نظرية الحسبة في النظام الإسلامي أصولها الشرعية وتطبيقاتها العملية

الحلقة الخامسة
إدريس محمد عثمان
التعريف والتأصيل الشرعي للحسبة.
التـــحـديـد اللغــوي لمصــطلح الحســبـة
الحسبة في اللغة : بكسر الحاء وتسكين السين ، اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد. والاحتساب مأخوذ من الحسب ،وهو على معان عدة منها :
1 ـ العدد والحساب . يقال : حسبت الشيء أحسبه حسابا وحسبانا ، إذا عددته . ومنه قول الله تعالى : } فَالِقُ الأِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ{ وقوله تعالى :} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً{ ويندرج تحت هذا المعنى العد احتساب الإنسان الأجر عند الله تعالى إذا اعتد فيما يدخره عند الله تعالى وعليه حديث أبى بكر الصديق – t– إني أحتسب خطاي هذه ،أي أعدها في سبيل الله تعالي وفي الحديث قال رسول الله e : “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” ويقول النبي e: ” مَنْ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّه يَرْجِعُ مِنْ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ.” وقد دلت هذه الأحاديث على معنى احتساب الأجر عند الله وهو العد وفي البخاري : ” إنما الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى . فدخل فيه الإيمان ، والوضوء والصلاة ،والزكاة والصوم ،والأحكام ” أي الأعمال الشرعية معتبرة بالنية والحسبة والمراد بالحسبة طلب الثواب . كما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه قال رسول الله e:” إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً. ” قوله يحتسبها قال القرطبي : أفاد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة سواء أكانت واجبة أو مباحة وأفاد مفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر ، لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة لأنها معقولة المعنى وأطلق الصدقة على النفقة مجازا والمراد بها الأجر”
أمّا الاعتداد في الأعمال المكروهة التي تنزل بالإنسان ، فيكون بالصبر والتسليم لأمر الله تعالى ، كما روى عن النبي e في تعزية ابنته أنه قال :” إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ ”
2 ـ من معاني الحسبة : الكفاية ،فيقال احتسب بكذا اكتفى به ومنه قول الله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ  وقوله تعالى: ] وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً
3 ـ من معاني الحسبة : الإنكار ،فيقال أحتسب عليه : أي أنكر عليه قبيح عمله وتسمية الإنكار بالاحتساب ” من قبيل تسمية المسبب بالسبب ؛لأن الإنكار على الغير سبب بإزالته وهو الاحتساب لان المعروف إذا ترك فالأمر بإزالة تركه أمر بالمعروف ، والمنكر إذا فعل فالأمر بإزالته هو النهى عن المنكر.”
4 ـ من معاني الحسبة أيضا : التدبير . فيقال : فلان حسن الحسبة في الأمر أي حسن التدبيرله والنظر فيه وفق القوانين والأنظمة والمحتسب يقوم بتدبير خاص ، وهو تدبير تطبيق الشرع الإسلامي وهو احسن وجوه التدبير .
5 ـ من المجاز يقال : خرجا يحتسبان الأخبار :يتعرفانها كما يوضع الظن موضع العلم واحتسبت ما عند فلان : اختبرته وسيرته . كما ورد في الشعر:
تقول نساء يحتسبن مودتي *** ليعلمن ما أخفى ويعلمن ما أبدى
أي النساء يختبرن ما عند الرجال من تصرفات والمحتسب ينظر في تصرفات الناس الظاهرة ويحكم عليها ويقدم على تغيير المنكر منها بعد التدقيق والنظر في المآلات.
ومما سبق يمكن إجمال معاني الحسبة في الآتي :
أ )- العد والحساب .
ب )- طلب الأجر والثواب من الله والاكتفاء به .
ج )- حسن التدبير في الأمور والنظر في مآلاتها .
د )- الإنكار .
هـ )- الاختبار والسبر .
التحليل الفقهي لمصطلح الحسبة
تعددت تعريفات الحسبة الاصطلاحية تبعا لمدلولاتها اللغوية ، فقد عرفها جمهور الفقهاء بأنها أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله. وأضاف الشيزري وابن الأخوة في تعريفهما وإصلاح بين الناس واعتقد أنهما لم يضيفا جديدا على تعريف الجمهور ، وهو يشمل كل ما أمر الشارع الحكيم به على سبيل الوجوب أو الندب ،كما يشمل كل ما نهى عنه الشارع الحكيم ،ويدخل في كل ذلك العقائد والعبادات والمعاملات.
وقال ابن خلدون في تعريف الحسبة : بأنها وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.” ،ويلاحظ أن هذه التعريفات تتقارب مع وضوح ، وإطلاق تعريف الجمهور.ثم يأتي تعريف ابن تيميه للحسبة من خلال تعريفه للمحتسب ومن ثم وضعه معيارا عاما يميز بين اختصاصاته واختصاصات الولاة والقضاة فيقول : ” أما المحتسب فله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما ليس من اختصاص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم.” وهذا التعريف يلاحظ فيه أمران وهما: الاختصاص والتقييد وهو ما ذهب إليه تلميذه الإمام ابن القيم ، حيث قال : ” الحكم بين الناس في النوع الذي لا يتوقف على الدعوى هو المعروف بولاية الحسبة وقاعدته وأصله هو الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.”
ويأتي تعريف آخر مختصر وهو للإمام الغزالي يقول فيه : ” الحسبة عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .” وقريب من هذا ما ذكره السماني في قوله الحسبة في الشريعة : أمر عام تتناول كل مشروع يفعل لله تعالى ، كالآذان والإقامة ، وأداء الشهادة مع كثرة تعدادها، ولهذا قيل القضاء باب من أبواب الحسبة ، وقيل القضاء جزء من أجزاء الاحتساب ” وعرف الحسبة صاحب كشف الظنون تعريفا معتمدا على تبيان مهامها واختصاصاتها العامة من واقع فاعليتها في المجتمع ، فقال :” علم الاحتساب :علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم التي لايتم التمدن بدونها من حيث إجراؤها على القانون المعدل ، بحيث يتم التراضي بين المتعاملين ، وعن سياسة العباد بنهي عن المنكر وأمر بالمعروف ، وحيث لا يؤدي إلى مشاجرات وتفاخر بين العباد بحيث ما رآه الخليفة من الزجر والمنع ومباديه،بعضها نقص ،وبعضها أمور استحسانية ناشئة عن رأي الخليفة.” وهذا التعريف ربما قصد منه الحسبة التي توليها الدولة اهتماما ،فهو بذلك قصر الحسبة على الولاية ولا يدخل في هذا التعريف المحتسب المتطوع الذي يباشر الحسبة دون إذن الوالى.
فقد تبين مما سبق أن المعنى الاصطلاحي للحسبة لا يقتصر على تغيير المنكر الظاهر فحسب وإنما يشمل كل ما يفعل ويراد به ابتغاء مرضاة الله تعالى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصدقة والأذان ، والإقامة وأداء الشهادة ، والجهاد في سبيل الله ، وجميع أنواع البر ، ويؤيد ذلك العديد من الشواهد القرآنية والنبوية ، منها قول الله تعالى}وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ{ وقوله تعالى:} وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وقوله تعال: } وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ{

فهذه الآيات تبين أن أعمال المسلمين يجب أن تكون ابتغاء مرضاة الله تعالى ، وكما ورد في الحديث عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ  عَنْ النَّبِيِّ  قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْخِلُ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صُنْعِهِ الْخَيْرَ وَالرَّامِيَ بِهِ وَمُنَبِّلَهُ .” وقال e: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ السِّقْطَ لَيَجُرُّ أُمَّهُ بِسَرَرِهِ إِلَى الْجَنَّةِ إِذَا احْتَسَبَتْهُ ” وجاء رجل إلي رسول الله صلى الله e فقال : يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا غير مدبر أيكفر عنى خطاياي ؟ فقال رسول الله Že: نعم. فهذه النصوص وغيرها مما سيأتي بيانه تدل على سعة مفهوم الحسبة وعدم اقتصارها على نوع معين من الأحكام .
وبناء على ذلك وضع لها بعض المحدثين تعريفات اصطلاحية عدة لا تخرج في فحواها عن التعاريف السالفة ومن هذه التعريفات قولهم : “إن الحسبة رقابة إدارية تقوم بها الدولة عن طريق موظفين خاصين ، على نشاط الأفراد في مجال الأخلاق والدين ، والاقتصاد ، تحقيقا للعدل ، والفضيلة ، وفقا للمبادئ المقررة في الشرع الإسلامي ، وللأعراف المألوفة في كل بيئة وزمن .”
وهذا التعريف قد يفهم منه بأن الحسبة مجرد رقابة إدارية تقوم بها الدولة على أنشطة الأفراد فحسب ،وهو خلاف لمفهوم الحسبة الشامل الذي لا يتوقف على رقابة الدولة وإنما يشمل رقابة أفراد المجتمع المسلم للمنكر والتصدي له ،وحماية القيم الإسلامية واجب على الجميع بقدر الطاقة التي يمتلكها كل مسلم ،أما الرقابة الإدارية فهي تمثل دور المحتسب المكلف .
ولعل في تعريف من قال :إن الحسبة هي : ” فاعلية المجتمع المسلم في القيام بأعمال البر والخير وتغيير المنكر ، وفق السياسة الشرعية ، حماية لمقاصد الشريعة الإسلامية .” أقرب إلى المعنى الشامل لتعريف جمهور الفقهاء المتقدمين.
خلاصة القول : أن الحسبة تمثل الرقابة التطبيقية العامة على قيم المجتمع الإسلامي ، باعتبارها وظيفة دينية خلقية وقاعدتها وأصلها هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما قال بن القيم : وهي صفة وصف الله بها هذه الأمة ، وفضلها من أجل ذلك على سائر الأمم. فقال الله تعالى : } كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون{ وهذا الأمر الإلهي الخاص بالأمة الإسلامية يدخل فيه جميع ما أمر الله به وكلّ أنواع البر وهو من الاحتساب ، و المنكر تدخل فيه كل المعاصي المخالفة لقواعد الشريعة ونظامها ومن هنا يأتي التداخل بين مفهوم الحسبة وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فما هي طبيعة هذا التداخل ؟ لبيان ذلك يمكن عقد مقارنة بينهما.
بين الحسبة وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
يلاحظ من تعريفات الفقهاء لمصطلح الحسبة التطابق بينه وبين قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلا أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أمر الهي عام ورد في كل الشرائع السماوية وبه جاء المرسلون كما يقول ابن تيمية : ” الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين ” كما ذكر المفسرون في بيان قول الله تعالى :} إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ { فهذه الآية دلت على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة وقد نزلت الآية في بنى إسرائيل لأنهم كانوا يقتلون من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقد لعنهم الله تعالى بقوله: } لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ{ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصطلح قرآني يعبر عن مهمة الرسل ووظيفة الأنبياء وعلى اثر الأنبياء يقتدي فيهما ،لبيان نهج الإسلام وشريعته كما يقول السرخسي “أحق ما يبدأ به في البيان الأمر والنهي ؛ لأن معظم الابتلاء بهما ، وعبر معرفتهما يتم معرفة الأحكام ، ويتميز الحلال والحرام. ” ومن هنا يمكن القول إن العلاقة بين هذا المبدأ والحسبة علاقة عموم وخصوص ، فالحسبة قد تكون قائمة ولاوجود للمنكر أما النهي عن المنكر ، فلا يكون إلاّ على اثر منكر واقع أو متوقع.
فالحسبة تشمل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتعد أدلة وجوبه أدلة للحسبة ، كما في قول الله تعالى : } وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { وقوله تعالى : } وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وعلى هذا التوجيه القرآني تعتبر فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أصلاً شرعياًله تطبيقاته المختلفة ، بحيث يصبح إغفاله ليس مخالفة دينية فحسب ، بل إنه ينهى حيوية المجتمع الإسلامي ، وفاعلية الفرد المسلم ، فهو نظام يتأكد به دور الأمة كمرشد ودر الجماعة الإسلامية ، كحارس ودور الفرد المسلم باعتباره مسئولا مسئولية فردية أمام الله عن القيام بواجبه الديني ، والخلقي والاجتماعي ليصبح جهاز رقابة ، ذات فاعلية خاصة ، والحسبة تبرز أهمية المسئولية الفردية ، ومكانتها في تطبيق قواعد الشرع الإسلامي ، فالفرد هنا مسئول مسئولية مزدوجة. ولا تقتصر الحسبة على تغيير المنكر الظاهر الملاحظ في بعض التعريفات السابقة فحسب وإنما تشمل كل ما يفعل ويراد به وجه الله تعالى وهذا يبدو جليا في التوجيه النبوي فقد روي عن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e :إِذَا أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَقُلْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .اللَّهُمَّ عِنْدَكَ أَحْتَسِبُ مُصِيبَتِي فَآجِرْنِي فِيهَا وَأَبْدِلْ لِي بِهَا خَيْرًا مِنْهَا” .
ويقول e : ” إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ. ” ومن هذه الإشارات النبوية يتبين أن مفهوم الحسبة في شموليته يحيط بجميع أعمال البر وهذا من المدلولات اللغوية للحسبة أيضا.
أمّا باعتبار الخصوصية التنظيمية فالحسبة تمثل أحد التطبيقات الإسلامية الخاصة لمبدأ الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، الذي يشمل جميع الولايات ، كما يقول ابن تيمية “إذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمرٌ ونهيٌ ، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وهذا نعت النبي e والمؤمنين كما قال تعـــــالى  وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر  وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين ، على القادر الذي لم يقم به غيره ، والقدرة هو السلطان والولاية فذوو السلطان أقدر من غيرهم ، وعليهم من الوجوب ماليس على غيرهم فإنّ مناط الوجوب هو القدرة ، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته ، قال تعالى:  فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ  وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصو دها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى مثل نيابة السلطة ، والصغرى مثل ولاية الشرطة وولاية الحكم ، أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين المالية وولاية الحسبة ” ومن هنا تأتي العلاقة بين الحسبة ، والنظم الإسلامية الأخرى كالقضاء ، وقضاء المظالم.
التـأصــــيل الشــــــــرعي للحســــبـــــــة.
الحسبة في النظام الإسلامي حقيقة شرعية ، ونظامية كما سبق في تعريفاتها وأن اصلها وقاعدتها التي تبنى عليها هي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهي في مجالها العام تمثل حكما تكليفيا ملزما وفي جانبها التنظيمي عملا تنظيميا خاصا بالنظام الإسلامي وقد استنبطت أصوله وقواعده الشرعية من القرآن والسنة والإجماع ، وبيانه في الآتي :
الأصول الشـرعيـة للحسـبة من القرآن الكريم
تمثل أدلة مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السند الشرعي لأصول الحسبة في القرآن باعتبارها سبيل الإرشاد ،والهداية والتوجيه ، وقد حبب الله إلى عباده الخير وأمرهم به ، ونهاهم عن المنكر ومنعهم من اقترافه ، كما أمرهم بمنع غيرهم عنه فقال تعالى :  وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ  وقال تعالى :  وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون  ،فالدعوة إلي الخير والقيام بأعمال البر غير قاصر على الفرد ، وإنما يتعدى إلى الجماعة والأمة كما بينت الآيات وأول خير يدع إليه الإسلام هو الدعوة إلى عقيدة التوحيد ، فإن استقام عليها الناس ألزموا بأوامر الشريعة ونواهيها. وقد وصف الله تعالى أهل الإيمان بأوصاف مستقرة ،ودائمة ،وجعل من أخص خصائصهم القيام بالإصلاح الاجتماعي ومتابعة الدعوة إليه احتسابا لله ،فقال تعالى :  وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ِوَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  وفي هذه الآية أخص خصائص أهل الإيمان الذين يعين بعضهم بعضا على الطاعات ،ويتواصلون فيما بينهم بترك المحظورات ؛في تحابهم في الله وقيامهم بحق الله ،وصحبتهم لله ،وعداوتهم لأجل الله ،تركوا حظوظهم لحق الله وآثروا على هواهم رضاء الله ،أولئك الذين عصمهم الله في الحال ،وسيرحمهم في المآل.
وقد جعل الله مقياس التفريق بين المؤمنين والمنافقين الأمر بالمعروف ،والنهى عن المنكر ، فقال تعالى :  الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ قال العلماء : ” قال تعالى في وصف المؤمنين “بعضهم أولياء بعض ” وذلك لاتحاد قلوبهم في التواد والتراحم والتعاطف وقال في المنافقين “بعضهم من بعض “لأن قلوبهم مختلفة ولكن يضم بعضهم إلى بعض في الحكم. وقد يدل وصف المنافقين ” بعضهم من بعض “على أن نفاق الأتباع كالأمر المتفرع على نفاق الأسلاف ،والأمر في نفسه كذلك ،لأن نفاق الأتباع ،وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر ،وبسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل والعادة بل بسبب المشاركة في الاستدلال ،والتوفيق والهداية .فلهذا السبب قال تعالى في المنافقين “بعضهم من بعض.
وربما في تقديم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في الآية على الفروض العينية من صلاة وزكاة وطاعة الله ورسوله ما يوحي بأن هذه الطاعات لا تتحقق بصورة كاملة في المجتمع إلا بهذا التوجيه الإلهي الذي يحث الفرد على التزام الأوامر وترك النواهي ويحث الجماعة في علاقاتها على التزام الشرع فقدم على أنه منهج تربوي تحفظ في إطاره كل العلاقات الشرعية .
وقال تعالى في أصل جامع للأوامر والنواهي :} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فكانت الشريعة كلها أمرا ونهيا وامتثالا واجتنابا،لحفظ حدود الله وشريعته كما ينبغي ،وكل أصل دلّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعدّ أصلا من الأصول التي تبنى عليها الحسبة في النظام الإسلامي وقد وردت أساليب القرآن متنوعة في ذلك ، فتارة أمر الله بها المؤمنين وجعلها سببا لخيرية وتفضيل هذه الأمة ، وطورا جعلها وصفا للمؤمنين في ولائهم وطاعتهم لله في امتثالهم لأوامره واجتنابهم لنواهيه ،وقد جعل الله فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أول واجبات الأمة عند تمكّنها واستيلائها على مقاليد الأمور أن تقوم بتنفيذ هذه الفريضة فقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ فالمؤمنون قوامون على المجتمع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إيمانا منهم بأن نسق الحياة لا يستقيم إلا بما أمر الله به ،ونهى عنه ” فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله ،وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله…فلابد أن يأمر وينهى ويؤمر وينهى؛ إما بما يضاد ذلك ،وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزله الله ،بالباطل الذي لم ينزله الله” فالأمر الذي ينظم علاقة الفرد والأسرة والجماعة المؤمنة يقوم على الالتزام بالمنهج الإلهي أمرا ،ونهيا،ولا يتحقق هذا إلا بشرطين أساسيين:
أولهما : الاقتداء المقرون بالعلم.
ثانيهما: الإخلاص في القول والعمل .فالمؤمن الذي يقتدي بمنهج رسول الله e يحب لمجتمعه ما يحب لنفسه من الخير كما قال رسول الله e ” لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ” وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : ” لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ” وفي هذا بيان لمنهج الأمة في تطبيقها لأصول الإسلام وفروعه وذلك بإصلاح الفرد وتوجيهه وحماية المجتمع من كل الظواهر المخالفة للشريعة وآدابها وبهذا التوجيه القرآني تتفرد الأمة المؤمنة عن بقية الأمم في غاياتها،وأهدافها ، فغاية تمكين الأمة المؤمنة تباين كل غايات الأمم والشعوب في دعوتها وحكمها ، وهي الدعوة إلى امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يكون سببا في استحقاق اللعنة والطرد من رحمة الله كما حدث لبني إسرائيل } لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ.كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {
وتدل النصوص القرآنية على أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعد من أهم وسائل التوجيه الإصلاحي والتربوي للمجتمع المؤمن ، وهذا التوجيه الإلهي كان فرضا قائما على الأمم السابقة بل كان سببا في نجاة القائمين به وهذا بيّن في قوله تعالى:} فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون َ{ وقد شهد الله تعالى بالصلاح للمؤمنين الذين أضافوا إلى إيمانهم القيام بهذا الواجب فقال تعالى ] لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ { وقد ورد في وصية لقمان الحكيم لابنه بعد ما أمره بالإيمان بالله وعدم الإشراك به ، والقيام ببر الوالدين والثقة بعدالة الجزاء ، والتوجه إلي الله بالصلاة ، أمره بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك في قوله تعالى :} يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ { وعلى هذا الأساس يكون إصلاح المجتمع الإنساني بالإضافة إلى أن ممارسته توقظ الشعور وتنبه الضمير ، وتخيف المقدِم على المنكر هذا في جانب الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر في الحسبة إلاّ أنها لا تقتصر على الدعوة إلى الخير وتغيير المنكر فحسب وإنما تشمل كل ما يفعل ويراد به وجه الله .
وتتسع دائرة الاحتساب لتشمل كل أعمال المسلم إذا ما قرنت بنية القربة،ومنها الإصلاح بين الناس كما قال e :” كُلُّ سُلاَمَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ قَالَ : تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ. قَالَ : وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ وَتُمِيطُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ .” ومن أصول الحسبة التشريعية التي تبين هذه السعة قوله تعالى :  لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وفي هذا الأصل القرآني “ذكر هذه الأقسام الثلاثة ؛ لأنّ عمل الخير إمّا أن يكون بإيصال المنفعة ، أو بدفع المضرة ، أمّا إيصال الخير فإمّا أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال وإليه أشار بقوله “إلاّ من أمر بصدقة “وإمّا أن يكون من الخيرات الروحانية وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر وإليه أشار بقوله “أو معروف “وأمّا إزالة الضرر فإليها أشار بقوله ” أو إصلاح بين الناس” فثبت أنّ جامع الخيرات مذكور في هذه الآية .” ورتب على ذلك كله المثوبة إن كانت هذه الأفعال حسبة لله تعالى فقال:} وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً { هذه بعض النصوص القرآنية الدالة على مشروعية الحسبة.
وخلاصة القول : أن الآيات القرآن الدالة على الأمر والنهي لا تحصى ، فهي إما أمر باتباع ما أمر الله به ،وإما نهى عما حذر من الوقوع فيه ،وبهذا يكون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لازمين للإنسان في كل أحواله كما يقول ابن تيمية: ” وكل بشر على وجه الأرض فلا بدله من أمر ونهي ولابد أن يأمر وينهى حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها، إما بمعروف وإما بمنكر.” كما قال تعالى على لسان امرأة العزيز : } وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لاَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ {
الأصـول الشـرعية للحسـبة من السنة النبويــة
قد سلكت السنة في تقريرها وتأصيلها للحسبة مسلك القرآن الكريم ، فقد أمر بها رسول الله e قولا ، وجسدها واقعا ممارسا ، وذم تاركها وامتدح من يقوم بها ومن الأصول الدالة على مشروعيتها :-
– ما رواه أبو سعيد t – قال : سمعت رسول الله e يقول : ” مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ،فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الأِيمَانِ ”
وقد أيّدت السنة الكتاب الكريم في ربط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيمان فعن عبد الله بن مسعود – t – أنّ رسول الله e قال : ” مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الأِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ .”
– وقد جاء في التحذير من تركها فيما رواه عبد الله بن مسعود – t – قال : قال : رسول الله e : “إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَكَ ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ، ثُمَّ قَالَ : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِلَى قَوْلِهِ فَاسِقُونَ ، ثُمَّ قَالَ : كَلاَ وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا.” واقتدى به في ذلك الصحابة من بعده فعن أبي بكر الصديق t أَنَّهُ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ { وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : ” إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ “.
ومن الأصول النبوية الدالة على ضبط القيم الأخلاقية وتهذيب سلوك المجتمع الإسلامي تحذير النبي e من منكرات المجالس فقال : ” إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ. قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ :رَسُولُ اللَّهِ e فَإِذَا أَبَيْتُمْ إلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ. قَالُوا : وَمَا حَقُّهُ ؟ قَالَ : غَضُّ الْبَصَرِ ،وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلاَمِ ،وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ” فهذه قواعد تمثل القيم الحياتية في ضبط سلوك الفرد والمجتمع،وهي بذلك تميز المجتمع الإسلامي بقيمه النابعة من مفاهيم أصول الإسلام وفروعه في توجيه القيم الاجتماعية والسلوكية في المجتمع الإسلامي.
ومن الأصول الجامعة لأمر الحسبة ما روي عن تميم الداري – t – أن النبي e قال : ” قَالَ الدِّينُ النَّصِيحَة.ُ قُلْنَا لِمَنْ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَعَامَّتِهِمْ.” قال النووي في بيان الحديث : ” هو وحده محصل لغرض الدين ؛ لأنه منحصر في الأمور التي ذكرها : فالنصيحة لله وصفه بما هو أهله ، والخضوع له ظاهرا وباطنا ، والرغبة في محابه بفعل طاعته ، والرهبة من مسا خطه ، بترك معصيته ، والجهاد في ردّ العاصين إليه .”
– وري عَنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ e إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ:” إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ ” فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ: كَأَنَّهَا شَنٌّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. فَقَالَ سَعْدٌ :يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ :”هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ .” ، قال النووي :” هذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام ، المشتمل على جمل من أصول الدين وفروعه ، والآداب والصبر على النوازل كلها والهموم والأسقام وغير ذلك من الأعراف ومعني قوله:e “إن لله ما أخذ” أن العالم كله ملك لله ، لم يأخذ ما هو لكم ،بل هو آخذ ما هو له عندكم في معنى العارية.”وكل شيء عنده بأجل مسمى” فلا تجزعوا فإن من قبضه فقد انقضى أجله المسمى ، فمحال تأخيره أو تقديمه ، فإذا علمتم هذا كله فاصبروا واحتسبوا. وفي الحديث بيان لحكم البكاء على الميت ، فقد ظن سعد t أن جميع أنواع البكاء حرام وأن دمع العين حرام وظن أن النبي e نسي فذكره فأعلمه النبيe أن مجرد البكاء ودمع بعين ليس بحرام ولا مكروه ، بل هو رحمة وفضيلة ، وإنما المحرم النوح والندب والبكاء المقرون بهما أو بأحدهما.
فهذه الأحاديث وما سبقها من النصوص القرآنية تمثل جملة من الآداب والأحكام في الحسبة وهي بمثابة قواعد دستورية للأمة تحيط المجتمع الإسلامي بسياج من القيم الروحية الإيمانية وتسير الحياة وفق ضوابط مشروعة فلا تهمل الجوانب المادية على حساب الروحانيات كما يتصور البعض ، ولا تطلق العنان للحياة المادية كما يريد البض الآخر ، ومن هنا كانت رقابة الحسبة في النظام الإسلامي من أهم تطبيقات فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
نماذج من تقـريـر الـحسبـة في الأدلـة الفرعيـة
اتفقت كلمة المجتهدين من السلف والخلف على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسبة لله وابتغاء مرضاته . وقد استدل العلماء على وجوب الحسبة على الجملة من حيث هي بالأدلة التي وردت جملة وتفصيلا في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فقال ابن القيم : ” والمقصود أن الحكم بين الناس في النوع الذي لا يتوقف على الدعوى هو المعروف بولاية الحسبة ، وقاعدته وأصله الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ” وذكروا في بيان قوله تعالى :  كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ  دلالة على صحة إجماع الأمة من وجوه :
أحدها : وصفهم بقوله كنتم خير أمة ولا يستحقون من الله صفة المدح إلا وهم قائمون بحق الله تعالى غير ضالين .
وثانيهما : إخباره بأنهم يأمرون بالمعروف ، فيما أمروا به ، فهو أمر الله تعالى ؛ لأنّ المعروف هو أمر الله
ثالثهما : أنهم ينكرون المنكر ، والمنكر هو ما نهى الله عنه ، ولا يستحقون هذه الصفة إلاّ وهم لله رضاً فثبت بذلك أنّ ما أنكرته الأمة فهو منكر ، وما أمرت به فهو معروف وهو حكم الله تعالى ، وفي ذلك ما يمنع وقوع إجماعهم على ضلال ، ويوجب أنّ ما حصل عليه إجماعهم هو حكم الله تعالى.
ولكن اختلف العلماء في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الوارد في قوله تعالى : وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  أهو فرض كفاية على الأمة أم فرض عين ؟ وقد بنوا خلافهم على تأويل “من” في قوله “منكم “.
– فذهب فريق من العلماء إلى أن “من” في “منكم ” للتبعيض ،وهذا يدل على أن الوجوب كفائي لا عيني ، ويرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر ، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره ،فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ،وربما عرف الحكم في مذهبه ،وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ،وقد يغلظ في موضع اللين ،ويلين في موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا أو على من كان الإنكار عليه عبثا”
– وذهب آخرون إلى أن “من ” في “منكم ” للبيان وليس للتبعيض لدليلين :
أولهما: أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الأمة فقال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ 
ثانيهما :لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،إما بيده أو بلسانه أو بقلبه ويجب على كل أحد دفع الضر رعن النفس .فإذا ثبت هذا :فإن معنى هذه الآية ؛ كونوا دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأما كلمة “من ” فهي هنا للتبيين ،لا للتبعيض ، كقوله تعالى : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ
– وذهب الإمام الشوكاني في ترتيب وجوب الخطاب في الآية بين ولاة الأمور والرعية من حيث الوجوب فقال :”ينبغي أن تعلم أن نصيب الأئمة الثابت في هذه الشريعة ثبوتا لا ينكره من يعرفها من أقواله  ثم وقوعه بالفعل بعد موته من الصحابة فمن بعدهم ليس فيه ما ينفي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أفراد المسلمين ، وإن كان الأئمة هم المقدمون في ذلك واللاحقون به لكن إذا فعلوا كان ذلك مسقطا لهذا الفرض المعلوم بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والمجمع عليه من جميع الأمة ، وإن لم يفعلوا أو لم يطلعوا على ذلك فالخطاب باق على أفراد المسلمين ، لا سيما على العلماء فإن الله سبحانه قد أخذ عليهم البيان للناس فقال:  وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ وقال :  إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَعِنُونَ  فإذا كان البيان لا يتم إلا بإيقاع حكم الله بالحكم مع التمكن من ذلك فما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه. والحاصل أن الغرض المقصود للشارع من نصب الأئمة هو أمران .أولهما وأهمهما : إقامة منار الدين وتثبيت العباد على صراطه المستقيم ودفعهم عن مخالفته والوقوع في مناهيه.وثانيهما : تدبير المسلمين في جلب مصلحهم ودفع المفاسد عنهم وقسمة أموال الله فيهم …”
ويمكن القول إن “من” للتبعيض لأن أمر الحسبة ربما لا يحسنه إلا من كانت له القدرة الفعلية والعلمية ومن توافرت فيه شروط الداعية المؤمن بدعوته القادر على أداء الرسالة كما ينبغي ، ويكون ذلك على مراتب من الفروض : “ففرض العلماء تنبيه الولاة وحملهم على جادة العلم ،وفرض الولاة تغيير المنكر وحمل الناس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفرض الكفاية رفع ذلك للحكام.”
وبهذه الأحكام لا يبقى في الأمة من لا يحتسب متى ظهر المنكر في المجتمع .أما الدعوة إلى الخير فتشمل الدعوة إلى الإسلام وتشمل الدعوة إلى الطهارة والإخلاص في القول والعمل ومقاومة الأهواء والشهوات وإلى ما فيه مصلحة الفرد والمجتمع والأمة والدعوة إلى الخير، كما أكد أهمية الاحتساب ما رواه الثقاة العدول عن السلف الصالح من الإنذارات بالعذاب واستحقاق سخط الله ، لكل من يترك هذا الواجب وهو قادر عليه ، فقد وري عَنْ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ t ” كَانَ يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لاَ يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِذَنْبِ الْخَاصَّةِ وَلَكِنْ إِذَا عُمِلَ الْمُنْكَرُ جِهَارًا اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ كُلُّهُمْ .” وآثار السلف فيها الكثير من الشواهد منها :-
– ماروه ابن جرير الطبري في تاريخه أن أبا بكر الصديق t قام خطيبا في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله e ثم قال: ألا إن لكل أمر جوامع ، فمن بلغها فهي حسبة ، ومن عمل لله كفاه الله ، عليكم بالجد والقصد ، فإنّ القصد أبلغ ،ألا إنه لا دين لأحد لا إيمان له ، ولا أجر لمن لا حسبة له ولا عمل لمن لا نية له.
– وروى الحاكم في مستدركه : أن عمر بن الخطاب t خرج في مجلس وهو في مسجد رسول الله e وهم يذكرون سرية من السرايا هلكت في سبيل الله ، فيقول قائل منهم هم عمال الله هلكوا في سبيله ، وقد وجب لهم أجرهم عليه ، ويقول قائل الله أعلم بهم لهم ما احتسبوا ، فلما رأوا عمر مقبلا متوكئا على عصاه سكتوا ، فأقبل عمر حتى سلم عليهم فقال : ما كنتم تتحدثون ؟ قالوا : كنا نذكر هذه السرية التي هلكت في سبيل الله يقول قائل منا : هم عمال الله هلكوا في سبيله، وقد وجب لهم أجرهم عليه. ويقول قائل: الله أعلم بهم لهم ما احتسبوا .فقال :عمر الله أعلم ، إن من الناس ناسا يقاتلون وإن همهم القتال فلا يستطيعون إلا إياه ، وإن من الناس ناسا يقاتلون رياء وسمعة وإن من الناس ناسا يقاتلون ابتغاء وجه الله فأولئك الشهداء ، وكل امرئ منهم يبعث على الذي يموت عليه ،والله ما تدري نفس ماذا مفعول بها، ليس هذا الرجل الذي قد بين لنا أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

– ويقول عمر بن الخطاب t :” أيها الناس احتسبوا أعمالكم ، فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله وأجر حسبته”. إلى غير ذلك من الآثار المروية عن السلف مما سيأتي عليه البحث .

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=22533

نشرت بواسطة في أبريل 27 2012 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010