رمضان والعيد في مدينة أسمرة!

بقلم: إسماعيل إبراهيم المختار

مسجد الخلفاء الراشدين بالعاصمة أسمرا

كتب الأخ الدكتور جلال الدين قبل عدة سنوات مقالا جميلا عن رمضان في مدينة كرن، وكتب الأخ الأستاذ محمد إمام أيضا قصيدة رائعة باللغة التيجرينية (مسجد جامع توليعا) عن بعض ملامح رمضان في أسمرة.  وتأسيا بهذين الأخوين الكريمين، رأيت أن أسطر هذه الكلمات لأسرد ذكرياتي ومشاهداتي عن رمضان في أسمرة، في فترة ما قبل فرض حالة الطوارئ أيام “منغستوا” الكئيبة.

رمضان في أسمرة له نكهة فريدة، نكهة يحسها الجميع حتى غير المسلمين من سكانها. في شهر رمضان تزدحم جوامع أسمرة، وتكتظ أسواقها، وتكثر خيراتها، ويسعد فقراؤها، ويبتهج صغارها. ينتظر الناس بداية رمضان في لهفة، وهم يتطلعون في شوق إلى إعلان دار الإفتاء الأرترية بدخول شهر رمضان.

جوامع أسمرة

تتحول جوامع أسمرة في شهر رمضان إلى خلية نحل، تدوي جنباتها بالأذكار الجماعية، وتلاوة القرآن الفردية، والدروس العلمية، والمواعظ الإيمانية، والغادين والرائحين من كافة المصلين. وأهم جوامع أسمرة في تلك الأيام هي: جامع الخلفاء الراشدين في وسط المدينة، وجامع عمر ابن عبدالعزيز في حي “جزابندا”، وجامع عبدالقادر الجيلاني في حي “طابا”، وجامع خالد بن الوليد في حي “عداقا حموس”، وجامع عمر ابن الخطاب في حي “مادشتوا”، وجامع أبوبكر الصديق في حي “أخريا”، بجانب مساجد كثيرة أخرى، وخاصة في حي “أخريا” الذي تسكنه أغلبية مسلمة.

من محاسن رمضان في أسمرة خلو باراتها من روادها المسلمين؛ والبارات كانت سوأة في جبين أسمرة لا يكاد يخلوا شارع ولا حي منها، وقد إزدهرت مع كثرة تمركز أفراد الجيش الاثيوبي في أسمرة. وما أن يأتي رمضان حتى تجد كل من كان يعاقر الخمر في هذه البارات في ليله ونهاره من المسلمين –وكانوا في تلك الأيام قلة- يهجرها تماما، ويتجه كلية إلى الجوامع، ليصبح من روادها، ومن السعاة إليها.

 

جامع الخلفاء الراشدين

محور الحركة والنشاط في أسمرة هو جامع أسمرة العريق، جامع الخلفاء الراشدين. يمتلئ هذا المسجد بأجنحته الثلاثة بالمصلين–والمسجد يستوعب عشرة آلاف شخص في داخله- وخاصة في صلاتي الظهر، والعصر؛ وعقب السلام يرتج الجامع بالأذكار الجماعية التي يرددها المصلون خلف الإمام، وهي أذكار خاصة برمضان تردد بنغمة مميزة، وتردد ثلاث مرات، وصيغتها فيما أذكر كانت كما يلي:

“أشهد أن لا إله إلا الله، أستغفر الله، نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار”،  “اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا يا كريم”.

وهذه الأذكار تؤدى عقب السلام مباشرة، ثم ينهض المصلون لأداء السنة –إن كانت فيها سنة بعدية-، وبعدها يؤدي الناس فرادى الأذكار المأثورة، ثم يختمونها جميعا بدعاء الإمام، ثم بالصلوات الجماعية المتعارف عليها في قطرنا وهي:

“اللهم صل أفضل صلاة، على أسعد مخلوقاتك، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، عدد معلوماتك، ومداد كلماتك، كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون”

وأكثر الأذكار، والأدعية، والقصائد الدينية في أرتريا هي من بقايا أذكار الطريقة الميرغنية، التي كان لها أبعد الأثر في نشر الإسلام بين كثير من القبائل الأرترية. وكثير من هذه الأذكار هي على غرار الأذكار المأثورة لفظا أو معنى، ولا يخلوا منها ما قد يكون فيه مقال. والذكر الجماعي هو المعتاد في أرتريا، وقد تفاوتت أقوال العلماء في ذلك؛ وفي مجتمع تشيع فيه الأمية الدينية فإن الأذكار الجماعية لها فائدة تعليمية وتلقينية لعامة الناس*.

دروس ومواعظ رمضان

كانت “جبهة العلماء الأرترية” تضع برنامجا علميا خاصا لرمضان، حيث تقام دروس شرعية مفتوحة وذلك بعد صلاة الظهر في جامع الخلفاء الراشدين، وهذه الدروس كانت تلقى من قبل علماء الأزهر الأريتريين-وكان عددهم كبيرا في تلك الأيام، يشاركهم بعض الأحيان في هذه الدروس الشيخ عمر الحضرمي الذي كان له الكثير من الأتباع، وخاصة من الحضارم. وكانت أجنجة الجامع تقسم إلى مناشط متعددة، الجناح الأوسط كان يخصص للدروس التي كان يلقيها علماء الأزهر، والجناح الأيسر كان مخصصا لمن يريد تلاوة القرآن أو القيلولة. أما الجناح الأيمن فكان مخصصا لمواعظ يومية للشيخ عبد السلام، وكان هذا القسم أكثر إزدحاما من غيره. والشيخ عبدالسلام كان واعظا، كثير الفكاهة، سريع النكتة، يلقي دروسه باللغة التيجرينية بصورة جذابة، وكان جناحه يضج بالضحك من أساليبه العجيبه في العرض والإلقاء.

وبجانب دروس الجامع، كانت دار الإفتاء بدورها نتشر في جريدة “الوحدة” الرسمية مقالات علمية عن رمضان، وأحكامه، وكل ما يتصل به من متعلفات.

صلاة التراويح في جامع الخلفاء

كانت صلاة التراويح تقام كل ليلة في رمضان في أغلب الجوامع والمساجد، وأهمها مسجد الخلفاء الراشدين. والعادة أن يصلي الناس عشرون ركعة، ثم صلاة الوتر من غير فصل بينهما. وبين كل أربع ركعات تكون هناك إستراحة قصيرة تتخلها أذكار جماعية، مثل:

“لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيئ قدير،………….. سبوح قدوس ربنا رب الملائكة والروح”.

وتلاوة القرآن في التراويح عادة تكون مخففة، من قصار السور من جزء عم، وكان الذي يؤم غالبا هو إمام مسجد الخلفاء، الشيخ عبده رحمه الله. ودعاء القنوت كان هو الدعاء المأثور:

“اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كلهن نشكرك لا نكفرك” إلخ.

وقد درج المسلمون في أرتريا على الإحتفاء بالمناسبات التاريخية، وكان يتم الإحتفاء بغزوة بدر في 17 من رمضان، وفتح مكة في 20 من رمضان؛ وفي جامع أسمرة كان الإحتفال بهما يتم مابين صلاة التراويح حيث يقوم أحد العلماء بالقاء كلمة عن المناسبة مبينا أهميتها التاريخية والدروس المستفادة منها.

أخر ليلة من التراويح كانت ليلة تسكب فيها العبرات، وتسمع فيه الزفرات، وتهتز فيها المشاعر. وفي تلك الأيام كان يأتي إلى الجامع رجل حضرمي طاعن في السن، إعتاد أن يلقي كل عام قصيدة في وداع رمضان، وكان يلقيها بصوت رخيم، وحزين، وبنغمة فريدة، أذكر منها أبيات يقول فيها:

ودعوا ياصائمين ** شهر رب العالمينا

أعاده الله علـينــا ** وعليـكم سالمــينـا

والناس يرددون هذه الأبيات خلفه، والدموع تترقرق في أعينهم، ومشاعر الحزن تغمر قلوبهم، وأمل البقاء إلى رمضان قادم يراود أفئدتهم.

 

أسواق أسمرة

تستعد أسواق أسمرة لإستقبال رمضان والعيد إستعدادا حثيثا. وكان أغلب أصحاب المحلات التجارية في تلك الأيام هم الحضارم والجبرتة. وأغلب محلات الملابس والخياطة كان يملكها تجار الجبرتة، وكذلك مستودعات ومطاحن الدقيق. وفي رمضان تنتشر في ساحات السوق موائد تباع فيها التمور، و”السمبوسة”، و”المقلي”، و”المشبك”، و”لقمة القاضي”، و”قمر الدين” وغيرها. وكان الباعة ينادون بأعلى صوتهم، ليجذبوا إنتباه الزبائن، قائلين: “الله وليك يا صائم”؛ والإزدحام في السوق يكون على أشده بعد صلاة العصر.

وفي الأسابيع الأخيرة من رمضان تزدحم محلات الملابس والأحذية، حيث ترى الأطفال بصحبة الأباء يطوفون من دكان لدكان لشراء ملابس العيد. وكان الغالب على الناس شراء الأقمشة، وتخييطها عند الخياطين. والأقمشة كانت تختلف نوعا وقيمة، حسب جودتها ونوعيتها، فال “كاكي” كان أرخصها، وال “بانوا” و ال ” ليالف” كان أغلاها. وأشهر الأحذية كانت أحذية ال “تشيبوليني”.

أطعمة رمضان

بحكم  تعدد ثقافات وعادات مجتمع أسمرة، تتنوع أطعمة رمضان، والشائع منها في طعام الإفطار هو التمر أولا، ثم شربة القمح المجروش –مع شئ من اللحم إن سمحت الإمكانيات-، و”السمبوسة”، و”المقلي”، ثم العشاء المعتاد. واللحم الذي يصنع منه السمبوسة كان غاليا، ولذلك كانت السمبوسة لا تتوفر إلا في بيوت المقتدرين ماليا. أما السحور فكان منوعا، وعند البعض كان الغالب “العصيدة” أو الخبز المفتت بالسمن “فتفت”.

 

أعمال البر والخير

رمضان كان موسم الخيرات الذي ينتظره الفقراء طوال العام. ومن المظاهر المؤسفة في جوامع أسمرة كثرة المتسولين فيها من شباب، وشيوخ، ونساء، وبعضا ممن أصيبوا بعاهات عقلية وبدنية، وكان عددهم يتضاعف في رمضان. وكان الكثير من هؤلاء ممن نزحوا من القرى والأرياف في المنخفضات، ومرتفعات مناطق الساهو بعد أن دمرت قوات “الكوماندوس” مزارعهم، وخلايا نحلهم، وموارد عيشهم. وكان منهم بعض القادمين من أثيوبيا، وبعض التكارنة من السودان. ومن طريف ما أذكره رجل تكروني، متسول، كبير في السن، كان يجلس أمام مدخل جامع الخلفاء مشنعا على من يلبس البنطلون قائلا بلهجته التكرورية: “البنتلون لباس النصارى، البنتلون ليس له وضوء ولا تهارة”!

كان تجار أسمرة يحرصون على إخراج أموال زكواتهم في رمضان، فكان المتسولون يزدحمون على دكاكينهم في صفوف طويلة، لينالوا حظهم من أموال الزكاة. وكان للتجار الحضارم وجود بارز في أسمرة في تلك الأيام، والبعض منهم كان ينفق بسخاء ملحوظ، وكرم حاتمي لا نظير له.

وكان الناس يقيمون موائد الإفطار في رمضان، وتسمى هذه الموائد “عيد موتان”، ولا أدري ما سر هذه التسمية، وكان أكثر من يقوم بها الحضارم. وكانت هذه الموائد تقام في البيوت غالبا، وفي المساجد في بعض الأحيان.

كسوة العيد

من أبرز محاسن رمضان في أسمرة كانت “كسوة العيد”، حيث كانت تهدى لكل فقير مسلم في أسمرة كسوة كاملة، بنطلون “كاكي” وقميص قطني سميك. وكان يتم ذلك عن طريق لجنة الأوقاف حيث يأتي الفقير إلى مكتب الأوقاف فيسجل نفسه وأبنائه، ثم يأخذ قسيمة من اللجنة إلى الخياط ليخيط له ولابنائه ثوبا محدد النوع والشكل. وكانت اللجنة تتعاقد مع الخياط والتاجر المعروف ب “اليحيا” –وهو الذي بني جامع عبدالقادر الجيلاني في أسمرة من خالص ماله- فيقوم بكل ما يلزم. وأذكر أن بعض زملائنا في مدرسة المعهد الإسلامي لم يكونوا يملكون كساءا غير كساء العيد، حيث تراهم طوال العام يلبسون ذلك الكساء، يرقعونه، ويصلحونه، إلى أن يأتي رمضان أخر فيستبدلونه بكساء أخر.

استعدادات العيد ويوم “فرجت”

في آخر يوم من رمضان تأتي سيارات الإطفاء “بيمبيري” فتقوم بغسل ساحة مسجد الخلفاء والجوانب المحيطة غسلا تاما، وذلك إستعدادا لصلاة العيد. وهنا يتجمع الناس، وخاصة الصغار ليشاهدوا غسل ساحة المسجد، وبعد مغادرة سيارات الإطفاء يأتي دور الشخصية المعروفة ب “فرجت”.

وفرجت كان رجلا بسيطا معروفا في مجتمع أسمرة، لا يكاد يغادر مسجد الخلفاء، فيأتي في يوم غسل ساحة المسجد فيتجمع الصغار حوله وهم يهتفون “فرجت”، فيطوف بهم حول ساحة المسجد، وهو يردد الأناشيد، والصغار يهتفون وراءه، فتراه حينا يهرول بهم، وحينا يقفز بهم، وحينا يجلس بهم، وحينا يحكي لهم الحكايات، كل ذلك في مشاهد من البهجة، والعفوية، والتعبير البرئ عن فرحة العيد.

أما البيوت فتنظف استعدادا للعيد نتظيفا كاملا، ويتم تزيين البيت، وشراء حلوى العيد، وتجهيز ملابس العيد الجديدة، وغسل وكي القديمة منها.

 

يوم العيد وتجمعاته

جرت العادة في أسمرة أن يتجمع الناس في مساجد الحي، ثم ينطلقون من هناك في جماعة نحو مسجد الخلفاء الراشدين، وهم يشقون الشوارع، وهم يهدرون بالتكبير والتهليل، وكان لكل حي راية يحملها أحدهم في المقدمة، وترى الجميع صغارا وكبارا، يسيرون في سكينة، وقد لبسوا أحسن الألبسة، وتهيؤا بأحسن هيئة.

وما أن تصل كل مجموعة إلى ساحة الجامع، يتجه الجميع إلى موقع الصلاة في الساحة المفتوحة، ويتجه حامل الراية إلى المنصة فيصف الراية خلف منصة الإمام. وكان أكبر هذه التجمعات على الإطلاق تجمع حي “أخريا”، ذات الاغلبية المسلمة. حين يمر فوج أخريا بشوارع أسمرة متجها إلى ساحة الجامع، ترتج جنبات الشارع بتكبيراتهم، وهم يشقون في طريقهم حي “مادشتوا” و”عداقا حموس”، وحي السوق، حتى يصلوا إلى ساحة الجامع، فتهتتز الساحة بدوي تكبيراتهم، وتمتلئ جوانبها من كل ناحية.

تكبيرات العيد

تكبيرات العيد هي التكبيرات المأثورة مضافا إليها ما استحبه بعض العلماء من التسبيح والصلاة على النبي وآله وصحبه. وكان يؤم المكبرين تارة إئمة المساجد، وتارة أخرون من أهل الفضل. ومن أصوات العيد المميزة كان صوت الشيخ سليمان الدين أحمد، عالم أزهري وعضو في المحكمة العليا. كان الشيخ يستهل تكبيراته بقوله: “كبروا، وهللوا، وارفعوا أصواتكم، ملة أبيكم إبراهيم حنيفا هو سماكم المسلمين”، ثم ينطلق في تكبيراته، والجمهور يهدر وراءه في مشهد عجيب من التجاوب والتناغم.

بعد أن تصل كل الأفواج وترص الأعلام –وأظنها كانت في حدود الخمسة أو السبعة- تقام صلاة العيد، تليها خطبة العيد. وخطبة العيد والجمعة في جامع الخلفاء كانت من مختصات قاضي أسمرة، ولا يقوم بها غيره. ومستوى الخطبة كان يتفاوت حسب المستوى العلمي للقاضي. ومن أفضل خطباء العيد في تلك الأيام كان قاضي أسمرة والحماسين، العالم الأزهري فضيلة الشيخ عثمان صالح عمر، رحمه الله.

بعد إنتهاء خطبة العيد يتجه الناس للسلام والمعايدة، والشائع في أسمرة هو تقبيل الأيادي، والصغار يقبلون ركب كبار السن.

معايدات العيد

وبعد الصلاة يتجه الناس للمعايدة، فترى الشوارع مزدحمة بالغادين والرائحين، وهم يطوفون على بيوت الأقارب والأرحام، فيستقبلهم أهل البيت بحلويات ومشروبات العيد. وكان الغالب على هذه الحلويات البسكويتات التي كانت تصنع في مصنع الحاج سالم باحبيشي في مدينة “دقمحرى” وحلويات “الكاراميلى”. أما المشروبات فتكون إما المشروبات العصرية المعروفة ب”بيبيتا”، أو المشروبات التقليدية المعروفة ب”أبعكى” والتي يتم صنعها في البيت. وكان من المعتاد إعطاء الصغار النقود، في الغالب خمسة أو عشرة سنتات، والمقتدرون يعطون خمسة وعشرون سنتا وتعرف ب”قطقاق” أو “حركام”، وكانت هذه مبالغ معتبرة في تلك الأيام.

وتستمر المعايدة إلى يومين أو ثلاث، وبعدها يجمع الأطفال حصيلة ما جمعوه، فيصرفه كثير منهم في دور السينما. وكانت في أسمرة عدة سينمات فخمة، كلها تحمل أسماءا إيطالية منها: سينما “دانتى”، “أزمارا”، “إمبروا”، “روما”، “كابيتول”، “كروتشروسا”. وبعض هذه السينمات كانت متخصصة في الأفلام الهندية، وبعضها في الأفلام الإيطالية والكاوبوي، وفي العيد تعرض بعضها أفلاما عربية.

 

النساء ومشهد العيد

النساء كن عمود الحركة في رمضان والعيد، فهن اللاتي يصنعن الطعام، ويهيئن البيت، ويقمن بتوفير كل مستلزمات رمضان والعيد، ولكن العجيب في تلك الأيام أن النساء –وفقا لما تعارف عليه الناس- لم يكن يحضرن إلى المساجد، ولا يشهدن صلاة العيد، ولا الجمعة ولا الجماعات. وهذا خلاف ما كان عليه الصدر الاول فقد ذكرت أم عطية في إحدى الروايات: “كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيدِ، حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا ، حَتَّى تَخْرُجَ الْحُيَّضُ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَطُهْرَتَهُ”.

العيد وغير المسلمين

وبحكم التعايش المشترك، كان المسيحيون يهنئون المسلمين قائلين “رحس عيد” –عيد مبارك. وكان من المعتاد في بيتنا أن نرسل حلويات العيد لجيراننا المسيحيين، عرفانا لحق الجوار، وتعزيزا لقيم التسامح، وامتثالا لقوله تعالى “لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”. ورغم التجاهل الرسمي للعيد، فإن الشارع المسيحي -بصفة عامة- كان يحترم مناسبة رمضان والعيد، ويبادل المسلمين التقدير والإحترام.

الإحتفال الرسمي بالعيد

من مظاهر التمييز الصارخ بين المسلمين والمسيحيين في أرتريا أيام هيلى سلاسى، أن كل الأعياد المسيحية كان يحتفل بها، وهي كثيرة، أما أعياد المسلمين فلم يكن يعترف ولو بواحدة منها، وهذا تمييز تكرر الإحتجاج عليه من دار الإفتاء، ولكن كان يتم تجاهله، ولذلك كانت المكاتب الحكومية والمدارس مفتوحة في يوم العيد. وعلى الرغم من ذلك فقد كان الناس يتخلفون عن أعمالهم ومدارسهم. والتجار المسلمون كانوا يغلقون محلاتهم، وكذلك المدارس الإسلامية، مثل مدرسة الجالية العربية، ومدرسة المعهد الإسلامي، ومدرسة الضياء. وكانت هناك ثلاث مدارس أخرى تابعة لوزارة التعليم تغلق أبوابها في الأعياد والجمعات، وأظنها كانت في الأصل تابعة للأوقاف فصادرتها الدولة، وفق إتفاقات منها أن تكون العطلة الأسبوعية يوم الجمعة، والسماح لها بإغلاق أبوابها يوم العيد، وغيرها من الإستثناءات. وهذه المدارس كانت مدرسة “مدبر”، مدرسة “أخريا”، ومدرسة “بنوفلينت” (سابقا الإسلامية الخيرية).

وكان حاكم عام أرتريا يقيم حفل فطور بعد صلاة العيد في القصر الحكومي، يدعى إليه سماحة مفتي أرتريا، وفضيلة رئيس محكمة الإستئنافات الشرعية، وقاضي أسمرة، وأعيان وشخصيات المدينة.

عيد الأضحى

وعيد الأضحى لم يكن يختلف كثيرا عن عيد الفطر، إلا أن الناس لا يشترون فيه ملابس جديدة، بل يلبسون ماشروه في عيد الفطر. والاضحية أهم ما يميز عيد الاضحى حيث يتجه الناس إلى سوق المواشي في حي “عداقا حموس”، حيث كانت المواشي تأتي بكثرة من كل أنحاء البلاد، حتى من التجراي. وكثير من الناس يشتري الغنم، أو الخروف، والبعض يشترك في البقر. ومن الخرفان كانت هناك خرفان مميزة طويلة، وبارزة، وكأنها العجل، وكانت غالية الثمن وتعرف بخروف “كسلا”. وكانت أسعار الخرفان معقولة وميسرة لكثير من الناس.

والعادة في البلاد هو بيع جلود الأنعام لمن يشتريها من أصحاب الشركات، أما جلود الأضاحي فيتبرعون بقيمتها لمشاريع الأوقاف الخيرية في أرتريا.  والعادة في البلاد أن يذبح الناس أضاحيهم في أفنية بيوتهم، وكانت هذه من مهمات رجال البيت.

العيد في أيام منغستوا

من حسنات الثورة الأثيوبية التي أطاحت بهيلى سلاسى أنها اعترفت بأعياد المسلمين، وساوت بينها وبين أعياد المسيحين. فاعترفت بعيدي الفطر والأضحى، وبمناسبة المولد النبوي. وكانت الثورة الإثيوبية تحمل بواشير الإنفتاح، ولكنها سرعان ما خطفت من قبل منغستوا وعصابته، فبدأوا بسفك الدماء، وسحق كل صوت معارض.

وفي عام 1975 فرضوا حظر التجول على أسمرة من السادسة مساءا إلى السادسة صباحا، وسلطوا عصابات الخطف لتخطف الناس من الشوارع، وتقتل الأبرياء، وتنشر الرعب، ففر الناس من أسمرة، وشحت فيها المواد الغذائية، وقطعت الكهرباء، وتوقفت بذلك صلوات التراويح، واختفت كل مظاهر البهجة عن العيد ورمضان. وغادر كثير من التجار الحضارم، واختفت معهم كثير من الصدقات وأعمال البر التي كان يستفيد منها الفقراء.

وكان من الملفت في صلاة العيد أيام منغستوا مشاركة عدد ملحوظ من جنود الحكومة في صلاة العيد، وذلك لم يكن أمرا معهودا من قبل، ولعل ذلك يعود إلى الأفواج الكبيرة من الشباب التي كان يرسلها منغستوا لمحاربة الثورة الارترية. وكنا نرى أفواجا من هؤلاء الشباب الذين يساقون رغما عنهم إلى هذه الحروب، وسرعان ما يعودوا جثثا هامدة.

عيد حزين!

ولقد مر على أسمرة قبل فرض حالة الطوارئ بأشهر معدودة عيد من اسوأ الاعياد، وكان ذلك في عيد الأضحى، حيث جاءت مجموعة من عصابات الحكومة إلى منزل شخصية معروفة في أسمرة  “عمر حنقلى” وذلك للقبض عليه، وكان الرجل يستعد مع جماعة من المعارف لتناول الإفطار بعد أن أتموا صيام عرفة، فأخذوه ومن معه، فقاموا بشنقهم بالأسلاك، ورمي جثثهم بجوار الملعب الرياضي في أسمرة، وكان ذلك في ليلة عيد الأضحى، وكان ضمن هؤلاء القتلى أستاذنا مدرس مادة الرياضيات في المعهد الإسلامي الأستاذ محمدعلي، رحمم الله تعالى أجمعين. وقد بلغ خير مقتل هؤلاء جموع الناس وهم يتجهون إلى صلاة العيد، فعم الحزن بين الناس، واختفت البهجة من وجوههم، وقضوا عيدهم في أسوأ حال.

العيد ورواد البارات

ويكون رمضان لبعض رواد البارات فاتحة خير، فلا يعودون إليها مرة ثانية فتستقيم حياتهم، وتسعد أسرهم؛ والبعض الاخر يعود إلى البارات في أول يوم من أيام العيد وحاله كحال الشاعر الذي قال:

رمضان ولى هاتها يا ساقي ** مشتاقة تسعى إلى مشتاق!

فيظل عاكفا على الكأس طوال عامه، تفتك بصحته، وتبدد ماله، وتعكر صفو أسرته، حتى يأتي رمضان آخر فينتشله من ذلك المستنقع، إلى عالم الطهر والسمو.

أريحية رمضانية ولت ولم تعد!

تلك ذكريات رمضان في أسمرة، وقد رحل كثير من وجوهها البارزة في تلك الأيام، فرحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جناته. ولا أتصور أن رمضان بأريحيته التي كان عليها في تلك الأيام قد عاد إليها مرة ثانية؛ حيث لم تشهد المدينة مرة أخرى زخما علميا كما شهدته في تلك الأيام بكثرة علمائها الأزهريين، ولم تشهد المدينة مرة أخرى مشاريع البر والصدقات الخيرية كما شهدتها في تلك الأيام بكثرة تجارها ومحسنيها.

ويعود رمضان هذا العام ومعه العيد السعيد، وكلمات أبو الطيب المتنبي تدوي من أعماق التاريخ متسائلة:

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيد ** بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ ُ

أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ  **  فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ

__________________________

* أنظر فتوى سماحة مفتي ارتريا في حكم الذكر الجماعي في صفحة الفتاوى من موقع المفتي.

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=43100

نشرت بواسطة في مايو 17 2018 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010