كتاب هام يتحدث عن هدر الإنسان 3/3

مراجعة: زين العابدين محمد علي “شوكاي”

الفصل الثامن ـ الديناميات النفسية للإنسان المهدور ودفاعاته

للحفاظ على قدر من التوازن الذاتي الذي يجعل الحياة قابلة للاحتمال يلوذ الفرد بما يطلق عليه أواليات دفاعية (ص277). تولد نماذج الهدر الاحتقان النفسي الشديد المقرون بالغضب والثورة والتمرد المصاحبة للجرح النرجسي وفقدان الاعتبار والقيمة وإحباط مشاريع الوجود. وقد تتولد حركة مزدوجة الاتجاه، كرد فعل على الهدر الكيان، وتتمثل في صب النقمة على الذات وجلدها وصولاً إلى الانشطار النفسي الفعلي تجاهها. وهناك التبلد المعبر عن الانشطار النفسي، الاستسلام للقدر والمكتوب، الغرق في الاكتئاب …”حيث تتحول هذه الإزاحة إلى نوع من النظارة السوداء التي تمنع الإنسان المهدور من رؤيته لذاته، أو تجنبه آلام هذه الرؤية. الهدر الإنساني احد أبرز أمراض الوجود، وهو ما يتعين إضافته إلى سجل الأمراض النفسية المعروفة”.

غلاف كتاب الانسان المهدور - للدكتور مصطفى حجازي


من يثور لا يكتئب، ومن يكتئب يعجز عن الثورة ويحرم منها. ابتلاع الغضب والحنق يتحول إلى اكتئاب وحقد(ص291). مع الاعتداء أو التهديد يكون رد الفعل قي واحد من ثلاثة: القتال، الهرب، التجمد: fight, flight, freeze . الغضب هو التعبئة النفسية الضرورية لمد الكيان بالطاقة كدفاع حيوي وطبيعي، والرضوخ هو أحد تجليات التجمد الذي يشكل البعد الثالث للآلية الدفاعية الحيوية ضد الأخطار (ص292). غير أن نزوة الحياة تقاوم بشراسة ولو استكانت إلى حين (ص293)… بانتظار استعادة نزوة الحياة والوجود لنشاطها، عادة ما يتسرب العنف في مسارب جانبية، من ذلك ما يتكرر من احتقان وجود المهدورين بالتوتر وسرعة الاستثارة وردود الفعل الانفعالية المبالغ فيها مقارنة بما تستدعيه الوضعية الواقعية من ردود فعل. ومنها افتعال الأزمات والصراعات والنزاعات وتضخيمها، وتحويل صغائر الأمور إلى كبائر، وتوافهها إلى قضايا مشحونة ومبالغ فيها… وتظهر ميول التشفي وتبخيس الآخرين وإسقاط التبخيس الذاتي على الآخر. ومن ذلك تفشي ظواهر التطرف والفاشية التقليدية المتلبسة ظواهر الأصوليات والتعصب التقليدية. هدر الحياة يطلق العنان لنزعات الموت (ص294).

أصعب وضعية بالنسبة إلى الإنسان المهدور هي مجابهة هدره بكل كثافته الوجودية التي تضعه أمام “ذعر الكيان” أو ذعر الخواء…. هذا الخواء الوجودي وذلك الفراغ واللاشيئية واللاقيمة تفجر أقصى حالات الغضب، والعنف المدمر يولد قلقًا يتعذر مجابهته إلا كلمحات أو خفقات سريعة سرعان ما تتلاشى (ص298). لا يمكن للإنسان المهدور تحمل واقعه الوجودي العاصف بسهولة ولمدة طويلة. وتتراوح الاستجابة الحيوية الطبيعية ما بين الانفجار الذي لا يبقي ولا يذر، وبين الانتحار الحامل دلالة تحطيم المرآة العاكسة لذعر خواء الكيان وفشله (ص299).

تقوم الآليات بدور ترميم الواقع الذاتي واستعادة قيمة بديلة توفر التوازن. وهي حلول تسكينية وليست العلاج، تبقي القوى المولدة للاضطراب والقلق قائمة، تستنزف الطاقات النفسية في إجراءات الحماية بدلا من توظيفها في البناء والنماء الكياني. والعديد منها يدخل في عداد آليات الدفاع العصابية من مثل إسقاط الهدر على الآخرين (ص300). آلية الاحتماء بالماضي تظهر مع الهزائم الجماعية … تغرق الجماعة في بطولات الماضي المجيد، ما يجعلها تعيش في وهم مستقبل ناصع. ذلك هو الهدر يكرر ذاته ما دام يصرف المرء عن صناعة مستقبله مستبدلاً به وهمًا مستقبليًّا (ص302).

ويشكل الاحتماء بالقدر المكتوب والامتحان والبلاء دفاعًا جماعيًّا آخر في مواجهة الهدر… يتحول الأمر غالبًا إلى نوع من الفلسفة ترد الأمر إلى حكمة خفية وبالتالي يجب القبول الاستسلامي بها. يتواصل الهبوط اللولبي للهدر ليولد حالة تبلد وعطالة هي ذاتها مولدة لهدر جديد.

والكلام أحد آليات التمويه. الثرثرة والإفراط في الكلام الفارغ الذي يدعي الامتلاء والأهمية، ولا يهدف إلا إلى تضليل الآخر حول القيمة الذاتية وأهميتها. وبمقدار ما يحتقن الغليان في النفوس تزداد اللغة عقمًا وينحسر نطاق الدلالة. هنا تتحول اللغة إلى أداة تزوير للوجود الذي يصل حد موت الكيان، ومن خلالها يعاد إنتاج الهدر (ص304).

ويشكل القلب إلى الضد أحد وسائل الدفاع عن الهدر. إنها حالة إلغاء الضعف واستبداله بوهم القوة وإيهامها. وآلية القلب تنتج الهدر لأنها مجرد استعراض لوسائل القوة والقدرة على المواجهة والفعل بدون امتلاك مقوماتها. مثال ذلك حالات التشاطر وادعاء التمكن وقدرة التدبير والتعليقات الساخرة والصخب أثناء الحوار والتقرب من المسئولين والوجهاء. يقلب العجز إلى قوة موهومة والفشل إلى ادعاء النجاحات، والسلبية إلى مبادرة غير مدروسة (ص305). والفاشية كما الأصولية، جواب على المأزق الذاتي أو الجماعي المتمثل في فشل الرغبة في الخلاص من شقاء الكيان المبخس إلى الكيان كلي القيمة (ص309).

الفصل التاسع ـ  علم النفس الإيجابي وبناء الاقتدار بوجه الهدر

الصحة النفسية

يستهل مشروع البناء الوطني باسترداد حق المواطنة لكل فرد وتصفية تفاعلات الهدر في النفسية. فبعد رفع الطغيان يجري ترميم الروح الجماعية من أعطاب الهدر. وكل الانقلابات والحركات التي غفلت عن هذه المهمة أعادت إنتاج الاستبداد ودفعت الناس للتحسر على الماضي. الاعتراف بالإنسان المواطن ودوره ورأيه ومشاركته الفاعلة في اتخاذ القرارات التي تصنع المصير الوطني. المعركة لكشف الهدر الداخلي وإعادة إنتاجه لا تقل أهمية عن المعركة مع الهدر الخارجي. والخطوة الأولى في مسيرة الكشف تتمثل في الوعي بالدفاعات ضد الهدر والديناميات النفسية المتولدة عن الهدر وأبرزها الاكتئاب والغضب والتدمير والانشطار الذاتي. فهي تزوير للذات وقابلة للتغيير وصولاً إلى استعادة عملية النماء (ص323). إن أول تجليات الكفاءة هي الكفاءة النفسية التي توفر أساس نماء الطاقات الحيوية، كما أنها توفر المناعة بوجه التحديات والصعاب والمخاطر (ص316). بهذه العدة يمكن دخول عصر الاقتدار المعرفي القائم على كفاءة العلم المستدام وكفاءة توظيف الطاقات الذهنية في مبادرات معرفية جريئة وطموحة والتي أصبحت وحدها تضمن الدور والمكانة في الشراكة العالمية (ص314). إن أي تنمية للإنسان باتت تتطلب مشروعًا وطنيًّا لبناء الاقتدار الشامل لمختلف الشرائح السكانية، خصوصًا الطفولة والشباب والمرأة.

علم النفس الإيجابي

طور ألبرت أليس (1995) الفلسفة العقلانية النمائية في الحياة، حيث يتحرر المرء من عقد الماضي المدمرة ذاتيًّا. تؤكد الفلسفة العقلانية ضرورة الوصول إلى استراتيجيات إدارة الحياة بفاعلية، بحيث نصبح أناسًا أكثر قدرة على توجيه الذات، واستعادة اعتبار الذات وتعلم الاستقلالية وتعلم مبدأ الواقعية بلا أوهام. تبدأ حينذاك النظرة العقلانية بالبروز والنمو ما يشكل الشرط الأول للشفاء من الهدر الذاتي. وهذا يتطلب الوعي والحزم والإصرار على المثابرة (ص326).

علم النفس الإيجابي يعزز الاقتدار الذاتي. وهو تيار حديث جدًّا في علم النفس انطلق على يدي سيليجمان رئيس الرابطة الأميركية لعلم النفس. يركز العلم على أوجه القوة في الإنسان بدلاً من أوجه القصور، وعلى الفرص بدلاً من الأخطار، وعلى تعزيز الإمكانات بدل التوقف عند المعوقات. يهدف العلم إلى تنشيط الفاعلية الوظيفية والكفاءة والصحة الكلية للإنسان، بدلاً من التركيز على الاضطرابات وعلاجها، من أجل توفير وسائل بناء الاقتدار الذاتي عند الكبار والصغار والشباب سواءً بسواء، وذلك على مختلف مستويات الذهن والمعرفة والسلوك والمهنة والحالة الاجتماعية العامة. والواقع أن علم النفس الإيجابي ذاته انطلقت بذوره الأولى من التفكير الإيجابي أو الواقعي تحديدًا. من ضمن حركة الإصلاح المعرفي وعلم النفس المعرفي اللذين أصبحا يحتلان مركز النجومية في توجهات علم النفس المعاصرة (ص327). من أهم مقومات الحياة الطيبة حب الشخص لحياته والوفاق مع ذاته ومع الدنيا والناس. وفي التقدير أن كل إنسان مهدور لديه فرصة طيبة كي يجد وسيلة أو أكثر للتعامل مع شرطه الوجودي الخاص به. ليس هناك حلول جاهزة؛ إنما أدوات للتوظيف بأساليب وكيفيات نوعية تبعًا لحالة كل شخص (ص328).

إن طريقة ألبرت أليس تسير في نفس المنحى: العمل على المعتقدات الخاطئة والسلبية ومحاولة تحويلها إلى أفكار واقعية. وفي حال فشل الفكرة الإيجابية في تعديل الحالة الانفعالية نكون عندها بصدد تكوينات نفسية يسمونها “قناعات نواتية” تاريخية ومكبوتة وتحتاج إلى الكشف عنها من خلال أساليب استقصاء مكونات النفس البشرية. المهم في كل هذا المساعدة على التدرب على التفكير الإيجابي باعتباره الضامن للاقتدار في التعامل مع قضايا الحياة وأزماتها (ص330). التفكير الإيجابي لا يغض النظر عن سلبيات الحياة الفعلية؛ ولا يتغافل عن سلبيات الواقع إنما النظر في السلبيات والإيجابيات. يحذر من الإفراط في تعميم النظرات الإيجابية التي قد تؤدي إلى تجاهل الواقع في غناه وتعقيداته وأخطاره. وبصدد الذات فالتفكير الواقعي ينبغي أن يظل إيجابيًّا ولا يدع اليأس يتسرب إلى ذاته. نظرة إيجابية للذات تحافظ على قوى الفعل والنماء حتى ضمن الظروف غير المواتية (ص331).

الوعي يأتي في مقدمة التفكير الإيجابي، وعي بالإمكانات والقدرات والفرص. يشكل الوعي بالفاعلية الذاتية قلب القلب من نواة الاقتدار الإنساني فهو يدفع للتحرك والتدبر حتى في الوضعيات التي تبدو بدون مخارج. إنه المحرك الهام للدافعية والعزم والتصدي والإقدام ومجابهة التحديات، وابتداع الوسائل الأرقى والأكثر تعقيدًا، والتي بدونها لا يمكن للمرء إنجاز أي شيء حتى لو استطاع إلى ذلك سبيلاً (ص331). وتعرف الفاعلية الذاتية بأنها تلك العلاقة ما بين القدرة الشخصية المدركة وبين السلوك والحالة المعنوية…. والعديد من الكفاءات المحددة للاقتدار الإنساني تشتق من اقتدار الجماعات التي ينتمي إليها الفرد ويعيش وسطها. فإدراك المرء لإمكانات واقتدار محيطه الإنساني يعزز كثيرًا من قدرته الذاتية على المجابهة والفعل. ويطلق لديه فاعلية عالية للمثابرة والاستمرار (ص332). والتفاعل فيما بين الذاتي والاجتماعي يطلق طاقات على الفعل يتمخض عن الخروج من مرض هدر الكيان وتحسين الصحة النفسية، ورفع مستوى القدرة على توجيه الذات ومواجهة الشدائد والتحصن ضدها. تنفتح اليقظة الذهنية المتسمة بالمرونة على الجديد في المحيط وتتنبه لما فيه من إمكانات ليست جلية للوهلة لأولى.

هناك تسارع واضح في التحولات، وانعدام اليقين بثبات الأمور وحتميتها، في مجالات التكنولوجيا والسياسة والاقتصاد والعمالة والمجتمع. اليقظة الذهنية وتفتح آفاق الرؤية والوعي بالتحولات والتغيرات والاحتمالات تتيح وحدها التعامل الناجع مع الوضعية المضادة للثبات والقطعية (ص333). اليقظة الذهنية تفتح المجال أمام مقوم آخر من مقومات التفكير الإيجابي ويتمثل في المرونة والتلاؤمية على مستوى النشاط الذهني خصوصًا، والنمو عمومًا. وتعرف التلاؤمية (المرونة الذهنية والسلوكية) بأنها القدرة على تدبير الأمور في الظروف الصعبة أو المهددة أو حتى في حالات المحن بمقاربة فعالة وناجعة (ص334). فقد يكون التقدير متفائلاً أو متشائمًا في التعامل الفعال مع وضعية معينة. فليس التفاؤل هو الواقعي دومًا، كما أن التشاؤم ليس هو الفاشل بالضرورة. يكمن سر الاقتدار المعرفي في متى يتعين أن نكون متفائلين أو متشائمين كي ندير الوضعية بفاعلية. المهم أن نظل في وضعية مبادرة وقدرة على الفعل، وابتداع وسائل ومقاربات مغايرة، أو حتى استبدال الأهداف ذاتها (ص335).

يندرج هذا المنظور ضمن ثلاثية الاقتدار المعرفي المتمثلة في الانتقاء والتعظيم والتعويض. إنها ثلاث عمليات أو سيرورات أساس في توجيه النمو عبر مسار الحياة، ما ينطبق على المجتمعات كما على الأفراد كما الخلية الحية. يوجه الانتقاء قبلاً حسن اختيار الأهداف، وتوجيه الإدراك والنشاط المعرفي بشكل انتقائي يوفر أفضل خدمة لها. .. أما التعظيم فيتمثل في عملية تعبئة المهارات والإمكانات والوسائل وتنظيمها بأكبر درجة ممكنة من الفاعلية والجدوى، بما فيها تفعيل المتوفر وتطويره وتنميته، واكتساب الجديد الإبداعي. أما التعويض فيتمثل في استخدام وسائل بديلة حين تعجز الوسائل الحالية، أو تفقد فاعليتها (ص335). الاستجابة الإيجابية للخسارة تشكل واحدا من أبرز مظاهر الاقتدار المعرفي على صعيد التعويض. … يتمثل التفكير الإيجابي في الخسارة، إذًا في حشد الطاقات والإمكانات وإعادة تنظيم التوجهات والأولويات، بحيث تعاد للحياة معناها وتعاد مسيرة تحركها النمائي (ص336).

هنا يقف  أسلوب التفسير المتفائل على الضد من التفسير المتشائم. وتطور المفهوم على يد سيليجمان في كتابه المعروف جدًّا “التفاؤل المتعَلَّم”، كما طوره آخرون بالمنحى نفسه. ينطلق التفسير من نظرية العزو التي يكوِّنها الشخص معرفيًّا من الأشياء والأحداث والوضعيات والمحن، وعن نفسه ذاتها (ص336). إزاء التفاؤل تدرك الخسارة أو الشدة على أنها محدودة ضمن حيز ما، وما زال بالإمكان بدائل تعوض. كما يدرك الأسلوب المتفائل المحنة أو الخسارة على أنها انتكاسة مؤقتة. وبالتالي فإن إمكانات الانطلاق من جديد متاحة، بتوسل الوسائل الملائمة. وعلى مستوى الذات يحافظ المرء على الثقة بالنفس بما يبقي الطاقات متوفرة لجولات جديدة. يحافظ التفاؤل على الأمل والمعنويات العالية ويندفع للحلول التعويضية البديلة. من جانب آخر يؤدي أسلوب التفسير المتفائل إلى التخلي عن أهداف تشير الدلائل الموضوعية إلى تعذر إمكانية تحقيقها، في نوع من التحلي بالنظرة الواقعية التي لا تستسلم لليأس، بل تحافظ على الدافعية للسعي. لا يعتبر التراجع في هذه الحالة هزيمة وعجزًا، بل واقعية في التقدير، وحسن توجيه الذات، انطلاقًا من الرؤية المعرفية للحياة بأن لها فرصها وإرغاماتها، بما يتعين الدراية في حسن التعامل معها (ص337).

طور باحثون في علم النفس الإيجابي نظرية في الأمل باعتبار أنه يمكن أن يلعب دور العدسة لرؤية أوجه الاقتدار عند الأشخاص، كما عند الجماعات والأوطان. … الأمل الفعال هو المرتبط بالاعتقاد بالقدرة على تحقيق الأهداف، من خلال إيجاد السبيل لذلك، والسعي للسير عليها بدافعية عالية، في حالات تتصف بالاحتمالية، أو بمقدار معين من انعدام التأكد، حيث يبرز الأمل الفعَّال عند هذه النقطة تحديدًا، من خلال آليتين معرفيتين:

الأولى: تتمثل في التفكير الوسائلي، أي البحث عن سبل الوصول وتعظيمها وتنويعها. فالإنسان الذي يحدوه الأمل في تحقيق أهدافه يشعر بالقدرة على إيجاد السبل والوسائل للوصول إليها. وكلما ارتفعت درجة الأمل زادت القدرة على إيجاد الوسائل والبدائل.

والثانية: فهي التفكير التدبيري، ويعني تعبئة الطاقات والموارد للسير في طريق التنفيذ من خلال الجهد الواعي والمقصود. وهو يتضمن المبادرة إلى استخدام هذه السبل ومتابعة السير عليها وهو واثق من النجاح (ص338).

الأمل حالة وجدانية ونظام تفكير يقوم على إدراك القدرة على التدبر والتنفيذ والمثابرة عليهما. الواقع أن القدرة المدركة تعزز الحالة الوجدانية، التي تعود بدورها فتعزز القدرة الذاتية.

حسن الحال الذاتي:

الابن الشرعي لتزاوج التفكير الإيجابي والعواطف الإيجابية هو حسن الحال الذاتي. أثبتت الأبحاث المعاصرة في عمل الجهاز العصبي خطَّا تشابك السلبي والإيجابي في الانفعالات بحيث تنال من بعضها البعض؛ إذ تبين أن كلاًّ منهما مستقل عن الآخر ويتبع نظامًا عصبيًّا خاصًّا به. ومن ثم فالحد من السلبي لا يؤدي بالضرورة إلى تنشيط الإيجابي. كل منها محدد بيولوجيًّا على مستوى الفرد والنوع، وكل يقوم بوظائف حيوية قائمة بذاتها على مستوى حفظ البقاء (ص339). كل من العواطف السلبية والإيجابية تمثل نظامًا بيولوجيًّا سلوكيًّا تطوَّرَ للتعامل مع مهام حيوية، جد مختلفة بعضها عن البعض الآخر في خدمة حفظ البقاء. العواطف السلبية جزء من نظام الضد أو الكف والانسحاب، وتتمثل الغائية الأساس لهذا النظام في إبعاد الكائن الحي عن التهديدات والمتاعب والمشكلات، من خلال سلوك التجنب أو الهروب. أما العواطف الإيجابية فتشكل أحد مكونات نظام المقاربة والمواجهة والمبادرة؛ وسلوك التوجه نحو الوضعيات والتجارب التي يمكن أن تحمل السرور والمكافأة.

تبين أن العواطف الإيجابية تتعزز من خلال العمل والممارسة أكثر مما يعززها التفكير. فهي ترتفع مع الانخراط في النشاط والانفتاح على المحيط، في أبعاده الاجتماعية والمهنية والجسدية. يميل الأشخاص ذوو العواطف الإيجابية لأن يكونوا نشيطين جسديًّا وفكريًّا واجتماعيًّا ومهنيًّا. تحدث أفضل لحظات السعادة والرضا حين يتمدد جسد المرء وذهنه إلى أقصى حدود طاقتها وحيويتها، في جهد إرادي لإنجاز شيء صعب أو ذي قيمة. وعليه فلا بد من أجل تعزيز العواطف الإيجابية ودفع حيوية النماء إلى الأمام، من القيام بأشياء هامة في الحياة، ولو كانت قليلة، حتى وإن كانت حياتنا مليئة بالروتين الإجرائي. ويتوطد الاقتدار النفسي من خلال تشغيل كل من نظامي العواطف، تبعا لمقتضيات الحال، وتجاوز النظرة الأحادية. ولقد ثبت من الأبحاث أن توازن التعبير السلبي والتعبير الإيجابي عن الانفعالات والمشاعر هو الاستجابة الأكثر فاعلية في مواجهة المحن. يكمن وجه القوة في حرية التعبير عن العواطف، المهم أن يشكل التعبير عن المشاعر الإيجابية والسلبية مدخلا للتحرك والتصرف لتغيير الوضعية، وليس مجرد الاستسلام وانتظار الفرج (ص341).

الذكاء الانفعالي

إدارة الحياة العاطفية يخضع للذكاء الانفعالي. وقد وضعت مقاييس لقياسه مقارنة بمقاييس الذكاء العام المعروفة. يدرج المختصون الذكاء الانفعالي في أربعة محاور: 1- إدراك الانفعالات والوجدان والعواطف، وتحديدها عند الشخص ذاته وعند الآخرين والقدرة على التعبير الواضح والدقيق عنها، 2- توظيف الذكاء العاطفي في تيسير التفكير من حيث توجيهه وتعديله وتحديد أولوياته، وكذلك القدرة على توليد العواطف والمشاعر الميسرة لحسن إطلاق الأحكام وتقدير مختلف وجهات النظر وجوانب مسألة ما، وصولاً إلى الحلول الفاعلة للمشكلات والتفكير الجماعي، 3- القدرة على تفهم الروابط بين مختلف الحالات الوجدانية، وإدراك أسباب الانفعالات والاستبصار بنتائجها وصولاً إلى الاستبصار بالحالات العاطفية المركبة، 4- إدارة الانفعالات والعواطف من حيث الانفتاح على الإيجابي كما السلبي منها وإدارتها وتوجيهها (ص342). وهذا يوضح أهمية تنمية الذكاء الانفعالي منذ الطفولة. إن كلاًّ من التفكير الإيجابي وإدارة الحياة الانفعالية وحسن توظيفها يشكلان مقومين أساسيين وحيويين من مقومات الاقتدار والتمكين الذاتي وبالتالي حسن الحال الوجودي. وهو كله ما يمكن تعلمه والعمل عليه وتنميته.

كما أن الارتباط بقضية كبرى يغير دلالة الذات ويغير دلالة الأزمات، ويخفف وطأة الشدائد، ويجعل الديمومة متحركة نظرًا لارتباطها بأمل تحقيق الغايات المستقبلية، وتعبئة الطاقات من أجلها. وهذا يقضي على مأزق الحاضر وتجمد الديمومة. وهذا هو الدرس الأساس الذي تعلمنا إياه سير كبار المناضلين والمكتشفين والمبدعين ممن يشكلون رواد النماء الإنساني ويشقون مسالكه ويقدمون نماذجه (ص343).

إن الارتباط بقضية كبرى يتجاوز هذا المستوى اليومي للمعنى والقيمة ومرتبيتها. إنه يضفي على الوجود معنى متساميًا على الواقع المادي في تحدياته ومحنه. ولذلك فإنه يعبئ الطاقات الحيوية، ويمد المرء بذلك الإحساس بالسيطرة على الوقائع والأحداث، وبالقدرة على تغيير مسارها بما يحقق الهدف. ويطلق على هذه الفعاليات “السيطرة المدركة”. وكل من لديه سيطرة وضبط أعلى يكون الأقل قلقًا حيال الشدائد، والقدرة الأفضل للحفاظ على التوازن (ص345).

وبمقدار ما ينغمس المرء في العمل ويصحح مساره من أجل وصول أفضل يعيش تجربة وجودية ذاتية تتصف بما يلي: تركيز مكثف على ما يفعله المرء في اللحظة الحاضرة، وتداخل الفعل والوعي وامتزاجهما، وهو ينسى مرور الزمن الذي يتسارع بدون الإحساس بثقله. كما أنه يشعر بالقدرة على التحكم في الوضعية وتوجيهها، ويعيش نتيجة النشاط على أنه مجز ذاتيًّا، بمعنى أن الهدف يستحق الجهد المبذول من أجله، وأن هذا الجهد ذاته ممتع ويوفر الحماس والدافعية. هذه النوعية تتمتع بالقدرة على تنمية المهارات للحد الأقصى، بما يوسع الفرص في نوع من الوحدة الجدلية بين الإنسان وظرفه الحيوي. وبقدر ممارسة هذه المهارات النامية باستمرار تتوسع الفرص بل تتم صناعتها. تتضمن هذه الحيوية اهتمامًا عامًّا بالحياة والمثابرة والإصرار وتفتح الذهن على الإمكانات، مع درجة متدنية من التركيز على الذات وندب حالها. شخصية ذات اندفاع ذاتي تصنع الريادة في حياتها، من خلال بناء معادلة التقاء الوضعيات عالية التحدي مع المهارات العالية. هكذا تنمو المهارات ويتقدم السير على طريق بناء مشروع الوجود، ويرتفع تقدير الذات ويتم التحصن ضد الشدائد، وعلى رأسها الهدر.

إذًا فمقاومة الهدر تمر بمراحل:

  • · الاقتناع بإمكانية تنمية الاقتدار الذاتي والتمكين وتعزيز حسن الحال وصولا إلى التعامل مع عالم القوة الراهن والمستقبلي.
  • · الوعي بديناميات الهدر النفسية وآليات الدفاع الذاتية ضده وصولاً إلى كشف آثارها السلبية المعطلة، وبالتالي إيقاف التواطؤ الذاتي مع الهدر.
  • · التفكير في طروحات ومعطيات علم النفس الإيجابي على مستوى التفكير الإيجابي والعواطف الإيجابية وربط الوجود بقضية توفر له معنى وتفتح السبل أمام السعي نحو النماء.

إنها مسألة ذاتية في الأساس تتمثل في إرادة الكيان والسير على طريق صناعته.

ملحوطة أخيرة: ِشكرًا لكل الذين تابعوا بصبر وتحمل قراءة هذه الحلقات المترابطة، والتي اضطررت إلى نشرها بهذا الشكل على ثلاث حلقات مع ما كان فيها من إطالة،  وأوصي كل من له القدرة على اقتناء الكتاب بأن يفعل ذلك، باعتبار أن هذا الملخص لا يغني عن قراءته، وذلك لجدية القضية التي يطرحها الكتاب، وهي مختلف أشكال وتجليات عملية هدر الإنسان وكرامته التي تعتبر إحدى أكبر المشكلات التي تواجه الإنسان الإرتري  اليوم في رأيي – زين شوكاي.

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=9602

نشرت بواسطة في أكتوبر 26 2010 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010