فقدان الواقعية علتنا المزمنة

مصطفى كردي

 

انطلقت الثورة الأرترية بقيادة الجبهة فى عام 1961 فى ظرف تاريخى تبلورت فيه مصالح شعبنا  السياسية المستحقة . الا ان مصالح الدول المنتصرة وعلى رأسهم امريكا. حالت دون ان تحلق ارتريا في سموات الحرية كبقية مثيلاتها من البلدان الافريقية والعربية, وقد لعبت المعطيات المحلية ايضا وقراءة النخب دورا في إضعاف الاجماع الوطنى في الحرية والاستقلال وإقامة الكيان الوطنى. والقت التباينات السياسية المتكئة على الإختلافات الدينية والاجتماعية والمناطقية للقوى الأرترية بظلالها على ميلاد ونمو حركة الرفض الارترية للإستعمار. وأثرت بصورة كبيرة في استمرارية الثورة الارترية. 

تلك العوامل لسنا بصددها في هذه العجالة وقد تجد حظها من البحث والدراسة والتنقيب. ولكن ربما تم الأشارة فقط الى بعض المحطات الأساسية في عموم التجربة وما اعتراها من ندوب ومثالب. والثورة الأرترية ورغم كافة العقبات التى اعترضتها تمكنت من الإستمرار وسارت بخطوات للأمام. ولكن دون الإستفادة من العوامل السالبة والمتمثلة بصورة اولية في الضعف التنظيمى ودون التخلص من إسقاطات المراحل الفارطة من عمر التجربة السياسية الأرترية.  والتى يمكن ان نشير الى فترة تقرير المصير وتحديدا الى عام 1942 كبداية لتبلورها في صورة تجمع نخبوى في العاصمة اسمرا عرف بتجمع الموظفين.  وتحول فيما بعد الى جمعية عرفت هي الأخرى بجمعية حب الوطن. حتى الرابطة الإسلامية الأرترية التى يعتبرها البعض وعاء ضم كافة المسلمين في ارتريا لم تسلم من التمزق والإنشطار. وذلك ناتج في تصورنا للبنى السياسية والإجتماعية لأعضائها الذين لم يكونوا – في غالبهم – قد استوعبوا العمل السياسي . فالرابطة على سبيل التمثيل تأسست بصورة فجائية بعيد اجتماع بيت قرقيس 1946. والذي اظهرت فيه كل نخب المرتفعات برامجها الإنضمامية الى اثيوبيا. وعلى رأس تلك النخب جمعية حب الوطن التى تحول قادتها واعضائها الى وقود حقيقية لحزب الانضمام – حبرت –. وخلف ذلك الأجتماع ذهولا فى اوساط المسلمين الذين لم يكن لهم كيان سياسى يعبر عن رؤاهم ويشخص دورهم في تحديد ملامح مستقبلهم السياسي والثقافى.

 الشئ الذي يعزز عندي الدور الخارجى في تأسيس الرابطة الإسلامية وبالذات دور المراغنة في السودان بل وسلطات الإستعمار الانجليزي. وهذا ربما  فسر لنا عدم التماسك التنظيمى للرابطة فضلا عن ان كل قوى اجتماعية حملت الرابطة أكثر مما تحتمل من المتخيل فى ذهنيات القوى الإجتماعية . فسكان اسمرا – وهم في الغالب من الجبرته – كانت الرابطة تعنى لهم وحدة  المسلمين في مواجهة القوى المسيحية المنظمة سياسيا والتى تتخللها الجاذبية الإجتماعية نسبيا والمدركة لمصالحها السياسية والثقافية والتاريخية .

اما سكان المنخفضات – كتعبير ثقافى –  فقد اثبتت تجربة الرابطة أن خصوصياتهم الإجتماعية تفوق الدين الإسلامي الذى يلفهم. وسرعان ما ظهرت الرابطة الإسلامية للمديرية الغربية والرابطة الإسلامية لمصوع فضلا عن الرابطة الأم بزعامة سلطان.

هذا الإرث الذى يدحض حرية الوعي وكرامة العقل في البنية الإجتماعية والممارسة السياسية لنسيجنا. الغى بظلاله على الجبهة بعيد ولادتها مباشرة لتشهد العديد من الأزمات. والتى توجت بأول إنشطار لم يكن مبرء من الخلفية الإجتماعية مارت الذكر. والتى تتحكم دوما مسارنا وإن تغلف _ الانشطار_ بشعارات مثل النقد والنقد الذاتى والديمقراطية المركزية والقيادة الجماعية وغيرها من الشعارات. كما ان قوات التحرير الشعبية التى ضمت لأول وهلة العديد من القوى الإجتماعية – من المنخفضات – بإعتبار أن شبيه الشئ منجذب اليه. الا ان حليمة كما قيل لا تترك عاداتها القديمة فقد حملت تلك القوى الإجتماعية المنضوية في اطار قوات التحرير الشعبية رغباتها المتباينة وتفاصيل حياتها الكامنة ونظرتها للأخر  فى مسارها. وإن كانت قد نشطت في مواجهة الاخر – الجبهة – لكون خلافها مع الجبهة شكل قاسما عدائيا وحدها لحين واجل خصوصياتها.

 وبميلاد قوات التحرير الشعبية وانتفاء العلاقة العضوية بالجبهة إنكفأت كل مجموعة لتمارس خصوصيتها. ولذلك عانت قوات التحرير الشعبية بدورها من عين المثالب والازمات التى كانت سببا لإنسلاخها عن جسم الجبهة الأم.  لتخرج بعد حين من جبتها العديد من الفصائل التى لا يرى بعضها الا بالمجاهر المكبرة. وشهدت الساحة الإنشطارات والإنشطارات المضادة حتى غدت ظاهرة الإنقسامات جدليتنا المزمنة.  الشئ الذى مكن الجبهة الشعبية من السيطرة التامة على زمام الامور في الميدان. ورفعت نفس الشعار الذى كانت قد رفعته الجبهة. ومؤداه أن الميدان لا يحتمل أكثر من فصيل وواجهت به – الجبهة – حركة تحرير ارتريا ومن ثم قوات التحرير الشعبية. بل وصل بها الامر الى استصدار قرار باللجؤ للقوة العسكرية بهدف الانفراد بالساحة الأرترية .

الجبهة الشعبية بعد تخلقها فى اطار قوات طبقت بدورها عين الشعار بجدارة وتمكنت من تحييد وشل حركة الفصائل الأخرى وعلى رأسها الجبهة. لينتهى لها الأمر بالأنفراد التام بالساحة الأرترية. وإختزال تنفيذ الحلم الأرتري في الحرية والإستقلال و طرد المستعمر الاثيوبى عليها. وقد عمقت الشعبية بدورها هذا الشعور في قطاع لايستهان به من شعبنا. من خلال فعلها العسكري والسياسى وتهيئتها للجماهير. وعبرت منذ بروزها فى عام 1976 عن برنامج صارم ورؤية منهجية دقيقة. وكانت تعتبر نفسها وعاء لكافة الأرتريين وان الوحدة محققه من خلالها ومن خلال فعلها النضالى اليومى ومؤسساتها الثورية وسلوك قياداتها وانتصاراتها. ومجسده – الوحدة – من خلال مفاصل تنظيمها اتحاد مرأة , فلاحين , عمال الخ . ولذلك كان حوارها للوحدة مع باقى الفصائل الأرترية – على قلته – تكتيكيا. ولم تطرح في مبادراتها أكثر من صيغة الجبهة المتحدة – سمور قمبار- وهو نفس الشعار الذى طورته فيما بعد ليتحول الى دعوة علنية للفصائل والأفراد للإنخراط فى جيشها الشعبي بعد تنامى فعلها العسكري .هذا الوضوح في الطرح والقراءة النقدية الجيدة لكافة العقبات التى مرت بها الفصائل الأخرى. مكن الشعبية فى نهاية المطاف من السيطرة المطلقه على الأوضاع والإنفراد بصياغة مستقبل ارتريا وتحديد قسماته الثقافية والإجتماعية. حتى تمكنت في 24 أيار 91 من طرد اخر جندى استعمارى أثيوبى من على ارض ارتريا ليتمكن شعبنا ولأول مرة فى تاريخه الطويل ومنذ ان اتخذ اسلافه من هذه الرقعة دائرة لتواجدهم المكانى من تحقيق استقلاله على تراب ارضه وفى حدوده البريه والبحرية المطبوعة فى الذاكرة الجمعية لشعبنا. وبذلك استطاعت الشعبية- كشأن المنتصرين دوما- من السيطرة على الدولة الفتية التى اوجدتها من خلال حكومة مؤقته ومن ثم انتقالية. لأنها تعتبر ان وجود الكيان الأرتري وحمايته والدفاع عنه من اطماع الدول المتربصة مرتبط ببقائها. باعتبارها القوة المنتصرة منذ ظهورها فى عام 1976 م وتمكنت من اقناع قطاع كبير الى ان الشعبية هى القوة والسلطة والدولة والأخرين هم الفوضى والاستعمار الجديد من الدول الطامعة. وتحت هذا الغطاء تسوق خطابها وتتنامى كل يوم في ظل انصراف المعارضة الى وسائلها الانيه وغياب المنظور الاستراتيجى فى التعامل مع الواقع الشائك. وفى ظل عدم قدرتها فى النفاذ الى الانسان داخل الوطن وغياب الاستقلالية .

ولاشك ان وجود الدولة او السلطة مسألة هامة منعا للفوضى او الصوملة. وكما يقول تراثنا الإسلامى السطلة واجبة لمنع الفوضى والامام الجائر خير من الفتنة. والفتنة المقصودة هنا هى الفوضى. ومع الخوف من حدوثها – الفوضى – يجب الانقياد الى سلطة لا يشترط فيها العدالة.

نقطة اخيرة هامة وهى ان تأثير ممارسات الدولة وثقافتها وخطابها مسألة هامة نغفل عنها.  الجبهة الشعبية قاربت الثلاثين عاما في السلطة نصفها بعد الإستقلال. مارست خلالها الإنفراد التام وتمكنت من نشر ثقافتها ولغتها وفنونها بل وسوقت فكرها الإجتماعى والدينى. وتمكنت من خلق ذهنية تختلف عن المتخيل فى ذهنيات بعضنا والناس على شاكله قادتهم. فقد كان عبد الملك بن مروان يهتم بالبناء والإعمار ولذلك كان الناس في زمانه يتنافسون في البناء والزخرفة. وكان سليمان بن عبد الملك أميل الى مباهج الحياة من طعام ونكاح فكان الناس في وقته يتنافسون في الرشف من المباهج وتعديد الزوجات والجوارى. وكان الخليفه عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة. فكان الناس فى عهده حين يلتقون يسأل بعضهم بعضا عن الاوراد وحفظ القران وصيام التطوع. وذلك تأثير ميكانيكى يعتمد على دور السلطة ومحكاتها والتشبه بها وبثقافتها ولغتها وطريقة حياتها. ونظرة الى تلفزيون ارتريا والخطاب الذى يبثه بدء من مفردات النشيد يجسد عمق المشكلة ويحدد الى مدى بعيد علتنا المزمنه وعدم واقعية مماساتنا السياسية والإجتماعية.

 


روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6892

نشرت بواسطة في مارس 20 2006 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010