شخصيات لها تاريخ ومواقف!

بقلم : إسماعيل إبراهيم المختار

دخل البريطانيون إلى أرتريا بعد أن هزموا الإيطاليين ، وبعد أن أطلقوا وعودا براقة نشروها عبر المطبوعات التي وزعوها بطائراتهم في نواحي أرتريا. وعد البريطانيون في نشراتهم الشعب الأرتري بالحرية والخلاص من نير الإستعباد ، وهم يضمرون خططا ومطامع إستعمارية تناقض كل ما وعدوا به. وقد ظهرت تلك التوجهات الإستعمارية في عبارة جندي بريطاني ، نهر بها إمرأة كانت تزغرد وترحب بهم باعتبارهم محررين جاءوا ليحرروا الأرتريين ، فقال لها الجندي: “أيتها الزنجية ، لم أفعل هذا من أجلك!”[i]

أحكم البريطانيون قبضتهم على أرتريا ، وبدأو بإخراج ما كان مطويا  في جعبتهم من مشروع تقسيمي ، يسعى لإزالة الكيان الأرتري المنصهر لخمسة عقود مضت ، وتشطيره ما بين السودان وأثيوبيا. سعت بريطانيا لتنفيذ هذا المشروع بمحاولة إقناع حلفاءها على المستوى الدولي ، وشراء ذمم قادة الرأي على المستوى الأرتري المحلي. تولى مهمة التواصل مع القادة المحليين عدد من المسؤولين البريطانيين ، ومنهم حاكم إقليم بركة والمنخفضات البريطاني ، “تريفاسكس” ، مؤلف كتاب “أرتريا مستعمرة في مرحلة الإنتقال”.

وقد كشف المؤرخ الأستاذ “ألم سقد تسفاي” في سلسلة كتبه التاريخية القيمة – باللغة التيجرينية – تفاصيل جديدة عن المحاولات البريطانية ، وذلك من خلال إطلاعه على كتيب غير مطبوع لتريفاسكس ، وإستجوابه لبعض من كان يترجم للبريطانيين من الأرتريين.

وقد كان لكثير من القادة الذين حاول البريطانيون التأثير عليهم وصرفهم عن الخيار الإستقلالي موقف وطني أصيل ، لا يقبل المساومة ، ولا التنازل عن الثوابت الوطنية. وهذه إشارات لبعض من هذه المواقف التاريخية.

كان من الطبيعي أن تتجه جهود تريفاسكس نحو الشيخ إبراهيم سلطان ، وذلك لدوره المهم ، ولتأثيره الواسع. والشيخ إبراهيم ، وإن اشتهر بدوره السياسي ، إلا أنه كان له دور طليعي مهم كمصلح إجتماعي لعب دورا مهما في إنهاء النظام الطبقي الذي كانت ترزح تحته طبقة “التجرى” الخاضعة لطبقة “الشماقلى”. وهو دور ذكره بقدر من التفصيل الدكتور “جوزيف فانوسا” في مؤلفه القيم عن أرتريا[ii] .

الشيخ إبراهيم سلطان


يذكر الأستاذ “ألم أسقد” في مجلده الثالث نقلا عن كتاب تريفاسكس الغير مطبوع ، أن تريفاسكس إلتقى بالشيخ إبراهيم مرات عديدة في محاولات مستميتة لإقناعه بقبول مشروع التقسيم ، ولكن هذه المحاولات فشلت أمام مواقف الشيخ إبراهيم الثابتة. وقد تطلع تريفاسكس من خلال تواصله مع الشيخ إبراهيم لتحويل مسار الرابطة الإسلامية ، قبل تأسيسها ، لصالح مشروع التقسيم ، ولكن موقف الشيخ إبراهيم كان سدا منيعا أمام تلك المشاريع التقسيمية. وكان تأسيس الرابطة وتبنيها لخيار الإستقلال صفعة مدوية لتريفاسكس وللمشروع التقسيمي. فما كان منه إلا أن قرر تفتييت هذا الكيان الوطني من داخله ، وهو أمر قام به بريطاني أخر يدعى “فرانك ستافورد”.

مرات عديدة في محاولات مستميتة لإقناعه بقبول مشروع التقسيم ، ولكن هذه المحاولات فشلت أمام مواقف الشيخ إبراهيم الثابتة. وقد تطلع تريفاسكس من خلال تواصله مع الشيخ إبراهيم لتحويل مسار الرابطة الإسلامية ، قبل تأسيسها ، لصالح مشروع التقسيم ، ولكن موقف الشيخ إبراهيم كان سدا منيعا أمام تلك المشاريع التقسيمية. وكان تأسيس الرابطة وتبنيها لخيار الإستقلال صفعة مدوية لتريفاسكس وللمشروع التقسيمي. فما كان منه إلا أن قرر تفتييت هذا الكيان الوطني من داخله ، وهو أمر قام به بريطاني أخر يدعى “فرانك ستافورد”.

يذكر الأستاذ “ألم سقد” أن موقف الشيخ إبراهيم سلطان الراسخ ، وعدم رضوخه لمناورات تريفاسكس يعتبر في صدارة كل مواقفه الوطنية البارزة. وقد نوه بهذا الدور التاريخي المهم الأستاذ “ولد آب ولد ماريام” حين قال “… إن إبراهيم سلطان هو الرجل والبطل الوطني الغيور الذي يجب أن يذكره كل الشعب الإرتري بالعرفان واالإمتنان . تذكرون جميعكم بأن بريطانيا وأثيوبيا كانت قد اتفقتا على تقسيم إرتريا ، وقد حاول البريطانيون رشوة إبراهيم سلطان وتضليله ثم إرهابه لإثنائه عن مواقفه الوطنية . لكنهم لم ينجحوا ولقد تعرض إبراهيم سلطان لمصاعب ومواقف حرجة كثيرة ، لكن لم يخن أرتريا، ولو كان السكرتير العام للرابطة إلإسلامية شخصا آخر غير إبراهيم سلطان ، ربما كانت ارتريا قد وقعت ضحية التقسيم “[iii].

وهذه الشهادات تشير إلى الأثر البعيد الذي تركه موقف الشيخ إبراهيم الوطني في الحفاظ على أرتريا ككيان موحد ، بجانب دوره المهم في إنهاء النظام الطبقي. وقد دفع الشيخ إبراهيم الثمن لمواقفه الرافضة للبريطانيين من خلال العراقيل التي وضعوها أمامه في مساره السياسي ، والتشويه الذي تعرض له. ولقد آن الأوان لإفراد الشيخ إبراهيم سلطان بمؤلف خاص عن مواقفه التاريخية ودوره الإجتماعي والسياسي ، كما فعل الكاتب الأستاذ “داويت مسفن” في مؤلفه القيم –بالإنجليزية- عن تاريخ “ولدآب ولد ماريام”[iv] ، وكما فعل الأستاذ “هيلي سلاسى ولدوا” في مؤلفه –بالتيجرينية- عن سيرة إدريس عواتى.[v]

الدجيات حسن علي

من الشخصيات البارزة في التاريخ الإرتري كان الدجيات حسن علي الذي تولى ضمن ما تولى منصب أمين مدينة النصف الأخر من أسمرة. وكان رجلا مخضرما ، واسع الخبرة ، بعيد الغور. وصفه صديقه مفتي أرتريا الشيخ إبراهيم المختار بأنه كان رجلا “شديد الإستقامة” و “كثير التأني والتفكر في الأمور وعواقبها”[vi]. إنحاز الدجيات حسن للخيار الوطني الإستقلالي ،  وكان من أبرز مؤسسيه ومنظريه. إستهدفه الإتحاديون فقاموا بعدة محاولات لقتله والتخلص منه.

يذكر الأستاذ “ألم سقد” في مجلده الثاني أن “فرانك ستافورد” تواصل مع الدجيات حسن في محاولة لإقناعه بالتخلي عن الخيار الوطني الإستقلالي والإنفصال عن الرابطة ، ولكنه لم يفلح أمام مواقف الرجل الثابتة التي لا تتبدل. وسعي فرانك ستافورد لإقناع الدجيات لم يأتي جزافا ، وإنما لإدراكه للمكانة الكبيرة التي كان يحظى بها الدجيات حسن ، والأثر البعيد الذي من الممكن أن يتركه أي تبدل في موقفه.

مواقف الدجيات حسن الثابتة جعلته عرضة للخطر ، وهدفا للإقصاء والتهميش من قبل عملاء الإمبراطور ، ولكنه أثر أن يعيش حرا ، وفيا لمبادئه ، ويرحل شامخا ، مسطرا خلفه تاريخا مشرفا.

ناصر باشا أبوبكر

كان ناصر باشا ناظرا لقبيلة “أساورتا” ، إحدى القبائل البارزة ، وكان من الزعماء الذين يرجع إليهم ، ويعتد برأيهم. إنحاز للخيار الوطني الإستقلالي منذ اللحظة الأولى ، وظل وفيا لهذا الخيار في مسيرته القيادية. يذكر الأستاذ “ألم سقد” في مجلده الثالث محاولة قام بها “فرانك ستافورد” لتحويل وجهة ناصر باشا ،  وتفتيت الرابطة من داخلها. ونظرا لمعرفة “فرانك ستافورد” بمكانة ناصر باشا اتجه إلى مدينة صنعفى لمقابلته ، ومقابلة غيره من زعماء القبائل.

وقد قام الأستاذ “ألم سقد” بمقابلة المترجم (برامبراس محرت أب) الذي رافق “ستافورد” ، ونقل منه ما دار بين ناصر باشا و”فرانك ستافورد”. يذكر المترجم أنهم فور لقائهم بناصر باشا ، بدأ “ستافورد” بالتعريض بإبراهيم سلطان قائلا لما تتبعونه وقد تخلى عنه أبناء منطقته ، ثم طرح فكرة الخروج من الرابطة والتخلي عنها ، فردعليه ناصر باشا قائلا لن نتخلى عن الرابطة ، والرابطة تعني إستقلال أرتريا ؛ فظل “ستافورد” يناور ويكرر الفكرة ، وناصر باشا ثابت على موقفه  ، فرجع “ستافورد” يجر أذيال الخيبة ، ولكنه لم ييئس! ذهب “ستافورد” مرة أخرى لمقابلة ناصر باشا في محاولة يائسة لإقناعه ، وهنا رد عليه ناصر باشا بحزم مذكرا أياه ما قاله له سابقا ، طالبا منه المغادرة ، ومحذرا إياه من العودة مرة أخرى.

وهذه لم تكن المحاولة الوحيدة لصرف ناصر باشا عن موقفه ، فقد حدثت (كما ورد في موقع مفتي أرتريا الشيخ إبراهيم المختار) محاولة شبيهة من قبل حزب الإتحاد  مع أثيوبيا لإبعاد ناصر باشا عن الرابطة حيث “جاءه وفد من كبار قيادات حزب الإتحاد وأغروه بأن يتخلى عن الرابطة ويدخل في حزبهم ، فرد في حزم  قائلا: “لقد قلت كلمة ، وعاهدت الله عليها يوم إنشاء الرابطة الإسلامية بكرن ؛ أنا وقومي على ذلك العهد إلى أن نموت عليها”[vii]

الحاج على بيك

الحاج علي بيك زعيم قبيلة منيفرى السيهاوية البارزة ، وجه من الوجوه المؤثرة في الوسط الأرتري ، وزعيم إستقلالي ، إنحاز للخيار الوطني منذ بدايته ، وكان من الطبيعي أن يكون محط أنظار “فرانك ستافورد” الذي سعى للقائه وجره إلى مشروعه التشطيري ، آملا أن يضعف بذلك الصف الوطني ، الذي كانت الرابطة فيه واسطة العقد ، وركنه المتين.

ينقل المؤرخ “ألم سقد” عن المترجم الذي رافق “ستافورد” ، أنهم اتجهوا نحو منزل الحاج على بيك ، وذلك بعد فشلهم في إقناع ناصر باشا. كان الحاج علي قد كبر في السن ، واعتزل اللقاءات العامة ، فلم يقابلهم ، وبدلا منه قابلهم إبنه “جرازماش” محمد سعيد علي بيك ، الذي نقل رسالتهم إلى والده ، فجاءهم الرد الحازم بالرفض والتأكيد على إلتزام خط الرابطة ، والخيار الإستقلالي. وأسوة بغيره من الشرفاء فقد تعرض الحاج علي بيك ، بسبب مواقفه الوطنية ، للإقصاء والتهميش ، حيث قام “أسفها ولدميكائيل” ، رئيس الحكومة الأرترية ، بعزله وإبعاده من منصبه كزعيم لقبيلة مينفرى.  

وقد ذكر الأستاذ “ألم سقد” أن “ستافورد” قابل أيضا “أونا علي” زعيم قبيلة “حزوا” السيهاوية ، فكان رده أيضا ردا حازما ، يؤكد الثبات مع الرابطة ، ومع الخيار الوطني ، ورفض الإنفصال عنها.

راس تسما أسبروم

“راس تسما” زعيم ينتمي إلى قرية “معربا” في إقليم “أكلى غوزاى” ، وكان من الشخصيات المؤثرة ، ومن القلائل من زعماء الهضبة المسيحية الذين إنحازوا للخيار الوطني الإستقلالي ، وكان زعيما لحزب الاحرار والتقدم الداعي للإستقلال. وقد تعرض حزبه لمحاولة تشطيرية من قبل “فرانك ستافورد”. يذكر الأستاذ “ألم سقد” أن “ستافورد” نجح في إقناع “أبرهة تسما” في الإنفصال عن حزب والده ، وتأسيس حزب يطالب بالإنضمام المشروط مع أثيوبيا ، وذكر أن “راس تسما “–الأب- غضب غضبا شديدا ، وقاطع إبنه بسبب تذبذبه السياسي ، وتخليه عن الخيار الوطني. تعرض “الراس تسما” وأبناؤه لمضايقات ومكايدات من قبل الإتحاديين ، وخاصة حكومة “تدلا بيروا” ، ولكنه ظل على موقفه ، ورحل دون أن يبدل أويغير.

وقد نجح “ستافورد” في إحداث إنشطار أخطر وأكبر في داخل الرابطة الإسلامية من خلال التأثير على بعض أعضاءها الذين إنفصلوا عن الرابطة وأسسوا حزب الرابطة الإسلامية –للمنطقة الغربية ، ورغم بقاء الرابطة ثابتة على مبدئها الرافض للتقسيم أو الإنضمام ، إلا أن هذا الإنفصال كان شرخا خطيرا ، كانت له تبعاته البعيدة. وقد حاز هذا الحزب التقسيمي على %20 من المقاعد في أول برلمان أرتري ، وكان  في كثير من مواقفه تبعا لرغبات ممثل الإمبراطور في أرتريا ، وكما ذكر الأستاذ “ألم سقد” فإنه كان تحت تأثير وتوجيه “فرانك ستافورد”.

القاسم المشترك

إن القاسم المشترك بين هذه القيادات هو الثبات على المبدأ ، وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، والنظرة الوطنية على النظرة القبلية الضيقة. وهي قيادات دفعت الثمن من خلال ما تعرضت له من أذى ، و تشويه ، وتهميش ، وإقصاء. وقد رحلت هذه الشخصيات ، وقد تركت خلفها تاريخا مجيدا يمكن أن تتخذه الأجيال اللاحقة نبراسا تهتدي به في دفاعها عن حقوقها المشروعة ، وتبنيها لمبادئ العدل ، والحقوق الإنسانية السامية! وهم بهذا قد مهدوا الأرضية المناسبة لأرتريا لتكون موطنا للأحرار الذين لا يقبلون الضيم ، ولا يرضخون لمستبد ، ولا يركعون لطاغية!


[i] Michela Wrong, I Didn’t Do It for You: How the World Betrayed a Small African Nation

[ii] Joseph Venosa, Paths toward the Nation: Islam, Community, and Early Nationalist Mobilization in Eritrea, 1941–1961

[iii] https://www.farajat.net/ar/wp-content/uploads/2013/08/Ibrahim-Sultan.pdf

[iv] Dawit Mesfin, Woldeab Woldemariam, a visionary Eritrean Patriot

[v] Haileslase Weldu, Hamid Idris Awate (Tigrinya)

[vi] Mukhtar.ca

[vii] Mukhtar.ca

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=43743

نشرت بواسطة في ديسمبر 22 2018 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010