) فردا ومعهم ما تقتضيه الاصول في هذا الأمر، وهي هدية للجيش تمثلت في قطيع من الثيران المختارة التي يتباها بها الفلاحون بتريتها أو حيازتها.

لم يَطًل اللقاء بين اعضاء الوفد والعسكر، فقد فرت الثيران وهربت حين سقط أصحابها على الأرض، وانفلت زمامها من بين أيديهم. ومن رأى القطعان سائبة فقط ، أمكنه معرفة الحقيقة، حقيقة مصير الوفد، فقد ذهبت ارواحهم الى بارئها، ونهشت النسور أجسادهم ما بقيت ايام الحصار، ولم يكن يدري هؤلاء الضحايا ان العملاء المصاحبون للعدو ما كانوا الا قطة تحرس اللبن! ولا أدري ما الذي يجعل البعض يركب قدميه ويذهب الى حيث المهالك، أهي الأقدار، ربما. الفاعل لكل هذا واحد ، هو العدو ، والدال على الطريق هم جنود الشياطين ، واذ ان الدال على الخير كفاعله ، فان الدال على الشر كفاعله أيضا. وأين كانت المصلحة كان الدين أوهكذا قالوا لتبرير أفعالهم.

لم يتوقف القتال طيلة الأيام التي سبقت التحرير، ولم يتوقف النزوح والتهجير، ولم يسترح الناس، عسكر ومدنيين، حيث كانت الاستراحة بمزيد من القتال ومزيد من القتلى والتهجير. لقد بكين نساء القرى في صمت لفقد وجهاء المنطقة وأعيانها الـ (19) –  شيم وحايسام عد – الذين قتلوا ذبحا في لحظة غاب فيها الضمير الانساني ، وسيطر فيها هوس الانتقام لا لشئ الا حبا في الانتقام ذاته وإشباع  الرغبات في الشعور بالانتصار المزيف متوهمين بما تتخيله شياطينهم.

ان الدماء التي سلكت طريقها نحو الوادي انحدرت في مجرى كأنها تعرفه منذ زمن بعيد ، منذ ان قتلت فيه من قبل أجيال وابيدت قرى هنا وهناك، وحيث أحرقت مزارع وبساتين في عنسبة ، وفلفل وعيلا برعد ومكلاسي ، في دعاريت وباشري وفي وازنتت وجلب .

ان قصة الشياطين والأبالسة في مصوع هي قصة المآساة التي تعرض لها سكان اقليمي ( سمهر وسنحيت ) قبيل التحرير ، وهي القصة ذاتها التي الحقت الدمار بمدينة مصوع جراء عمليات القصف الجوي  في رد يائس ، وقتل المدنيين وتدمير البنية التحتية للميناء ، وهي قصة المذبحة التي تعرض لها سكان منطقة (شعب)، المذبحة الشهيرة التي راح ضحيتها المآت من الرجال المسنين والنساء والاطفال الرضع ، وهي ذات القصة التي حدثت من قبل في قرى مصوع.

هناك اطفال ولدوا تحت الشجر ، وفوق الحجر (الصخر) ، على الهواء مباشرة ، وأذكر ان إمرأة تخلفت في طريق الهرب ، عن القافلة لقضاء حاجة ، وبينما هي كذلك باغتها المخاض ، ولم يكن ليتنبه احد الى ذلك كما لم يكن باستطاعتها مناداة القافلة،  فتُركت مع مولودها للقدر، وكانت أضعف حيلةَ من مولودها، أضعف من ان تمارس أمومة انتظرتها حينا!

ربما من المفيد أن نذكر هنا بعضا ممن قتلوا في هذه الواقعة، من أعضاء الوفد، ليس تخصيصا لهم، ولكن تثبيتا للحقيقة، ولمن يعبث بهذه (الشخابيط).

1. فائد تسفالعول  2. زمزمي الشيخ  3. حمد جمع 4. اسماعيل ازوز 5. جاوج ولديقرقيس 6. عمر قرينت 7. ولدنكئيل 8. جمع أبسلاب 9. نتاباي مندر جنجر 10. محمود ابراهيم بره 11. عبد الرحمن عثمان 12. عثمان حمد.

(وكان الشيطان للإنسان خذولا) الفرقان29

دعاء:

  • ·        اللهم أجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه.
  • ·      اللهم لا تؤاخذنا بما عمل السفهاء منا (آمين).

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6289

نشرت بواسطة في فبراير 7 2005 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010