سد الفجوة الفكرية والثقافية!

غلاف كتاب ألفه الباحث الأرتري داويت مسفن عن الزعيم الوطني ولد آب ولد ماريام(المصدر : اسمرينو)

بقلم: إسماعيل إبراهيم المختار

في مقال تعريفي نشر الدكتور برخت هبت سلاسى في موقع عواتى، بتاريخ 11 أغسطس 2017، مقالا مفصلا يعرف فيه بكتاب ألفه الباحث الأرتري “داويت مسفن” عن الزعيم الوطني “ولد آب ولد ماريام”*. والكتاب يقع في 338 صفحة، يقدم فيه الكاتب دراسة تفصيلية موثقة عن حياة ولد آب. والكتاب يعتبر الأول من نوعه من ناحية تقديمه بحثا مستقلا عن شخصية بارزة في التاريخ الأرتري. ولا أظن أن أي زعيم وطني أخر حظي بدراسة من هذا النوع. ولعل هذا ما حدا بالدكتور برخت ليختم مقاله التعريفي بالكتاب بالنداء التالي:

وأوجه أيضا نداءا شخصيا إلى المثقفين الأريتريين، ولا سيما الإريتريين المسلمين، لكتابة السير الذاتية لإبراهيم سلطان علي، وعبد القادر كبيري، وإدريس عواتى، وغيرهم من القادة الكبار الذين قادوا، مثل ولدآب، الكفاح من أجل إستقلالنا. وفي حالة قيام بعضهم بهذا العمل باللغة العربية، فنحن بحاجة إلى ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية“.

وهذا النداء جدير بأن يحظى بتجاوب الباحثين لتقديم دراسات علمية، أكاديمية، للشخصيات المذكورة أعلاه وآخرون من نظراءهم. ونداء الدكتور برخت، حسب تقديري، ليس نداءا للمسلمين والمسيحيين لكتابة تاريخهم الخاص، بل هو نداء  لجميع المثقفين الإريتريين من جميع المشارب لتبادل معارفهم، والمساهمة في كتابة تاريخ إريتري شامل، ومتكامل. وعلاوة على ذلك، فإن نداءه إشارة ضمنية إلى الفجوة الفكرية والثقافية الموجودة في وسط المثقفين الأرتريين.

 

لقد كانت معظم كتابات الكتاب الأوائل في أريتريا، مكتوبة باللغة العربية، أو التغرينية، وقليل منها باللغة الإنجليزية. والكتاب بطبيعة الحال يكتبون بلغاتهم التعليمية، ويرجعون في معظم الحالات إلى مصادر مقصورة، كتبت باللغة المفهومة عندهم. ويمكن ملاحظة هذا القصور المرجعي بسهولة بالنظر في ثبت مراجع العديد من الكتب المكتوبة عن أرتريا، بأي من هذه اللغات الثلاثة في إريتريا. وقد أدى هذا القصور المرجعي إلى خلق فجوة ثقافية وفكرية ذات نتائج سلبية. ومن أبرز هذه النتائج محدودية النطاق، وظهور “الجيوب الثقافية” التي تكرس لبعض الأغاليط الثقافية والفكرية.

 

وهذه الفجوة يمكن ربط بدايتها ببداية التحاور الوطني حول أرتريا ومصيرها المشترك. ففي تلك الأيام الأولى، تلقى معظم المثقفين المسلمين تعليمهم إما في بلدان مجاورة مثل السودان، و مصر، أو المؤسسات المحلية التقليدية لتعليم القرآن والعربية. وبالمقابل تلقى العديد من المثقفين المسيحيين تعليمهم في المدارس التبشيرية الأوروبية، أو المؤسسات التعليمية التابعة للكنائس المحلية. ومع تدفق الإريتريين إلى البلدان المجاورة، التحق الآلاف منهم في جامعات مختلفة في البلدان العربية، بينما التحق كثيرون آخرون بجامعات أديس أبابا أو الجامعات الغربية. وقد أنتج الخريجون من هذه الجامعات إصداراتهم الثقافية بلغات تعليمهم، مما أدى إلى اتساع الفجوة بين تلك المجموعتين من المثقفين.
في إطار الرعيل الإريتري الأول، كانت مقالات المثقفين مثل “ولدآب ولدماريام” وغيره في “سيموناويت غازيتا” (الغازيتا الأسبوعية بالتجرينيا) أو “حانتي إرترا” (إريتريا الواحدة) يقرأها في الغالب المثقفون الناطقون باللغة التغرينية، بينما كانت مقالات المثقفين مثل ياسين باطوق وغيره في “صوت الرابطة” تقرأ من قبل المثقفين الناطقين باللغة العربية. وحتى اليوم لا يزال هذا القصور والإنحسار مستمرا حتى بين الكتاب المعاصرين الذين يعجزون عن تقديم نظرة شاملة للتاريخ الإريتري بسبب هذا القصور اللغوي والمرجعي. وقد لاحظ هذا القصور الدكتور جوزيف فانوسا في كتابه القيم** حين قال:

وما عدا إستثناءات قليلة، فإن دوريات الرابطة الإسلامية، والأدبيات ذات الصلة، ظلت مهملة تماما تقريبا في معظم الدراسات. وقد أدى هذا الإهمال إلى تهميش دور الرابطة لأيديولوجي والسياسي خلال الفترة المعنية

ولاشك أن الرابطة كان لها دور رئيسي في التاريخ الإريتري المعاصر، وكانت معظم نشراتها وإصداراتها باللغة العربية. ومن المؤكد فإن تجاهل الكم الهائل من منشورات وأدبيات الرابطة يشكل فجوة كبيرة في دراسة واسقصاء التاريخ الإريتري المعاصر. في سياقنا المعاصر، هناك العديد من الكتابات القيمة بكل اللغات الثلاثة، وعدم الرجوع إليها قد أوجد في كثير من الحالات وجهة نظر أحادية للتاريخ. الكتابات العربية الأرترية لكتاب من أمثال ناود، وسبى، وأليوس وعثمان أبوبكر، وتركي، وجلال الدين، وأزاز وغيرهم، فضلا عن الأعمال الأدبية لأحمد سعد، وحاجي جابر، وسكاب، ومدني وغيرهم فإنها لا تزال قاصرة -في الغالب- على المثقفين الناطقين باللغة العربية. وبالمقابل، فإن كتابات داويت مسفن، وبرخت هبتى سلاسى، وتسفاظيون مدهاني، وألم سجد، وحري تدلا بايرو، و تيكستى نجاش، و جيرماي نجاش، و آخرون فإنها لا تزال قاصرة على المثقفين الناطقين باللغة الإنجليزية والتيجرينية. ومن المؤكد أن الفجوات الفكرية لا تنشأ بسبب القصور اللغوي فقط، بل هناك عوامل أخرى كثيرة أيضا، والانتماءات الطائفية، والسياسية هي من أهمها. غير أن هذا النوع من الفجوات الثقافية إختياري. فالمثقفون من هذا النوع، يغلقون عقولهم أمام وجهات النظر الأخرى، ويختارون بصورة إنتقائية ما يناسب توجهاتهم الطائفية والسياسية المسبقة، ويحصرون آفاقهم الفكرية في إطار جيوبهم الحزبية. ومن الصعب معالجة هذا النوع من الفجوات؛ وليس من أغراض هذا المقال معالجة هذا النوع من الفجوات، بل الغرض معالجة الفجوات الغير مقصودة والناشئة من القصور اللغوي والمرجعي. لا شك أن الإنتاج الفكري للكتاب الإريتريين آخذ في الازدياد بجميع اللغات الرئيسية الثلاث؛ العربية، التغرينية والإنجليزية. ولكن مع الأسف، يبدو أن قراء هذه الكتب ينحصرون في دوائر ثقافية ولغوية محددة. في الآونة الأخيرة، ترجم كتاب الم سجد “أينفلال” من التيجرينية إلى اللغة العربية بعنوان “لن نفترق”، وأعتقد أن تلك الترجمة قد أبرزت جوانب من التاريخ الإريتري لم تكن متاحة بيسر لقراء العربية. ومن المؤكد فإن ترجمة بقية كتبه في التاريخ المعاصر (مجلدان) من التغرينية إلى اللغة العربية سيضيف قيمة كبيرة في فهم أوسع للتاريخ الإريتري. وفي الآونة الأخيرة أيضا، نشر كتاب جديد من قبل الدكتور إدريس أبو بكر باللغة العربية عن الحركة الإسلامية الأرترية، حيث يقدم تحليلا تاريخيا للتيار السياسي الإسلامي في إريتريا. والكتاب مرجع مهم في فهم أحد التوجهات الرئيسية في إريتريا، والدور الذي لعبه في تشكيل الواقع الحالي؛ وهو كتاب من شأنه أن يساعد على خلق أرضية مناسبة لحوار ناضج، وتبادل هادف، ولكن مع الأسف سيظل قراءه مقصورين في إطار الناطقين باللغة العربية. كتاب أخر يستحق الدراسة هو كتاب “جرماي نجاش” عن تاريخ  الأدب التيغريني (بالإنجليزية). هذا الكتاب إذا قرئ جنبا إلى جنب مع كتب سعيد ناود، وعثمان أبو بكر عن الجذور العميقة للغة العربية في إريتريا، فإنه سيساعد في معالجة الإشكالات اللغوية بطريقة أكثر منهجية وموضوعية. ولكن قراء هذه الكتب أيضا ينحصرون في نفس الأطر الفكرية والثقافية.

وكما أشار الدكتور برخت، فإن الوقت قد حان لبذل جهود متضافرة لترجمة الكتب الرئيسية عن إريتريا إلى اللغات الثقافية المتداولة. وقد بذلت جهود جديرة بالثناء تحت قيادة عثمان سبى –رحمه الله- في السبعينيات، والثمانينيات حيث تم ترجمة عدد مقدر من الكتب الإيطالية والإنجليزية إلى العربية، مثل: إريتريا مستعمرة في مرحلة الانتقال لتريفاسكيس (إنجليزي)، وكتاب مفوضية مصوع لأدو ريتسي (إيطالي) وغيرها الكثير. غير أن هذا الجهد لم يدم طويلا. ومن المؤكد أن المراجع لا تقتصر على ما كتبه الإريتريون؛ فهناك العديد من الكتابات القديمة عن إريتريا باللغات العربية، والتركية، والإيطالية، والأمهرية إلخ. وكلما توفرت هذه المصادر باللغات المشتركة فإنه سيعمق الفهم والإدراك الثقافي.

 

وكما يقول المثل العربي، فإن الإنسان هو عدو ما يجهله. وإذا أردنا إقامة حوار إيجابي، وتقدير أفضل لوجهة النظر المعارضة، ومكافحة التوجس الفكري، وخلق أرضية مشتركة، لا بد لنا من تفكيك وإزالة هذه “الجيوب الثقافية”. ومن الممكن معالجة العديد من القضايا التي تبدو متناقضة بصورة أفضل إذا إتسعت الأفهام، وتوسعت المعارف. “إسعى لفهم الأخرين أولا قبل أن تطلب فهمهم لك” هو المبدأ الخامس من مبادئ النجاح السبعة للكاتب الأمريكي “ستيفن كوفي”؛ وعليه فإن القراء والكتاب الذين يحلقون في فضاء ثقافي أوسع، هم  أقدر الناس على حسن فهم الأخرين، وكسر الحواجز والجيوب الثقافية، وإقامة المجتمع الثقافي الراشد.

 

ملحوظة: النسخة الإنجليزية للمقال -مع إختلافات بسيطة-  منشورة في موقع عواتى

Awate.com

* WOLDEAB WOLDEMARIAM: A Visionary Eritrean Patriot, A Biography, by Dawit Mesfin** Paths toward the Nation, Islam, Community, and Early Nationalist Mobilization in Eritrea, 1941–1961, by Joseph L. Venosa

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=42796

نشرت بواسطة في فبراير 18 2018 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010