مفاهيم خاطئة عن عراقة اللغة العربية في ارتريا يجب تصحيحها

محمد سعيد ناود

www.nawedbooks.com

اللغة العربية أصبحت اليوم لغة عالمية ، وهي لغة علم وبحوث وآداب وثقافة . ولذا لم تعد حكراً على المنطقة العربية فقط . والاهتمام بهذه اللغة هو من مصلحة ارتريا خاصة وأنها لغة ارترية وليست غريبة أو دخيلة علينا . كما أنها لغة المحيط الذي تقع فيه ارتريا وترتبط به تاريخاً وثقافة ومصلحة .

ولكن هناك مجموعة مفاهيم خاطئة عن اللغة العربية وتاريخها في ارتريا أصبح من الضرورة تصحيحها . في مقدمة المفاهيم الخاطئة مايقول بأن اللغة العربية في ارتريا هي لغة قبيلة أو

( قومية الرشايدة ) فقط ، علماً بأن هذه القبيلة دخلت إرتريا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتحديداً عام 1865م . والحقيقة هي أن اللغة العربية ليست لغة قبيلة أو ( قومية الرشايدة ) فقط . بل هي لغة قطاع كبير من الشعب الإرتري ، وان اللغة العربية كانت موجودة في ارتريا قبل دخول هذه القبيلة أو القومية لإرتريا .

المفهوم الخاطئ الثاني هو مايقول بأن الإنجليز هم الذين فرضوا اللغة العربية في إرتريا بهدف ضرب الوحدة الوطنية ، علماً بأن الإنجليز لم يدخلوا إلى ارتريا إلا بهزيمة  ايطاليا في الحرب العالمية الثانية ، وتحديداً في عام 1941م ، وانتظرتهم اللغة العربية بها ولم يجلبوها إليها . كما أن اللغة العربية تعتبر من أهم دعامات الوحدة الوطنية وليست من عوامل ضرب هذه الوحدة.

أما المفهوم الخاطئ الثالث فيقول : أثناء الثورة الارترية فأن الإرتريين لجئوا للسودان والى المنطقة العربية تعلموا اللغة العربية هناك وعادوا بها إلى ارتريا بعد التحرير .

وهناك مفهوم خاطئ رابع يربط اللغة العربية بالدين ، وبالتالي يقوم بتصنيف اللغة العربية باعتبارها لغة المسلمين ، ويصنف التجرينية باعتبارها لغة المسيحيين . وهذا المفهوم الخاطئ يتناسى أو يجهل بأن اللغة العربية كانت موجودة قبل نزول الديانتين المسيحية والإسلام وقبل دخولهما لإرتريا .

كل هذه المفاهيم التي أشرنا إليها ماهي إلا اجتهادات أو تفسيرات خاطئة لتاريخ اللغة العربية في ارتريا ، وعندما نقول ذلك فأننا نعتمد على حقائق تاريخية نود أن نتناولها بشكل مختصر وفي أسطر قليلة تفي بالغرض .

إن اللغة العربية لايمكن فصلها عن الهجرات التي تمت بين الشاطئين الشرقي والغربي للبحر الأحمر . وتلك الهجرات لم يتمكن المؤرخون حتى الآن تحديد تاريخها وبداياتها لأنها موغلة في القدم . فبعض المؤرخين يحددها بأربعة آلاف عام خلت ، وآخرون يحددونها بعشرة آلاف عام . ويذهب البعض قائلاً بأن القارتين الأفريقية والأسيوية وقبل حدوث الأخدود العظيم الذي فصل القارتين الأفريقية والأسيوية وأوجد البحر الأحمر ، كانتا متصلتين ، وعليه فأن التنقل البشري بين القارتين كان يتم عب اليابسة .

وأكبر دلالة على قدم اللغة العربية في ارتريا لغة الجئز وهي اللغة السبئية الحميرية القديمة في جنوب الجزيرة العربية والتي اندثرت  هناك إلا أنها لاتزال باقية في ارتريا وبحرفها الجئزي الذي لايزال يكتب به في ارتريا ، علماً أن  هذا الحرف موجود في شكل نقوش في آثار سد مأرب باليمن حتى اليوم .

وبالنظر إلى لغتي التجري والتجرينية فأن المفردات العربية الموجودة بهما لاحصر لها . وكل من لديه إلمام بهاتين اللغتين وكذلك باللغة العربية يجد التشابه الكبير بل والتطابق بينهم في الكثير من المفردات .

وهناك ظاهرة أخرى لم يتناولها الباحثون والدارسون حتى الآن وهي وجود كلمات بلغة التجري في القران الكريم .علماً بأن القرآن قد نزل قبل خمسة عشر قرناً . وهذا يشير بان من كانوا يتحدثون بلغة التجري وقبل نزول القران كانت لهم علاقة باللغة العربية وإلا لما وجدت مفردات من لغتهم مكاناً بالقران الكريم وحتى اليوم . أيضاً وكما هو معروف فأن المسيحية دخلت إلى ارتريا ومن وقت مبكر أي في منتصف القرن الرابع الميلادي بواسطة القساوسة العرب من منطقة الشام ولم تدخل لإرتريا عن طريق المبشرين الأوربيين مثلما جرى في أجزاء واسعة من القارة الإفريقية ، وهذا مؤشر على قدم الاتصالات والعلاقات واللغة العربية بين الجزيرة العربية وارتريا .

وقبل ظهور الإسلام في الجزيرة العربية وأثناء الجاهلية فقد كانت مكة سوقاً ومحطة تجارية كبيرة حيث كانت تستقبل القوافل التجارية القادمة من الشام . وفي الوقت ذاته  كانت تجارتها تأخذ طريقها إلى الشاطئ وتحديداً إلى جزر ” دهلك وميناء عدوليس وميناء مصوع ”

وتقوم بتسويق بضائعها هناك ثم تشتري المحاصيل المحلية وتقفل راجعة بها إلى مكة . وان التعامل بين هذه القوافل وبين السكان المحليين بالشاطئ الإرتري كان يتم باللغة العربية.

وهناك الهجرات الثلاثة لأصحاب الرسول التي تمت باتجاه الشاطئ الإرتري . وأخذ المهاجرون طريقهم من الشاطئ إلى مقر النجاشي . وبمناسبة ذكر النجاشي فأن هناك نظرية شبه مؤكدة تفيد بأن النجاشي المذكور لم يكن مقره أثيوبيا الحالية . بل كان مقره في ارتريا وتحديداً في مدينة ” دباروا ” وبالتالي فهو أرتري وليس أثيوبي كما تدعي أثيوبيا دوماً .

وان المهاجرين من أصحاب  الرسول كان هناك من يتحدثون معهم باللغة العربية سواء كان في الشاطئ أو في الدروب التي سلكوها حتى وصولهم الى مقر النجاشي . وبحكم العلائق التي كانت قائمة بين السكان في الشاطئين الشرقي والغربي للبحر الأحمر فأن التاريخ يسجل بأن هؤلاء المهاجرين كانوا آمنين ولم يتعرض أياً منهم لأذى في ماله وروحه حتى عودتهم إلى بلادهم والتحاقهم بالرسول ( ص ) بعد أن تمكن من فتح المدينة ثم مكة أخيراً .

هناك الحملة البرتغالية في البحر الأحمر ، فعندما أراد الأسطول البرتغالي النزول إلى الجزر والشواطئ الإرترية في عام 1520م كان قد أحضر مترجمين من المغرب العربي والذي يجيدون اللغة العربية إجادة تامة ليتولوا الترجمة بينهم وبين السكان الإرتريين في الجزر والشواطئ الإرترية. وهناك أيضاً الآثار وشواهد القبور والمكتوبة بالخط العربي الجميل والتي يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من أربعة قرون . وجزء من هذه الشواهد والآثار موجود بالمتحف الإرتري . وهناك مخطوطات عربية قديمة عرض جزء منها في مهرجان ارتريا ” بالأكسبو” والكثير من هذه المخطوطات لم تعرض حيث تحتفظ بها الأسر الدينية العريقة .

وجاءت ايطاليا إلى  ارتريا ، وأيضا وجدت بها اللغة العربية فهاهو ” البيرتو بوليرا ” في كتابه    The native peoples of Eritrea” يتناول بالتفصيل علاقة ارتريا بالجزيرة العربية والهجرات التي تمت بين الشاطئين الشرقي والغربي للبحر الأحمر عبر العصور . كما يتناول اللغة العربية والمتحدثين بها في إرتريا .

وهناك ” فرديناندو مارتيني ” عضو لجنة التحقيق الملكية المكلفة من مجلس الشيوخ الإيطالي حيث قام بزيارة الى ارتريا في عام 1891م . ووضع مؤلفاً بعنوان ( ارتريا .. في أفريقيا الإيطالية … انطباعات وذكريات ) . أورد فيه ملاحظات عابرة عن اللغة العربية في إرتريا . ومن ملاحظاته فقد زار في مصوع مؤسسة الراهب الأب ” بونا فنتورا بيسكويوا ” التي تحمل أسم الكولونيل ” ده كريستوفورس ” الذي مات في ” دوغالي ” في يناير 1887م . وقد لاحظ بأن هذه المؤسسة تقوم بتدريس الطلاب الإرتريين اللغتين العربية والتجرينية بجانب اللغة الإيطالية بالإضافة للمواد الأخرى مثل  الحساب والجغرافيا . وأورد ملاحظة أخرى مفادها انه لاحظ انسجاما وتفاهماً بين الضباط الإيطاليين والمجندين الإرتريين ، وتساءل : بأي لغة يتفاهمون ؟ وكان الجواب : ( إن الضباط يعرفون كلمات تجرينية أو عربية ) . ومعنى هذا الكلام وقبل أكثر من مائة عام فأن الجندي الأرتري كان يعرف اللغة العربية وبجانب آخر يعرف اللغة التجرينية . وفي جولته المشار إليها فأن ” مارتيني ”  قام بزيارة لمحمكة أسمرا وقد لاحظ فوق رؤوس القضاة لوحة مكتوب عليها بالتجرينية والإيطالية والعربية عبارة ( العدالة واحدة للجميع ) . كان ذلك في عام 1891 م .

فالإيطاليون عندما جاءوا لإرتريا وجدوا اللغة العربية بها . لذا بدئوا يتعاملون بها حيث أن سجلات ووثائق المحاكم في مصوع وكرن والمنخفضات تؤكد ذلك . كما أن الإداريين الإيطاليين كانوا يقومون بترجمة قضايا فض المنازعات بين المواطنين الى اللغة العربية بجانب الايطالية .

والدليل الدافع لوجود اللغة العربية عندما جاء الإيطاليون إلى إرتريا هي الصحف التي صدرت في العهد الإيطالي والبالغ عددها ثلاثة صحف كانت تصدر باللغات العربية ، الإيطالية التجرينية .

وعندما أصبحت ارتريا تحت الإدارة البريطانية ازداد عدد الصحف الحكومية والحزبية والتجارية والثقافية وبلغ عددها 19 صحيفة كانت تصدر باللغات العربية ، التجرينية ، الإيطالية ثم الإنجليزية . وبمراجعة أرشيف الصحافة التي صدرت في تلك الحقبة من الزمان توجد أقلام ارترية كثيرة من أدباء وكتاب وناقدين باللغة العربية وبمستوى رفيع . ومن هنا يتأكد بأن البريطانيين وعندما حلوا بإرتريا وجدوا بها اللغة العربية ولم يجلبوها معهم .

أيضاً هناك الدستور الإرتري الذي أقرته الأمم المتحدة للعهد الفيدرالي ، ففي المادة ( 38) من ذلك الدستور اعتمدت اللغتان العربية والتجرينية كلغتين رسميتين للبلاد . وهذا لم يتم بسهولة ولكنه تم نتيجة لإصرار الإرتريين على ذلك . وكانت الإمبراطورية الأثيوبية تعارض ذلك بشدة ولكنها قبلت به وهي مجبرة . وعندما ألغت الفيدرالية في 14/11/1962م فقد ألغت اللغتين العربية والتجرينية ومنعت تدريسهما وحاولت فرض اللغة الأمهرية مكانهما .

وأثناء الثورة الإرترية التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً فقد كانت اللغتان العربية والتجرينية هما لغتا التخاطب مع الشعب الإرتري . وبالنسبة للغة العربية فقد برز فيها أدباء في مجال الشعر والقصة والرواية والمقالة السياسية وذلك قبل تحرير إرتريا واستقلالها .

من هذا السرد الموجز والمضغوط يتضح أن اللغة العربية هي لغة إرترية أصيلة وليست وافدة أو دخيلة كما أنها ليست لغة شريحة قليلة من المجتمع الإرتري .

8/12/2000م

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=10461

نشرت بواسطة في يناير 28 2011 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010