نظرية “الاستعمار الداخلي” و مواءمتها لواقعنا الإرتري

كتبه: غريب الدار

توطئة:

أرى افتتاح موضوعي ببيتي الشاعر عبد الله البردوني  مناسباً للمقام، حيث يقول:

ترقَّى   العارُ   مـن  بيعٍ   **   إلى    بيـعٍ    بـلا   ثمـنِ

ومن     مستعمرٍ    غازٍ   **   إلى    مستعمرٍ    وطنِي

قد يكون من نافلة الكلام الخوض في التعريف بالاستعمار الخارجي، كون القراء المستهدفين بالمقال ـ إن لم يكونوا عاشوه واقعاً فإنهم على أسوأ تقدير ـ قرأوا وسمعوا عنه الكثير، إذا فهو معلوم من الواقع بالضرورة. لكننا نستعرض بإيجاز بعض صفاته للقاسم المشترك بينه وبين الاستعمار الداخلي ليتثنى لنا لاحقاً إسقاط تلكم الصفات على الأخير، وبمطابقة أوصافهما تتَّضح لنا الصورة ونحدِّد مدى مواءمة المصطلح لواقعنا إذ أن “الحكم على الشيء فرع من تصوُّره”. فقد عاشت دول العالم الثالث ردحاً من الزمن تئنُّ تحت وطأة الاستعمار المباشر (الخارجي) فعانت شعوبُها من الظُّلم والبؤس جرَّاء تسلُّط القوى الخارجية على السكان الأصليين للبلاد واستغلالهم ونهب ثرواتهم وإفقارهم اقتصادياً وفكرياً ـ قصداًـ حتى يسهل تطويعهم لإرادة الغزاة، لأن العلم والمال هما السلاح الناجع والدرع الواقي للمجتمعات ضدُّ من يستهدفها داخلياً وخارجياً. وفي المقابل خصّ المستعمر فئة الوافدين معه إلى المستعمرات بامتيازات لا حصر لها على حساب المواطنين الأصليين كما قرأنا ذلك في إصدارات ومنشورات كثيرة تعكس تلك الحقيقة ولعل معاناة الأمريكيين الأصليين والأستراليين وجنوب الإفريقيين والزيمبابويين …إلخ، وتمتُّع الوافدين (المستعمرين) بخيرات بلادهم لخير دليل على قبح وجه ذلك المستعمر وخبث نيته المبيُّتة تجاه السكان الأصليين، خاصة مع استمرار ذلك السلوك حتى بعد انتفاء صفة المستعمر من الوافين واستحقاقهم المواطنة في البلد الجديد وبقاء التفرقة والمفاضلة بين فئات المجتمع الواحد.

الاستعمار الداخلي:

أما الداخلي:  فهو تعريف للتبعية والقمع والاستغلال والإقصاء التي تتعرض له مجموعة إثنية من قبل أخرى في مجتمع واحد.

نُشرت بحوث ودراسات ومقالات سابقة لباحثين وكتاب غربيين وبعض الكتاب العرب حول نظرية الاستعمار ـ أو (الاستبداد) الداخلي ـ كما يحلو للبعض تسميته ـ ومدى اختلافه وتطابقه مع الاستعمار الخارجي. من هؤلاء عالم الاجتماع الأمريكي  ريتشارد بلانور  عند حديثه عن واقع السود في أمريكا في خمسينات القرن الماضي والباحثة الحقوقية الأسترالية كريستين جنّيت حول السكان الأصلين لأستراليا ثم توسعت الفكرة بعد ذلك لتشمل قطاعات الأقليات في كثير من  بلدان العالم وتسليط الضوء حول معاناتها من الإقصاء والتهميش والاستغلال والحرمان على أساس اللغة والعرق والدين مقابل إعطاء فرص كبيرة وامتيازات واسعة للمناطق والمجموعات الأكثر ارتباطاً بالحكومات وتمكينها من السيطرة على مفاصل الدولة وتسخير كل موارد الدولة لصالحها، وهذه تُكسِب الأخيرة الإحساس بالفوقية والتميُّز، ما يشجعها على التعدي على خصوصيات الأولى وممتلكاتها و احتكار الثروة كونها تستمدُّ القوَّة من السلطة لا من القانون، فهي إذن الخصم  للفئة المستضعفة والحكم في الوقت ذاته. كما أن هنالك كثير من المفكرين والكتاب والناشطين الحقوقيين  العرب تناولوا هذه النظرية منهم المفكر الجزائري مالك ابن نبي والحقوقي التونسي المنصف المرزوقي والكاتب الكندي السوري خالص جلبي وليس آخرهم الشاعر عبدالله البردوني (والذي لم يرد بيتاه السابقان عرضاً وإنما اخترتهما من قصيدة للشاعر احا عنوان “الغزو من الداخل” والتي ضمَّنها هذين البيتين)، وآخرون كثر أثروا هذا الموضوع وأجمعوا على أن الداخلي من الاستعمارين أسوأ وأوسخ وأخطر من الخارجي، وإن ذهب البعض في تسميته الاستبداد بدلا منه الاستعمار كما هو حال الدكتور صبري محمد خليل (أستاذ الفلسفة بجامعة الخرطوم)، حيث يربط بين مشكلتي الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي،باعتبار أن الأول هو قيد داخلي على حرية الشعوب ، بينما الثاني هو قيد خارجي عليها. فالاستبداد هو قيد داخلي على حرية الشعوب لأنه انفراد أقليه (فرد أو فئة) بالسلطة دون الشعب.

فكل من تناول هذا الموضوع في مقالاته أو تطرَّق إليه بحثاً ودراسة لم يختلف في مضمونه ـ وإن ذهب البعض إلى تسميته بالاستبداد ـ بل يجد القارئ الإجماع التام بينهم في توصيفه بأكثر خطورة من الاستعمار الخارجي.

فالداخلي منه يتلاقي مع الخارجي في الاستحواذ على منافذ كثيرة في مقدمها منفذ المنافذ المتمثل بالأرض التي هي مصدر الخيرات جنبا إلى جنب الاستحواذ على الإعلام لضمان التكتم على استرسال الاستنزاف. فهو يريد أن يستأثر بمقدرات وثروات البلاد والعباد لنفسه دون غيره وهذا الاستعمار يتمثل في رأس النظام وفئته التي ينتمي إليها عرقياً أو عقدياً أو تشاركه سمةً من السمات يختصان بها عن باقي مكونات ذلك المجتمع (إضافة إلى القيادات المقربة والتي تمسك بزمام الأمور بالدولة من قيادات الجيش والشرطة وبعض أصحاب النفوذ من المدنيين الذين يستحوذون على كل مقدرات وثروات الوطن، أما منتسبو هذه الأجهزة ـ والذين يتم اختيارهم بعناية، لأسوأ الاحتمالات ـ فهم الأداة التنفيذية لهذا الاستعمار مقابل فتات يتلقونها من وظائفهم المرهون استمراريتها بمدى إخلاصهم لمرؤوسيهم وتنفيذ أوامرهم. فهذه الفئة (التي اختصها النظام) يضمن لها الخصوصية والتميّز مقابل ضمانها له الاستمرار في السلطة.

يقول يحيى بن الوليد في مقال نشر له بـ”القدس العربي”: إن الاستعمار المباشر عندما تخلى عن تراجع عن مستعمراته إنما تخلى عنها لاستعمار آخر  ألا وهو(الاستعمار الداخلي) والذي لم يكن، في أي فترة من الفترات، يقل خطورة عن الاستعمار المباشر أو الاستعمار الاستيطاني إن لم يكن أكثر خطورة لأن المستعمر الداخلي جزءٌ من المجتمع ما يمكِّنه من معرفة خصائص المجتمع (عاداته وتقاليده ومكامن ضعفه) فيقوم بتغيير المناهج الدراسية جميعها ويضعها حسب قواعده التي يريدها ويغير السلم التعليمي فيجعله أقل مما كان عليه سابقاً لأن شريحة الطلاب هي التي تأتي بالانقلابات والإضرابات والمظاهرات لأنها أهم شريحة في المجتمع ثم تأتي شريحة المثقفين وتكون قليلة أو تجند إلي مصلحة المستعمر وتأتي شريحة عامة الشعب وتحارب بغلاء المعيشة فتنشغل هذه الشريحة بسك لقمة العيش الحلال وتعليم الأبناء فلا يكون لهم وقت إلي ممارسة السياسة ثم تأتي طبقة المهمَّشين والكادحين وهؤلاء يكونون مشغولين بالكشات فهذا أسوأ أنواع الاستعمار لأن جلب الحرية والاستقلال يكون أصعب شئ إلا أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

ويقول الكاتب والطبيب الكندي سوري الأصل خالص جلبي: ” إن الاستبداد الداخلي أخطر من الاستعمار والاحتلال، وإن الاستبداد الداخلي من قبل الأنظمة خفي وغامض وصعب المعالجة على عكس التدخل الخارجي السهل”.

أيهما أسوأ الخارجي أم الداخلي؟

الاستعمار الداخلي أسوأ من الاستعمار الخارجي لأن الأول  بغيض يغرس المناطقية، ويثير الفتن ليستمر في سُدَّة الحكم ويجلب الويلات، لم يكتف بنهب الموارد، يعمق الطائفية باستطاعته إقناع شريحة كبيرة من أبناء الوطن بدغدغته مشاعر العقيدة والقبلية والتَّمكُّن من استمالتها فتقف معه بكل قوة، ما يؤدي ذلك لإيغار النفوس وبذر الشحناء بين الناس حتى يصل بالوضع الإنساني إلى منزلة مؤسفة،
ما يؤدي بالبعض ـ ممن ساء حالهم ـ للحنين إلى الاستعمار الخارجي أو حتى استجدائه، فلعلَّه يعيد لحمتهم وتجمُّعهم تجاه هدف واحد كما كان الحال قبل التحرير او يعامل الجميع بنفس المقياس من باب المساواة في الظلم عدلٌ.

يصف خالص جلبي في مقال نُشر له بصحيفة الشرق الأوسط الاستعمار الداخلي بـ(السرطان) بينما يصف الخارجي بـ(الدمل الخارجي) وذلك لأن الخارجي بادٍ للساعين لمعالجته ومثار اشمئزاز لكل من يراه ولا ينكر ضرره وخطورته إلا جاحد أو من في قلبه مرض والكل يعمل لإزالته ومن لم يقم بذلك لا يجاهر بولائه له، عكس ما هو في (السرطان) أعني الاستعمار الداخلي، لأن هذا الورم بما أنه كائن في الداخل يُعتقد بأنه جزء من الجسم ما يؤدي إلى اختلاف الناس في معالجته، بالاستئصال أو بمداراته بالمسكنات حتى لا ينتشر أو بتسليم الأمر للقدر والانتظار.

أن الاستعمار الداخلي  ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب. لغياب حقيقته على الكثير، ولا يتفق المجتمع في وصفه ومن ثم الحكم عليه ـ كما حصل في مؤتمراتنا الوطنية التي انعقدت مؤخراً، فمنهم من يصفه بالحكم الطائفي ومنهم بالديكتاتور ومنهم من يؤمن بشرعيته وأنا أعتبره مستعمرا، وقد يتفق معي البعض ـ فهو يكتسب بعض الشرعية من المواطنة، ويجد الكثير من المساندين في الداخل، ممن تربطهم به مصالح (مادية أو معنوية) ومن انطلت عليهم حقيقته. وفي الخارج، من بعض الدول التي لها مصالح في بقائه أو انطلت عليها أيدلوجياته حيث أنه غالباً يجاهر بعكس ممارساته الخفية.

أثره في واقعنا:

لقد تسبب هذا الاستعمار الداخلي في كره المواطنين لوطنهم. حيث تحولت حياة المواطن في وطنه إلى أزمات:

–    أزمة اجتماعية: حيث أعاد النظام تركيبة المجتمع (الاجتماعية)، حيث قتل جذور الثقة وزرع بذور الشك بين الفرد وأهله وجيرانه وزملائه في العمل وبين شرائح المجتمع بصفة عامة، عملاً بنظرية فرِّق تسُدْ.

–   وأزمة اقتصادية: إذ اتبع النظام سياسة (جوع كلبك يتبعك) حيث أصبح أغلب الشعب داخل الوطن تحت خط الفقر .. فُقِدت فُرص العمل كي يكسب المواطن قوته بصورة مشروعة فاضطر البعض إلى الكسب غير المشروع حيث تحولت السياسة إلى استرزاق فقام الساسة بابتزاز المواطنين الضعفاء فظهرت في الحياة الاجتماعية برجوازية غريبة  يمتلك  أصحابها قصوراً ومزارع ومشاريع مصدر أغلبها ثمن التبعية السياسية، أو التجارة غير المشروعة من خلال الاستعانة بالسلطة، أو سرقة المال العام عن طريق استغلال مركزه لعقد صفقات غير مشروعة. ما قتل في كثير من أفراد الشعب روح المواطنة الحقَّة ولم يكن أمام المواطن سوى البحث عن باب الهجرة فتشتت في بلاد العالم عله يجد في إحداها مستقرا آمنا يعيش فيه بكرامة.

–   وأزمة هوية: حيث أصبحت فئة الأكثرية تُفرض عليها تقافة الأقلية، وتُهدَّد في هويتها العقائدية، وحرمت من المجاهرة برأيها، بل يُحرم عليها الشكوى من ظلم وقع بها.

–   وأزمة سياسية: حيث كرَّس فكرة لا صوت يعلو بموازاة صوت النظام، وقطع الأمل في التحول السياسي الذي ظل الشعب يناضل من أجله سنين طوال ضد المستعمر حتى كلَّل ناضله بطرد المستعمر (الخارجي)، فكما قال الحقوقي المنصف المرزوقي: . قاوم هذا الاستعمار آباؤنا وأجدادنا وقدموا ما قدموا من التضحيات، واعتقدوا بنوع من السذاجة أن الاستقلال  سيكون مرادفا لـ “الحرية للجميع ” والكرامة للجميع ” والتقدم للجميع “. أورد ذلك عند حديثه عن الاستعمار الخارجي ثم ما أعقب ذلك من استبداد داخلي من قبل السلطة  والذي لم يضعه المناضلون في الحسبان الذين كان جلُّ همهم طرد المستعمر الخارجي، لكنهم لم يكنوا يعلمون ما تخفيه الأيام حيث أضحى مجتمعم كالمستجير من الرمضاء بالنار.

خلاصة القول:

ليس بالضرورة على مَن تخلص مِن عدوِّ ضعيف فوقع في شراك عدو أقوى أن يبحث عن عدو ضعيف حتى يقع  تحت شراكه مرة أخرى، بل عليه السعي للتخلص منه ببذل جهد مضاعف. أعني: ليس القصد ـ بالضرورة ـ من الإشارة على أن الداخلي أسوأ من الخارجي هي الدعوة إلى استجداء استعمار خارجي، وإنما التنبيه إلى خطورة الواقع أو التذكير به. فالاستعمار الخارجي هو من زرع فينا القابلية للاستعمار ـ كما قال مالك بن نبي ـ فكلما تسلَّط علينا نظامٌ دعونا الله لأن يكون ذلك أقصاه ـ بحيث يكتفي بما أحدث ـ لا أن يعيننا على زواله، ناهيك عن محاسبته والقصاص منه!

لكن هذا لا يمنع لأن نسمِّي الأشياء بأسمائها لكي نعدَّ العدَّة بقدر الهم وخطورة الشأن، فكما سبق تشبيه “لداخلي” بسرطان قاتل ودائم ويصعب الحصول على دوائه والشفاء منه كما كان حال الاستعمار الداخلي قبل 2011، إلا أنه كلا المرضين المشبه والمشبه به الاستعمار الداخلي والسرطان) وُجد علاجهما مؤخراً لكن بتكلفة باهظة ومستوى مخاطرة عالية، ومن له الاستعداد لدفع التكلفة ومواجهة المخاطرة فقد يصل إلى المبتغى (الخلاص منهما).

أما الاستعمار الخارجي فهو مثل الحمى، قوي ومؤلم إلا أنه مؤقت وممكن علاجه ويزول بعد فترة طوعا أو كرها بكلا الطريقتين في بلادنا.

 

والله من وراء القصد

 

___________________________________________________

 

مصادر للمزيد من الاطلاع:

–         المرزوقي المنصف “الاستقلال الثاني . من اجل الدولة العربية الديمقراطية الحديثة”  : دار الكنوز الأدبية  .بيروت 1996

–         خالص جلبي “برنامح إضاءات بقناة العربية 17/11/2011،”

–         خالص جلبي”العراق بين الاحتلال الأميركي والاستعمار الداخلي” صحيفة الشرق الأوسط، 07/مايو/ 2003

–         أ.د. محمد إسحاق الريفي ” الاستعمار الداخلي”جريدة التجديد العربي الإلكترونية, 06 نوفمبر 2011 .

–         عبدالله البردوني “الغزو من الداخل”، موقع البردوني: http://www.albaradoni.com/index.php?action=showDetails&id=576

–         صبري محمد خل (2011)، “ثوره الشباب العربي بين سندان الاستبداد ومطرقة التدخل الاجنبى”. سودانايل: http://sudanile.com/2008-05-19-17-39-36/252-2009-09-06-09-34-16/33131-2011-10-02-20-37-20.html

–         يحيى بن الوليد (2011)، “ ثورات العالم العربي: في الاستعمار الداخلي”، القدس العربي:

          http://alquds.co.uk/index.asp?fname=today%5C29qpt894.htm&arc=data%5C2011%5C08%5C08-29%5C29qpt894.htm

–        Robert Blauner(1969) “internal colonialism and Ghetto Revolt”, University of California Press.

–    Christine Jennett (2011) “Theorising Internal Colonialism in Australia”, the international Journal of humanities. available at: http://ijh.cgpublisher.com/product/pub.26/prod.2125

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=24613

نشرت بواسطة في يوليو 10 2012 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010