رحيل الأستاذ أبو القاسم حاج حمد “جسر التواصل بين إرتريا والسودان”

الخرطوم – مركز الخليج للدراسات الاعلامية بالقرن الافريقى/محمد طه توك

25‏/12‏/2004

فجعت الأوساط الإرترية والسودانية بأفول نجم ساطع من نجوم الثقافة والسياسة الإرترية وعلم من إعلام النضال والوطنية، مثقف عملاق ارتبط اسمه بالثورة الإرترية بعيد انطلاقتها بسنوات قليلة وتحديداً في عام 1963.

* ومنذ ذلك الارتباط تحول المثقف السوداني العروبي الكبير الراحل الباقي الأستاذ المفكر محمد أبو القاسم حاج حمد، إلى مهتم بالشأن الإرتري، وقدم العديد من الخدمات الإعلامية والسياسية الجليلة. وكان ذلك وبحق خصماً من اهتماماته السودانية، لأنه وهب كل وقته وثقافته وجهوده للقضية الإرترية. وكانت إرتريا بالنسبة له حالة شعور وطني دافق لا ينطفئ إلا ليشتعل مرة أخرى بنار الحب لإرتريا بلداً وشعباً المتأججة في صدره وعقله النير.

* وقد ولد الفقيد الكبير محمد أبو القاسم حاج حمد في مدينة الخرطوم عام 1931 تقريباً. وكان منذ شبابه المبكر غني الثقافة عميقها واسع الإطلاع متنوعها. ولا غرو فقد تربى أصلاً في بيت فضل وأدب وكرم ودين، فقد كان والده من كبار رجالات الدين والأدب في السودان. ولذلك فإن فقيدنا كان ذا ثقافة دينية عميقة، وتبدى ذلك في مجلة “الأفكار” التي ظل ينشر من خلالها رؤاه العميقة في الدين والدنيا وفلسفة الحياة كما هي.

* التحق منذ بواكير صباه بالقوى الوطنية المناهضة للاستعمار في السودان. بل وامتدت اهتماماته لتتجاوز السودان كبقعة وتفاعل مع قضايا العالم العربي الكبير، وكان عضواً فاعلاً بحزب البعث العربي الاشتراكي، وربطته صداقات عميقة بقيادة البعث في سوريا، وقد سخر تلك العلاقات في سبيل القضية الإرترية.

* تعرف على المناضل الكبير الشهيد الأستاذ عثمان صالح سبي في مطلع 1963 بالخرطوم ومن خلاله “سبي” تعرف على قضية شعبنا التي رافقته حتى وفاته في الخرطوم إثر علة قلبية.

* لعب دوراً كبيراً في خلق رأي عام سوداني مؤيد للقضية الإرترية في أوساط علية المجتمع السوداني من الوزراء والأساتذة والصحفيين والمفكرين ورجال الأعمال.

* عينته الثورة الإرترية ممثلاً لها في الجمهورية العربية السورية في عام 1963 م، بعد أن لعب دوراً كبيراً في فتح أول مكتب للثورة الإرترية في المنطقة العربية، كما لعب دوراً كبيراً في إقناع السوريين وعلى رأسهم الرئيس حافظ أمين بتبني الثورة الإرترية وتسليحها وتدريبها داخل الكليات الحربية السورية، حتى تمكن بالفعل من إرسال أول شحنة أسلحة للثورة الإرترية من سوريا في عام 1964م، وقبول أول دفعة من المتدربين العسكريين الإرتريين عام 1965 ، وكانت كل تلك الإنجازات من ثمرات جهوده وعلاقاته.

* بعد الانشقاق الأول الذي عرفته الساحة الإرترية ميلاد قوات التحرير الشعبية بزعامة الشهيد عثمان صالح سبي، انحاز السيد أبو القاسم إلى التنظيم الجديد الذي يمكن القول أنه أسهم بقدر كبير في ميلاده، بعد أن آمن بالشعارات التي رفعتها القوى الحديثة والمتعلقة بالديمقراطية المركزية والقيادة الجماعية ومبدأ النقد والنقد الذاتي وغيرها من الشعارات التي سادت إذ ذاك.

* زار كافة البلدان العربية وساهم بحكم علاقاته وصدقاته مع المسئولين فيها من إقامة أول علاقات للثورة الإرترية في العديد من البلدان، رغم المصاعب الكبيرة التي كانت تعيشها المنطقة والأنظمة الغريبة التي كانت تسودها، وقد أشار إلى بعض تلك المصاعب التي واجهتهم في كتابه القيم ” الأبعاد الدولية لمعركة إرتريا” وذكر فيه على سبيل التمثيل لقائه والزعيم سبي بإمام اليمن أحمد ابن حميد الدين، وشرحوا له القضية الإرترية ومعاناة شعبها والمظالم التي يتعرض لها الشعب الإرتري الذي تربطه باليمن العديد من الأواصر كالدين والجغرافية والتاريخ، فتفاعل معهم الإمام وكان على وشك المساعدة، إلا أنه لم يكن يعلم من تكون إثيوبيا الدولة المعتدية على الشعب الإرتري!!. ولما عرف إن إثيوبيا هي الحبشة رفض مساعدتهم، وقال لهم أن هناك حديثاً نبوياً شريفاً مؤداه” أتركوا الأحباش ما تركوكم”.

* وبحكم علاقتي العائلية والشخصية بقوات التحرير الشعبية عرفت الأستاذ أبو القاسم من على البعد من خلال كتاباته، وكنت من المعجبين به وبثقافته الثرة، حتى التقيته في أبو ظبي لأول مرة في عام 1981 وكان حينها يعمل مستشاراً في وزارة الخارجية بدولة الإمارات، ومنذ ذلك اللقاء توطدت علاقاتي به وكنت التقيه كثيراً خاصة وأنني كنت أقيم وأعمل في دولة قطر ، وكنت أتابع كتاباته العميقة التي تتناول عموم منطقة القرن الأفريقي وتدعوا إلى وحدة دول وشعوب هذه المنطقة بهدف تنميتها وازدهارها. بعد ذلك تعددت لقاءاتنا الأستاذ أبو القاسم وأنا في أسمرا بعد الاستقلال، ولازلت أذكر مشاركته في مؤتمر القضايا المصيرية في أسمرا في عام 1995 والذي قدم فيه ورقة قيمة ضمنها الحلول الواقعية التي يراها للسودان، وقد اختلف في ورقته تلك مع كافة المؤتمرين ومع عرابة المؤتمر دولة إرتريا!!، لأنه اعتبر اللغة العربية والدين الإسلامي من الثوابت التي لا يجب التفكير بمجرد الاقتراب منهما، وقد شكلت تلك الورقة الرائعة التي عبرت عن رؤيته كمثقف حقيقي مدخلاً لغضب حكومة الشعبية عليه، وهو ما دفعه إلى إرسال جواز سفره الدبلوماسي الإرتري من بيروت إلى سفارة دولة إرتريا في القاهرة في نهاية عام 1995، لأنه كان يعلم تماماً بإن إسياس سيصدر قراراه بمنع تجديد ذلك الجواز، إلا أن كل ذلك لم يمنع الأستاذ أبو القاسم من إعادة علاقاته مرة أخرى بحكومة إرتريا لأنه كان يؤمن بإرتريا الباقية لا بالأفراد الزائلين، وكان يتألم جداً لما وصلت إليه العلاقات السودانية الإرترية، وقام بعدة مبادرات جادة ومسئولة في اتجاه تصحيح العلاقات بين البلدين وإعادتها إلى مسارها الطبيعي، إلا أن كافة محاولاته الجادة والتي لم ينقصها الإخلاص والتفاني والقراءات الدقيقة للمستقبل، كانت تفشلها مؤامرات الحكومة الإرترية وتحرشاتها بدول الجوار لا سيما السودان، ولكنه ظل متفائلاً حتى آخر لحظة من حياته الحافلة، وكان يؤمن بضرورة تجاوز كافة العقبات التي تعترض البلدين، وهو ما لمسته في لقائي قبل الأخير معه في مارس 2001، وفي لقائنا الأخير التقيته في الخرطوم في مايو الماضي في ندوة له عن العلاقات الإرترية السودانية، وكانت بحق ندوة جيدة استطاع الراحل خلالها وبما له من ملكات عديدة عالية من إدارتها بصورة جيدة وتقديم رؤيته التي تصب في صالح حكومة إرتريا بصورة مقنعة، الشيء الذي دعاني إلى المداخلة والتعقيب عليه ولكن بصورة اتسمت كثيراً بالحدة، وهو ما يشعرني الآن بالأسى، لأنني وفي معرض دفاعي عن المعارضة الإرترية، وخلال تفنيدي لممارسات الحكومة الإرترية وجرائمها اليومية، أبى الغضب الذي تملكني إلا أن يطال شخص الأستاذ حمد بكلمات وعبارات لا تليق أن تقال بحقه، مهما اختلفت بنا القناعات وتفرقت بنا سبل الرؤى والاجتهادات، ولم يكن من المقبول مخاطبته بتلك الحدة لعدة عوامل منها أولاً سنه وثقافته ودوره المشهود في الثورة الإرترية والذي يقارب كل سنوات عمري.

* إلا أن عزائي هو أنني أعمل في حقل السياسة، وفي السياسة تحاول دوماً التقاط أي إشارة وكل نقطة ضؤ، وتوظيفها ضمن منظومة وأدوات صراعنا مع النظام الإرتري، في حين أن الأستاذ الراحل أبو القاسم كان ينطلق في قراءاته للأمور من مثالية المثقف ورؤيته الموضوعية الشاملة، وكان من المفترض رؤية دوره واجتهاداته ضمن هذا السياق، ولم يكن أبداً من المقبول واللائق شخصنة صراعنا السياسي اليومي مع الحكومة الإرترية في شخص رجل بقامة فقيدنا الكبير.

* رحم الله الفقيد الكبير الأستاذ المفكر الاستراتيجي محمد أبو القاسم حاج حمد والعزاء لشعبنا الذي فقد برحيله علماً من إعلامه، والعزاء موصول لأسرته الكريمة ولشعب السودان الشقيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إنا لله وإنا إليه راجعون.

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=40718

نشرت بواسطة في ديسمبر 25 2004 في صفحة الأخبار. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010