ديمقراطية الطبيعة

 بقلم  / متكل أبيت نالاي

يعجبني البحر في جماله وبهائه, وجلاله ولا نهايته, ويعجبني كذلك في ديمقراطيته, فهو لا يسمح لأحد أن ينغمس في مائه إلا  إذا تجرد من كل المظاهر الكاذبة التي خلقتها المدنية, يجب أن يتجرد أولاً من ملابسه التي تميز بين الغني والفقير, ومن ريائه ونفاقه ومظاهر التي اصطنعها ليجعل من الناس طبقات يتحكم بعضها في البعض. ففي البحر تتساوى الرءوس,لا غني ولا فقير, ولا ذو جاه ولا عديم الجاه ولا عالم ولا جاهل. ولا حاكم ولا محكوم, ولا أسترالي , ولا سامي لا يتميزون بشيء إلا بلباس البحر, وفي الحقيقة ليس هو لباس البحر, وإنما هو لباس البر, فليس للبحر لباس إلا ماؤه, ودليل إنه لباس البر, أن الناس حاولوا به أن يتميزوا بعضهم من بعض, واتخذوا منه شعاراً للغنى والأناقة واللياقة والوجاهة, والبحر لا يعرف شياً من ذلك, إنما يعرف  ذلك البر, ومن أجل هذا سرعان ما ينغمس الناس في البحر, فيسدل بمائة الأزرق الجميل ستار على كل أثواب الرياء حتى لا ترى بعد إلا رءوساً عارية لا يميز بينها شيء من الصنعة, ثم هو يرسل أمواجه تداعب الناس على السواء, فتغازل الأسود كما تغازل الأبيض, وتصفع الجميل كما تصفع القبيح, وتعبث بلحية العالم, كما تلعب برأس الجاهل, وأحياناً يهج هائجة, وتثور حفيظته, فيزفر من الغضب, حتى ليكاد يخرج من إبه, ويطفر من ثيابه, ويربد وجهه فيلفظ بالزبد, وينتفخ ويرتعد, ويرقص من غير طرب, وهو في هذه لا ينسى ديمقراطيته, يأتي للباخرة الضخمة قد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليه فيبتلعها في لحظة, لا تغني عنه محصنات العلم القديم ولا الأجهزة الحديثة, كما يبتلع أحياناً صبياً وديعاً وشيخاً ضعيفاً, ليبرهن أنه لا يعبأ بقوة ولا ضعف, ولا يخشى بأس كمي, ولا يرحم ضعف أعزل, سواء هو في هزله وجده, وسواء هو في حلمه وغضبه— ما أجمل البحر, وما أجله, وما ألطفه وما أقساه!

على إنه يظهر لي أن الطبيعة في جملتها ديمقراطية لا أرستقراطية, ولا أرستقراطية إلا في الإنسان الكاذب. فالشمس ترسل أشعتها الذهبية, والقمر الفضية, على الناس سواء على المؤمن والكافر, والأسود والأبيض, والغني والفقير, والكوخ الحقير والقصر الكبير.

ويأتي الجو بريح سموم فتلفح وجوه الناس على السواء لا تميز عظيماً ولا حقيراً ولا شريفاً ولا ضيعاً, ثم يأتي بريح طيبة تنعش الناس كذلك. ولا يعرف طبقات ولا يعرف أي نوع من أنواع التفاوت التي تواضع عليها الناس, ويرسل في الصيف شواظاً من النار فيدخل على الكبير في قصره. وعلى الفقير في كوخه,  فلا يهاب عظيماً ولا يحتقر وضيعاً, ويرسل في الشتاء برده القارس فلا يستطيع أن يتقيه الغني بصوفه وملابسه, ولا بمدفأته وناره, كما لا يتقيه الفقير في عدمه وبؤسه, ثم تطلع شمس جميلة, ويعتدل الجو, فتحتضن الطبيعة الناس على السواء وتكون لهم جميعاً أماً حنوناً, مشفقة باردة-

وهناك نوع من الارستقراطية غريبة, هو الارستقراطية التغرنية فالمتعلمون منهم يعدون أنفسهم- نوعاً ممتازا من الناس, يختلفون عن الشعب الإرتري نوعاً من الاختلاف, ويرتفعون عليهم نوعاً من الرفعة, فالمتعلم ينظر إلى أخيه الإرتري نظرة فيها شيء من التعاظم, وشيء من الازدراء, وشيء من الغرور, حتى وان ساواه في نضال,وان ساواه في تعليم, خصوصاً إذا كان تعليمه بالغة العربية, يعطي لنفسه الحق أن تكون آراؤه في كل شيء , خير الآراء, وأن غيره لا يحق له أن يبدي رأياً بجانب رأيه, حتى فيما ليس له اختصاص فيه. وهذا نوع من تعالي الكذاب جعلت من المتعلمين الإرتريين أذكياء وأغبياء, وجعلت بين الأميين أذكياء وأغبياء, وأصيبت البلاد على يد جهلائها في أحوالها السياسية والاجتماعية أكثر مما أصيبت من المستعمر. وقد أصدر الرئيس الجاهل في شؤون وطنه وفي المسائل الهامة في سياسة الخارجية والداخلية حيل من القانون كلها يطالبون بها أن يكال لهم المال جزافاً, وأن يكون ميراثهم من الحكم أكبر نصيب, ويطالبون أن يكون زبدة ما تخرجه البلاد لهم وحدهم.

 إذا تحدث التغرنية عن نفسه بأنه فوق طبقات العامة الإرترية, يعرف نواقص البلاد وحلولها, وإنه يستطيع أن يشرع العرف والعادات  ويصنع أشياء من الطاقة الشمسية وينظف البيئة  من الأكياس البلاستيكية  وتمكن من إعادة الحيوانات المتوحشة الذي غادرة البلاد من العصور الغابرة إلى إرتريا,  يوعد ليجعل البلاد سنغافورة ثانية في أفريقيا ففتح له شعبنا الطريق, ويخلى له السبيل وفتحت له البيوت أبوابها وبدأ التلاعب بأوضاع الناس لسخف الناس أنفسهم, ويروي أريك فروم لأحدي السيدات رأت فيه هرة وحولها مائة فأرة وكانت الفئران بعددها هذا تقف خائفة مرتعبة من هذه الهرة الوحيدة ( الطويلة مثل الرمح الأفريقي) ولقد أنشغل ذهن السيدة بسؤال ظل يلح إليها وهو ما لذي يجعل مائة فأرة تخاف من هرة واحدة؟

من المكن لهذا السؤال أن يكون واحد من أبرز علامات التاريخ الإرتري حينما تسيطر قوة واحدة أو شخص واحد على شعب مناضل زال يقاوم الاستعمار والاستبداد طول ثلاثون عام. وفي نفس الوقت نقول ليس بالغريب أن يحصل هذا في القارة الأفريقية. ولكن الغريب هو أن تستنجد الضحية بالجزار وتقول له أرجوك أذبحني كما حدث في احدي مسرحيات شكسبير. وهنا تكون المائة فأرة قد أسهمت في خلق الهرة  وفي تقويتها وتسمينها وهذا هو ما ظل يحدث في إرتريا من المؤتمر الثاني للجبهة الشعبية الذي زال فيه عهد القيادة الجماعية وبروز القيادة الفردية, صحيح أن رمضان محمد نور الأمين العام سابقاً كان يعاونه أمين عام مساعد وقيادة جماعية على مستوى قمة هرم التنظيم تتكون من الجنة الدائمة المؤلفة من إبراهيم عافه عضو المكتب السياسي ورئيس الدائرة العسكرية وهيلي دروع, واسقط كل ذلك لصالح قيام الدكتاتورية الفردية في البلاد.

 وأخيراً نقول : ما أسعد الأمة تخفف من غلوها وفي ارستقراطيتها بجميع أنواعها, وتقلد الطبيعة في ديمقراطيتها واعتدالها فالدكتاتوري أمام قوانين الطبيعة حقير ذليل, قادرة الطبيعة أن تصفعه من حيث لا يدري وتجرفه بعيداً عن البلاد, وقادرة أيضاً أن تأتي لنا بالحرية الحقيقية وتنشر نعمها بين الشعب الإرتري جميعاً.                   

 

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6380

نشرت بواسطة في فبراير 7 2005 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010