من كتاب مذكرات أرييل شارون وزير للدفاع صفحة رقم 536-558

  بقلم  / متكل أبيت نالاي

         ترجمها إلى العربية الأستاذ/أنطوان عبيد(مكتبة بيسان بيروت ص.ب:  13.5261

ويتضمن هذا الجزء من مذكرة شارون ما يمكن اعتباره أسوا جزء لما قامت به الدبلوماسية السودانية بتعاون مع إسرائيل  ودول المنطقة من وراء الكواليس  سقطت وسط أحداثها جبهة التحرير الإرترية.  وهي لعبة قذرة أداها شارون ونميري وأخذوا معهم عدة دول لصنع طوق ضد التمدد السوفيتي في المنطقة, بدون أن يلفتوا انتباه دول الاشتراكية المجاورة لهم. والكتاب قدم الكثير مما يستحق القراءة على المؤامرة وقد يساعد في تشريح أزمتي الجبهة في أرض السودان, كون أحداثها قريبة من تاريخ دخول الجبهة, مما يجعلنا أن نقدمه للقارئ كما ورد في الكتاب. يقول فيه شارون:

 في صيف 1981 استحوذت سيناء والمفاوضات القائمة حول الحكم الذاتي للفلسطينيين على اهتمام شامل, ولكن لم تغب سائر المشاكل الوطنية عن البال. فطوال سنوات كثيرة رسمت إسرائيل على أصعدة مختلفة إستراتيجية عرفت ب “إستراتيجية محيط إسرائيل” وارتكزت على تنمية العلاقات مع الدول المتاخمة للعالم العربي.وفي إطار هذه السياسة قدمت إسرائيل على إيران, في عهد الشاه, كما قدمت على مختلف الدول الأفريقية , مساعدة في ميادين شتى: ابتداءُ من الزراعة والمساعدة الإنسانية حتى التعاون العسكري , بما في ذلك المخابرات.  وفي وزارة الزراعة, شعرت أنني معني, إلى حد معين, بهذه السياسة التي لاقت ترجمتها, على صعيدي, في تشجيع مشاريع الإعداد والمساعدة الميدانية. ولكن منذ تعييني على رأس وزارة الدفاع لم أعالج سوى المشاكل المتعلقة مباشرة بإستراتيجيتنا.

تمل هدفي الأول بتوسيع نطاق التعاون الاستراتيجي  بين إسرائيل والولايات المتحدة حتى أقصى حدود. فالمشاكل التي نشأت عن الإرهاب الدولي وتغلغل الاتحاد السوفيتي المستمر في الشرق الأوسط اتسمت في نظر البلدين بأهمية حيوية. ولا يمكننا إلا أن نتمنى توحد الموارد اللازمة لموجهة هذه المشكل. كنت أرى أن التعاون الإسرائيلي – الأميركي لا يسعه إلا أن يخدم مصالح الفريقين على مستوى إقليمي بكثير, لا بل على الصعيد العلمي. فإسرائيل تتمتع بمهارة تقنية وبوفرة الخبراء الذين يضجون حماسة وهمة. فمن السهل نسبياُ على بلد صغير لا يتغذى من مطامح هيمنة علمية على غرار الدول العظمى, أن يمنح مساعدته إلى الدول السريعة العطب سياسياُ والتي قد تعني لها مساعدة أميركية مباشرة التزاما سياسياُ لا يمكن القبول به.غير إننا لسنا في مرتبة تخولنا تغطية تكاليف –مثل هذه المساعدة لنمنحها إلى تلك البلدان التي غالباُ ما تكون عرضة للتقلب — هنا يأتي دور الولايات المتحدة. فقيام تعاون إسرائيلي— أميركي قد يكون مفيدا, خصوصاُ في الدول التي تتمتع بأهمية إستراتيجية. فهذه “الخانات الفارغة” على لوحة العالم الجغرافية— السياسية محكوم عليها بالخضوع لسيطرة أحد المعسكرين عاجلاُ أم آجلاُ.

وكان قد سبق لي أن أثرت هذه الأفكار خلال جولة قمت بها في أفريقيا, في تشرين الثاني(نوفمبر) 1981 . هدفت هذه الرحلة أولاُ إلى دراسة العلاقات الثنائية القائمة بين إسرائيل وعدد من البلدان الأفريقية. ولكن خلال ذلك الشهر استدعيت إلى واشنطن لمناقشة الجوانب الإستراتيجية لهذه الرحلة في أفريقيا, آملا أن أوقع في نهاية المطاف مذكرة تعاون استراتيجي كان قد بدا المفاوضون الإسرائيليون والأميركيون العمل له منذ بعض الوقت.

تناولت المرحلة الأولى من رحلتي الغابون, الواقعة على الساحل الغربي من القارة السوداء. فأقمت سلسلة أحاديث مع رئيس البلاد, ألبير بونغو, بغية استئناف العلاقات الدبلوماسية بين بلدينا بعد انقطاعها خلال حرب الغفران إثر الضغط العربي . وتطرقنا إلى مسائل التصدير والمساعدة الإسرائيلية, وفي ختام مفاوضات مضنية, أبرم اتفاق تعاون بين إسرائيل والغابون ممهدا الطريق أمام استئناف شامل للعلاقات الدبلوماسية.

من الغابون تابعنا طريقنا في اتجاه جمهورية افريقية الوسطى للقاء القائد اندريه كولينغبا  الذي استولى على الحكم بعد إطاحة الإمبراطور بوكاسا. في مطار بانغي استقبلنا أحد الوزراء والقائد الاحتياطي الإسرائيلي صموئيل غونن. وكان هذا الأخير قد جاء إلى هذا البلد بحثاُ عن الألماس, بعد المأساة الشخصية التي عاشها أثر حرب الغفران. لم تكن المرة الأولى التي ألتقي فيها بغونن منذ نهاية الحرب.ولكن هذه المرة صعقت حين رأيت أسلوب عيشه هنا. فقد دعي  بعض أعضاء الوفد لزيارة “مسكنه” الذي كان عبارة عن كوخ حقير, قوام أثاثه سرير, لا يزين جدرانه  سوى خريطة تمثل جمهورية أفريقيا الوسطى, وقد وضع على الأماكن الغنية بالألماس علامة دائرة. كم هو مؤلم أن ترى قائدا سابقا في الجيش الإسرائيلي يعيش في وحدة تامة وفي تجرد يحاكي تجرده هذا. فبعد أن كان بطلا من أبطال حرب الغفران جعلت منه هذه الحرب ضحية, ليست بالبريئة كليا ولكنها تبقى مع ذلك ضحية.

تنطوي جمهورية افريقية الوسطى على تناقضات جلية : فهي تتمتع من جهة بطبيعة غنية مخضوضرة وبأرض فائقة الخصوبة وبمياه وفيرة, ولكن من جهة أخرى, يعيش شعبها في فقر مدقع, مقاوما حالة جوع مستمرة. وفيها أنا أجول في شوارع بانغي رأيت أطفالا يصطادون جرادا يعلقونها في خيطان حديدية , إلى أن يجمعوا منها كمية تكفي لتشكل وجبة غداء. وفي خضم هذا الفقر ينتصب ” القصر الملكي ” وقد بناه بوكاسا الذي أعلن نفسه إمبراطورا أبدياُ.

فكرت وأنا أراقب هذا المبنى الضخم المهدم في مطبخه الشهير وساءلت نفسي: ترى هل سيسمحون لنا بزيارته ؟ كان كابوساُ طاغية مختلا, شاعت حوله قصص مريعة نقلتها الصحافة الفرنسية, ومن بينها ما ينسب إليه صفة آكل لحوم البشر. وكانت الصحف تنشر أحداثاُ تقشعر لها الأبدان جرت تفاصيلها في هذا المطبخ .

كان الجنرال كولينغبا ذلك الرجل الذكي المنفتح والمتواضع إلى حد إفراط, نقيض بوكاسا. وعندما عرض وضع بلاده الاستراتيجي ركز على الدخول السوفيتي إلى المنطقة, لا سيما عبر اجتياح ليبيا للبلد الجار في الشمال, التشاد. تحدثنا معاُ تحت ضوء خافت راح يتحول تدريجا إلى ظلام عندما أوضح لي وضع بلاده الميئوس منه. فقال لي أن ليبيا ” تطرق على الباب” لتقدم لنا عروضا مغربة. وأعرب عن استعداده لصد هذه العروض . ولكن كان يواجه مشاكل مستعصية. ففي تشرين (نوفمبر), لم يكن يملك ما يدفعه راتباُ للعسكريين ولا معاشاُ الحكومة في نهاية السنة. فإذا لم تمد إليه يد المساعدة, سيجبر على الخضوع للقذافي.لما سألته ما قيمة المبلغ الذي هو في أمس الحاجة إليه, أجابني كولينغبا :  ” ثمانية ملايين دولار  ”  فقلت في نفسي , إن أدنى قرار تتخذه الحكومة الإسرائيلية يتمخض عن عشرات ملايين الدولارات ,وهنا لا يدري هذا الرجل الجالس إلى جانبي في الظلام أين يجد ثمانية ملايين دولار  تساعده على إبعاد ليبيا عن بلاده!

وبألفاظ بسيطة وصف كولينغبا في ما بعد الوضع المأسوي الذي خلفه وراءه بوكاسا :  فالخراب والفقر  والفساد والتسري يطالعونك في كل مكان. ويضيف كولينغبا : ” أنا أبذل ما في وسعي لتحسين الأوضاع وتخليص البلاد من الورطة التي تتخبط فيها ..” فرحت أسائل نفسي : ترى ما هو السبيل لمساعدته  ؟

في زايير , تحدثت مع رئيس البلاد موبوتو سيسي سيكو , الذي تمكن من المحافظة على الوحدة السياسية في بلده الشاسع, عن وجود شعب مؤلف من مئتي أثنية مختلفة. في اليوم الأول تناولنا طعام الغداء في يخته الذي كان ينساب في مياه نهر زايير .ومن نافذة غرفة الطعام كنا نتبين المروحية الرئاسية وهي في المرفأ. في الداخل, كان يغطي الطاولة قدر نحاسية تطفح منها مآكل عطرة. كان موبوتو رجلاُ وسيما جليل القامة, يعتمر قبعة عسكرية على طريقة نهرو ويمسك بيده خيزرانا منقوشة. أشار موبوتو إلى أوعية وضعت في معزل عن سائر الأوعية ثم قال :   ” هناك مخصص لليهود ” وهكذا أعلمنا أن تلك الآنية لا تحتوي على أي طعام تمنع شريعة موسى اليهود من أكله— ملاحظة أوليتها تقديرا بالغا.

كان وقار موبوتو ونبل حركته يتركان أثرا في النفوس . ولكن سرعان ما أدركت أنني أستطيع التحدث إليه بصراحة حول مشاكل كثيرة. وأيقنت أنني أتعامل مع قائد بكل معنى الكلمة. ودارت أحاديثنا حول أشكال المساعدة الزراعية التي قد تتمكن إسرائيل من منحها لزايير,كما أبدى رغبة في الحصول على مساعدة عسكرية  فسألته قائلاُ: “متى تريد أن تصلك البعثة الإسرائيلية العسكرية.  ؟ ” فأجابني: ” في غضون ثلاثة أسابيع ” فقلت له إن البعثة ستصل إلى المطار بعد واحد وعشرين يوماُ بالتحديد. بعد ذلك جرت  محادثاتنا في جو ودي جداُ حتى أن موبوتو طلب مني مرافقته إلى الصيد في مزرعته الخاصة كعربون محبة . ورأيت في هذه البادرة دليل صداقة من شأنها إفهام الجميع أن العلاقات القائمة بين بلدينا تسجل بداية مرحلة جديدة.

جرت المحادثات مع رئيس زايير في جو اتسم بالرقة وخلا من الأذية, كنا بعيدين من المساومة المريرة التي تميز بها بونغو, رئيس الغابون. وسرعان ما اتفقنا على الخطوط العريضة للتعاون العتيد الذي سيقوم بين بلدينا. وبعد فترة وجيزة اتخذ موبوتو التدابير اللازمة لمعاودة العلاقات الدبلوماسية التي انقطعت سنة 1973 . كانت زايير الواقعة في قلب القارة الأفريقية والغنية بمواردها الطبيعية, أول بلد أفريقي يستأنف علاقاته الطبيعية مع إسرائيل.

من زايير توجهت أنا وليلي زوجتي إلى إتحاد جنوب أفريقيا. ومن هناك ذهبنا إلى حدود أنغولا. كان اتحاد جنوب أفريقيا آنذاك يدعم حربا متواصلة ضارية ضد ثوار يخضعون لقيادة الكوبيين, تسللوا عبر الحدود الشمالية.وحتى تتمكن طائرتنا من الهبوط في هذه المنطقة, حلقنا على ارتفاع شاهق, فيما راحت مروحيات تستكشف الأرض, مؤلفة دائرة أحاطت بنا. وعندما أعطانا الطيارون إشارة الهبوط , انحدرت طائرتنا في اتجاه مهبط الطائرات عبر سلسلة حلقات , بغية  تفادي خطر صاروخ ارض ــــ جو سام 7 ستريلاس سوفيتي الصنع , وطدت معرفتي به أيام حرب قناة السويس .

كان في انتظارنا على الأرض مشاهد ألفناها: فالجنود وأسرهم يعيشون في خطر مستمر على طول هذه الحدود. والأولاد يذهبون إلى مدارسهم في موكب وضع تحت حماية مزمجرات ومركبات مصفحة رفعت عاليا على عجلات هي أقل تأثرا بالألغام وتنقلت من وحدة إلى أخرى, وعرض أمامي الضباط في اختصار الحوادث الجارية , ما سمح لي بادراك حقيقة الوضع القائم. كان من المستحيل إقامة مقارنة بين إسرائيل واتحاد جنوب أفريقيا, ولا أعتقد بوجود يهودي واحد يستطيع تأييد سياسة التمييز العنصري. ولكن من يرى هؤلاء الجنود وهم يحكمون إغلاق الحدود في وجه الغارات الإرهابية التي تشنها أنغولا, لا يسعه تجاهل تصلبهم وعزمهم. وعلى رغم التباين الشاسع بين ظروف كل من البلدين , أحسست أن الحياة على حدود أنغولا لا تختلف كثيراُ عن الحياة السائدة في بعض مناطقنا الحدودية .

ولم يدم الانفراج الذي انتابني لدى عودتي إلى إسرائيل بعد هذه الرحلة الطويلة سوى فترة قصيرة : فقد تعين على الذهاب إلى الولايات المتحدة , بغية إبرام اتفاق التعاون الاستراتيجي الذي كنا قد وضعناه في شهر أيلول ( سبتمبر ). ولكن كان على مجلس الوزراء أن يصدقه أولاُ. وشاء سوء الطالع أن كسر بيغن رجله قبل انعقاد مجلس الوزراء بقليل , فدخل مستشفى حداثا في القدس طلباُ للمعالجة. فتم استدعاء الوزراء إلى غرفة بيغن ,بما أن تأجيل التوقيع كان أمرا غير وارد. وترأس بيغن الاجتماع وقد تمكن منه التعب, في حين اصطف الوزراء حول سريره في شكل نصف دائرة. وراح بيغن,  تحت تأثير الأدوية أو حتى الصدمة التي اعترته اثر الإصابة, ينام بين الفينة ولأخرى لدقائق معدودة, فتخلل النقاش انقطاعات محرجة. وفيما كان الوزراء يضربون الأرض بأرجلهم غاضبين أو يجلسون منتظرين, كنت صريع هاجس تفويت الطائرة.

عندما تمت أخيراُ الموافقة على الاتفاق , أخذت طائرة مروحية أقلتني إلى مطار بن غوريون. ولكن الأوان كان قد فات : فالطائرة أقلعت منذ بعض الوقت . فذهبت إلى باريس على متن طائرة “وستويند ” صغيرة تنتمي إلى الصناعة الجوية الإسرائيلية, أقلتني في ما بعد إلى نيويورك. ومن هناك, تابعت طريقي إلى واشنطن حيث كان ينتظرني استقبال رسمي.

عرض بيغن فكرة مذكرة تعاون استراتيجي لأول مرة على الرئيس رونالد ريغن, خلال زيارته الرسمية للولايات لمتحدة الأميركية في أيلول ( سبتمبر) 1981. وبعد موافقة الرئيس الأميركي المبدئية على الفكرة, بدأ فريقان من الخبراء, إسرائيليين وأميركيين, مفاوضات دامت ثلاثة أشهر من الأعمال أفضت في نهايتها إلى وضع اتفاق التعاون الاستراتيجي.

كان هدف زيارتي الرئيسي توقيع المعاهدة, ولكن استفدت منها لمناقشة مشاكل أخرى ذات مصلحة مشتركة, فكانت لي لقاءات مع وزير الدولة الأميركي الكسندر هيغ, ووزير الدفاع كاسبار واينبرغر, ومدير وكالة الاستخبارات الأميركية, ويليام كايزي. نقلت إلى مضيفي انطباعات رحلتي في أفريقيا, بما فيها مشاكل جمهورية افريقية الوسطى. فطلبت “سد الثغرات الفارغة” في هذه المنطقة, مشيرا إلى المكاسب السياسية التي سنحرزها في حال قيام تعاون إسرائيلي ــــ أميركي في القارة السوداء.

تطرقنا أيضا في محادثات إلى الأخطار التي واجهت إسرائيل في الشرق الأوسط, أخطار تهدد الولايات المتحدة وسائر دول العالم الحر, بما أنها على صلة بالإرهاب الدولي وسياسة الإتحاد السوفيتي التوسعية. ولأول مرة تناولت مسألة الحرب بين العراق وإيران ومشكلة الخليج الفارسي. وبالطبع, ما من رجل عاقل يقبل تعصب آية الله الخميني وإيديولوجيته, لكن هذا لا يجرد إيران من أهميتها كدولة رئيسية في المنطقة.

وبعد الأخذ في عين الاعتبار المصالح البعيدة المدى مع إيران اقترحت إقامة اتصالات سرية مع هذه البلاد,ولا سيما مع قادتها العسكريين. فالحرب حتى ارمق الأخير التي يدعو إليها ويقودها أتباع آية الله لن تؤدي إلا إلى اضطرابات داخلية أما لي انتهاء الحرب فيوجد احتمال كبير بأن يظهر حكم مغاير تماما في طهران.

بعد كلامي هذا حذرت المستمعين من قيام وضع للاتحاد السوفيتي بالدخول إلى الخليج الفارسي. فما يجب أن نخشاه لا يمثل باجتياح سوفيتي, لأن الخطر يكمن في موضع آخر. أوضحت هذا وأنا أعيد إلى الأذهان معاهدة موسكو وطهران ( المبرمة في 1926 مع الشاه رضا بهلوي, والد الشاه المخلوع ), التي تجيز للاتحاد السوفيتي التدخل في إيران في حال قيام وضع يشكل عليه خطرا. كنا في سنة 1981, أما القوات الإيرانية في إيران فكانت في موقف هجومي. في حين حشد السوفيت خمسين فرقة في القفقاس وأفغانستان, على مقربة من الحدود الإيرانية. فأشرت إلى أنه في حال استمر العراق في اجتياحه, وفي حال هدد فعليا إيران, تستطيع بضع فرق سوفيتية اجتياز الحدود, إما تلبية لدعوة طهران وإما بموجب الاتفاقية المنوه عنها آنفا.

 وبغية توضيح أهداف موسكو على المدى البعيد في هذه أحضرت مقتطفات من نصوص ستالين الذي تناول فيها هذه المسألة العائدة إلى سنة 1921 , وأخرى من خطاب بريجنيف حول الموضوع ذاته, والذي ألقاه بعد اثنين وخمسين عاما أي في سنة 1977 في موغاديشو, عاصمة الصومال. وكان الرئيس السوفيتي قد عرض ” الإستراتيجية الكبرى” التي ستجعل “الدول الامبريالية” تجثو على ركبتيها, بعد تأمين ” الرقابة على الكنزين العظيمين اللذين يعيش الغرب رهنا لهما: نفط الخليج الفارسي والموارد المعدنية في جنوب افريقية ووسطها” وبعد أن بسطت خرائطي مشيرا على إلى التوسع السوفيتي, أعطيت شرحاُ مطولا عن دخول الاتحاد السوفيتي المتواصل إلى أفريقيا, الذي بدأ سنة 1955 أثر ظهور الإرهاب الفلسطيني ضد إسرائيل, مفسحا المجال أمام المستمعين مجال تتبع اتساع رقعة هذا التدخل منذ تلك الفترة حتى سنة 1971 وانتهاء بالعام الجاري. وهيأت خرائط أخرى تشير إلى المواقع الإستراتيجية في الشرق الأوسط وأفريقيا وتلك التي للاتحاد السوفيتي أن سيطر عليها أو وضعت تحت تأثيره. كنت أتحدث عن عواقب هذه الظاهرة على إسرائيل, وعلى المدى الطويل على الولايات المتحدة. فهذه لا تستورد من بلدان الخليج الفارسي سوى كمية ضئيلة من حاجاتها من النفط, على نقيض اليابان وأوروبا. وإذا ما تمكنت موسكو في نهاية المطاف أن تؤمن لنفسها مكانة مرموقة في منطقة الخليج, فأن الولايات المتحدة سيكون لها دائما الخيار في التخلي عن المنطقة وإهمالها. في مثل تلك الحالة, ستفسح الولايات المتحدة المجال أمام الاتحاد السوفيتي الذي سيهرع  لاحتلال مركزا له وفرض رقابته على تلك الأوردة الحيوية بالنسبة إلى أوروبا واليابان. ومن الصعب التقليل من قدر خطورة مثل هذا السيناريو وما قد ينجم عنه من عواقب على المدى البعيد. وذكرت في حال دعت الحاجة إلى ذلك, إنه ليس في الاتحاد السوفيتي انتخابات كل أربع سنوات, انتخابات من شأن نتائجها أن تحدث تغييرات في السياسة الخارجية المتبعة. فعندما يحدد الكرملن أهدافه على المدى البعيد, فهو لا يعدل عنها.

قام المستمعون, من جهتهم, بتحليل قدرة الولايات المتحدة على الرد في حال شن عمل عسكري سوفيتي في المنطقة. فحسبوا الوقت الذي سيستغرقه مثل هذا الرد ابتداء من المحيط الهندي, وأضافوا أنهم ينوون تأمين وجود أميركي في مكان يكون أقرب إلى المنطقة المعنية, كأحد المرافئ المصرية على البحر الأحمر. عند ذلك أشرت إلى إيجابية اللجوء إلى المنشآت والأجهزة الإسرائيلية. فأوضحت أننا في حاجة إلى ثمان وأربعين ساعة لنقل البرتقال والبطيخ من اليهودية والسامرة وغزة إلى المملكة العربية السعودية. وإذا ما استلزم الأمر نستطيع إرسال دبابات عن طريق البر لمساعدة السعوديين في المهلة نفسها. والحال أن العامل الحاسم في كل مواجهة مع السوفيتي في الخليج الفارسي لا يتمثل بأهمية العديد المشارك فيها. وإنما بعامل الوقت. في ظل هذا الوضع , على الفريق المعادي أن يقرر بسرعة ما إذا كان له مصلحة في أن يكون أول من يشرك في هذه الجولة من البوكر. وهذه المعضلة التي تقرر نتيجة الصراع . وصرف النظر عن توازن القوى , لن يشن السوفيت أي هجوم ضد الأميركيين ولا حتى ضد فرقة من فرقهم وسط منطقة تعج بالأخطار. فهم لن يجازفوا هذه المجازفة. وختمت قولي بأن تضافر هذه الأسباب يجعل من إسرائيل الحليف الاستراتيجي الأمثل.

إضافة إلى ذلك, فمت بتحليل الوضع المتدهور السائد في لبنان , حيث تمارس قوات الاحتلال السورية ( بموافقة الولايات المتحدة وإسرائيل الضمنية منذ سنة 1976) ضغوطات متواصلة على الميليشيات التي تدافع عن المناطق المسيحية الرئيسية في شمال بيروت وغربها. وحدها إسرائيل مدت يد العون للمجتمع المسيحي في لبنان, الذي حاصره ومزقه أعداؤه من الداخل والخارج, فيما وقف سائر العالم الحر يشهد هذه المأساة مكتف الأيدي.

شكل اتفاق التعاون الإستراتيجي بالنسبة إلينا أهمية بالغة ـــ في حد ذاته. فهذا الاتفاق, وإن لم ينص قيام على عمليات إسرائيلية ـــ أميركية مشتركة كتلك التي طالبت بها هيغ وواينبرغر, يتعرف صراحة بالخطر الذي سيخيم في حال قيام تدخل عسكري باء يعاز من الإتحاد السوفيتي, كما يضمن الوسائل التي يتطلبها تعاون عسكري أمتن بين البلدين على صعيد العمليات الحربية والاستخبارات. ويشترط هذا الاتفاق (( إقامة تعاون إستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل بغية الأخطار التي تهدد السلام والأمن في المنطقة الرازحة تحت وطأة الإتحاد السوفيتي أو وطأة قوات عسكرية أخضعت لمراقبة الإتحاد السوفيتي الذي أدخلها إلى المنطقة)).

من وجهة نظري, تكمن إيجابية هذا الاتفاق والمهمة في إنه كان يوطد علاقات الأمن الثنائية ويعرف رسمياُ بالأهمية المتبادلة التي سيتم بها قيام اتفاق بين البلدين. فقد كان لبعض ألفاظ الوثيقة وزنها الخاص المميز.فقد نص الاتفاق على وجود معدات عسكرية أميركية في إسرائيل من شأنها تعزيز شعورنا بالأمن في حالات الخطر الأقصى, كما وجه الاتفاق دعوة إلى التعاون في ميداني الأبحاث والتطور العسكري, وهو إيجابية أخرى من إيجابيات الوثيقة. من جهتنا أخذنا على عاتقنا إقامة تعاون عسكري مع الولايات المتحدة في أيام الأزمات, ووضع المنشآت والأجهزة الإسرائيلية في تصرف القوات الأميركية إذا ما اقتضت الضرورة خلال النزاعات الإقليمية.

 نويت البقاء في واشنطن يوما أو يومين بعد توقيع الاتفاق لأواصل محادثاتي في وزارة الشؤون الخارجية والبنتاغون لكني علمت أن حزب العمل حجب الثقة عن الحكومة يوم التوقيع على الاتفاق في الكنيست فاستعجلت العودة إلى إسرائيل لأناضل في سبيل المذكرة.

 كانت لي محادثات سرية مع رئيس السودان , جعفر النميري , للإطلاع على مشاكل القارة السوداء الإستراتيجية, يدفعني إلى ذلك رغبتي في بسط (( سياسة محيط إسرائيل )) التقليدية على أفريقيا( نظم هذا اللقاء يعقوب نرودي, وهو صديق من أصدقائي القدامى , كان قد خدم لسنوات طوال في دوائر الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ,ليصبح في ما بعد رجل أعمال على صعيد دولي. تمثل حلم نمرودي باستخدام التعاون الاقتصادي لاستحداث مجتمع مصالح بين إسرائيل والبلدان العربية , معززا بذلك السلام ) . التقيت النميري لأول مرة في أيلول (سبتمبر )1981, بعيد اغتيال السادات على يد مجموعة من المسلمين المتزمتين. فجاء القادة والرؤساء العرب إلى القاهرة ليشيعوا هذا السياسي العظيم إلى مثواه الأخير. وكان يمثل إسرائيل وفد ضخم, تألف من رئيس الوزراء مناحيم بيغن ووزراء الحكومة المصغرة.

 مشت الجموع وراء موكب المأتم بأناة يلفها الحزن. واستشعر الإسرائيليون أكثر من غيرهم بطء الموكب. وبما أن مراسم الدفن تمت يوم السبت, وتحاشيا لتدنيسه, اجتزنا سيرا على الأقدام مسافة ثلاثة أو أربعة كيلومترات كانت تفصل المساكن التي وضعت تحت تصرفنا عن المكان الذي سينطلق منه الموكب.

وما أن أنطلق المكب حتى أختار كل المكان الذي يعجبه ثم ما لبثت الوفود أن اختلطت وفق الميول والمصالح, مطلقة العنان لأحاديث انفرادية كانت تبدو غريبة في ظروف مغايرة. من جهتي, وجدتني من جديد بالقرب من النميري , ذلك السوداني ذي السيماء المتجهمة للوهلة الأولى بسبب التشطيب القبلية التي تضفي على وجهه إمارات الشراسة. فرحت أسائل نفسي, بما إنني كنت مدعواُ للقائه خلال جولتي في أفريقيا, ترى أي نوع من الرجال يتلظى خلف هذا الوجه.

حطت طائرتي أولاُ في كينيا حيث عقدت أول اجتماع لي مع رئيس البلاد دانيال أراب مووي . وعلى غرار سائر دول أفريقيا السوداء, قطعت كينيا علاقاتها الرسمية مع إسرائيل سنة 1973. ولكنها على اتصالها بنا, خلافا لهذه الدول.

 بعد أن ناقشت مع الرئيس مووي مختلف المواضيع التي تنم عن مصلحة مشتركة واصلت رحلتي, فكانت السودان محطتي التالية. وخلال حديث لي مع الرئيس السوداني, شارك فيه كل من يعقوب نمرودي وعدنان خاشقجي (وهو رجل أعمال سعودي كان قد نظم اللقاء بمساعدة نمرودي ), إعتترتني الدهشة عندما وجدت النميري طيب المعشر شديد التهذيب وبرهن الرئيس السوداني عن معرفة وطيدة بمشاكل القارة الأفريقية, كما كان يتمتع بنظرة ثاقبة إليها.

باشرنا العمل بجولة أفق واسعة النطاق تناولت الوضع السياسي في أفريقيا, فقدم الرئيس السوداني عرضاُ شاملاُ عن الوضع السائد حالياُ في بلاده وعلى الحدود.

يحد السودان من الشرق إثيوبيا, حيث يخوض الحكم الماركسي الموالي للإتحاد السوفيتي , حربا ضروساُ ضد الثوار الإرتريين. ومن الغرب السودان التشاد الذي يشهد اضطرابات خطرة, في حين راح الرئيس التشادي حسين حبري يقاوم ليبيا التي يسلحها الإتحاد السوفيتي.

كان اقتناع النميري يحاكي اقتناعي في أن العمل التخريبي الذي يقوم به الليبيون بغية زعزعة حكومة التشاد والسيطرة على هذا البلد لا يشكل سوى مرحلة من إستراتيجية موسكو الرامية إلى بسط هيمنة الإتحاد السوفيتي على أفريقيا الوسطى, من ليبيا حتى التشاد ومن جمهورية أفريقيا الوسطى ( التي نجح الليبيون في الدخول إليها قبل بضعة أشهر) حتى الكونغو ــــ برازافيل الواقع تحت سيطرة الإتحاد السوفيتي. وأشار النميري, الذي أعرب عن قلقه البالغ نتيجة هذه الحركة التخريبية الواسعة النطاق, إلى قدرات الجيش السوداني في مواجهة هذه التهديدات. وكنا نحن, من جهتنا, نتتبع عن كثب النشاط الليبي. كانت ليبيا القذافي أكثر الدول العربية تشددا في كرها لإسرائيل. وأصبح القذافي, بفضل ضخامة رساميله وروابطه الوثيقة بموسكو, الدعم الأساسي الذي يرتكز عليه الإرهاب الدولي, موفرا للإرهابيين تدريبا مكثفا, ومزودا إياهم أسلحة , ومانحا إياهم مساعدة لوجستية . وكانت معرضتنا المشتركة ل((العقيد الفائز )) سببا من الأسباب الكامنة وراء لقائي بالنميري.

 وتضمن جدول أعمالنا نقطة أخرى من اقتراح مضيفنا الخاشقجي. كان الخاشقجي على اتصال بابن شاه إيران, المنفي,آنذاك في المغرب. وكان الشاب رضا بهلوي قد وضع , مع عدد كبير من القادة العسكريين الإيرانيين, مشروعا يهدف إلى تحرير بلاده. بدأ فريقه تنفيذ المراحل الأولى من تجنيد القوات الإيرانية التي ستشكل الفتيل الذي سيضرم انتفاضة الشعب في وجه حكم آية الله الخميني. ويقضي المشروع الأساسي بتدريب تلك القوات في السودان التي تبعد عن إيران مسافة تكفي لتبدد المخاوف كلها من قيام عملية ضد نشاط ليس من الصعب على الخميني أن يحدد غرضه. ويفرض هذا المشروع أن على المملكة العربية السعودية تمويل هذه القوات وأن على إسرائيل تجهيزها وتزويدها بالسلاح. وبعد الإصغاء إلى تفاصيل اقتراح الخاشقجي وإيضاح بعض المسائل التي إليها هذا لمشروع تقرر معاودة الاجتماع في تموز (يوليو) في الإسكندرية لاستئناف النقاش. غير أن هذا اللقاء لم يتم قط, فإسرائيل في تلك الفترة كانت منغمسة حتى أذنيها في لبنان.

في ذلك اليوم دارت مناقشاتنا أيضا حول موضوع آخر كان يتعلق بوجه خاص بالسودان وإسرائيل. تتبعت حكومتنا هذا الموضوع بانتباه مؤلم منذ أربع سنوات تقريباُ, أما في نظري, فكان أهم المواضيع المعالجة. فمن بين عشرات آلاف الهاربين من جبال إثيوبيا إلى شرق السودان كان هناك سيل مستمر من الفلاشا أو اليهود الإثيوبيين. وكان الفلاشا مضطهدين منفيين حتى بين هؤلاء البؤساء المشردين الذي يموتون جوعا, الهاربين من الحرب الأهلية التي تشهدها إثيوبيا والمجاعة التي تعانيها. ولكن خلافا لسائر الهاربين كان في وسع الفالاشا أن يحلموا بمستقبل أكبر رأفة, آملين أولا الخروج من المعسكرات السودانية المريعة. فمنذ 1977 ونحن نسهل لهم المرور سرا وبأعداد ضئيلة إلى إسرائيل. واتسمت هذه العملية بالدقة والخطورة, إذا ما أخذنا في عين الاعتبار العداوة القصوى التي تكنها الحكومة الإثيوبية لإسرائيل وروابط السودان الإسلامية والعربية.

وعندما تطرقت إلى الموضوع مع النميري طلبت منه صراحة باللازم حتى يلقى اليهود الهاربون معاملة إنسانية. فتساءلت هل هو مستعد ليسمح لهم بالرحيل جوا من الخرطوم؟  كانت المرة الأولى التي يفتح فيها المجال أمام إسرائيل لطرح المشكلة على هذا الصعيد. ولم أكون أي فكرة عن إجابة النميري. فوقع قيام عملية سرية غاية في التعقيد لنقل عدد هائل من هؤلاء الفالاشا إلى إسرائيل في الساعة عينها, كان يعزز مخاوفي أكثر فأكثر. فالتدابير كلها والتنظيمات المرتبطة بهذه العملية تحظر تغيير جدول أعمالها. وبتعبير آخر, يتواصل سير العملية على رغم انعقاد هذا اللقاء ومخاطر طارئ قد يضعنا في موقف حرج جدا.

أخذت على نفسي تأمين هذا الخروج من إثيوبيا بعد تعييني على رأس وزارة الزراعة سنة 1977. في تلك الفترة قام بزيارتي فريق من اليهود الإثيوبيين الموجودين في إسرائيل التماساً لمساعدتي في تأسيس موشاف لهم. ومنذ تلك الزيارة وأنا أبدي اهتماما بهذا المجتمع اليهودي المرتبط باليهودية منذ آلاف السنين.

وكان قد سبق لعدد يسير من ليهود الأحباش أن تسللوا إلى البلاد منذ بداية هذا القرن. وقبل ثمانين عاماً ألف البروفسور يعوقب فيتلوفيتش كتابا تناول فيه هذه الجماعة بعد رحلته إلى أثيوبيا بهدف إجراء دراسة ميدانية لهذه القبيلة اليهودية ابنة العصور القديمة, بعد أن كان وجودها اقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. فعاد هذا البروفسور إلى فلسطين ومعه حكاية الفالاشا— وهم يهود من السود يعيشون في قرى منعزلة قابعة في الجبال الإثيوبية وتتخبط في حال فقر مدقع يفوق التصور, مع إنها كانت الحاكمة الناهية في المملكة في الأيام الغابرة. فألهب هذا الكتاب مخيلة الطفل الذي كنته, وخلال رحلتي إلى إثيوبيا مع أبراهام يوفيه سنة 1966, أصررت على زيارة المناطق التي يعيش فيها الفالاشا, طالبا الاطلاع على أوضاعهم.

عندما عينت وزيرا لم يغب عن بالي يهود إثيوبيا, وطلبت من بيغن وضعهم في جدول أعمال مجلس الوزراء. فلبى طلبي في 4 أيلول ( سبتمبر )1977— فكانت المرة الأولى التي تعالج فيها حكومة إسرائيلية هذا الموضوع رسمياً. وظهرت المشكلة الأولى:  هل هم حقا يهود ؟  في حال الإيجاب, يلزمنا قانون العودة بذل كافة الجهود لمساعدة أعضاء هذه المجموعة الباقين على قيد الحياة ليجدوا في إسرائيل ملاذا يسوده السلام. لكن الأمور لم تكن بهذه السهولة. فمع أن الفالاشا كانوا جميعهم يعتبرون أنفسهم يهودا إلا أنهم قطعوا منذ زمن بعيد كل صلة تربطهم بتيارات اليهودية المعروفة, وكانت معتقداتهم وطقوسهم تطرح علامات استفهام حول صحة اليهودية  التي يعتنقونها.

كان وزير الداخلية آنذاك, الدكتور جوزيف بورغ, عضوا في الحزب الوطني الديني, وأحد الذين أبدوا معارضة شديدة حيال نقل الفالاشا إلى إسرائيل. مشيراً أولاً إلى عدم تأكدنا من هويتهم اليهودية. إضافة إلى ذلك, كان يخشى قيام مشاكل جسيمة تتعلق بعملية دمجهم في مجتمعهم الجديد, مشاكل اقتصادية واجتماعية وثقافية. وأضاف إننا قد نتعرض لمشاكل خطرة, لا سيما على الصعيد الطبي.

وبلا أدنى ريب , كنت أنتمي إلى المعسكر المناوئ . فبادرت مجلس الوزراء بالقول انني لا اعتبر نفسي كفوا لأقرر صحة يهوديتهم. ولكنني استندت في هذه المسألة إلى حاخام كبير من السفرديم هو عوبديا يوسف الذي أكد بحزم أصلهم اليهودي. وأوضحت قائلاً: ” يكفي أن يقول هذا الحاخام نعم , حتى يصبح الفالاشا يهودا في نظري. وأنا أعرف بعض الفلاشا أصبحوا جنودا بواسل وطلابا مثابرين جديرين بالتقدير في جامعاتنا. ومن الخطأ القول أن المجتمع الإسرائيلي لا يقدر على دمجهم وسائر أبنائه. فنحن سبق لنا أن استوعبنا أناسا قدموا من البلدان النامية. وإذا ما عثرنا على من لم يندمج بعد في هذا المجتمع فأصابع الاتهام يجب ألا تتوجه إليه فحسب, وإنما إلى الحكومات الإسرائيلية السابقة وإلى الوكالة اليهودية وسائر الهيئات المعنية وربما إلى كل واحد منا.

ولفت الانتباه إلى سهولة تفاقم الأوضاع في إثيوبيا. فنحن نتكلم عن منطقة تتدهور فيها الحالة سريعا, علينا أن نخشى من أن تحل المصائب بهذه المجموعة اليهودية. فاليهود مشتتون في ألف وخمسمائة قرية, وتطالعنا في بعض الأماكن أعداد هائلة منهم, أما في الأماكن الأخرى فهم لا يشكلون سوى أقلية ضئيلة. لكن هذا يجب ألا يغير قرارنا. أما مشكلة الأمراض المتفشية بينهم ( والتي أثارها الدكتور جوزيف بورغ ) فليس ما يستدعي أن نناقشها هنا. فواجبنا هو استقدام كل يهودي يكون في حاجة ماسة إلى العودة إلى إسرائيل . والتلكؤ في مد يد العون إلى مجموعة يهودية يحدق بها الخطر يشكل خطأ فادحاً نرتكبه في حقها, وعلينا متابعة الأمر حتى النهاية. فأنا شاهدت هؤلاء في إثيوبيا, وكم كنت فرحاً لما وجدت في هذا البلد مجتمعاً يهوديا, ولو مختلفا عن المجتمع الذي أعيش فيه. ففي العالم يهود ليس بيننا وبينهم ذلك الشبه الفائق. لذا على إسرائيل اغتنام هذه الفرصة لإخراجهم واحتضانهم في إسرائيل “.

ولم استعمل عبثا كلمة ” فرصة ” فعلى رغم اندلاع الثورة الإثيوبية  في العام 1977 وموت هيلي سيلاسي الملقب ب  ” أسد يهوذا ” لم يفرض السوفيت سيطرتهم  بعد على شؤون البلاد . وفي تلك الفترة, نشب نزاع على الحدود بين إثيوبيا والصومال, وكانت أديس أبابا قد طلبت منا, قبل ذلك بقليل, منحها مساعدة عسكرية. كنت أرى أن علينا قبول هذا الالتماس, ولكن لا بد من أن نطالب لقاء ذلك باء خراج اليهود الإثيوبيين ” كنت أعرف إننا لن نتمكن من إخراج ثمانية وعشرين ألف فلاشا (وهو عدد اليهود الذي لا يزالون في إثيوبيا, وفق ما وردنا من معلومات آنذاك. في ما بعد, علمنا أن الرقم الحقيقي يفوق بأشواط الرقم الذي أطلعنا عليه ولكن قد نتمكن من إخراج بضعة آلاف. فلا يجدر بنا التخلي عن أي روح نابضة… وستكون هذه العملية إحدى أهم العمليات التي في استطاعة الحكومة القيام بها— ستكون عملية مباركة…”

حظيت هذه المسألة بدعم وزير  المالية, بيغال هرفيتز, ودعم موشيه دايان. لكن دايان اقترح إخضاعهم لفحص طبي قبل مجيئهم. فأجبته بأنه في وسعنا فتح مراكز صحية في هذه القرى . وقلت: تصوروا هاربا معدما نجح في اجتياز المسافة التي تفصل قريته الضائعة في الجبال عن مخيم اللاجئين. وهناك نخبره بأنه مصاب بداء السفلس وانه, تبعا لذلك, لن يتمكن من الذهاب إلى  إسرائيل قبل شفائه من هذا المرض ! عندها سيعاني هذا البائس أبشع أنواع التعذيب.أما الحل فغاية في البساطة وهو يتمثل بجلبهم إلى إسرائيل ووضع المرضى في أماكن منعزلة ومعالجتهم هنا.

هنا قاطعني الدكتور بورغ معربا عن رفضه الكلي لمثل هذه الفكرة. أما دايان , الذي يسعى دائما إلى إيجاد حل يرضى كافة الفرقاء, فلم ير ما يستوجب معالجة هذه المسألة في القريب العاجل. فلم لا نباشر بفحص طبي تمهيدي وبإحصاء عدد الإصابات الخطرة المتوجهة إلى إسرائيل, وفرز المرضى من الأصحاء ؟ عندها سندرك ماهية الموضوع ونجد حلا ملموساً.

 رفض اقتراح دايان رفضا باتاً. فتدخل بيغن قائلاً : ”  أرى أن هذا المشروع يثير شتى أنواع المشاكل. لذا اطلب من الحكومة الموافقة على ما يلي : أولاً, علينا اعتماد مبدأ  يقوم  على عمل يهدف  إلى ترحيل  الفالاشا ونقلهم إلى إسرائيل. ثانياً, أطلب إذنا بكتابة رسالة إلى منغستو ( منغستو هيلي ماريام , رئيس إثيوبيا ) للحصول على موافقته ”

هكذا بدأت عملية الإنقاذ. وبعد اجتماع مجلس الوزراء تبادل منغستو وبيغن رسائل تناولت شروط ترحيل اليهود, الذي سيتم بالتنسيق مع الحكومة الإثيوبية. ولسوء الحظ, وبعد مضي فترة وجيزة, أشار ديان سهوا, خلال مقابلة جرت في سويسرا, إلى أن إسرائيل تزود إثيوبيا بالأسلحة, وهي صفقة كان من المفترض أن تبقى في سرية مطلقة. ترتب على هذه الهفوة إلغاء صفقة الأسلحة وتوقف عملية ترحيل اليهود الإثيوبيين.

بعيد هذا الانقطاع ألمت بأثيوبيا سلسلة جروحات مختلفة الأشكال والألوان : فنشبت فيها ثورة وأخرى مضادة, وحل بها الجفاف والمجاعة فتضافرا  ليجعلا مساحات شاسعة من البلاد غير صالحة للعيش فيها. فشهد العالم نزوحا حقيقيا لمهجرين راحوا يؤلفون جيشاً من الهاربين شبه العراة, مغطين ما يفوق أحيانا مساحة ألف كيلومتر من أرض تبث فيك الكوابيس. فاتجه بعضة آلاف من اليهود إلى السودان وقد انضموا إلى مئات الألوف من الهائمين على وجوههم , آملين الخلاص في إسرائيل.

في غضون سبع سنين, أي منذ 1978 إلى 1984نقلنا إلى إسرائيل أكثر من ثمانية آلاف يهودي إثيوبي. في ما بعد قامت عملية أخرى ساهمت فيها الولايات المتحدة, فجاء على إثرها ثمانية آلاف يهودي إلى إسرائيل. وعلى رغم الشكوك والمخاوف التي انتابتنا, انسحبوا واندمجوا في المجتمع الإسرائيلي. ولم يتحقق هذا من دون ألم : فقد تكبدوا بمرارة فقدان أشخاص عزيزين على قلوبهم في طريق العودة, وتشرذم العائلات في إثيوبيا, ولآلام التي عانوها في الصحراء . وحتى في إسرائيل , واجهوا مشاكل شتى على الصعيد الثقافي والديني. غير إنهم تغلبوا عليها في نهاية المطاف ليشكلوا اليوم عنصرا منتجا وإيجابيا في الأمة الإسرائيلية, بعد أن تأقلموا سريعاً مع المجتمع الصناعي والتكنولوجي الذي كان غريبا عنهم الغرابة كلها.

في 1982 انطلقت أولى شرارات عملية إنقاذ اليهود الإثيوبيون. واليوم, بعد مضي سبع سنين لا يزال باكرا جدا حتى نحكي حكاية هذه الملحمة.

كانت ” الهجرة من إثيوبيا ” فريدة من نوعها , ولكنها لم تمثل آخر موجة من موجات المهاجرين واللاجئين اليهود, التي تعاقبت على البلاد— وإذا ما وجدنا اليهود الإثيوبيين وتاريخهم على بعض من الطرافة, فهم لم يكونوا غريبين عن الإسرائيليين الذين رأوا في تنوع شعب البلاد اليهودي أمراً طبيعياً. كان الإسرائيليون مطلعين  على سائر المواضيع التي تطرقت إليها محادثاتي مع النميري, كما كانوا يدركون الطابع السلمي التقليدي الذي اتسمت به سياستنا الخارجية. فاهتمامي بالسودان وإثيوبيا أو بليبيا والتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى, أو حتى بالمناقشات التي قامت حول مشروع تحرير إيران الذي وضعه رضا بهلوي, لم يكن فيه ما يخرج عن المألوف.

فمنذ حكومة بن غوريون والحكومات الإسرائيلية تواجه مشاكل جسيمة ترتبت عن وجود بلد منعزل يحدق به الأعداء. وأوجد الذين رئسوا مجلس الوزراء قبل مناحيم بيغن أو تولوا حقيبة وزارة الدفاع قبلي حلولا  لتسوية الوضع القائم. وتمثل الحل الأول والأهم بالتحالف مع الدول المحيطة بإسرائيل. وإذا ما قلبنا صفحات التاريخ نستنتج أن هذه العقيدة دائماً ما أجمعت عليها البلاد, فاتخذت تدابير جسورة بغية كسر الطوق الحديدي العربي, آملين وضع حد للعزلة التي تعيش فيها إسرائيل, والتمكن أخيراً من تنمية علاقات طبيعية مع البلدان المجاورة. ولكن إلى أن نحقق هذا يملي علينا صراعنا من أجل البحث عن أصدقاء وراء طوق العداوة وإقامة اتصالات مع أعداء أعدائنا.

فحتى خلال الفترة التي كانت فيها إسرائيل لا تزال بلدا صغيرا هشا يتخبط في مشاكل اقتصادية وعسكرية مستعصية, ويلتزم استيعاب مئات الألوف من اللاجئين الذين يعيشون في حالة عوز وفقر, كنا نبحث عن هؤلاء الحلفاء بعيداً من حدودنا. لهذا اعتقدنا انه من مصلحتنا مؤازرة الأكراد في القتال الذي شنوه ضد العراق, أشد أعداء إسرائيل لدادة, في  سبيل نيل استقلالهم. فراح ضباط وأطباء إسرائيليون يخدمون بفاعلية في صفوف الثوار الأكراد الممركزين في أصقاع نائية من جبال كردستان, التي لا يمكنك الوصول إليها إلا على صهوة جواد. والسبب عينة يبرر المساعدة التي منحناها إلى اليمنيين في نضالهم ضد الاحتلال الناصري الذي بدأ 1960 ودام خمس سنوات. ألم يكن هؤلاء الثوار يحاربون أقوى أعدائنا؟

 ورأت الحكومة الإسرائيلية في الستينات أن الأقلية المسيحية في السودان, هذا البلد الذي منح مصر دعما رئيسيا, تستأهل مساعدتنا. فأرسلنا إلى السودان خبراء وأجهزة وصلت إلى المكان المنشود بعد اجتياز مئات- وأحيانا آلاف- الكيلومترات. كما كنا حاضرين في مناطق أخرى من أفريقيا. أما في لبنان فأقمنا علاقات تقليدية مع الأقلية المارونية التي كانت مهددة في استمرار على غرار اليهود. وعززنا دعمنا للقرى المسيحية التابعة لسعد حداد والواقعة في المنطقة الحدودية. اتصل رابين ووزير الدفاع, شيمون بريز, بالقادة المسيحيين اللبنانيين ونظموا شبكة لإيصال المساعدة العسكرية الإسرائيلية.

 فإذا كانت إسرائيل قد رأت انه من مصلحتها مساعدة الأكراد الذين يشنون المعارك على مسافة ألف كيلومتر من حدودنا, ولأثيوبيين الذين يتحاربون على بعد ألف وخمسمائة كيلو متر, فاءن ضرورة دعم المسيحيين الذين يقاومون منظمة التحرير الفلسطينية المتمركزة أمام بابنا, دفاعاً عن أرواحهم,أصبحت حقيقة لا تقبل الشك. وأخيراً ذلك هو الوضع الذي كان سائدا في عام 1981 حينما كنت على رأس وزارة الدفاع الإسرائيلية.

         

E-mail: m_abayt@eritreaonline.net


روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6378

نشرت بواسطة في يناير 7 2005 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010