ضد الوحدة الوطنية
بقلم : فتحي عثمان

“… قد يكون العقل، بلا شك، وخصوصاً في تعقيدات الحياة المدنية وأمورها المصطنعة، خير دليلٍ ومرشدٍ لنا. غير أننا، في الأزمات الكبرى التي تعصف بحياتنا، وفي قضايا الإيمان والسلوك، نميل إلى الثقة بمشاعرنا أكثر من ثقتنا بعقولنا.”
ويل ديورانت، ملخصاً موقف جان جاك روسو من فلسفة العقل.
هذا العنوان منحوت على منوال عناوين كبرى تركت أثرها في الفكر الجدلي: «ضدّ دوهرنغ» لإنجلز، «ضدّ المسيح» لنيتشه، وصولاً إلى «ضدّ المثقفين» لجورج طرابيشي. غير أنّه، بخلاف تلك العناوين الفلسفية ذات الطابع النظري، يركّز على البعد الشعوري الذي أخذ يطفو مؤخراً في النقاش حول “فهم” الوحدة الوطنية في إريتريا. ولهذا استعنا باقتباس ديورانت لروسو دفاعاً عن الحدس والشعور في مواجهة العقل وأطروحاته؛ فالمواقف الراهنة، في أغلبها، تتّسم بقوّة العاطفة وضحالة الفكرة، إذ تفتقر إلى أيّ تعليل منطقي.
يحاول هذا المقال أن يصغي ــ وربما يتكلّم ــ بلسان أولئك الذين يناهضون فكرة الوحدة الوطنية، لا كلّها، بل تحديداً في جانبها المتخيَّل بوصفه مثالياً أو رومانسياً. فما هي هذه المشاعر المتفجّرة اليوم ضدّ الوحدة الوطنية، ولا سيّما في فضاء المهجر، حيث الكلمة مبذولة للجميع بفضل وسائل التواصل وما أفرزته من “تفاصل اجتماعي”
تُختصر هذه المشاعر في عبارات تتردّد بلا تحرّج في الفضاء العام، من قبيل:
• “نحن وهم لا نستطيع العيش في وطنٍ واحد.”
• “ليست لدينا مشكلة وحدة وطنية: نحن متّحدون ديناً ولغة، وليذهب أصحاب الأوطان البديلة إلى دولهم العربية والإسلامية.”
• “خُدعنا مراراً بشعارات الوحدة الوطنية الزائفة، وتنازلنا كثيراً باسمها، وها نحن اليوم ندفع الثمن.”
• “وحدة حادي هزبي حادي لبي: لا تظهر سوى في الرقص. وهذه الوحدة لم تُنتج وطناً، بل حولتنا إلى راقصين في رقصةٍ بائسة.”
• “ثلاثون عاماً من النضال لم “تصهرنا في بوتقة واحدة” كما يزعم أصحاب هذا الشعار الفجّ.”
• “نحن من دفع فاتورة الوحدة بالأمس، فلماذا نحمل أعباءها اليوم أيضاً؟”
• “إخوتنا الحقيقيون هم الذين نشترك معهم في الدين واللغة عبر الحدود، لا الذين نُجبر على تسميتهم إخوة داخل حدود الوطن.”
• “أيّ وحدة هذه، وشركاء الوطن قلوبهم معلّقة وراء الحدود؟”
• “لا يعرف هؤلاء سوى الوحدة تحت ظلال السيوف: إمّا نصر وإمّا شهادة.”
• وأخيراً: “نفرتكها، وليأخذ كلٌّ نصيبه ويمضي في سبيله.”
هذا الخطاب، المتطاير شرره في أكثر من لسان، يلقى اليوم جمهوراً من المصفّقين والمردّدين والمؤيّدين، بينما يقف آخرون موقف المتفرّج، أو الخائف من مواجهته. البعض يستتر وراء واحد أو أكثر من هذه المقولات إذا يجدها معبرة عن أحاسيس تجييش داخله ولا يعبر عنها إلا بالصمت والتواطوء.
غير أنّ أصحاب هذه الشعارات لا يجيبون، بنفس الحماسة التي يرفعون بها أصواتهم، عن سؤالين جوهريين: ما هو البديل؟ ومن هو المستفيد من هذا الخطاب؟
وربّما تتصاعد حدّة هذا الصوت في قادم الأيام، لكنّ بديلاً على شاكلة “التعايش الإجباري” و”النوم في الوطن والفأس تحت الرأس” لن يبني وطناً؛ لا واحداً ولا متعدداً.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47702