شهـــادة حــق للتأريــخ لرئيس الوزراء الإثيوبي الراحل

بقلم الأستاذ / محمود أبراهيم

في تصريح صحفي تأريخي لرئيس الوزراء الأثيوبي أثناء حملاته الانتخابية الأخيرة تناول فيه ملابسات ” الوحدة” بين ارتريا و إثيوبيا مبينا الحقائق التاريخية وواضعا بذلك النقاط على الحروف في مسألة إكتنفها الكثير من الغموض والضبابية خلفت ورائها  مغالطات تاريخية وعدم وضوح الرؤيا والتباس في الحقيقة لدى جزء من الشعب الارتري.

 الكل يدرك عمق وقوة العلائق الثقافية والعرقية التي تربط شعب تقراي وعلى وجه الخصوص رئيس الوزراء الإثيوبي بسكان الهضبة المسيحيين الأمر الذي يفترض ان يشفع له و يدرأ عنه الاتهام بمحاباة المسلمين والتجني على أبناء العمومة في هذه الشهادة. لكن بالرغم من ذلك إندفع الكثير من المعنيين بالأمر ،  وبدوافع غريزية دفاعا عن مصالح عصبية ، حتى وإن كان على حساب الحقيقة (كما ألفنا من أهلنا في المرتفعات) إلى تكذيب وتهميش فحوى التصريح دون التريث و التمعن في مدى صحته  بل ذهبوا إلى الطعن في نوايا وصدق مصدرالتصريح ( ملس زيناوي) متهمين إياه بأنه انقلب  فجأةً من حليف استراتيجي  وصديق  شخصي حميم للرئيس الارتري وأزلامه إلى عدو لدود ليس فقط للنظام وأعوانه بل وللشعب الارتري عامة بعد الحرب الإرترية الإثيوبية 1998-2000 .

 ولربما كنا  قد إلتمسنا العذر لهؤلاء المشككين (وإن لم نشاطرهم الشكوك في صحت المعلومات الواردة في التصريح) ، إذا لم يكن الأمر يتعلق  بأحداث كان مسرح عملياتها وطننا وكنا نحن ضحاياها بل وشهود عيان على قيد الحياة.

 ولو توقفنا قليلا لتأمل الأحداث الهامة التي جرت في تلك الحقبة وذلك للتذكير بها واستخلاص العبر لمن أراد أن يعتبر ولإيقاظ الضمائر  النائمة و التي يسعى أصحابها جاهدين وبدون كلل إلى (طمس الحقائق  وتجاهلها أو التقليل من شانها والتمادي في إعتبار إن  ما حدث لم يكن شيئاً جديراً بالذكر) . ومطالبتهم بالتوقف عندها والأقرار بالمسؤولية المعنوية واعتبارها مظالم اقترفت ضد مواطنين  دون وجه  حق – بدلاً من  إنكارنها  واعتبارها تهم مقرضة وان الخوض فيها يعتبر تهديداً للوحدة الوطنية.

أما الطرف الذي وقع عليه الضرر  لا يمكن  له  أن ينسى المعاناة والمرارات التي  ترتبت من جراء الأدوار والمواقف السلبية لكل من أبونا مارقوس والقسيس ديمطروس في إقحام الكنيسة القبطية  وجعلها تتبني  مشروع الوحدة ليس هذا فحسب  بل فرض ذلك على رعاياها والشروع في تأسيس حزب الوحدة  تحت (شعار إثيوبيا أو الموت). وكذلك دورهم في إنشاء  عصابات الشفتا الإرهابية التي عاثت فسادا على طول وعرض البلاد  ،وما قامت  به من حملات النهب المسلح ،والقتل العشوائي، و ترويع المواطنين الآمنين  وملاحقة وتصفية المناضلين الشرفاء ، كل ذلك  بدعم وحماية سافرة من حكومة الإمبراطور  هيلاسلاسي  وبمباركه الكنيسة . ولم تستثني حملات الإرهاب تلك  حتى الجالية الايطالية التي تم  نهب ثرواتها  ، الأمر الذي تم تدوينه بالتفصيل المروع في كتاب  يمكن الرجوع إليه في موقع دانتي الأكتروني.

ولو أن هذه الجرائم البشعة قد تم إرتكابها في زماننا هذا  لقامت الدنيا ولم تقعد بل لتم ملاحقة ومعاقبة مرتكبيها  سواء نظام الإمبراطور الإثيوبي أوالحزب المتواطيء معه من قبل المجتمع الدولي ، خاصة من قبل الدول الأوروبية و الهيئات المعنية بالأمر في منظمة الأمم المتحدة .

 ولسخرية القدر لقد تحققت مشيئة القوى التي رفعت ذلك الشعار “إثيوبيا أو الموت ” بحصول الأمرين معا – الموت و الإنضمام القسري لإثيوبيا.

فلا الجرائم الفظيعة التي اقترفتها قوات الكمندوس بحق شعبنا وثورته في مطلع الستينات والسبعينات من القرن الماضي يمكن أن تنسى؟ ولا الدور السلبي والغير وطني لمنتسبي السلك المدني والعسكري في مختلف الرتب والمناصب في ارتريا في تلك الفترة  والذي مكن وساعد العدو في قمع الشعب وفرض الاحتلال .

وإن التمادي في تجاهل هذه الأحداث وغيرها والتهرب عن تحمل  مسؤوليتها – لن يخدم المصالح العليا للوطن ولن يساعد في خلق وتهيئة المناخ  المناسب لبناء علاقات ثقة متبادلة على أساس الاعتراف والتراضي و التسامح بين الأطراف. كما إن تجاوز هذا الماضي الأليم يتطلب الاعتراف الصريح   بالمظالم و أن يتحمل الطرف الجاني على أقل تقدير المسؤولية المعنوية عن ذلك.(وهذا ما سعينا اليه  مع نفر قليل من أبناء هذا المجتمع من أجل التمسك به وتحقيقه في المؤتمرات والسمنارات التي تمكنا من حضورها وذلك بعد جهد جهيد وعلى مضض من الطرف الآخر)

  ولقد جاء تصريح ملس زيناوي ليكون الفيصل (وبشهادة شاهد من أهلها ) في الجدل الذي كان  سائداً ومستمراً بين طرف يمعن في تجاهل ورفض هذه الحقيقة وآخر عانى من ويلات  تلك الإحداث ولا يقبل المغالطة أو التشكيك في حدوثها  بل يطالب بالاعتراف بها وتحمل المسؤولية الكاملة عنها .

والسؤال البديهي الذي يتبادرللأذهان هو كيف يمكن إن يتجاهل المرء حقائق تاريخية ومصيرية بجسامة ووزن الأحداث المذكورة آنفا ؟ أو على أقل تقدير لماذا لا يتم الاعتراف بها حتى في نطاق أُطر محدوده – مثلا: في وسط الفئات المثقفة و الجيل القديم الذي عاش تلك الأحداث؟

وهنا لا يساورني أدني شك – بانه لا يمكن لأي إنسان سوي  له ضمير حي – أن يرفض الإقرار بذلك في قرارة نفسه – لكنه يستطيع فقط  أن يكابر في الاعتراف  العلني بها ،  ولكن لامناص من أن يأتي اليوم  الذي تظهر فيه الحقيقة و يتم الإعتراف بها علنا كما ينبغي .

ولا يمكننا اعتبار ما جرى مجرد  سجال وخلافات سياسية طبيعية ومشروعة يتم فيها تراشق الإدعاء والتهم المتبادلة بين  الأطراف المختلفة ، لأن الأمر تعداه إلى استخدام العنف كوسيلة لبلوغ أهداف سياسية مخلفا ورائه دمار ومرارات لا يمكن تجاوز آثارها بهذه السهولة ، كما يتوقع الطرف الآخر. وإن الانحياز إلي جانب إثيوبيا (وهذا خيار سياسي تبناه جانب الكبسا) ولا يمكن أخذه على محمل آخر سوى ذلك حتى و إن اختلفنا معهم في صواب خيارهم . ولكن الذي لا يمكن فهمه وتبريره هو اعتماد العنف كوسيلة لفرض هذا الخيار على القوة الوطنية التي نادت بالاستقلال.

البعض يدعو لتجاوز هذا الماضي البغيض وذلك بحجة المحافظة على الوحدة الوطنية وعدم إثارة حساسيات الماضي مراعاة لشعور الطرف الآخر. لكن حتى إذا قبلنا جدلا بهذا المنطق  فالملاحظ بأن هذ الأمر اصبح مطلبا وحق دائم- وأن على أحد الأطراف إن يضحي ويتحمل ذلك حتى بدون الإدلاء باعتراف وعلى الطرف الآخر تقدير ذلك.

مع إدراكنا بإن الاعتراف المطلوب لا يمكن إن يعيد الحق لأصحابه  كاملا- كما أنه ليس بدافع إثارة الفتنة والكراهية ولا من اجل تسجيل نقاط لجانب ضد آخر في السجال الدائر بل هو ضرورة تقتضيها المصالحة الوطنية ومحاولة جادة في تخفيف الآثار السلبية التي رسبتها تلك التجربة في النفوس.ومن خلال مصارحة ومكاشفة  جادة نأمل إلى الوصول لتفاهمات مشتركة تساعد في استشراف أفاق لمصالحة وطنية حقه والمساهمة في رتق النسيج الوطني وإعادة بناء الثقة المفقودة بين الأطراف  المختلفة ، وذلك من اجل تحقيق أحلامنا المشروعة في حياة ومستقبل واعد و مشرق للجميع  على قاعدة الإعتراف المتبادل بتعدد المكونات الإجتماعية والثقافية والدينية واللغوية  بشكل متساوي، مع الاعتراف بكافة الحقوق والواجبات والحريات للمواطن و لكل المكونات الاجتماعية.

وعودة للموضوع الأساسي للمقال المتعلق بتصريح رئيس الوزراء الأثيوبي في احد لقاءاته الصحفية أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة . والذي تم نشره عبر الشبكة العنكبوتيه باللغة الإنجليزية ، و لتعميم الفائدة رأيت  ضرورة ترجمته حتى يطلع عليه الجميع.

ملخص تصريح رئيس الوزراء الأثيوبي السيد ملس زيناوي

 

حيث قال السيد ملس في معرض تصريحه: تشكل لدى كثير من العامة فهم خاطئ يعزو أسباب ودوافع الوحدة التي تمت بين ارتريا و إثيوبيا في الخمسينات إلى نجاح و فعالية وحنكة الدبلوماسية التي مارسها الإمبراطور هيلي سلاسي آنذاك ، كما يعزى أسباب انفصال ارتريا واستقلالها  أخيرا إلى فشل وضعف فعالية وقوة دبلوماسية النظام الإثيوبي  الحالي . واستطرد قائلاً :

في أعقاب الحرب العالمية الثانية أحالت دول الحلف المنتصرة ملف المستعمرات الإيطالية إلى الأمم المتحدة حتى يبت في أمر مستقبلها. وقد تقرر منح إرتريا حق ممارسة تقرير مصيرها بعد فترة من الانتداب البريطاني على نحو من الخيارات  الثلاثة التالية:

1-الانضمام إلى إثيوبيا استجابتا لحاجة إثيوبيا إلى منافذ بحرية وتلبيتها لرغبة سكان الهضبة المسيحيين ومصالح الغرب.

2-الاستقلال التام والذي كان مطلب سكان المنخفضات ذات الغالبية المسلمة.

3-تقسيم البلاد إلى شق شرقي يتم ضمه إلى إثيوبيا وآخر غربي ينضم إلى السودان ولكن  قوبل هذا الخيار بالرفض من  الجانبين حيث تم إسقاطه لاحقا.

وبما انه لم يحصل أي من الخيارين الغالبية والإجماع الوطني الكافي اتخذت الأمم المتحدة قرار الفدرالية مع إثيوبيا كحل وسط يوفق بين مصالح الأطراف المختلفة.

ولقد قبل الطرف المسلم بهذا القرار على مضض لأنه كان أقل من طموحاته في الاستقلال التام ولكنه اعتبره أفضل من الانضمام إلى إثيوبيا (كما كان يطالب الطرف المسيحي).  وقد رأوا بإن هذا القرار يحقق الحد الأدنى من السيادة الوطنية ،الحقوق والحريات الديمقراطية، والمحافظة على الثقافة الخاصة واللغة العربية وان جميع هذه الحقوق مكفولة  ومتضمنة في دستور وطني تحميه وتضمن تطبيقه الأمم المتحدة التي كانت الراعية الرسمية للإتحاد الفيدرالي

وبعد فترة وجيزة من إقامة الدولة الفدرالية بدأت الطبقة الحاكمة في إثيوبيا إبداء تذمرها وعدم رضاها من وجود نظامين مختلفين في البلاد. و قد قررت إلغاء الفدرالية تحت مزاعم استحالة استمرار هكذا حال حيث  يشكل خطر على وحدة البلاد لكونه مناقض للقاعدة الأساسية التي ارتكز عليها النظام الكهنوتي الحاكم منذ آلاف السنين ألا وهي ” الذي لا يتواءم ولا يتطابق معنا لا يمكن أن يكون  منا ” أي إن وجود نظام لا يشبه النظام الكهنوتي بأي حال من الأحوال لا يمكن قبوله والتعايش معه .

وبدأت إثيوبيا في خطوات الإلغاء التدريجي للنظام الفيدرالي التي توجت أخيرا بإنهائه وإعلان ضم ارتريا رسميا  إلى إثيوبيا بتواطؤ ومساندة  فعالة من حلفائها في الداخل والخارج وباستخدام كافة أساليب الترغيب والترهيب الممكنة ضد الآخر المعارض (الجانب المسلم) لهذا الأجراء .

لكن الجانب المسلم أعلن معارضته الشديدة والصريحة لذلك الأجراء لأنه كان  الخاسر الأكبر من ذلك ، ولذا انطلقت شرارة المقاومة المسلحة ضد النظام من مناطق  المنخفضات واستمر هذا الجانب في محاربة إثيوبيا والمطالبة بالاستقلال التام .

وبعد سقوط نظام الإمبراطور قام  خليفته الدرق بتوسيع وتصعيد كبير  لنطاق و وتيرة عمليات العنف حيث شن هجمات عسكرية متتالية تحت شعار” الإرهاب الأحمر” حارقا الأخضر واليابس. و في محاولة لتصفية التمرد في ارتريا، خاض النظام خلالها حرب عدوانية شعواء ضد الجميع وبشكل عشوائي وبدون استثناء طرف حيث امتد القمع ليطال حتى مسيحيي الكبسا(حلفاء الأمس).الأمر الذي دفع بهم للانضمام إلى صفوف الثورة  ضد إثيوبيا وهكذا خسرت إثيوبيا حليفها التقليدي مما دفع الجميع للوقوف متحدا خلف مطلب الاستقلال التام من إثيوبيا لأول مرة.

وإن بداية النهاية لعملية الوحدة كان قرار إلغاء الفيدرالية والذي أدى إلى تمرد المسلمين ورفع السلاح  في وجه إثيوبيا ولكن المسمار الأخير في نعش الوحدة  تمثل في سياسة القمع العشوائي التي مارسها الدرق في ارتريا والتي وحدت الجميع ولأول مرة خلف مطلب الاستقلال من إثيوبيا.

هذا يوضح وبشكل جلي إن العامل الحاسم في تحقيق الوحدة أو انضمام ارتريا إلى إثيوبيا كان أساسا وجود الرغبة من طرف محلي(مجتمع الكبسا المسيحي) وليس بسبب انجاز للدبلوماسية الأثيوبية آنذاك كما يزعم البعض – وإلا لماذا لم تتمكن إثيوبيا من ضم الصومال و التي طالبت بها أيضا في نفس الوقت مع مطالبتها بضم ارتريا؟ ولكن الذي حال دون تحقيق تلك الرغبة الموقف الرافض والموحد للشعب الصومالي عكس ما كان في ارتريا.

ولقد ورثنا هذا الوضع الخطير عند استلامنا السلطة وكنا إمام مفترق طرق إما أن نختار السير في طريق أسلافنا بالاستمرار في حروب مدمرة  وبلا نهاية ضد الثورة في ارتريا واستنزاف  المزيد من إمكانيات البلاد المادية والبشرية بل وتعريض إثيوبيا لمخاطر لا تحمد عقباها أو القبول بالأمر الواقع والإعتراف برغبة الشعب الارتري في الإستقلال . وقد اخترنا الموقف الأخير حفاظا على مصالح الشعبين الجارين وانطلاقا من إيماننا المبدئي والراسخ بإن الوحدة لا يمكن فرضها والحفاظ عليها بقوة السلاح رغماً عن إرادة الشعوب  – وإننا غير نادمين على ذلك بل فخورين ومؤمنين بصواب قرارنا هذا.

وبهذا الشهادة العادلة والمحقة  وضع ملس زيناوى النقاط  على الحروف ليفصل بين جدل تأريخي في أهم مسالة خلافية بين الأطراف الارترية والتي لم تتمكن من حسمها حتى الآن ، وله منا التقدير والعرفان والوفاء في غيابه ورحيله عن دنيانا ، ونتمنى خير خلف له يتمتع برؤية إستراتيجية ثاقبة وعميقة لقضيانا كما كانت لسلفه الراحل.

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=25418

نشرت بواسطة في أغسطس 27 2012 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010