شـهيد على درب الحرية والديمقراطية

 بقلم / خليفة عثمان حامد

الذهول وعدم التصديق، كان ذلك هو الرد التلقائي الذي استقبلت به النبأ الأليم والذي نقله إلي عبر الهاتف أحد رفاق النضال. وتوالى رنين الهاتف ليتأكد لي وللأسف صحة نبأ استشهاد الأخ ورفيق النضال الطويل، سيوم عقباميكائيل.

 

عرفت سيوم، مثل كثيرين غيري، قبل أن ألتقي به وذلك كواحد من أشهر المناضلين والأرفع مسؤولية من الذين كانوا يقبعون في سجون العدو منذ سنوات طويلة. فقد كان، ساعة اعتقاله وزميله الشهيد ولدي داويت تمسقن في مدينة أسمرا في العام 1965، مفوضاًّ سياسياًّ للمنطقة الثالثة. واذكر أننا حينما كنا في مكتب الأمن في العام 1974، نُقلب أسماء أسرانا لاختيار القائمة المناسبة بالذين يمكن مقايضتهم بالأمريكيين الذين كانوا قد وقعو في يد الجبهة، كان سيوم دائماً في الصدارة. بيد أن سيوم ورفاقه – كما نعلم جميعاً – تم تحريرهم من قبضة العدو في العام 1975 بالعمليتين الجريئتين والنادرتين اللتين نفذهما جيش التحرير واستولى بهما على سجني سمبل وعدي خوالا.

 

تعرفت على سيوم بعد خروجه وزملائه من السجن، حيث احتفلت بهم الساحة كلها. بيد أن المعرفة الحقيقية عن قرب ومن خلال العمل المشترك، لم تبدأ إلا بعد خروج – ولكن هذه المرة كاتب هـذه السـطور – من السـجن في يناير 1983 ! لقد ضـمنا تنظيم جبهة التحرير الإرترية – المجلس الثوري، وشاءت الصدف أيضاً أن يجمعنا الجوار في السكن.

 

كانت سنوات صعبة تلك التي مر بها تنظيمنا والتي بدأت في الحقيقة مع انسحاب جبهة التحرير الإرترية إلى الحدود السودانية في العام 1981 بعد العدوان الثنائي عليها ثم تمزقها إلى ثلاثة تنظيمات متناحرة بعد أحداث 25 مارس 1982.

 

كانت الحياة بالنسبة لنا جد قاسية، سواء في العمل أو المعيشة. لم يكن تنظيمنا غير معترف به في السودان فحسب بل ومطارداً. وُضع عدد من قادته وكوادره في السجن بتهم ملفقة، ثم تمَّ إبعادهم، لنفقد بذلك بعضاً من أهم كوادرنا الفاعلة، وكذلك أفقدتنا الوحدة الفاشلة مع قوات التحرير الكثير من مقاتلينا وكوادرنا الذين انتهوا في سجون جاسر. بالفعل كانت تلك الفترة من أصعب فترات النضال التي مرت بنا. بيد أن الإصرار على مواصلة النضال، ومهما تكن التضحيات، هزم كل العوائق التي كانت تقف أمامنا.

 

أذكر في تلك الأيام، والتي كانت فيها منازلنا هي مكاتبنا، كنا كجيران نتبادل الزيارات مع سيوم ونتحدث كثيراً عن هموم تنظيمنا وهموم النضال الوطني عامة، وكان أطفالنا عايدة، رايموك، عثمان وباولوس، وهم يلهون أمامنا ببراءة الأطفال مبعث الأمل والتفاؤل فينا والابتسامة الوحيدة التي ترتسم على شفاهنا في تلك الأيام المعتمة.

 

وفي تلك الأيام عملنا، أنا وسيوم، في الإعلام ولقلة الكادر الذي تشتت بين السجون والمنافي، كان علينا أن نبتدع أسلوباً للعمل، يجنبنا الترجمة، مع إصرارنا على إصدار أدبياتنا بالعربية والتقرينية. وبالفعل استطعنا أن نصدر نشراتنا باللغتين وبالقدرات المتاحة،حاملة نفس المواضيع.

 

وبعد تحسن الوضع، كان سيوم مسؤولاً عن مكتب العلاقات الخارجية في اللجنة التنفيذية وكان مقره في بون، وكنت مسؤولاً عن مكتب الإعلام ومقري في الخرطوم. وكانت عملية الترجمة لا تزال إحدى أكبر المشاكل التي تواجه الإعلام، ذلك أن تنظيمنا كان دائماً ملتزماً، ومهما كانت الظروف، بالنشر باللغتين الرسميتين، بخلاف التنظيمات الأخرى، التي كانت تصدر إما بالعربية أو التقرينية. لم أجد في مقري من يجيد الترجمة من العربية للتقرينية إجادة تامة، فعرضت المشكلة على سيوم فاتفق معي على أن أرسل له النشرة بالفاكس ، وكنا نصدر آنذاك مجلة ” الصمود “، متعهداً بإعادتها إليَّ مترجمة في اليوم التالي. وبالفعل كان يواصل الليل بالنهار حتى يُتم الترجمة ويرسلها إلينا في الموعد المحدد. وقد عملنا بهذا الأسلوب – إن لم تخن الذاكرة، لما يقرب العام.

 

وحينما بدأ البث من إذاعة إرتريا الديمقراطية الدولية، وتصادف أن كنت آنذاك في بون، فحضرت ولادتها.كان سيوم هو الفني والمذيع، وكان يوم التسجيل لا ينام إلا مع فجر الصباح! هكذا كان دائماً يسهر الليل ليحرر المذكرات ويكتب البيانات ويترجم ويذيع…إلخ، لينام ساعات قليلة ثم يواصل العمل بالنهار.  ومن منا لا يعرف مقدرة سيوم الخطابية ومواجهته الشجاعة في كل المحافل للنظام الديكتاتوري دون أن يرف له جفن من تهديدات عملائه.

 

قد يختلف الناس مع سيوم في الرأي أو أسلوب الأداء، ولكنهم لا يمكنهم أن يختلفوا في أنه كان مخلصاً للهدف الذي نذر حياته له، رافعاً راية النضال من أجل الاستقلال منذ أن كان يافعاً، ثم من أجل تطبيق مبادئ الثورة التي غُدر بها بعد الاستقلال، وذلك دون أن يساوم أو يصاب بالإحباط ، حتى استشهد في ساحة النضال. لقد كان استشهاد سيوم خسارة كبرى لنضالنا المتواصل من أجل الحرية والديمقراطية وحياة أفضل لشعبنا.  

 

اعتقد أن أعضاء جبهة التحرير الإرترية – المجلس الثوري (قبل انقسام عام 2003) سيعودون بذاكرتهم، كما عُدت، مع هذه المناسبة الحزينة، إلى تلك الأيام المجيدة التي كانوا يناضلون فيها موحدين في تلك الظروف الصعبة التي ألمحت إليها فقط، محبطين كل المحاولات التي كانت تحاك لوأد تنظيمهم، وذلك في المقام الأول، بنجاحهم في التعامل مع خلافاتهم الداخلية ببعد نظر وعقلانية، حتى تحول من تنظيم محاصر ومثخن بالجراح إلى أكبر تنظيم معارض في الساحة تتطلع إليه الجماهير ليلعب الدور الأكبر بجانب التنظيمات الأخرى لتخليصها من معاناتها الدائمة التي تواصلت مع النظام الذي تولى السلطة بعد التحرير والذي سرق نضالاتها وحطم مل آمالها وأحلامها في حياة حرة كريمة. ولا أعتقد أن منصفاً، يستطيع أن ينكر الدور الأساسي الذي لعبه هذا التنظيم في تحقيق التقارب بين كل تنظيمات المعارضة التي كانت قائمة وبلا استثناء ومن ثم إقامة تجمع القوى الوطنية الإرترية في 1999، والذي سمي فيما بعد بالتحالف الوطني الإرتري ثم التحالف الديمقراطي الإرتري، بعد أن انضمت إليه تنظيمات أخرى جديدة خرج بعضها من صلب النظام معارضاً، ليشكل بذلك مكسباً للنضال الذي تواصل بدون هوادة منذ قيام النظام الديكتاتوري.

 

هل تكون هذه العودة بالذاكرة، التي أحدثها فينا هذا الحدث الأليم، مدعاة للتفكير الملي والعقلاني وبداية لنبذ كل ما أفرزته الخلافات والانفعالات خلال تلك الأزمة الطويلة التي انتهت على ما انتهت إليه، وبداية صفحة جديدة من العمل المشترك وفق الوفاق والوئام والوحدة، ليعود الفرعان إلى مجراهما الطبيعي فيواصل ” التيار العام ” طريقه بقوة واندفاع حتى النهاية … ولِمَ لا !!  فالمبادئ والبرامج وحتى أساليب العمل ، لا أعتقد أنها قد تغيرت.  هل أحلم ؟!! ربمـا…. ولكنه ليس حلماً مستحيل التحقيق !!  

 

وأخيراً، سيظل نحيب الابنة عايدة سيوم والذي لم ينقطع وأنا أحاول مواساتها عبر الهاتف عالقاً بذاكرتي ما حييت، فقد كان مؤثراً إلى درجة لا أستطيع وصفه. فهل نعيد البسمة لعائدة ولكل أبناء شهدائنا ونخلد ذكرى أعزائهم الذين فقدوهم وفقدناهم، وذلك بنبذ الخلافات الجانبية وتوحيد كل قوانا كمعارضة والتوحد في النضال في سبيل الهدف المشترك والذي ناضلوا واستشهدوا من أجله .

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=8200

نشرت بواسطة في ديسمبر 26 2005 في صفحة شخصيات تاريخية. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010