شرخ في جدار الوطن

مقدمة

هناك في المدن الاسفلتية البعيدة حيث تتلاقح لواعج الأشواق لوطن تلاشي بين مسام ا لجراح بمرارة الغربة وافرازاتها الكريهة ، إلتقينا …

شارك في صنع معجزة البداية ومهَّد مع زمرة من الشرفاء لشق الطريق المؤدية الي قمة (( آدال ))، لكنه وكعادة النبلاء الذين تبهر عيونهم الأضواء آثر الانزواء بعيدًا عن عدسات الشهرة والإعلام ..

في صمته حديث وفي حديثه عبرومعاني يلقيها علي مسامعك فلا تملك إلا الإصغاء ، يشدك من شعرة الرأس الي راحة القدم بحديث مطلي بالشفافية ونكران الذات فتصغي وتسلِّم بصدق المقال ..

(( حامد صايغ )) شخصية خرافية تنتمي الي جيل خرافي إسمه ” الرعيل الأول ” …

 في لحظة تجلي نادرة رمينا في بركة صمته حجرًا فخرج الرجل عن صومعة الإعتزال ليدلنا علي ” شرخ في جدار الوطن ” .

هي ليست محاولة لإقتحام عالم الدراما والخيال فالكاتب يعفي نفسه من الإنتماء الي كوكبة المبدعين بل هي رغبة صادقة في تتبع خيوط السيرة الذاتية لرجال علمونا كيف يُسقي الفولاذ.

عبد الوهاب حامد

wahbahamed@hotmail.com

 

 

 

قصة: من واقع كفاح الشعب الارتري

 

انه ليس كسائر الاطفال فقد فض غشاء البراءة وتجاوز عتبة الطفولة مبكرًا, انه طفل إ ستثنائى كبُر على سنه فحازى بمنكبيه أكتاف الرجال وأستطال بحسه المرهف وذكاءه المتقد حدو الشمس فأرخى أذنيه المثقلتين بالانتماء حتي العظم الى الارض والوطن فتناهت الى سمعه حشودا من الكلمات التى تستفز نخوة الرجل……الوطن، الارض، المال، العرض، الـ……..

ولكن “حامد” لا يفهم الامور كما يجب فهو لم يتجاوز الخامسة عشرة بعد فكيف يقوى على تحمل المشاق التى تنتظره هناك؟ هكذا تحدث نافع مع الشيخ على ثم أردف: إنكم بتصرفاتكم الهوجاء وثرثرتكم عن الثورة أمام الاطفال ستفسدوا علينا الامر وتعرضونهم للهلاك و ..

بهدوءه المتزن رد الشيخ على  قائلا: الآن وقد وقع الفأس على الرأس، لن يفيد الكلام فقط يجب أن نسرع بارسال مندوبنا الى”الاولاد” فى بركه لإ قناعهم بعدم قبول حامد ورده إلينا، ثم واصل مسهبا فى الحديث كعادته:

فى الحقيقة اننا فى”أروته” نحتاج كثيرا الى حامد وأمثاله فهو من أنجب أبناء القرية وأبرهم وهو يمتاز بذكاء  وألمعيه لا يتوفران حتى فى الكبار, انه خسارة,, خسارة فعلا لأروته وأهلها و…

يجب أن تسمى الاشياء بأسمائها فليست أروته الا جزءا من هذا الوطن المغتصب, أما التحاق حامد بالثورة فهو بلا شك تشريفًا ومكسبًا لنا وليس خسارة كما تعتقد!!

صُعِق الرجلان عندما سمعا ذلك النداء الوطنى وقد بصقت حروفه امرأة كانت بداخل الخيمة…

هُس,, قال الشيخ على زاجرا زوجته… إ ننا لا نأمن هذه الرياح التى تعوى كالذئاب الجائعه من أن تنقل أحاديثنا الى “الطير” فيكون مصيرنا كعد ابراهيم وعونا…

ها أنتذا قلتها فهل عد ابراهيم وعونا الا أهلنا ؟ وهل نسيت عافه ود محموداى الذى أحرقوه حيا؟ وهل ….ثم دخلت فى نوبة هستيريه من البكاء والنحيب فبدأ زوجها مطرقا ينظر الى الارض وكأنه يبحث عن عافه بين أكوام الرماد والحصى التى أمامه ثم همهم بطلاسم من الكلمات المبهمة  فهم نافع مغزاها فاثارت فى نفسه كوامن الشجن والذكريات الغابرة..

كان عافه شعلة متقدة أنارت شعاب أروته وروابيها الجميلة, وكان الى جانب الشهامة والمروءة اللتان جُبِل عليهما كلفا بالمغامرات الصبيانيه واللهو البريىء, مترعا بالمرح والاريحيه فأضاف الى سحر أروته وروعتها حيوية وسكب فى بيادرها زيت البقاء وا كسير الحياة..

استغفر الله, لقد نكأ تى جراحنا أيتها المرأة, قال نافع وهو يقاوم دمعة ترقرقت في عينيه ولعله كان يقول فى نفسه : لو لا العيب لسمحت لهذه الدمعه أن تسقط فما قيمة الحياة بعد عافه…..

أضاف نافع: تبا للمرأة التى خطفت عافه ورحلت به الى أرض الشؤم, ألم يجد فى أروته كلها من تتزوجه؟

استغفر ربك يا نافع ولا تسب الميت فقد أُحرِقت زوجته أيضا قال الشيخ على ثم أضاف: كل بنات القريه كن طوع بنانه لو أراد ذلك ولكن الله هو الذى يختار وليس البشر, أليس كذلك؟

بلى, قال نافع وبدأ كأنه قد نسى الامر الذى جاء لاجله نافخا شدقيه احتجاجا على هروب حامد والتحاقه بالثورة: ألم تلاحظ تشابه بين عافه وحامد,, تشابها فى كل شىء, ألم تلاحظ ذلك يا شيخ على؟

لقد سبقتنى فى هذا يا نافع , إنهما حقا يبدوان كالتوأم فى حركاتهما وفى سكناتهما و…………ولكن أين هما الآن فقد افتقدناهما حقا, يا لتعاستنا يحرق عافه حيا ويرحل عنا حامد فى جنح الظلام………

لكننى متفائل .. قاطعه نافع ,, اننى متفائل.. أن حامد سيرفع رأسنا عاليا و سينتقم لنا وسيكون له شأن فى هذه الثورة المنتصرة باذن الله……..

هس, لماذا ترفع صوتك هكذا؟ هل نسيت أن للطير أذنا صاغية وعيونا تجوس بين الخيام وفى الازقة والشوارع؟

حقا قال نافع ثم إنصرف وقد هدأت براكين الغضب التى فجرها فى نفسه اختفاء ابن عمه عن القرية والتحاقه بالثورة وهكذا أُهمِلَ دور المندوب الذى كان يجب أن يلحق به ليعيده الى أمه التى لم يهدأ لها بال منذ ان غاب عنها ابنها الوحيد…..

وفى الطريق الى منزله كان نافع يبتسم تارة وأخرى يتجهم ويسخر من نفسه ومن الشيخ على فيحدث نفسه قائلا: لقد أوكل الينا أهل أروته أمرهم فبتنا نديره بعواطفنا وأهواءنا وبدأ يتساءل: هب أن زوجة عمى سألتنى عن ابنها الذى وعدتها ببحث أمره مع الشيخ على, ماذا سأقول لها ؟ لن ترحمنى تلك المرأة, بل ستحط من شأنى أمام الناس وستجعل من سيرتى مسخا مشوها تلوكه ألسنة البشر ,,اننى أعرفها جيدا, انها امرأة توازى الرجال فى عنفوانها وبأسها وهى منذ أن مات زوجها كأنها تحاول أن تجلس على مقعده لتتحكم فى رقاب الناس و تدير شئون القرية بمزاجها الحاد وقسماتها الصارمة,,, أف منها و……………..حدق بناظريه فى الافق البعيد يستجلى أشباحا تراءت له كحبات خرزفى غرارة بئر سحيقة ثم توقف فجأة ليسترق السمع فاذا بعويل يشق عنان السماء ويدق بكرة أذنيه فجعل يغز السير مستحثا قدماه اللتان خانهما الجلد فلم تقويان على المسير لكنه تجاسر فخطى بضع خطوات صوب اتجاه الصوت ليدرك أن الكارثة قد وقعت………….

اذا فقد استشهد حامد وسأموت أنا  هما وغما من لسعات أمه الجارحه التى ستعيرنى بالجبن والتخاذل لعدم أداء الواجب تجاه ابن عمى ………..

يا الله , ماذا أفعل ؟ أخ منك ياحامد …أخ منك أيها الشقى فمتى التحقت بالثورة ومتى تثنى لك أن تلحق بركب الشهداء ؟

غاص نافع فى بحر التساؤلات المحرقة وجعل يندب حظه العاثر ويضرب كفا بكف وقد اكتحلت عيناه بالاسى لا حزنا على استشهاد حامد بل خوفا من العار الذى سيلحق به …..

وعندما شق الجموع التى احتشدت حول الجثمان المسجى على الارض لم يجد بين النائحات أم حامد فعلم أنها هى التى ماتت وليس ابنها , فتنفس الصعداء لكنه ظل حتى خريف العمر يعض بنان الندم ويستهجن مواقفه المخزية أو هكذا كان يعتقد فيقول فى نفسه: ماتت أم حامد حسرة على ابنها وقد كان بامكانى أن أقوم بدرء الكارثة قبل أن تقع فأرسل المندوب ليأتى به مصفدا بالحديد أو ممسكا به من أذنيه الكبيرتين..  

=======================

شرخ في جدار الوطن (2)

 

           هناك فى سهول بركه ووديانها المتعرجة كان حامد يحث عوده الضامر على الجلد والصبر على مكابدة المشاق وكانت قدماه الصغيرتان تشقان الفيافى والآكام وقد كان برفقته شاب يكبره بقليل لكنه كان يعرف مربط الفرس وقلعة الفرسان فهو من أبناء بركة وقد ترعرع وشب بين وديانها وروابيها وسهولها المنبسطة..
لم تكن المسافة بين السهل المنحدر الذى التقيا فيه و جبل “ادال ” بعيدة لكن الوصول الى الموقع كان صعبا ويحتاج الى زمن طويل وربما يتعذر الوصول الى الثوار فى نهاية المطاف ولعل ذلك الاحساس هو الذى حز فى نفسه وجعله يبدو عابسا متجهما أثناء الرحلة التى استغرقت ثلاثة أيام ونصف اليوم فظن “همد” أن صاحبه قد تهيب المغامرة وساوره الخوف فقال مازحا: هل تعلم أخى حامد أن الانسان يموت مرة واحدة فى الحرب أوفى السلم؟
نعم، أجاب حامد لكنه لم يفهم مغزى الكلام اذ لم يشك مطلقا أن صاحبه يتجه فى ظنونه عكس الامنيات والاحلام التى يصبو اليها ..
كان الليل قد نسج على أحراش بركة قبعة من الظلام فنامت أشجار( العركوكباى) بعد عناء يوم حارق قضته تحت وهج الشمس اللافحة وأوت الحيوانات المفترسة التى كان همد يحترس منها الى مراقدها ….
أشجار العركوكباى تخفى عنا أشعة القمر،قال همد فى محاولة منه لتبديد الوحشة التى لفت ذلك المكان، لكنه ما كاد يكمل عبارته حتى وجدا أنفسهما أمام شبح آدمى يصيح بهما مصوبا فوهة بندقيته ،، قف!!
تجمدت الدماء فى شرايين حامد وتذكر مقولة همد : أن الانسان يموت مرة واحدة فى الحرب أو فى السلم ،، ثم تمتم فى نفسه: لكننا لم نكن نريد الموت قبل أن نسترد لهذا الوطن عزته وكرامته المسلوبة..
كان الشبح يسأل وهمد يجيب الى أن انجلى الامر فقد تبين أنه جنديا من أبطال الثورة الذين كم تمنى حامد فى شوق جارف أن يقبل حذاء أحدهم، أما وقد تحقق الحلم فما كان منه الا أن خر ساجدا لله ، وهكذا حفر التاريخ وشما في جدار الزمن فكان ذلك اليوم ميلادًا حقيقيا لبطلٍ من أبطال الثورة الذين مهروا بالحب والوفاء لوحة اسمها الوطن…
على أن انتساب حامد الى صفوف جيش التحرير قد مر بمخاض عسير ولم يتم بالطريقة التى كان يرجو أن تتم بها اذ رفض القائد انضمامه بحجة أنه صغير السن ولكن أمام اصراره وعناده بل بكاءه متوسلا عندما أحس بامنياته تتلاشى كفقاعات الصابون فى الهواء الامر الذى جعل القائد يلسعه بعبارة تمنى أن تنشق الارض فتبتلعه قبل أن يسمعها ،،
هاأنتذا تبكى قبل مقابلة العدو فماذا تصنع اذا دارت المعركة ؟
سترى ما أفعل قال حامد فى تحد واضح فما كان من القائد أمام هذا الاصرار الا أن يضمه الى كتيبة “بصيرى” التى أوكل اليها مهمة تعبئة الجماهير فى القرى المتآخمة لاسمرا وحثهم على التعاون مع الثوار ..
ولكن بشرط ،، قال القائد فأصغى حامد الذى كان مستعدا لتلبية كل الشروط القاسية فقط يجب أن تكون جسرا يمر عبره الى حقل الثورة ..
بشرط أنك لن تحمل السلاح الا بعد أن تثبت كفاءة وتبدى جدارة تؤهلك لذلك،،
قبل حامد على مضض فقد كان مهيئا معنويا ليصب النار على أعداء الوطن ومغتصبيه، وهكذا سلمه بصيرى قائد الكتيبة ابريق الشاى والراية التى كانوا يجوبون بها الريف الارترى ويحملونها فى الحل والترحال ”
ولكن تلك الوظيفة “المهينة” كما كان ينظر اليها لم تفت من عضده ولم تثبط عزيمته بل مضى قدما ضاربا أروع الامثال فى التفانى والاخلاص وتحمل المشاق فى أحلك الظروف وأقساها فخلع عليه بصيرى لقب “بنجوس” وذلك لصغر سنه وغمره بفيض من الحب والرعاية ما حدا به أن ينظر اليه كأب وليس كقائد ولكن دون أن يخدش ذلك وجه العلاقة العسكرية أو النضالية بينهما حيث اتسم حامد بالدقة فى تنفيذ الاوامر العسكرية كما عرف بصيرى بأنه قائدا صارما لا يتساهل أو يبطىء فى تنفيذ الخطط العسكرية أو التقيد بها…
***
تأوه حامد فى ذلك المساء الحزين وفلتت من عقال الصبر زفرة أطلقها وهو يرنو بعيدا نحو العتمه فقد ارتد اليه البصر خاسئا وهو حسير ذلك لأن بعض النجيمات الشوارد هنالك لم يفلح ضوأهن فى تبديد الظلمة لاستجلاءالأفق البعيد…
تأوب طيف والدته مرة أخرى كما حدث فى الليلة السابقة وما سبقها من ليالى فقد بدأ له أنها تمسد رأسه بيدها الحانية تارة وأخرى تضمه فى حجرها فمد يده ليصافحها بحنو و شوق فأصطدمت يده بجسم غريب أثار فزعه وروعه لكنه لم يزدعن تلك الزفرة التى سمعها زميله فى الكوخ المجاور، غير أنه لم تمضى هنيهات قليلة حتى أفاق من خدر النعاس وتحررت حواسه الخمس من سلطان الموت الأصغر فتنبه الى وجود ضيف ثقيل يشاركه الكوخ الذى بالكاد يتسع لشخص واحد ،، يبدوأنه كان متخما بفريسة التهمها فخمدت فى روحه غريزة ايذاء الأخرين فتكوم بجواره بعد أن طوى جسمه الطويل وغاص فى ثبات عميق…
انتفض حامد مذعورا ثم تناول حجرا فألقاه عليه ليفصل رأسه عن جسمه ثم بدأ ينظر اليه وقد سرت فى جسده قشعريرة وأرتعدت أوصاله حتى النخاع اذ لم يكن قد رأى ثعبانا بضخامته من قبل…
وعندما هتك النداء العسكرى ستر الليل وسكونه كان حامد أول من اصطف فى طابور التمام فضرب باحدى قدميه على الأرض ووضع مِِِؤخرة كفه اليمنى على جبينه قائلا : حضرت أخى الثائر ..
اسمع يابنجوس، قال القائد قبل أن يصطف الجنود فى الطابور : لقد بعثت تقريرا بشأنك الى القيادة العسكرية وقد أنصفتك فى ذلك التقرير لأنك أثبت جدارة افتقدناها فى غيرك من هؤلاء، وأشار بيده الى ” صالح و تخلى ” اللذان وصلا متأخرين قليلا عن الزمن المحدد للطابور ثم واصل حديثه قائلا : خلال العامين الماضيين فعلت ما لم يفعله الكبار وقد أديت رسالتك بكمال مطلق لذا فلا يليق بنا أن نتركك هكذا دون ترقية ونحن نعلم أنك تتوق لحمل السلاح أليس كذلك؟
بلى ، قال حامد فرحا بتحقيق أمنيته ….
اذا فأبشر بالخير، لقد وصلتنى توًا اشارة من القائد العام يأمر فيها بصرف قطعة سلاح وقنبلة يدوية لك، فصفق الجنود وهم يصيحون … بنجوس … بنجوس…
لم ينم فى تلك الليلة حيث حلقت به نوارس الفرح فى فضاءات مبهجة وسمت به فوق شرفة ما كان يحلم بالولوج اليها فقرر أن يكتب خطا بًا لأمه احتفاءًا بتلك المناسبة السعيدة ويرسله سرا بواسطة تجار ” البراشوت ” الذين يجوبون القرى والدساكر غير مكترث بالقرار العسكرى القاضى بعدم ابتعاث الرسائل الى الأهل أو الى أى مكان آخر خارج معسكر الجيش الثورى نظرا للظروف الحرجة التى يمرون بها حيث يقتضى الأمر السرية والكتمان …
والدتى العزيزة … ركبت سفينة البحث عن الذات فوجدت نفسى موزعا بين عبثية الضياع وحميمية العناق، تتقاذفنى أمواج التيه التى تحيل الحياة الى عدمية تامة لكنى تشبثت بتلابيب الأمل والبقاء لا هربا من الموت والفناء بل خوفا من الفراق …
فراقك يا أماه يدمى القلب ويؤذيه ولكن ماذا يفعل شقيا مثلى رضع من ثدى أمه حب الوطن والفناء فى ذراته حتى الرمق الأخير،،
أمّاه لا تحزنى فأنا هنا فى الحفظ والصون وقد أوجد الله لى هنا أبا يضاهى فى أبوته والدى رحمه الله،، انه بصيرى هذا القائد الخرافى يجعلنى أتفاءل باقتراب ساعة النصر والحرية فى بلادى فأرجو أن تشمليه بالدعاء فى صلواتك…
ودمتى…. ابنك حامد..
 
 

هامش:
(محمد نور بصيري ) هو قائد معركة امباديرهو الشهيرة مطلع الستينيات .

 

===========================

شرخ في جدار الوطن (3)

فى تلك البقعة الناتئة بين الهضاب المحيطة بأروته من كل الجهات كان الشيخ على ورفيقه يتدبران بعض شئون القرية عندما لاح على الأفق البعيد قرصا أبيضا بدأ يكبر شيئًا فشيئًا الى أن تبين الشيخ على ملامحه تماما فصاح بأعلى  صوته : انه محمد خير ، ماذا وراءه ياترى وماذا يحمل من أخبار؟

تُف ،، بصق نافع على الأرض ثم مضى كعادته يمضغ اللحم النيىء بشرهٍ ونهم : أى أخبار تنتظر من طائر الشؤم هذا؟

ألم يفجعنا بأخبار المذابح التى ارتكبها العدو من قبل ؟ عبثًا تحاول أن تجعل من محمد خير رسولا للسلام و….. استمر نافع فى حنقه بينما كان الشيخ على مشغولا بمتابعة ذلك القرص الأبيض واضعا كفه اليسرى فوق حاجبيه اتقاءًا لأشعة الشمس ثم صاح مرة أخرى : انه هو ،، ألم أقل لك أننى أشم رائحته من بعيد؟ ليس فى أروته كلها من يضع على رأسه عمامة بيضاء غيره ،، انه هو و……. تعانق الثلاثة عناقا حارا فطبع نافع قبلة حارة على جبين محمد خير وكأن شيئا لم يكن فضحك الشيخ على لكنه لم يزد عن جملة مبتسرة خرجت من بين فكيه وكأنه يتلوها همسا : تعجبنى فيك الروح الرياضية والمقدرة الفائقه على تقمص كل الأدوار ، ثم لعن فى سره لعبة النفاق التى استمرأ نافع ممارستها حتى غدت تشكل جزءًا من سماته وملامحه..

وقبل ان يبدأ محمد خير فى اذاعة بلاغاته العسكرية وأنباءه عن الثورة لصديقيه كان ” نوراى ” قد حشر نفسه حشرًا بينهم وكأنه تلقى بطاقة دعوة أوإخطار مسبق فتلكأ صاحبنا وخشى أن يسترسل فى أحاديث قد تقودهم جميعا الى حبال المشنقة خاصة أنه لم يتعاطى مع نوراى فى شؤون الثورة من قبل ففهم الشيخ على ما يعتمل فى نفسه وطمأنه قائلا : لقد أوكلنا مهمة جمع الاشتراكات الى نوراى وهو الآن من أنشط أعضاء الخلية فى أروته كلها ،، فتهللت أسارير محمد خير وبدأ يمزق حروف الكلمات ويشرحها حتى أفرغ كل ما فى جعبته من أخبار ..

معركة ضارية بين الثوار وجنود العدو فى ” حرقيقو ” ،، مقتل الجاسوس الذى وشى بالفدائيين فى  ” عيلا برعد “،، اقتحام حامية ” هيكوته ” والاستيلاء على كمية كبيرة من الأسلحة بعد مقتل الجنود الذين كانو بداخلها و….مضى محمد خير يشعل قناديل الفرح التى تستمد وهجها من بريق انتصارات الثورة الفتية بينما ارتسمت على وجوه المستمعين اشراقات البهجة والانشداه أما الشيخ على فقد بدأ وكأنه يتمنى أن تتوقف عقارب الزمن فى تلك اللحظات التى يوقن المرء فيها أن الله لا يظلم أحدا ..

وفجأة توقف محمد خير عن سرد الأحداث وأطرق فى حزن ثم فرقع بالون المفاجأة المحزنة :

استشهاد القائد الثائر ” ازاز ” ورفيق دربه السودانى ” ود أبكر ” فى معركة ” حلحل ” التى فقد فيها العدو أكثر من عشرين قتيلا وعشرات الجرحى !

كأنما كتب علينا أن ندفع ثمن كرامتنا باهظًا قال الشيخ على وقد إمتقع وجهه وأصفر كأنه خرج للتو من نقاهة لمرض عضال ألم به بينما فقر نافع فاه وأنتصب واقفا كعلامة استفهام تبحث عن معنى ضاع وسط زحام الكلمات ولكن محمد خير الذى استفاد كثيرا من تجاربه واحتكاكه بالكوادر السياسية تعلم كيف يحول لحظات الضعف والانكسار الى قوة يلهب بها مشاعر الجماهير ويبعدها عن السأم والوهن وقد تثنى له أن يطلى خطابه ببعض العبارات الفضفاضة والتى كثيرا ما كان يخطىء فى وضعها بين الجمل بشكل سليم يضمن له استقامة المعنى والمدلول ،،

يجب أن نسمو فوق الجراح فقد مات عواتى من قبل لكن الثورة لم تمت وقد مات عبد الفضيل الماظ فى السودان ليمنح شعبه الحرية والاستقلال ، ان ارادة الشعوب لا تقهر و…

بكى نوراى لاستشهاد ازاز فتصدى له نافع بجلافةٍ بلهاء : الثورة ليست فى حاجة الى العويل والبكاء ، انها فى حاجة الى الرجال فان كان يؤلمك حقا استشهاد الأبطال فلماذا لا تلحق بركبهم ؟!

لم يخلع الشيخ على عباءة الوقار والاتزان اللذان عرف بهما كما فعل فى ذلك اليوم : ولماذا تجلس أنت هنا وسط النساء يانافع ؟ وهل لك أن تحدثنا بماذا شاركت أنت فى هذه الثورة سوى النفاق والثرثرة حتى تعيب على نوراى بكاءه على الأبطال ؟

كادت الجلسة أن تتحول الى شجار لو لا أن تدخل محمد خير وقام بتلطيف الجو مدغدقا حواسهم بخبر أخير سيذيعه على مسامعهم بعد لحظات ، ولم تمضى تلك اللحظات حتى كان الصمت سيد الموقف…

جال ببصره فى كل الاتجاهات ثم أستدار نحو الشيخ على قائلا : لقد أصيب حامد بشظية على فخذه الأيسر ولكن ….

ولكن ماذا ؟ قاطعه نافع الذى بدأت علامات الحزن على محياه أو لعله كان يتظاهر بها… ولكن الحمد لله فقد بُرِىء الجرح وباشر حامد عمله فى كتيبة بصيرى بالمرتفعات…

 

==================

شرخ في جدار الوطن (4)

 

قصة : من واقع كفاح الشعب الارتري

  كرت سبحة الأيام فكبر حقل الثورة التى انتشرت فى معظم أرجاء الريف الأرترى ولم تفلح كل محاولات العدو لإحداث شرخ ينفذ من خلاله بعد أن فشل فى ميدان المعركة العسكرية وقد بلغ الوعى الجماهيرى مداه بحيث أن المرأة الأرترية أيضا أخذت على عاتقها عبئا ثقيلا من أعباء الكفاح المسلح ضد الغزاة الغاصبين…

ذات يوم جاء المندوب السياسى الى قرية ” مجلل ” فتحدث بالتقرينية ولكن ” يسن ” الذى لم يرق اليه ذلك استنكر قائلا : لماذا يتهكم علينا ساسة ” الجبهة ” وكوادرها فبالامس القريب جاء أحدهم ليزحم رؤوسنا بعبارات جوفاء مازالت تطن فى آذاننا كالبعوض فى المياه الراكدة وبرغم أنه كان يتحدث باللغة العربية التى أفهمها جيدا الا أننى مازلت أشعر بالغثيان فقد أضنانى البحث فى قاموس اللغة عن كلمات مثل، الراديكالية،، البرجوازية،، البيروقراطية و… لماذا يحشرون بين مفردات اللغة العربية كلمات فرنسية لا نفهمها ؟

ثم هاهم الآن أرسلوا الينا هذا “الحبشى ” ليقتطع من وقتنا ما يشاء دون فائدة تذكر ..

تنحى به ” أحمد ” طالب الخدمة الوطنية القادم من السودان ركنا ثم أخذ يشرح له خطورة ما جاء فى حديثه قائلا: ان هذه الثورة ملك للجميع فى أرتريا فلا يصح أن نصنف الناس بمثل هذه المسميات التى من شأنها أن تقوِّض دعائم الثورة وتبعثر جهودها و….

استوعب يسن الدرس وندم على ما بدر منه بل اعتذر قائلا : انها زلة لسان…..

أما فى ” منصورة ” فقد حدث للمندوب السياسى موقفا لا يخلو من طرافة وذلك عندما أراد أن يقوم بترشيح احدهم ليكون مسؤولا عن جمع الاشتراكات والتبرعات حيث قال لهم : يجب أن يتم الترشيح أو الانتخاب بطريقة ديمقراطية، لكنه ما ان أكمل عبارته حتى سرت همهمة بين الحضور ثم نهض أحد الشيوخ الذى بدأ منفعلا وهو يخاطب المندوب السياسى : اسمع يا ولد، يجب أن تفهم جيدا أنت ومن أرسلك الينا اننا هنا فى هذه المدينة الصغيرة  لا نتحدث الا باللغة العربية أو التقرى ان شئت أما هذه الحروف الانجليزية التى تلوكها على لسانك دون خجل أو مواربة فهى ليست من ثقافتنا أو موروثاتنا التى نعتز بها عليه أرجو أن تحيط قادة الثورة علما أننا هنا فى منصورة نعلن العصيان المدنى بل العسكرى أيضا اذا دعى الأمر ضد هذه اللغة الوافدة وضد أى ثقافة أخرى تفرض علينا ثم اننا درجنا على اختيار من يمثلنا بالشورى ولا حاجة لنا بهذه ” الديرطوراطية ” وهنا برزت بين فكيه ابتسامة مغتضبة سريعا ما أختفت بين قسماته الصارمة فالتفت الى الجماهير التى كانت تتابعه باعجاب وفخر : سامحونى أيها الاخوة فقد أجبرنى هؤلاء على التحدث بلغة الأعاجم ، فصفق له الحضور تصفيقا حادًا أعقبته برهة من الصمت اتجهت خلالها أنظار الجماهير نحو المندوب السياسى الذى علت ثغره إبتسامه وهو يخاطب الشيخ قائلا : عفوا أيها الشيخ الفاضل فأنا لم أقصد أن أتحدث معكم بلغة الأعاجم أما كلمة ديمقراطية فتعنى الشورى التى ذكرتها أنت وعلى كل حال فالتختاروا من يمثلكم بالشورى وهكذا تم اختيار ” أسناى ” ممثلا لمدينة منصورة…

لقد ظل الشعب الأرترى يبحث عن شرفة تحت ظلال الحياة ليرنو من فوقها بشموخه و كبرياءه الجامح دوما نحو تقزيم الطغاة الغاصبين ،، وقد كلفه ذلك الثمن باهظا لكنه مضى ينحت فى صبر وعناد على صخور الزمن العاتى بحثا عن ظلال تحت مرافىء الوطن…

وقد ناء جبل أدال بما حمل من رجال جاءوا من كل فج عميق فى أرتريا ،، انها النفوس الظامئة والأعناق المشرئبة نحو الحرية والانعتاق…

ففى ” سنعفى ” حيث امتدت الأسئلة الحائرة بناصر وصديقه سراج نحو أفق غير مضاء فقررا أن يلتحقا بالثورة غير عابئين بالموانع التى تحول دون تحقيق أمانيهما..

قال ناصر : ألا تلاحظ أخى سراج ، أننا وقد بلغنا من الكبر عتيا لم يحدث أن شهدنا لحظة انعتاق واحدة فى هذا الوطن الذى تعاقبت عليه اللعنات فحتاما تستدير البسمة فى شفاه الأعداء دورة كاملة بينما نظل نحن أصحاب الأرض وأبناءها نلعق صحن الجراح المثخنة ؟ ولماذا تظل ارتريا دائما مستسلمة لقيود الغرباء ، ناعسة ، وادعة كخضراء الدمن يرقب اطلالتها الأعداء ؟

بدأ سراج مشدوها لسيل التساؤلات المحرقة التى تدفقت أمامه شلالات بلا نهاية حتى غدا مرتبكا، مشدودا وقد استباحت خواطره زفرات وآهات ،،

تبًا لك يا ناصر، كيف أستطعت أن تلملم خيوط المحنة وتقذف بها فى وجهى ، حقا انها المأساة التى عشتها بحزافير تفاصيلها المميته لكنى لم أجرؤ يوما على الاقتراب من دائرة التفكير فى المسخ الذى يكتنف حياتنا الرتيبة و…. صمت قليلا ثم أستدار نحو التل الذى كان مكتظا بقطعان المواشى ، أنظر الى هذه الأبقار اننا بتنا لانأمن عليها طائرات العدو التى حصدتها كما حصدت الأطفال والنساء ، ماذا نفعل؟ قل لى ياناصر ماذا نفعل؟

ابتسم ناصر وهو يشد كتف صاحبه وكأنه يدعوه الى الاصغاء :أتذهب معى ؟

الى أين ؟ أجابه سراج …

الى الثوار لنكفر عن سنوات التيه والضياع التى عشناها تحت نعل الاستعمار الغاشم…

وعندما كانا يقفان بتوثب وأنشراح أمام القائد، صداهما بلطف واستثناهما عن الالتحاق بجيش التحرير لأنهما كانا فى خريف العمر  حيث يتطلب الكفاح المسلح عنفوان الشباب وليس ضعف الشيوخ وعجزهم ..

إمتقع وجهيهما وسرت فيهما سحابة داكنة من الحزن لكنها سرعان ما أنقشعت فحلت مكانها ابتسامة وذلك عندما أسر اليهما أن الثورة فى حاجة اليهما لتنفيذ بعض المهام التى وصفها بأنها أشق من حمل السلاح وهكذا رجعا الى سنعفى وبدءا رحلة المهام الصعبة التى عملا جاهدين بتفانى واخلاص لانجازها..

==================

شرخ في جدار الوطن (5)

قصة : من واقع كفاح الشعب الارتري

 

عندما انتصف القمرفى كبد السماء وحلقت حوله بعض النجيمات الشوارد فى ذلك المساء الشتوى البارد جمع بصيرى أفراد كتيبته فذودهم بجرعات من التحريض والتحفيز على التماسك والاقدام ثم أمرهم أن يتجهوا صوب ” أم باديرهو ” التى لا تبعد كثيرا عن الطريق المؤدية الى أسمرا فتحركت الكتيبة حتى وصلت الى مشارف القرية عندما بدأ قرص الشمس ينسج خيوط أشعته الصفراء حول أرجاءها وكأنه يستأذن القمر ليحل محله فيراقب الأحداث التى ستجرى هناك فى ذلك اليوم…

لم يكن جيش العدو متواجدا بداخل القرية ولكن بعض زبانيته من العملاء والخونة كانوا قد بدأوا يحشرون أنوفهم بين الناس سعيا وراء خبر عن الثورة ليبيعونه الى الغرباء القادمين مع الغروب  بثمن بخس..

وعندما أرسل بصيرى نائبه ” دمباى ” لأهالى القرية يستدعيهم للتفاكرفى بعض شؤون الثورة كان الغزاة قد أحيطوا علما بذلك فأسرع عمدة “أمباديرهو ” أبوى قبرو ” وبعض أعيان القرية لاشعار الثوار بالخطر وحثهم على الرجوع لعدم تكافؤ القوتين وقد كان جيش العدو فى تلك الأثناء قد بدأ يزحف لمحاصرتهم فقرر بصيرى ان ينسحب بجنوده لأنه كان يعلم جيدا أن جنرالات العدو يرسلون لواءا كاملا للقضاء على ثلاثة فدائيين فقط!!

ولم يكن فى الوقت متسع لتنفيذ خطة الانسحاب فقد اقتربت جحافل العدو قاب قوسين أو أدنى من الموقع فأسقط فى يديه ووجد نفسه بين شقى الرحى فى موقف لا يُحسد عليه أحد، وهنا كان لزامًا على بكرة الزمن أن تتوقف قليلا عن المسير فتحنى هامتها اجلالا لعبقرية ذلك القائد الفذ وتقديرا لتضحياته العظيمة….

إلتفت بصيرى الى أفراد كتيبته قائلا : نحن الآن نقف بين المطرقة والسندان وقد كنت أتمنى أن يفوق عددهم عن ذلك لأدخل معهم فى معركة ينصفنى فيها التاريخ ولكن حسب علمى فان أفراد العدو المتجهين الينا الآن لايزيدون عن سبعين ” خنزيرا ” فقط وأنتم تعلمون جيدا أن حذاء المناضل الأرترى الواحد يساوى ألفا من هؤلاء الأوباش ولا يفوت عليكم أن أهم مقومات البقاء  والاستمرارية لهذه الثورة فى هذه المرحلة هى أنتم أيها الأبطال ، لذا فليس حرى بى أن أغامر بزجكم فى معركة انتصارنا فيها يعنى الخسارة عليه أرجو أن تتقيدوا بالأمر الذى سأعرضه عليكم ثم أختار ثلاثة من المناضلين لم يكن حامد من ضمنهم أن يبقوا معه لمناوشة العدو حتى يتم الانسحاب بطريقة سليمة….

معذرة أخى الثائر ، أننا لايمكن أن نتخلى عنك لتواجه الموت ونفر نحن كالجبناء و…… اخرس قال بصيرى فى غضب واضح ثم واصل توبيخه لحامد : أنت بالذات يابنجوس يجب أن تبقى حيا حتى خريف العمر لتسدد ما عليك من ديون تجاه الوطن فهل نسيت أن الثورة قد بعثتك الى سوريا فى دورة عسكرية لمدة عام كامل ثم أرسلتك مرة أخرى الى العراق لاستخراج الشظية التى استقرت فى فخذة قدمك اليسرى؟

أتدرى كم بلغ ثمن فاتورة علاجك؟

اسمع يا بنجوس ،، لقد تم فطامك هنا معى وقد شهدت نمو شاربك شعرة , شعرة ولم أسمع منك اعتراضا أو تزمرا من قبل فماذا دهاك الآن؟

انصرف ولا تضيع علينا الوقت و…….. ولكن الوقت كان قد ضاع فعلا فتقاربت الخطوط بين الجيشين وكان لابد مما ليس منه بد وهكذا اندلعت المعركة فأتخذ أبطال الثورة من أحد الوديان ساترا لهم وجعلوا يمطرون العدو بوابل من الرصاص حتى نفذت ذخيرتهم وسقطوا شهداء على الأرض التى عاهدوا الله أن يعيشوا فيها أحرارا أو يموتوا بكرامة وعزة…..

====================

شرخ في جدار الوطن (6)

قصة : من واقع كفاح الشعب الارتري

كان حامد آخر من نفذت ذخيرته فالتفت الي بصيري المضرج بالدماء واخذ منه (الكلاشنكوف) برفق ثم ضغط علي الزناد ولكن دون جدوي اذ نفذت ذخيرته أيضا فاتجه الي “صالح ” الذي كان قد فارق الحياة ليجد سلاحه خاليًا من أي طلقة ، عندئذٍ تناول القنبلة بيده اليمني وجهزها لساعة الصفر ثم قرر أن يختبئ خلف جذع شجرة ضخمة كانت تمد فروعها في بطن الوادي ولكن هداه تفكيره وخفة عوده الي التسلق فوقها حتي إستقر بآخر فرع فيها واستعد للحظة الحاسمة في حياته وعندما هدأت أصوات الطلقات والمدافع الرشاشة جاء الجنرال ” ملس ” الى الموقع الذى دارت فيه المعركة ترافقه زمرة من جيش العدو وجمع غفير من المواطنين الذين توارت أحزانهم خلف ابتسامات بلهاء اصطنعوها اتقاءًا لسخط العدو وسطوته،،

تفرس الجنرال فى وجوه الشهداء واحدا بعد الآخر وتأكد من موتهم جميعا ثم توجه الى بصيرى الذى كان يلفظ أنفاسه الأخيرة فصرخ فى وجهه : من أنت أيها الأحمق حتى تقف فى وجه امبراطور الحبشة العظيم ؟ ثم ضربه على وجهه بحذائه ( البوت )،، ولكن هل يسهل الهوان على رجل فى قامة بصيرى؟

هيهات ..هيهات فالجبال الشامخة لاتنحني أمام العواصف،،

 بصق بصيرى فى وجه الجنرال الذى استشاط غضبا فأخذ مسدسه ليطلق أكثر من ست طلقات على رأسه ثم ركله بقدمه وأنصرف…

كاد حامد أن يضغط على زناد القنبلة فيفجرها على رأس الجنرال ويموت معه لكنه تذكر مقولة بصيرى “أن حذاء المناضل الأرترى الواحد يساوى ألفا من هؤلاء الأوباش ” فعدل عن ذلك بيد أنه ظل متأهبا لتفجير القنبلة فى حالة اكتشافه…

مر الزمن ببطء ثقيل وحامد فى مكمنه بأعلى الشجرة دون أن يراه أحدا حتى أنتهوا من دفن الجثث التى تناثرت أشلاءا فى بطن الوادى بشكل يستفز ضمير الانسانية ويعري سوأة المستعمر ،،

كان الوجوم يلف ظلاله حول المكان وكان الصمت يخيم عليه باستثناء القائد الذى كان يرغي ويزبد وهو يأمر الجنود والمواطنين أن يدفنو تلك ” الجيف ” كما قال…

لم يكن حامد وهو معلق بين أغصان الشجرة الضخمة ليفكر فى النجاة من ذلك المأزق بل كانت أقصى أمنياته أن يموت فى تلك اللحظات بعد أن يفجر القنبلة على رأس ذلك الجنرال الجبان لكن الوصية التى لقنها له بصيرى هى التى كانت تحول دون ذلك ،،

ولم يفكر أحدا من جيش العدو الذين تجمعوا تحت الشجرة أن ينزع قبعته عن رأسه لينظر الى أعلى الشجرة ،، انه الغباء الذى إتسم به أولئك الغزاة ولكن عندما انتهوا من دفن الجثث وهموا بالانصراف رفع أحد المواطنين رأسه الى السماء فراى حامد الذى أشار بيده : هُس ،،فلاذ الرجل بالصمت بل قام بدور وطنى تمنى حامد أن يشكره عليه لو مد الله فى العمر وشاء لهما أن يتقابلا…

 الثعبان .. الثعبان.. صاح الرجل وقد تظاهر بالفزع والخوف لأنه كان يعلم أن الذين أغتصبوا أرضه يرتعدون خوفا من كل الحشرات الزاحفة على وجه الأرض…

أين هو … أين … بدأ أحدهم يصيح وهو يرتعد من قمة رأسه حتى أخمس قدميه بينما لاذ الآخرون بالفرار بعيدا عن الشجرة ثم تفرق الجميع وعاد جيش الحمقى الى ثكناته….

إتجه غربا وأطلق لقدميه العنان فمن سهل الى سهل ومن منحدر الىمنحدر حتى أوشكت الشمس أن تنسحب خلف التلال حيث وصل الى مزرعة كبيرة قابله صاحبها بابتسامة وود فأشار حامد الى بطنه الفارغة ليغيب الرجل بضع لحظات ويعود بعدها محملا بالطعام والماء…

توارى القمر خلف سحابة داكنة وأرسل الليل خيوطا سوداء أضافت الى ذلك البيات الشتوى وحشة لم يألفها من قبل…

يا لتعاستى ،، لماذا لم تكتب لى الشهادة فى تلك المعركة؟ أما كان الأجدر بى أن أموت شهيدا مع أولئك الأبطال؟  أرأيت كيف بصق بصيرى فى وجه ذلك الجنرال الجبان؟

عض على شفته السفلى حتى كادت تقطر دما ثم قال : لماذا لم أفجر على رأسه القنبلة التى كانت بيدى؟ ماذا كنت أنتظر و… تذكر آخر كلمات خاطبه بها بصيرى : أنت بالذات يا بنجوس يجب أن تعيش حتى خريف العمر لتسدد ما عليك من ديون تجاه الوطن…

دمعت عيناه وتساءل بصوت ردده الصدى : كيف ستستمر الثورة بعدك يا بصيرى؟

توغل فى سيره قاصدا ” عنسبه ” حيث توجد احدى كتائب جيش التحرير الأرترى وحتى يأمن على نفسه من قناصة العدو (( بانداجرقى )) كان عليه أن يتحرك ليلا ويختبىء فى الكهوف والأدغال نهارا حتى كان ذلك المساء إذ نظر من فوق التل المشرف على النهر حيث كان القمر يرسل أشعته لتنعكس على صفحة الماء فظن أنه قد اقترب من الموقع لكنه لم يكن يدرى أنه على موعد آخر مع العدو ،،وهكذا فلم تمضى سويعات قليلة من انحداره من تلك الربوة صوب الضفة الشرقية لنهر عنسبة حتى وجد نفسه داخل معسكر العدو…

فرك عينيه وعقدت الدهشة لسانه عندما سمع أحدهم ينادى صاحبه بالأمهرية!!

اذاً هى اللحظة الحاسمة فى حياتك يا حامد فقط يجب أن لا تنسى وصية بصيرى فتموت مقابل أكثر عدد من هؤلاء الأوباش،، هكذا خاطب نفسه و تحسس القنبلة التى كانت معه ثم أنطلق نحوهم…

كان جيش العدو فى حالة استرخاء ولم يكونوا قد تنبهوا الى وجوده داخل المعسكر أولعلهم رأوه فظنوا أنه أحد الرعاة المتجولين فى تلك المنطقة وقد أيقن هو أن استعمال القنبلة الوحيدة التى كانت معه لن يثمر أو يجدى شيئا لأنهم لم يكونوا متجمعين فى اتجاه واحد وهنا تفتق ذهنه عن حيلة لم يكن ليستطيع أحدا غيره أن يفعلها ذلك لأنها كانت تحتاج الى اقدام وجرأة لا يتوفران الا فيه…

أين الضابط؟ سأل حامد ثلاثة من جنود العدو الذين كانوا يشربون الخمر….

وماذا تريد من الضابط أيها الراعى القذر؟ أجابه أحدهم ثم أضاف ساخرا : ومن أنت حتى تسأل عنه؟

ستعلم من أنا عندما يرانى الضابط فينهض ويعانقنى عناقا حارا و…

كان واضحا أن البون شاسعا بين الضابط الذى رُصِّعت أكتافه بالنجوم وحامد الذى التصقت على جسده النحيل ثيابا رثة أكل الدهر عليها وشرب ولعل تلك المفارقة هى التى أثارت فى نفوس أولئك الجنود اشمئزازا وتأففا فبدأوا يضحكون من ذلك ” القزم ” الذى يدعى أنه صديق الجنرال ” نقا ” وأدرك حامد ما يختمر فى عقولهم الخربة فبدأ يشد خيوط حبكته الدرامية ببراعة لا تضاهى : لماذا تقفون أمامى هكذا كالأصنام ،، أقول لكم أين الضابط ؟

كان يعلم أن الضابط قريبا منهم يتابع ذلك الحوار منذ الوهلة الأولى  فلم يكن بعيدا حيث خطى بضع خطوات وهو يقول : ماذا يريد هذا ” الوتد ” فى اشارة الى  قصر قامة حامد لكنه تظاهر بعدم الاكتراث وكأنه يجهل أن الذى يخاطبه هو الضابط نفسه…

جئت لأرقص وأغنى لصديقى الضابط فهو يحب الرقص والغناء؟

كيف عرفت أنه يحب الرقص والغناء؟

كل ضباطنا يحبون الرقص والغناء وهل يوجد فى هذه الدنيا من لا يحب ذلك ؟!

أدرك الضابط أنه أمام شخص معتوه فأعطاه خبزا وأمره بالانصراف بعيدا عن المعسكر ،، وهكذا تذود من جيش العدو ثم أنطلق لا يلوى على شىء دون أن يلاحظ أحدا الى القنبلة التى كان يخفيها تحت دكة سرواله…

فهل أخطأت فراسة نافع عندما تنبأ له بالدور العظيم الذى سيلعبه فى حقل الثورة المنتصرة باذن الله كما قال؟ أم هل خابت ظنون الشيخ علي عندما وصفه بالألمعيه والذكاء؟ أو لم تكن زوجة الشيخ على صادقة حينما كسرت قيود النظم الاجتماعية السائدة فى الريف الارتري فحشرت أنفها حشرا فى حديث الرجال وذلك عندما أشارت الى حامد بأنه مكسب للوطن؟

 

====================

(7)  

  بعد مسيرة شاقة وصل حامد الي الضفة الغربية لنهر عنسبة حيث كانت ترابط الكتيبة الثامنة فقابله الرفاق بحفاوة وبالغوا في تكريمه إذ كانوا قد حسبوه ضمن عداد الشهداء وقد تزامن وصوله مع تواجد القائد العام لجيش التحرير في تلك المنطقة والذي إنفرد به وجعل يذكره بتفاهة الحياة وحتمية الموت والفناء وهكذا بمثل هذه الكلمات التي تهيئ الانسان لاستقبال فاجعةٍ ما  كان “حليب ستي” يمهد لتبليغه نبأ وفاة والدته !

صهلت خيول الحزن في أعماقه لكن عيناه اللتان اثقلهما السهد والأسي ونالت تباريح الضني والإحن منهما أي منال لم تقويان علي ذرف دمعة واحده فانتحي ركناً وبدأ يجتر شريط الذكريات الحميمة ..

أروته وروابيها الجميلة ،، أنغام السواقي التي تبعث في النفس حنينًا وأشجانًا ،، شقشقت العصافير فوق اشجار السدر ، ضحكات الصبايا في المزارع المتاخمة للقرية و…صوت أمه الدفئ وهي تنادي : حامد ، هلم الي الغداء ،، آه من تلك الذكري آه ..

ماتت أُمي إذاً وإنتهي كل شيئ فلم يعد لوجودي في هذه الدنيا معني آخر سوي شيئ واحد ، هو أن يبقي هذا الوطن حرا أبياً قال ثم نهض واتجه الي خيمة القائد لينظر في امره ويتم توزيعه في إحدي الكتائب .. 

مهما يحاول الجناة على التاريخ و المستسهلين به أن يغطوا بأكمتهم صفحات نضالاتنا المشرقة ويلوثوا بأنفاسهم النتنة عبق التاريخ فإن الأحداث التى جرت هناك على مسرح الوطن تظل شاهدا على عظمة الشعب الأرترى وأبناءه الذين صنعوا المجد، ولإن غازل حامد مُقل الموت وألقى بنفسه فى مهاوى الردى قرباناً لوطنٍ إكتحلت به عيناه حتى النخاع فقد اختار الموت كوكبةً أخرى من الأبطال وأستثناه لأجل غير مسمى…..

هل أصابتنى لعنة بصيرى،، إذ خاطبنى فى ذلك اليوم المشؤوم : أنت بالذات يا بنجوس يجب أن تبقى حيا حتى…..؟

هكذا كان يمخر بخياله عباب الذكريات الحزينة فى كل مرة يصده الموت فيها ويلفظه على قارعة الحياة القاسية،،

بيد أنه كان يدرك جيداً ماكان يعنيه ذلك الرجل عندما طلب منه أن يبقى ويعيش ليسدد ما عليه من ديون تجاه الوطن فقد عُرف بصيرى بالنظرة الثاقبة التى يستشف عبرها أحداث الزمن القادم ولطالما أ سَّر أ كثر من مرة لبعض رفاقه أن مستقبلاً باهراً ينتظر هذا ” البنجوس ” فى حقل الثورة, فقد أدرك حامد مغزى ما أشار إليه بصيرى ..

كل العمليات الفدائية التى أسندت إليه كانت فى حقيقة الأمر ضرباً من ضروب الخيال ،، مواقفاً تثير العجب وتستدعى المخيلة, شيئاً لا يصدق ذلك الذى حدث له فى تلك العملية الجريئة التى إستهدفت الجنرال ” وركى ” ،، ذلك الوغد الذى بالغ فى ذبح الأرتريين والتمثيل بجثثهم أمام ذويهم فى أغردات وإنقرنى وتكمبيا فقد نفذ العملية بنجاح تام وخرج منها كالشعرة من العجينة!!

إرتدى حامد الزى الرسمى لجيش العدو ثم دخل المعسكر خِلسةً وأتجه الى مكتب الجنرال متعللاً بأمرٍ هام يريد مناقشته معه وعندما سمح له الحرس الخاص بالدخول بعد مفاوضات شاقة باللغة الأمهرية التى كان يجيدها بطلاقة ،، أغلق الباب خلفه ثم عمد الى مديةٍ كان يخبئها تحت إبطه فأجهز بها عليه ثم قفز من النافذة الخلفية وأنطلق لا يلوى على شىء ليلحق بزملاءه خارج المدينة!!

أما فى ” مندفرا ” فقد إستطاع أن يقتل ثلاثة من جنرالات العدو فى أجرأ عملية فدائية بإحدى بارات المدينة..

وفجأة ينتبه الدهر ” لمشاكساته ” ومغامراته فيناديه : مرحباً بك فى شاطىء الموت!!

أحبط جيش العدو محاولة فدائية لضرب وتفجير مخازن الأسلحة فى القاعدة العسكرية بأسمرا وتم القبض عليه فأوسعوه ضرباً ثم ألقوا به فى سجون ” عدي خالا ” المظلمة دون مراعاة لحالته الصحية السيئة حيث كان يتقيأ دماً..

لن يستطيع أحداً أن يصور بدقه ما كان يجرى هناك فى تلك الدهاليز المظلمة ،، إنها الفظاعة والبربرية بعينها  ،، إنتهاك صارخ ،بشاعة يتندى لها الجبين ..

كان حامد لهول ما لاقى من تعذيب ووحشية يتعجل الموت ويتمناه لكنهم أرجأوا تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه ريثما يذودهم بمعلومات تعينهم فى القضاء على الثورة ولكن هيهات … هيهات …

فهل يفعل ذلك من إستمرأ مغازلة الموت ؟

طال إنتظاره فى ذلك السجن المظلم حتى كاد بصره أن يذهب لكنه لم يتزحزح عن مواقفه قيد أنملة ففى آخر تحقيق معه بصق فى وجه الضابط الذى أراد أن يستدرجه بإغراءات يسيل لها لعاب الضعفاء ،، وهكذا حتى نفد صبرهم  فقرروا أن يحرموا الوطن من بطلٍ لا يجود الزمان بمثله ولكن …. ولكن تطل المعجزة برأسها مرة أخرى ليخرج حامد من السجن إثر العملية البطولية التى نفذها الفدائيين بقيادة البطل ” سعيد ” وهكذا أفرج عنه بعد ثلاثة سنوات وأربعة أشهر قضاها بين القضبان وكان قد تبقى على تنفيذ حكم الإعدام عليه يومان فقط!!  

(8)

سحابة كثيفة داكنة ظللت معسكر الكتيبة العاشرة وفاحت رائحة  الدعاش ايذانا بقرب هطول المطر ، لم تخدش زرقة الافق الممتد علي طول سلسلة “جبل قدم”سوي ومضات برق خاطفة كان يضوي سناها بين الفينة والاخري ،، لملم حامد شتات خواطره وانبري يموسق حروفا لتأبين الوطن الذي مزقت تضاريسه النوائب ..

ها نحن أيها الوطن البديع نجوب مفازات الاحلام مضرجين بالوجد الشفيف والحب الذي لاينتهي ،، تصهل خيول الشوق في دمائنا ويسافر الحزن السقيم ، يرحل عبر أودية من الوجع ، ألما يجوب محطات أسفارنا ، يسكن في حقائبنا ويختبئ في مفاصلنا وبين نتوءأت الجراح .. كم تغنينا بلحن العودة الي مرابعك الجميلة وكم عبأنا قوارير الفرح الوردي لنضمخ بعطر شذاه سرداق عرسك القادم علي صهوة جياد لا تعرف  الكبو ، فهلا يممت شطر العودة واستعنت بالشوق جسرا الي ضفاف من لاذوا بعشقك ؟

متي تفيق ياآسري وتنفض عنك غبار التلاشي لتعود الينا ملامح هويتنا التي سحقتها طواحين العدم وذرتها رياح الشؤم في حاويات الضياع؟  متي تعود أيها الوطن ؟ متي.. قطع صوت الجلبة المنبعث من الكوخ المجاور سوار الصمت الذي لف المكان فانقطع وحي الابداع ولم يكمل مشوار خواطره ، بل قفز وبحركة ديناميكية خاطفة تناول شنطة الاسعافات الاولية فاخذ المصل المضاد لسموم الثعابين القاتلة وانطلق مسرعا باتجاه الصوت ليجد صديقه همد فاغرا فاه ينظر في شرود وحيرة الي جثة زوجتهالممددة علي الارض !

ماذا حدث ؟ سال حامد ثم تنبه الي قطعة اللحم التي كانت تصدر مواءا خافتا وقد كاد يدهسها بقدميه .. ماتت أثناء المخاض ، قال همد ثم فاضت عيناه جدولا من الدموع ،، لم يعهده ضعيفا هكذا فكم حمل همد علي كتفيه جثث الرجال الذين احبهم حد التقديس ولم  يذرف دمعة واحدة ..

سنوات التضال الطويلة بكل ماتحمله من قساوة وخشونة خلدت في نفسه بصمات واضحة فلم يعد يؤمن بالمشاعرالانسانية التي يتساوي فيها البشر خاصة عندما تدلهم الخطوب وتصيبهم في مقتل كما حدث لهمد الذي فقد أعز مالديه في الوجود”سلماويت” تلك الصبية القادمة من المرتفعات التي تحدي بها جميع من اعترضواعلي زواجه منها ، واصفا ذلك الزواج بأنه ” مشروع وحده وطنية بين مسلمي ارتريا ومسيحيها ” !!

مازالت حبال الذاكرة تشد بعضها البعض لتقذف امام حامد حزمة مواقف ماكان ليتشبث بهالوأعاد التاريخ نفسه وهاهو ذا يسترجع ويعيد القراءة والتأمل في محضر ذلك الحوار الذي كاد ان يفضي بهما الي حائط بلامنفذ ، فعندما قرر همد ان يتزوج تلك الفتاة اعترض هو بشدة متعللا بفارق الاديان الذي من شأنه ان يخلق حواجز تؤدي الي عواقب وخيمة أو كما قال : هب ان الله رزقكما بالابناء فعلي أي دين سينشأ هؤلاء الابناء ؟  

“الدين لله والوطن للجميع ” قال همد متباهيا بالمعرفة ..

انت مصاب بفيروس حمى اليسارى   الذي أراه ينهش جسد الثورة هذه الايام رد حامد ،،

 وبانفعال وحدة صاح همد في وجه صديقه : أنت رجعي !  

وهكذا مضي بهما الحديث في دروب وعرة كادت ان تتوه في مسالكها اسمي علاقة انسانية جمعت بين رفيقين في حمي الوطن

 ،، الآن فقط أدرك حامد معني الحب فربت علي كتف صاحبه وواساه بعبارات نابعة من القلب ولم ينسي أثناء مراسم الدفن ان يأمر افراد كتيبته بإحناء هاماتهمحدادا علي رفيقتهم في النضال كما لم ينسي همد في غمرة الحزن علي سلماويت ان يعلن للرفاق انه قد أطلق علي ابنه اسم “عواتي” وهكذا جاء ذلك الطفل الي الدنيا في جو مفعم بالحزن والاسي..

شرخ في جدار الوطن (9)

  قصة : من واقع كفاح الشعب الارتري  

عاد من السجن ليواصل النضال فـقد حفزته تلك السنوات العـجاف التي قـضاها بين القـضبان للمضي قدما في سبيل تحـقيق الهدف السامي الذي دفع مهره غاليا بصيري ورفاقـه الميامين في أم باديرهو فجـادوا بالمهج رخـيصة وسموا بحسن صنيعـهم في دنيا الفداء والتضحيات ..

عاد ليمنح الوطن مزيدا من البذل والعـطاء غير عابئا بالمتاعب الجسدية والنفسية التي كابدها وعاني ويلاتها في “عدي خالا” ولكن إصطدمت تلك العزيمة بجدار من التناقـضات التي أفسدت مسيرة الثورة وانتشرت في مفـاصلها كما تـنتـشر النار في الهشيم ..

شاقـه ذلك وألمه فسعي لرأب الصدع بين هـؤلاء وأولئك متحركا في ذلك الاتجاه بديناميكية يحسد عليها فا ستطاع أن يضمد بعض الجراح ويرتق ماشرخته أسنّة الخلافات البغيضة ولكن كان الامر أكبر مما تصور فقد إنفتق الجرح وأوشك الجدار علي السقوط إذ  بدأت الثورة تأكل أبنائها ..

إنني كثيرًا ماتوجست من هذه المفاهيم الخربة التي ظل يستوردها الينا دعاة التنوير الفكري والأيدلوجيا البالية .. قال حامد لصديقه همد ثم إستطرد : يحتم علينا الواجب أن نتحرك لدرئ الكارثة ، يجب أن نفعل شيئا ما يعـيد الي هذه الثورة تمـاسكها وعنفوانها ..

أخي حامد : إ ننا لن نستطيع ان نفعل شيئا فقد تمكن المرض وانتشر في جسد الثورة ، قال همد ثم تابع : العالم كله يتفرج علينا ، حتي إخوتنا العرب الذين كنا نعّـول عليهم باتوا وكأن الامر لايعنيهم بل إنهم يزيدون الطينة بللا بتصديرهم لنا فصائلا أخري تعمق الهوة وتزيدها إتساعا ..

ليس الامر كذلك ياهمد ، قاطعه حامد الذي مزج بين مواصلة الحديث وقتل فلول القمل التي تمص دمه ليلا وتختبئ في نتوءات سرواله المتسخ نهارا ،، فالعلة تكمن فينا نحن الارتريين وليست في الاخرين ، يجب ان نضع أصابعنا علي الجرح فقد اغدق علينا اخوتنا العرب الهبات اكثر مما تصورنا ولكن نحن الذين فرطنا في مكتسبات الثورة ومستقبلها إذ افترس داء الغرور قادتنا فصّور لهم خيالهم المأفون أنهم هم الذين صنعوا الإ نتصار فباتوا يحيكون ملاءات المسخ المشوه ويد سون الدسا ئس لبعضهم البعض حتي إنفجر الفتيل ..

لقد آن الاوان ان يتوقف هذا العبث لأجل هذا الوطن العزيز ولأجل الشرفاء الذين يتمترسون خلف البنادق للذود عن هذا الوطن ولأجل الشهداء الذين جادوا بارواحهم و… تقهقرت به الذاكرة الي معركة “ام باديرهو” والبطولة النادرة لكتيبة بصيري التي لم ينجُ منها سوي شخص واحد هو …. حامد ،، توغل في غابة الذكري فتخيل بصيري وهو يبصق في وجه الجنرال الاثيوبي غير عابئا بالاحمر القاني الذي يغطي وجه !

حرام .. حرام  أن نعبث بدم الشهداء ، حرام ،، احتدت نبرات صوته وغبّر الحزن وجهه فجعل همد يهدئ من روعه : يجب ان نحارب النفس الضيّق فقد انتكست معظم ثورات العالم لكنها عادت وانتصرت في نهاية المطاف و…

لم يكمل حد يثه اذ جاء رئيس قسم الاشارة المناضل ” ودي بعلوم” ليلقي بالامر الصادر من القيادة العليا علي مسامعهم : إنسحاب !!

ماذا ؟!

إنسحاب .. أعاد ودي بعلوم قراءة البرقية ..

الي اين ؟ سأل حامد ..

الي الجهة الغربية !

لم ترد في الاشارة تفاصيلا أخري سوي كلمة انسحاب فتساءل حامد وهمد في دهشة عن المغزي ولكن كل تسا ؤلاتهما كانت في مقام الصدي ..

تذكر حامد المقولة العسكرية التي وجدها عشية التحاقه بالثورة منقوشة في لوحة كانت معلقة علي غصن شجرة العركوكباي التي اتخذ من ظلها رئيس هيئة الاركان مكتبا له : ( لا تتمهل طويلا في البحث عن أصل حقيقة الأشياء فقد تصل بعد فوات الأوان) ..

فامتثل للأمر وانضم الي الكتائب المتجه غربا في مسيرة شاقة استمرت لاكثر من خمسة عشر يوما حتي كان ذلك المساء الذي ثارت فيه الطبيعة فلفظت الارض ما بجوفها من غبار تلاشت اوانعدمت خلاله الرؤيا تماما حيث تلقوا أمرا بالتوقف ليعسكر الجيش في ذلك الفضاء الشاسع .

 

شرخ في جدار الوطن (10)  

قصة : من واقع كفاح الشعب الارتري

  تسلل همد بين أشجار الصنوبر المنتشرة في ذلك السهل المترامي علي إمتداد البصر وإتجه صوب التل الذي تفصله عن المعسكر عدة كيلومترات لا يمكن اختصارها دون عناء او جهد اذ تشكل الطبيعة فيها جسورا من المعوقات والحواجز ولكن استطاع اخيرا ذلكم الفتي الاسمر النحيل ان يقهر بعناده جبروت الطبيعة وينجز المهمة الصعبة ..

اعتلي قمة جبل ” رهساي”  فلمح قناديلا باهتة الاضواء تكاد لاتري بالعين المجردة فادرك انهم مقبلين علي  تحرير إحدي المدن فسرّهُ ذلك وجعل يحرز ويتسائل : أتكون بارنتو أم  تسني ؟

قطعت سعدية حبل أفكاره عندما إقتحمت عليه خلوته وحدثته بصوت مبحوح وأنفاس متلاحقة عن همساً يدور بين المناضلين ولقطاً لم يُستبن أمره بعد !

اتجه الي حامد فوجده ساهما ينظر في شرود باتجاه أشجار العركوكباي المنتشرة في الناحية الشرقية للمعسكر ..

أحقاً ماأسمع ؟ سأل همد ،،

نعم أجاب حامد ثم استطرد ..  وقع المحظور وانتهي كل شيئ  فليست هذه الاضواء التي تراها لبارنتو أو أي مدينة ارترية أخري بل نحن علي مشارف مدينة كسلا السودانية !!

اذاً فقد إنهار السقف قال همد ثم إستاذن لقضاء حاجته وهناك في أطراف المعسكر شهدت الثورة الارترية أول حادثة انتحار لمناضل وجد في الموت طهورًا من درن المهانة ورجس الهزيمة وعارها ..

وعندما هرع الجميع الي موقع الكارثة كان همد ممددًا علي الارض وقد اخترقت راسه رصاصة نافذة وعلي مقربة منه وجدوا الرسالة التالية :

زملائي ورفاق دربي المناضلين ..

لم أتحمل وقع الصدمة وانا الذي كنت حتي الامس القريب أدعو الآخرين الي الصبر والتماسك فقررت أن أضع حدًا باخماد النار التي تغلي في دواخلي اذ لم أتصور مطلقاً ان تؤول الثورة التي منحتها أجمل وانضر أيام العمر الي مزبلة التأريخ فآثرت الموت هنا علي التشرد والتيه بعيداً عن الوطن ..

عزيزي حامد .. أرجو ان تمنح صغيري  “عواتي”  اهتماما ورعاية ومعذرة اذ تركتك لوحدك تواجه لحظات الضياع  وانهيار الحلم الذي نسجنا خيوطه معا قبل عشرون عاما …

ماذا يحدث في هذا الكون ؟ لماذا تتوالي علينا اللعنات هكذا ؟

لماذا … لم يسترسل حامد في تساؤلاته كثيرًا إذ سمع نداءاً عسكريا يامره ورفاقه بوضع السلاح والاستسلام !!

التفت الي زملاءه فوجدهم قد انصاعوا للامر ..

لا تفعلوا أيها الرفاق ،، يجب أن تستمر الثورة ،، يجب أن تستبدل هذه القيادة ،، يجب أن …

استحالت  كل أحلامه سرابا وذهبت أمانيه مع الرياح فقد دق العملاء أسفينا في نعش الوطن وسقط القناع ..

أيا وطنا يطل عبر ثغوب الذاكرة ليس بوسعنا أن نحبك اكثر فقد اهترأت علي شفاهنا حروف الوجد والتحنان ،،

ها نحن نضخ شلالات من العشق السرمدي لتروي جذور اوتادك فتبقي شامخا عملاقا رغم عاتيات المحن ،،

ياوطنا حملناه في حدق العيون وغرسنا في ذراته بذور العشق والهوي فلم نجد عند شرفته سوي قلاع من الصد فلذنا منه إليه ..

كان ذلك آخر ماتبقي من مداد سكبه حامد في مفكرةٍ بالية قبل أن يقذف به شراع الزمن الاعثر في متاهات الدروب الوعرة ..

شرخ في جدار الوطن (11)  

لم تخبُ جذوة الشوق المستعرة في حناياه لوطن امتص رحيق ايامه الناضرة ثم ادار له ظهر المُجن والقي به علي ارصفة المحن لاجئا مشردا في المدن الغريبة ..

مشي في دروبٍ كلٌ منها مفازة بلاآخر فلم تكسر شوكة عزيمته خيبات الامل ولم يثنه بعد المسافات عن التواصل مع الوطن فقد شهدت له مخيمات اللاجئين نشاطا تقاعس عنه الاخرين فمن اجتماعات الي مؤتمرات فحملات توعية لربط الارتريين بالوطن و..

في خضم ذلك المد الجارف والعمل الدؤوب لم يتعثر حظ عواتي من الرعاية والاهتمام اذ استطاع حامد ان ينفذ وصية صديقه بتفانٍ واخلاص بل اكثر من ذلك فقد وجد في ذلك الطفل ضالته المنشودة لممارسة دور الابوة التي حرم منها بين قضبان “عدي خالا” القميئة حيث تعرض للضرب والتعذيب ..

لم يكن ذلك المساء اقل بؤسا في اطلالته عليه فمذ غادر ربوع الوطن لم يغمض له جفن ولاسره حال ،، حامد المسكون حتي النخاع بحب الوطن لم تسكّن جراحاته البدائل ولم تهدئ من روعه حقيقة مفادها ان المدينة السودانية التي تحتضنه بمودة وطيب خاطر ، هذة المدينة يغذيها حبلا سُريا يمتد من احشاء الاراضي الارترية ..

لم تمنحه هذه الفكرة احساسا بالمقايضة كما حاول الآخرين فلم يكن ينظر الي ” نهر القا ش” الذي يشق المدينة نصفين الا كما تنظر الام الي ابنها العائد في ( تابوت )  ..

ارخي الليل سدوله فبدا عواتي كعادة الاطفال قبل النوم يثرثر باسئلة لاتخلو من براءة وسذاجة ..

بابا .. بهذه العبارة التي تعود ان يضخ عبرها شلالات من التساؤلات الحيري استهل حديثه في ذلك المساء الكارثي الحزين : لماذا لاتتزوج فتريحنا من الطبخ والغسيل ؟

تبًا لك ايها الشقي الصغير فقد وخزته وخز اشواك الصبار ولم تراعي قدسية الاماكن المحرمة ..

غاص حامد في بحر الذكري المؤلمة وقتامة الايام الكالحة التي قضاها سجينا في عدي خالا حيث دخلها نجما ثاقبا وخرج منها كالبرق الخلب لا معني لوجوده علي ظهر البسيطة اذ أغمد الوحوش خناجرهم المسمومة في جسده المنهك وتركوه يترنح بين الموت والحياة ليواجهه الطبيب بعد ذلك بحقيقة مفزعة خلاصتها انه قد فارق دنيا الابوة وعالم الاطفال فلن يتثني له الانجاب ولم يهنأ بتكوين اسرة يستظل تحت سقفها الدافئ ..

تصور ماحدث لرفيقة ” ادريساي ” فاغمض عينيه ثم قال : يالله ..

انها مأساة تدمي القلب وتؤذيه ، لم يعد يذكر من تفاصيلها سوي بعض المشاهد المقززة التي تزكم رائحتها الانوف .. اشلاء تناثرت علي بلاط السجن ودماء سالت هنا وهناك و.. نتفٌ من وبر !!

يالنذالة الاوغاد ، قال ثم دخل في نوبة اخري من التأمل بحثا عن اجابة شافية لتساؤلات عواتي المزعجة ..

أأجيبه كما كنت افعل مع زملائي في سوق الخضرة : قريبا انشاء الله ؟

ولكن ماذا لو اصر عواتي غدا او بعدها علي اتمام الزواج ؟

أأصارحه بما حدث لي في سجن عدي خالا ؟

لا ..لا ،، هذه الفكرة تعني دفني حيا في مجتمع لا يؤمن بعقم الرجل ناهيك ان يصاب بعاهه كالتي حدثت لي ..

اذا بماذا اجيب عواتي المشرور علي حبال الانتظار ؟

لم يدر ان عواتي الذي نكأ الجراح بتساؤلات بريئة كان قد ادركه النعاس فغاص في ثبات عميق تحفه فراشات السماء ..

عواتي ..عواتي ..  هل نمت ؟ قال ثم نهض ولف جسمه الصغير بالغطاء ثم قبله في جبينه واستقبل القبلة في صلاة تعود ان يؤديها قبل النوم ..

شعاعا خاطفا تسلل عبر ثقوب النافذة الصغيرة اعقبه دوي هائل اهتز له سقف البيت القرميدي العتيق ، وجد حامد نفسه منبطحا علي الارض في اغماءة طويلة لم يفق منها الا في غرفة الانعاش بمستشفي كسلا الحكومي ..

 اين عواتي ؟ كان ذلك اول سؤال له بعد ان فاق من غيبوبته ..

لاذت الطبيبة السودانية بالصمت وتظاهرت بتطبيب الجراح التي كادت ان تتسبب في بتر ساقه اليمني ، ولكن امام اصراره بتكرار السؤال لم تتمالك نفسها فذرفت دمعتين سالتا علي خديها اليانعين ليدرك ان آخر شمعة في حياته قد انطفأت ..

تمني حامد ان ينجب طفلا فيسميه بصيري تيمنًا بقائده العظيم ولكن ليس كل مايتمني المرء يدركه فقد استحال ذلك بسبب ما حدث له في عدي خالا لكنه استعاض عن ذلك بعواتي الذي تعلق به واحبه كابنه تماما فكرس كل حياته لاجله وتفاني في رعايته وهاهو ذا عواتي ايضا يستجيب لمشيئة الاقدار فيرحل عن دنياه بلا اسئذان ..

كم تمني ذلكم الرجل الموبوء بالخيبة وكم صادرت الرياح امانيه!

هؤلاء الارتريين تطاردهم لعنات الحروب اينما حلوا ، قالت الطبيبة السودانية وهي تضع علي جبينه قماشا مبللا بالماء البارد ..

تعالت هتافات الجماهير الغاضبة واخترق هدير حناجرها الجدران ليشق طريقه الي العنبر رقم واحد حيث يرقد حامد …

الموت والدمار لاعداء الوطن،، الخزي والعار للطابور الخامس و…

كان علي وشك ان يطوي صفحة من القطيعة معهم انطلاقا من مواقف وطنية بحتة سمي فيها بحسه الوطني الرفيع فوق الجراح ولكن جاء اغتيال عواتي في ذلك الانفجار الذي كان يستهدفه هو ليهدم جسور التلاقي ويطفئ آخر شعاع في نهاية النفق ..

(هكذا تلد الاوطان اقزاما زورا نسميهم ابطال ) ، قال ثم تلاشي بين اكواخ المدينة التي قهرته باسقاط آخر منارة كان يهتدي عبرها نحو آفاق الحياة بتفاؤل وانشراح كما قهرته قبل ذلك بسحق البطل ” سعيد ” الذي انتزعه من براثن الموت فحرره ورفاقه من سجون عدي خالا ..

شرخ في جدار الوطن (الاخيرة)

كسلا مدينة تعبر من نوافير الجمال الممتد انوارا من السحر ، توتيل ، التاكا ، تولوس ، القاش، اسماء ومعاني حفرت بالوشم البديع نقوشا في وجدان الشعب الارتري ..

تساقطت حبيبات الندي الوردي في ذلك الصباح الموشي بالفرح وعزفت مزامير البهجة تجاوبا مع انشودة الوطن العائد بعد طول غياب ،، كان مشهدا فريدا امتزجت فيه الافراح بالاحزان واختلط النشيد بالنشيج فلم يصدق احدا ان الحلم قد تحقق وان الشمس قد اشرقت هناك ..

كأنما انفلق جبين السماء وتدلت من عليائها هديةً سئم الارتريون انتظارها ، عاد الوطن وغرد الفجر في ارتريا فسارت مواكب الافراح تطوف ارجاء المدينة ..

اين حامد ؟ تسائل الجميع ففي مثل ذلك اليوم ينقشع الضباب عن محيط الذاكرة فتلمع اسماء الابطال وتتلألأ مآثر الشهداء وتعتلي شرفة الذكري المجيدة ،،

اين حامد ؟ غرز الفقد انصالا كادت ان تفسد روعة المشهد وتعيق موكب الفرح العارم ..

بحثوا عنه في كل الاماكن فلم يجدوا له اثرا وقبل ان يتملكهم اليأس صاح احدهم : انه هناك ، فاسرعوا اليه ..

كان جاثيا علي ركبتيه يناجي صاحب القبر ويلوك لبان الحسرة والالم علي فقده : من انت ياعواتي حتي تموت نيابة عني ؟ ليتهم اصابوا الهدف ، ليت الجبناء قتلوني انا و ..

مسيرة الفرح بانتظاركم فقد ازفت ساعة النصر  !

دق الصوت طبلتي اذنيه فتصور انه مازال يخبز رغيف اشتياقه علي صاج الذكريات وان ما سمعه ليس الا صدي لتلك الاحلام التي جعل منها وسادة لم تفارق فراشه ابدا ..

الا تسمع ايها البطل فقد ازفت ساعة النصر ؟ اعادوا النداء مرة اخري فارتعشت اوصاله وانتصب واقفا ليطل عليهم من نافذة الفرح ممتطيا صهوة الشعر ..

ارتري انا رغم قساوة الزمن

ارتري انا رغم فداحة المحن

 ارتري وهذا اللحن يطربني..

خنقته العبرة فاجهش بالبكاء لكنه سرعان ماعاد ليمسح وجهه ويتجه صوب (التاكا) الذي تغازل طلعته البهية عيون القاش القادم في اتئاد من جوف المدن الارترية وهكذا يمم شطر العودة ممنيا النفس بتعبئة رئتيه اكسجين الوطن النقي وهناك في الحدود السودانية – الارترية اصطدم قطار العودة بمتاريس الحمقي المرابطين علي الثغور لحماية الوطن من … الحب والحنين !

 طلقتان مزقتا فضاء ( قرمايكا ) فاصابت الاولي قلب حامد المعتل اصلاً ليحلّق في فضاء الغياب حاملا معه من ثناء الشمس نافذة تطل علي اريكة الشهداء اما الطلقة الاخري فقد اوقدت للثأر نار لا يطفي لظاها سوي شلالات الدماء واحدثت في جبين الوطن وصما قبيحا اي( شرخ في جدار الوطن) . 


روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=7907

نشرت بواسطة في أبريل 7 2005 في صفحة القصة القصيرة. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010