في انتظار العنقاء..الاصلاح في ارتريا..والقادم الأجمل

فتحي_عثمان

إهداء: الى الأخ الأستاذ: إدريس خليفة “أبو هاشم”

شاعت في الاتحاد السوفياتي السابق في ظل سياسة الرئيس الأخير ميخائيل غورباتشوف الداعية للشفافية “الغلاسنوست” والإصلاح “البروسترويكا” نكتة مؤداها أن جوزيف ستالين نظر إلى الاتحاد السوفياتي وسأل خلفه نيكيتا خروتشوف هل بنيت شيئا ما بعدي؟ فرد الأخير: لا. ويسأل خروتشوف بدوره خلفه ليونيد بيريجنيف: هل بنيت شيئا ما بعدي؟ فيرد لا. فيقول ستالين ضاحكا ومشيرا إلى غورباتشوف في الأسفل: إذن ما الذي يريده إصلاحه هذا الأخرق؟

المؤسسة أم الفرد:

عندما نسمع حديثا حول الإصلاح في ارتريا، لنا حق السؤال: هل الإصلاح المقصود هو إصلاح “مؤسسات” حكم وإدارة أم “انصلاح” دكتاتور مريد؟

إذا كنا نتحدث عن إصلاح مؤسسات في ارتريا فنكتة ستالين تنطبق علينا مثلما انطبقت على الاتحاد السوفياتي تحت مساع وجهود غورباتشوف البائسة.
ركزت الحكومات “الوطنية” المكونة بعد الاستقلال في الدول الافريقية على إجراء أساسي وهو: وراثة هياكل الدول الاستعمارية وتحويلها إلى مؤسسات وطنية وذلك عبر تمليكها للكادر الوطني وصياغة السياسات الوطنية. وكانت النخبة القائدة والتي لعبت الدور الكبير في التحرر الوطني ترى نفسها الوريث الشرعي للدولة الاستعمارية الراحلة. في السودان، مثلا، وحسب نص المادة الثامنة من اتفاقية الحكم الذاتي وحق تقرير المصير في فبراير 1953 تم تكوين لجنة “لسودنة” الوظائف ومهمة هذه اللجنة، حسب ما تشير المؤرخة فدوي عبد الرحمن هو سودنة الوظائف التي “تؤثر على الجو الحر المحايد اللازم لحق تقرير المصير” وشملت المؤسسات الإدارة العليا وقوة الشرطة وقوة دفاع السودان وشملت مهامها إضافة إلى ذلك الغاء بعض الوظائف التي كانت تحت السيطرة المصرية أو الإنجليزية. بصورة “مستعجلة” أنهت هذه اللجنة مهامها في نصف الفترة الزمنية المخصصة لها “ثمانية عشر شهرا”، وعيب، عليها، كما تشير فدوى عبد الرحمن، حرمان البلاد من كفاءات كان يمكن أن تخدم السودان في تطوره الإداري.

في غينيا كوناكري وعندما أصرت البلاد على الاستقلال التام من فرنسا بقيادة احمد شيخو توريه، عمدت فرنسا إلى سحب كل الموظفين الفرنسيين وتخريب مباني المؤسسات الإدارية لدرجة نزع أسلاك التلفون في المباني الحكومية.

في حالة ارتريا ومنذ إعلان الغاء الاتحاد الفيدرالي في الرابع عشر من نوفمبر من عام 1962 وإعلان ارتريا المحافظة الرابعة عشر ضمن الإمبراطورية الاثيوبية وحتى فجر الاستقلال، كانت ارتريا تتمتع “بهيكل إداري” لإقليم وليس لدولة مثلما كان الحال في الدول الافريقية الأخرى. مما يعنى أن أقسام الزراعة والتجارة والشرطة في الإقليم هي مؤسسات “فرعية” للوزرات الرئيسية في أديس ابابا؛ كما أن الحاكم العام، للبلاد سواء كان مدنيا أو عسكريا، كان يخضع للإشراف المباشر للإمبراطور. لم ترث ارتريا قوات شرطة أو جيش أو مؤسسات إدارية بحجم وطن، لا من حيث الكادر الكلي ولا من حيث السياسات الوطنية وتخطيطها. فهل تم بناء مؤسسات بديلة في ارتريا بعد الاستقلال؟ أم تم البناء على الهياكل الإدارية الإقليمية الموروثة من اثيوبيا؟ تحتاج الإجابة على السؤال إلى عمل موسع ومسند بالمراجع اللازمة. فما عدا وزارات الخارجية والدفاع والاعلام التي تم إنشائها من الصفر ، وبناء على النموذج الاثيوبي،أيضا، فكل الوزارات الأخرى بنت على الإرث الإداري الاثيوبي. وزارة العدل، على سبيل المثال، اعتمدت على تعديل القوانين الاثيوبية إضافة إلى اعتماد كوادر سابقة في الجهاز العدلي الاثيوبي، وكذلك فعلت وزارات المالية والزراعة “من هنا ولاعتبارات أخرى، أيضا، تم الاعتماد على الارتريين المؤهلين في اثيوبيا لإدارة هياكل الدولة الجديدة، كما أشرنا بذلك في كتاب ارتريا من حلم التحرير إلى كابوس الديكتاتور”.
على سبيل المثال أيضا، وزارة الخارجية الارترية والتي لا تضم ما يزيد عن 400 موظف من الغفير إلى الوزير في الداخل والخارج، لم تتوفر ابدا “الإرادة السياسية” لبنائها لتخدم المصالح العليا للبلاد بعيدا عن شعارات: سياسة حسن الجوار والتعاون الدولي وحماية المصالح. فموجهات العمل الدبلوماسي العامة تحكمها اتفاقية جنيف للعلاقات الدبلوماسية، ولكن كل بلد يميز سياساته الخارجية وفقا لمصالحه وهويته الوطنية الخاصة. وزارة الخارجية الارترية منذ تكوينها وحتى اليوم تدار فعليا من مكتب الرئيس؛ ويعمد الرئيس إلى تجاوزها بدون أي حرج “لو تذكرون مراسلاته مع ملس زيناوي في أوراق عادية وبمخاطبات شخصية في قضية وطنية كبرى”. فهذه الوزارة ليس فيها إدارة قانونية أو إدارة للمعاهدات الدولية، فهل لأن ارتريا ليس لديها خبراء قانونيين ودوليين؟ الإجابة قطعا لا. لكن فئة المقاتلين ليس فيها خبراء قانون وخبراء دوليين وهي الفئة التي تدير الخارجية بأوامر الرئيس. وهذا يعنى رفض أي ارتري “مدني” بناء على مواصفات الكفاءة ليس في هذه الوزارة، بل في كل الوزارات، وفي مناصب اتخاذ القرار الإداري بالذات. للذين عملوا في ارتريا، وأخص هنا قاضي المحكمة العليا مولانا عبد الله عثمان خيار مساهمات وافية ومضيئة ولا غنى عنها بهذا الخصوص.
وبصريح العبارة ليس هناك في ارتريا، لا من حيث الموروث ولا في فترة ما بعد التحرير مؤسسات حتى يتم إصلاحها.

القانون والإصلاح والعنصر البشري:

هلل وصفق البعض في وقت سابق “لإنجاز” وزارة العدل وضع قانون جنائي ومدني جديدين واعتبار ذلك مؤشرا لمولد دولة القانون. وسؤالنا كان: أين القانون “الأب”: الدستور؟ وكيف تبدأ ببناء السقف دون أساس؟ لنفترض جدلا أن افورقي على حق فيما يتعلق بدستور97 “رغم كل علله وأعطابه المميتة” بأنه مات ويستحق الدفن، فأين الدستور الذي وعد به كبديل؟ بل أين هي “اللجنة السرية” لصياغة دستوره البديل؟

محاولات افورقي الأخيرة والمتكررة في سماجة في توجيه “انتقاد” لجهة غير معروفة والإقرار في مقابلاته بأننا “لم ننجز شيئا” خبيثة ومغرضة وذات بعد شيطاني. فالرجل لا يحق له استخدام ضمير الجمع “نحن” إلا من باب التعظيم الأجوف لذاته. وإما محاولة إقناع الكل بأنه منفصل عن الحكومة، فهذه لا تنطلي على الشعب. اللهم إلا إذا كان يعتبر نفسه “ملكا” يضع “حاجزا وفرقا” بينه كذات حاكمة وبين “الإداريين” مثلما يقوم الملوك بإقالة رؤساء الحكومات وحلها وتحميلها كل الأوزار عندما تثور ثائرة الشعوب. وهذا ما أبطل مفعول الربيع العربي في بعض الممالك العربية. تعتبر المنطقة الرمادية الوسطى بين افورقي ومؤيديه هي المنطقة التي توجه فيها انتقادات للحكومة “تمهيدا” للإقناع بالخلل كبادئة لطرح فكرة الإصلاح كخطوة تدفع نحو القادم الأجمل.

ليكن افورقي ومؤيدوه أكثر صراحة وجرأة وشجاعة في التحدث عن “انصلاح” الذات الحاكمة بدلا من إصلاح البلاد ووعدها بالقادم الأجمل. لن “ينصلح” افورقي ليقدم للشعب الارتري هدية أخيرة تتمثل في وعد أخضر أجمل: وذلك لعدة أسباب منها أن الرجل حرق كل جسوره بالقتل والظلم. فلو سلمنا بأن الشعب الارتري وافق على تأمين “خروج آمن” لافورقي واسرته واتباعه على أن يترك الشعب في حاله، فهل سيقبل الجميع بذلك؟ قد يأتي ابن أو ابنة أحد المغيبين أو المقتولين ظلما ليقول بأي حق يتنازل الآخرين عن دماء أو حقوق والدي؟ أنا لن أسامح، والقانون والعدالة يجب ان يأخذا مجراهما. معرفة افورقي لهذا الاحتمال هي التي تدفعه كل يوم لحرق جسوره وعدم الإذعان لأي حق أو إصلاح لأن في ذلك هلاكه؛ وليس هو الرجل الذي يعلق حبل المشنقة حول عنقه ومستقبل اسرته. والشعب الارتري خبره في الثلاثين العجاف الفائتة “كرجل لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره”. أما الذين يظنون أن من يعملون تحت إمرته هم “الذين يرتكبون الأخطاء” وعليه فإنه “وبإصلاحهم” ستتحول البلاد إلى سنغافورة افريقيا فنحكي لهم القصة التالية:
في التسعينات أرسلت إدارة نادي الهلال السوداني بعثة للتفاوض على شراء النجم “يوهنس زمكئيل” وفشلت البعثة في اقناع النادي الذي يلعب له والمسئولين الحكوميين بأن مسالة شراء “لاعب كرة قدم” ليست باي حال مشابهة “لبيع الرقيق” وعندما لم تفلح البعثة، اضطر مسئول الشئون الرياضية حينها لطلب تدخل الرئيس افورقي من أجل السماح ببيع اللاعب ومن ثم السماح له بالمغادرة إلى الخرطوم؛ ولم يسافر يوهنس إلى الخرطوم إلا بعد الضوء الأخضر من مكتب “فخامة الرئيس”.

أما القادم الأجمل الذي سيولد من رحم اليوم فهو يشبه ما عبر عنه ميلان كونديرا في روايته الشهيرة “كتاب الضحك والنسيان”: “الناس يصرخون دوما من أجل مستقبل أفضل. هذا ليس حقا. المستقبل عبارة عن فراغ بائس لا يعنى أي شيء لأي أحد منا. إن الماضي هو الممتلئ بالحياة، وهو الذي يثير غضبنا، ويستفزنا، ويهيننا لدرجة تدفعنا لتدميره أو إعادة طلائه. إن السبب الوحيد الذي يدفع الناس للسيطرة على المستقبل هو محاولة تغيير الماضي.”

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=46219

نشرت بواسطة في فبراير 6 2022 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010