هكذا ينظرون إلي تاريخنا

بقلم أبو فايد  

إن رؤية الجبهة الشعبية للتاريخ والتي للأسف يريدون فرضها علينا هي المسؤولة عن تزييف الرؤية الصحيحة للتاريخ النضالي الإرتري ومسيرته الحضارية الحبلى بتضحيات وبطولات منقطعة النظير ، وهي المسؤولة عن السخط والإحباط وحالة التأزم الصعبة التي تلقي بقتامة ظلامها علي الواقع الإرتري ، وهي المسؤولة عن هذا الغرور الأهوج الذي يتنكر لعطاءات هذا الشعب وشهدائه ، هذا الغرور الذي يصور لهم أنهم بداية التاريخ الإرتري ونهايته كما دُفع الشعوبي الأمين محمد سعيد لكي يصور لنا ذلك وإن خانته اللغة العربية التي تبرأ منها وتبرأت منه رغم استعانته ببعض السودانيين الذين يفتقدون هم أيضا الرؤية الصحيحة ، إما لانتفاء صفة عنصر الشاهد عليهم التي تمكنهم من قراءة الحدث وتَلَبُّسِه ، أو باعتبارهم مرتزقة يخدمون الأغراض الطائفية الإقصائية وبالتالي لا يرون ولا يريدون أن يروا إلا ما يراه صاحب نعمتهم .

والتاريخ الذي أراد – إن كان يملك إرادة – الفدن ” الأمين ” إقصائه عبثا  وتشويهه حين عجز عن الإقصاء بوسمه بالظلامية والرجعية ليس من المخلفات المادية من شظايا الأشياء أو جماجم الأسلاف التي اكتشفت وسط أكداس النفايات وفي المقابر والمدن المهجورة والقرى المطمورة بل تاريخ ما زالت أحداثه ماثلة أمامنا ، وصانعوه ما زالوا علي قيد الحياة .

والأمين الذي ملئه مالئه ثم تركه ، وضبطه إلي أهداف بعينها ثم أطلقه ، فانطلق يجوس خلال تاريخنا لا يكاد يرى الحركة الوطنية إلا مقرونة بـ  حزب الأندنت ، ولا عواتي ورفاقه البررة إلا مقرونين بعناصر حركة الشفتا .

ومثل هذه العناصر المهووسة بإعادة الاعتبار ، والمريضة بعقدة النقص  أو تلك المتطفلة التي تعرض خدماتها ونصائحها في مقاهي الدردشة وأوكار الرذيلة غير مؤهلة حتى لكتابة بعض النصوص الدعائية لصحيفة صوت ( التملق والنفاق ) التي يحررها الدعيّ حمدان بالتعاون مع بعض الشذاذ السودانيين بله كتابة تاريخ شعب ، وأيّ شعب !! فكاتب التاريخ بمثابة الشاهد علي الناس ، والشهادة شيء كبير وشرف عظيم تتطلب عقيدة سليمة ، وإرادة حرة ، وثقافة حية ، والتزاما صارما بالأخلاق الفاضلة ، ولا شك أن موقع الأمين من كل ذلك في ذيل الناقة إن لم يكن من المخلفات التي تعلق بالذيل ، ولذلك فهو ليس أهلا حتى لأن يُشهد عليه بله أن يكون شاهدا . فتاريخنا يكتبه إرتريون لهم كفاية علميَّة وأخلاقيَّة ، ومجهزون تجهيزا حسنا بكل التقنيات اللازمة ، وبوجه خاص إرتريون فهموا أن أمجاد إرتريا مثل بأسائها ، وأن الأيام السعيدة فيها مثل أيام الشقاء ، وأن عواتي امتداد لكبيري ، وأن الجبهة الشعبية تجربة ومحطة من محطات الشعب الإرتري الحافلة بالعطاءات ، وربما أجانب لكن فيهم عظمة المؤرخ المحايد ، ولهم تعاطف مع هذا التاريخ ، وليسوا هواة أو مرتزقة لا يتأثرون بأحداثه ، ولا يتحسسون فيه جوانب الإلهام ، ولا يستشعرون فيه منابع الروح ، بل ينظرون إليه وكأنه نصوص جافة أو مائع لا لون له ولا رائحة ولا طعم ، بدل أن ينظروا إليه كنهر متصل متدفق بالحياة لا يبدأ عند نقطة ولا ينتهي عند حد .

إن نظرة عابرة ليس إلي روح التاريخ وقوانينه التي يجهلها جامع الحطب في الظلام ” الأمين ” بل إلي شخص ” الأمين ” نفسه  وخلفيته الثقافية والاجتماعية تجعل منه متطفلا في التاريخ الإرتري ، غريبا في نسيج الشعب الإرتري فهو لا يحس ولا يمكن أن يحس فطريا بإحساس هذا الشعب الأبيّ ، بآماله وطموحاته ببأسائه وضرائه ، إنه في الحقيقة كالدودة الغريبة عن الثمرة لكنها للأسف تدخل إليها لتتغذى منها .

وكتاب الدفع والتردي لا يمكن أن يكون من صياغة الأمين ليس لأنه يتسامى عن تبنى مثل تلك الآراء الواردة فيه ، ولا لأنه عاجز بسبب فقده الوعي علي الدوام لإدمانه علي الكحول كما يعرف ذلك القاصي والداني بل لأنه لا يملك الشجاعة لذلك ، ولا يتمتع بحرية الإرادة ، أما صاحب الآراء فهو بلا شك أسياس أفورقي ، والذي صاغه بتلك اللغة الركيكة هم عناصر من المرتزقة السودانيين ، ومهمة الأمين في أحسن أحوالها كما يعلم هو نفسه لم تتعدى المساعدة في الصياغة والإشراف فقط ، وحالة اللاوعي التي تعتري المدمن في أوكار الرذائل وما يصاحب ذلك من حالة نفسية شاذة تدفع بصاحبها إلي تقيئ الحقد والعقد والأمراض الخبيثة المخزنة في خانة اللاشعور وهي الحالة التي كُتب عليها الكتاب واضحة في كل سطر من سطوره وفي كل فكرة من أفكاره ، فوجدت بذلك أفكار أسياس تربة مُسَمَّدة أنبتت تلك النبتة الخبيثة التي تردت سريعا بعد أن تبرأ منها أسياس نفسه حين أدرك عدم جدواها في التأثير علي الشعب الذي نظر إليها نظرته إلي خضراء الدمن  .

فصاحب الآراء الحقيقي هو إذََ أسياس ولكنه دفع ” الأمين ” ليتردى هو وحده في وحل تلك الأفكار النتنة ، وتلك مهمته وقدره ، وكل ميسر لما خُلق له ، ولعله أحس في وقت من الأوقات بعمق الهوة التي تردى فيها فجعل من عنوان الكتاب الذي يحوي أفكار ولي نعمته ” الدفع والتردي ” ليبقي العنوان شاهدا علي لعبة ( القرد والثعلب) المشهورة التي لعبها معه مولاه ، أما ” الأمين ” فلم يكن ولا يمكن أن يكون أكثر من الكِير الذي نفخ وينفخ فيه أسياس كلَّما عَلَتْهُ حمَّي الملاريا . ولكي لا يظن ظان وإن بعض الظن إثم أننا نتحامل علي الكِّير ” الأمين ” بحرمانه من شرف تلك اللعبة التي رشح لها أخيرا الشعوبي المُدَجَّن ” حمدان “.. نقول أن أسياس أفورقي نفسه كان قد وعد في أحد لقاءاته بنشر وثائق عن مخططات ما أسماهم جماعات لها ارتباطات مباشرة مع الاستعمار الإثيوبي وتعمل ليلاعن طرف النهار لتنفيذ مخططات أجهزة أمن الاستعمار الإثيوبي حسب قوله .ينظر ، كتاب إجابات الأمين العام علي أسئلة الشعب والمقاتلين ص :71 .

وكلام أسياس هذا كان في الذكرى التاسعة والعشرين للثورة الإرترية ، أي سنة 1998م وصدور كتاب الدفع والتردي كان في 1992م فتأمل .

وتأكيدا لما أوردناه نذكر أخيرا أن معظم ما ورد في ” الدفع والتردي ” ما عدا الوثائق المزعومة نجده بقده وقديده في كتاب ( التثقيف السياسي العام ) أحد إصدارات الجبهة الشعبية . والحقيقة أن هذا الأسلوب الانتقائي الإقصائي هو السمة البارزة في كل أدبيات الجبهة الشعبية .                                

ولا أريد في هذه العجالة أن أتصدى للرد علي المتردي الأمين فالزميل الفاضل أبو همد حريراي كفاني مشقة ذلك ، ولكنني أردت أن أنبه من خلال ذلك علي أمر بالغ الخطورة وهو : أن التوجيه الخفي والتبخيس الظاهر وإسدال ستار من التعتيم علي تاريخنا بما لنا فيه وما علينا ، والإفقار المُتَعَمَّدْ لسجلنا النضالي ، والسياسات البربرية التي تجري علي قدم وساق لإقصائنا تاريخا وحضارة ووجود بشري لم تبدأ بكتاب ” الدفع والتردي ” المنسوب للكِّير ” الأمين ” أو بمقالات ذلك الدَّعيّ   ” حمدان ” ومن علي شاكلتهما من الشعوبيين ، بل بدأه منصرون أوروبيون وغير أوروبيين مدعومون من الإرساليات التبشيرية ، ومرتزقة يخدمون أغراضا شخصية ابتداء من القسيس موتزنجر مرورا بالكاهن ترمنجهام وحتى فرانسوا هوتار . وما الشعوبيون إلا مساحيق طَلَى بها أسياس وجه إرتريا ليخفي سياساته الإقصائية المكشوفة .

وبإمكان المرء في هذا الخصوص أن يضع قائمة طويلة بأسماء الكتب والكتَّاب إلا أننا سنكتفي بكتاب ( ما وراء الحرب في إرتريا ) كأنموذج لكل الكتابات غير النبيلة التي دأبت علي تشويه وتبخيس تاريخنا .

والكتاب ترجمه إلي العربية ” محمد مشموشي ” ونشرته ( د . ت ) ” مؤسسة الأبحاث العربية ” وهو عبارة عن مجموعة أبحاث قدمت من قبل مؤرخين وباحثين إلي ندوة دولية حول إرتريا عقدت في لندن في يناير عام 1979م نظمتها السيدة ” ماري داينز ” بمبادرة من السيد ” برخت هبت سلاسي ” ودعم من مؤسسة ( الحرب علي الحاجة )  بحضور شخصيات سياسية ومؤرخين ومحللين سياسيين من إرتريا وإثيوبيا وإفريقيا وعدد من المهتمين من أوروبا وأمريكا الشمالية .

ورغم أن السيد بازل ديفيدسون ، وليونيل كليف ، وبرخت هبت سلاسي أكدوا جميعهم في التقديم الذي وضعوه للكتاب علي تلمس جميع المراحل الأساسية للثورة الإرترية في البحوث ، ص : (8 المقدمة ) ، فإننا نفاجئ بإقفال مرحلتين حاسمتين في تاريخ الكفاح الوطني الإرتري هما :

1- مرحلة الحركة الوطنية المتمثلة في الكفاح السلمي .

2- مرحلة إعلان الكفاح المسلح بقيادة جبهة التحرير الإرترية من 61-75 ويستمر هذا الإقصاء حتى دخول الجبهة عام 81.

ولم يرد اسم جبهة التحرير الإرترية في الكتاب الذي يتألف من 172 صفحة إلا 16 مرة !! بينما ذُكِرَ اسم الجبهة الشعبية 255مرة مع أن الجبهة الشعبية لم يمضي عليها منذ تأسيسها حتى زمن انعقاد الندوة  ( 1979) إلا أربعة سنوات فقط !!!!

وهنا يحق لكل عاقل أن يتساءل : كيف تجاوز هؤلاء المؤرخون والباحثون وبالإجماع مرحلة النضال المرير الذي خاضته الحركة الوطنية في الأربعينيات من القرن الماضي ؟! وكيف يمكن تجاهل قوة بحجم جبهة التحرير رائدة النضال الإرتري وهي ما زالت وبقوة في الساحة وقت انعقاد الندوة ؟! وكيف نفسر تجاهل نضال الشعب الإرتري الطويل والمرير وشطب 80 ألف من شهدائه أو يزيدون من قبل أناس ادعوا أنهم مؤرخون وسياسيون ومراقبون مهتمون بجميع مراحل النضال الإرتري ؟! كيف ؟ وكيف … وكيف ؟ .

إن الإجابة نجدها في بحوثهم ، وهي بكل بساطة أن تاريخ الكفاح الإرتري الحقيقي يبدأ في نظر هؤلاء الباحثين بميلاد الجبهة الشعبية ، أما ما قبل ذلك فهي مرحلة كما يصفها فرانسوا هوتار بكل وقاحة فاشلة نظرا للأخطاء الفادحة ، والعيوب القاتلة التي ارتكبتها قيادة جبهة التحرير الإقطاعية !!. ينظر ، وراء الحرب في إرتريا ص : 116.

وجيرارد شاليان الذي عنون بحثه بـ ” نضال العصابات ” لم يأتي إطلاقا علي ذكر جبهة التحرير ولا علي حرب العصابات المريرة التي خاضتها بل نجده يحدد فترة حرب العصابات في النضال الإرتري بالفترة الواقعة ما بين 1975و1977 . ينظر ، ص : 60 .

أما زميله دان كونيل فكان أكثر إجحافا عندما قال : ( وخلال الأعوام الثلاثة من 1974 إلي 1977 سيطر الإرتريون عبر الجبهة الشعبية أساسا علي مجمل الريف البالغ 42 ألف ميل مربع والمدن والبلدات كلها ما عدا خمس منها !! ص : 66.

حتى ماري داينز في بحثها المعنون بـ ” الإرهاب الأحمر الإثيوبي ”  لم تمر ولو مرور الكرام كما كان مفترضا حسب عنوان بحثها علي ذكر عشرات المذابح التي حدثت قبل 1975 إذ نجدها اختزلت كل الإرهاب الذي تعرض له الشعب الإرتري في ممارسات لجان الأحياء ” القبلي ” في المرتفعات !!!

أما فرانسوا هوتار الذي قدم بحثه تحت عنوان ” الثورة الاجتماعية في إرتريا ” نجده قد أعطي مساحة واسعة من بحثه للوضع الاجتماعي الإرتري التقليدي قبل الاستعمار الإيطالي ، ثم فترة الاستعمار الإيطالي والإنجليزي ولكنه أهمل وبصورة متعمدة الثورة الاجتماعية التي قادتها الحركة الوطنية ، إذ نجده قفز مباشرة إلي العام 1970 وهو العام الذي يسميه بعام ولادة الجبهة الشعبية ، (ص:115) ويقول في نفس الصفحة : ( إن النضال أصبح بولادة الجبهة الشعبية محددا بوضوح كـ ” وطني ” و ” ديمقراطي ” ) !! وفي مكان آخر يتهم زعماء الرابطة الإسلامية بالخيانة ويصفهم بالإقطاعيين البرجوازيين ساوموا في قضايا مصيرية في لحظات حاسمة من النضال الاستقلالي . ص : 111 .

والكثير من الأحداث التي استشهد بها هؤلاء الكتاب حُرفت وقُلبت رأسا علي عقب بطريقة تدعوا إلي الأسى ، فالكتب العربية التي أحرقها نظام هيل سلاسي ومنها علي سبيل المثال الحادثة الشهيرة والتي تمثلت في إحراق الكتب المدرسية التي ا ستوردها الأستاذ سعيد سفاف من مصر حُرفت إلي كتب باللغة التجرنية !! . ينظر ، فرانسوا هوتار ، ص : 112.

حتى السيد برخت هبت سلاسي الذي قدم بحثه تحت عنوان ( من الحكم البريطاني إلي الاتحاد والضم ) لم يأتي كما كان متوقعا علي ذكر الحركة الوطنية ورموزها ونضالاتهم الرائعة ، وإن فعل ذلك مرة واحدة وعلي استحياء وفي سطرين اثنين نجده وقد اختزل كل النضالات في شخص ولدآب ولد ماريام الذي لعب الدور الحاسم ليس في انبثاق الحركة الوطنية فحسب بل في المرحلة اللاحقة من النضال الإرتري كما يقول . ينظر ص : 43.

والراحل ولدآب وغيره من الوطنيين الشرفاء لا ينكر دورهم إلا أن الطريقة الانتقائية غير المبررة التي سلكها السيد برخت والتي تتعالى منها رائحة التبخيس النتنة هي للأسف السمة الشائعة التي تميز كتابات إخواننا المثقفين من المسيحيين اليوم .

هذا قليل جدا من كثير جدا ، وما علي القارئ الكريم إلا أن يرجع إلي هذه الكتابات وما أكثرها ليكتشف ضخامة المأساة .

إنني أوجه ندائي إلي كل أبناء إرتريا البررة مسلمين ومسيحيين إلي الاستفادة من دروس التاريخ ، والتخلص من أغلال الشك والتبخيس المشوب بالحقد الذي تزرعه وترعاه الشرزمة الحاكمة لإفساد ضمائرنا وعقولنا ، وتشويه وجه حياتنا وقيمنا الحضارية ، وعطاءاتنا التاريخية ، والعمل بجد وإخلاص علي غسل كل المساحيق التي شوهت وتشوه ماضينا وحاضرنا ، والعض بالنواجذ علي كل ما من شأنه أن يحافظ علي وحدتنا ، ويساهم علي تقوية عرى تعايشنا وتآخينا الأبدي ويضمن مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة ، مستقبل زاهر قائم علي التلاحم لا التصادم ، والإخاء لا العداء ، وفقا لتقاليدنا العريقة ، القائمة علي التآخي والتسامح والاحترام المتبادل .

 


 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=5819

نشرت بواسطة في ديسمبر 9 2004 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010