طرف من سيرة الملك الديوث

فتحي عثمان
قال حكيم قديم: “تعددت السبل والقول واحد.”
يحكى أنه في قديم الزمان وسالف العصر والأوان طلب الأمير الشاب آية الزمان الملك المخلوع لمملكة الجبل والبحر من وزير أبيه الصريع بأن يذكره بقاتل والده لأن في التذكرة جلاء البصيرة وذهاب الحيرة كما قال الأمير. فدخل عليه الوزير في قصره البسيط في بلاد النهرين الأبيض والأزرق حيث منفاه منذ فقدانه الملك والسلطان. قال الأمير آية الزمان للوزير:”حدثني حديثا يسري عنى فقد أناخت على صدري الهموم وأثقلت روحي الهموم، أحكي لي أيها الوزير الأمين عن قاتل أبي فإن في ذلك لنفسي عبرة ولحياتي خبرة وفيه حث ونفث لغيرة قلبي ودفع لي لرد ملكي المسلوب وعدل أمري المقلوب.”
فأجاب الوزير: “يعز على يا مولاي أن أوغر صدرك، وأعظم كربك وأنت بعيد عن عاصمة ملكك، ولكن سأحكي لك ما يذهب همك ويبدد غمك ويقوي في الحق طلبك وعزمك، فأنت يا مولاي طالب حق أثيل لا ينكر إلا من ناكر فضل أو وضيع أصل.
فقال الأمير وقد ترأت أمام ناظريه قصور والده السليبة وهبت عليه نسمات بلاده الحبيبة: “هات ما عندك أيها الوزير الأمين مما يسري الهم ويبرد الدم.”
فقال الوزير: “أطال الله عمر مولاي الأمير وأيده بنصره المبين وشد أزره بالمعين الأمين وبعد:
يحكى أن ملكا ساد في بلاد بحر القلزم، وكان هذا الملك في شبابه فارساً مقداماً ومقاتلاً هماماً. وعندما بلغ أجل الكتاب وحكم البلاد، دانت له الرقاب فظلم وأشنع وضرب وأوجع، ورفع الحقير ووضع الجليل، فسام قومه ألوان الهوان وحكمهم بالتقتير وحاسبهم على النقير والقطمير، فقال لهم، وهو كذوب، أن ابن خلدون قال أن الركون إلى الدعة مفسدة وملء البطون مهلكة، فحرم شعبه الطعام وجندهم في طلبة الموت الزؤام.
وكان غاية حلمه أن يضم مملكة الجنوب وهي بلاد أمراء أشداء، كان يشتمهم دونما حياء بحاضرة بلادهم (قسوم)، فكان يقول (” يا بني…..”) قالباً القاف كافاً.
ذات مرة جمع أمراء الجنوب عدتهم وعتادهم وراكبهم وراجلهم، وحابلهم ونابلهم وأغاروا عليه غارة بجيش عرمرم، وكادوا يطيروا بملكه ويذهبوا بسلطانه وأثره وعظيم شأنه.
فأذلوه وكادوا يسلبونه زوجه قمر الزمان وابنتيه حورية البحر ونجمة السحر. وكان لهذا الملك الظلوم ابن غشوم رباه على سننه وأعاجيبه والذميم من مكره وأساليبه، حتى أنه بز أباه في التقتيل والتنكيل.
ولكن رغم ما لهذا الملك من طول وسدة وقوامة وشوارب يحط، كما يقال عليها الصقر، فقد كان ذا عيب لا يستر في أرض ذات شجر أو في الساهرة القفر. لقد كان، أكرمك الله يا مولاي، ملكا ديوثاً لا غيرة له على الحق ولا على النساء، فتسامر بقصصه الندمان وسارت بها الركبان.
ويحكى من مخازيه، أجارك الله، أنه حالف أمير بلاد زهرة الجبال الوليدة وصاحب عاصمتها الجديدة، وكان هذا الأمير شاباً مفتول العضلات وأميرا محارباً له في الوغى صولات وجولات. ومما أدناه إلى الملك الظلوم أنه رأى فيه شبابه وحلمه بالسيادة وولعة الأثير بالريادة، ورأي فيه البطش والقوة والنجابة، وأعجبه أيما اعجاب فتكه بأعدائه من الأمراء الأشداء ذوي الحول والصول. وكان الملك الظلوم يأمل أن يكون إبنه كالأمير الشاب صاحب أمر مجاب وبأس مهاب. وعندما أدنى الملك الأمير الشاب افتتن هذا بزوجة الملك وابنتيه وتودد إليهن جهاراً نهاراً دونما حياء أو خوف أو اتقاء. وكان الملك يشير إليه مزهواً بأنه خواض حروب وآسر قلوب. ولم يخفي الأمير الشاب طمعه في مملكة الملك ونسائه، بينما الملك يحلم بمد سلطانه شمالاً وجنوباً نحو بلاد العربان والغبشان. وبينما كان الملك يطارد سحائب سرابه ودخان أحلامه، واقع الأمير نسائه وأغتسل في حوضه ومائه وساح في أرجاء البلاد القاصية والدانية، وأدنى الأباعد وأقصى الأقارب وساد دون وزير ولا نائب. والملك يجول بناظريه ويحث ولده على التعلم من الأمير حجة زمانه وباز اقرانه وعندها رفع الأمير يده صائحا: حسبك….. حسبك أيها الوزير الأمين ذو النصح الأمين والرأي الثمين.
وقال كمن ينفث ناراً:” إف لمن باع سلطانه الحاضر بحلمه الغادر، وملك الآخرين ناصيته، وأمنهم على ناحيته، وباع بحقير الدراهم شرفه الماثل وابدله بخزيه وذله الهاطل، إف له…إف له.”
وأضاف في لوم وتقريع: “ما لهذا طلبتك أيها الوزير، إنما طلبتك لتسري عني وتشد عزمي وتلم شعث أمري وها أنت تعدد لي مناكر الحقير من أصحاب السلطان والخانع في الذل والهوان”
ورد الوزير: “سدد الله رمي مولاي، وأيده بنصره، لقد قطفت بقولك الحجة القاطعة، ونلت السدة الرافعة فإن لك في قصة هذا الديوث عبرة زمان وجواز امتحان واقتدار عزيز على الملك والسلطان والذي سيعود إليك مزهواً مجلو الجناب رفيعاً عظيماً مهاب، وهذا ما انتويته من تسرية همك وتفريج كربك.
نقلا عن كتاب:
“المر والعلقم في سيرة ملوك بلاد ما جاور بحر القلزم” لإبن ماكر الثعالبي.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47619