هل اللغة العربية شريك أم أصيل

بقلم:  أبو فايد  

قرأت مقالا للأخ الفاضل / متكل أبيت نالاي تحت عنوان ( موقف الحركة الديمقراطية لتحرير إرتريا من اللغات الإرترية والدين ) ورغم إنني لم أفاجئ بتلك الأطروحات التي تدين بها الحركة وآخرون مثلها لمتابعتي اللصيقة لكتاباتهم ، ومناقشاتي المستمرة مع مثقفيهم إلا أنني أعتقد جازما أن الكثيرين من المثقفين الإرتريين إن لم نقل أكثرهم لم يتح لهم الاطلاع علي هذه الأفكار ، وهنا تكمن أهمية مثل هذه الكتابات ، فشكرا للأخ الفاضل / نالاي وليته استمر .

وأنا هنا لا أريد أن أستعرض تاريخ اللغة العربية في إرتريا ، ولا تاريخ نضالات الشعب الإرتري الذي ارتبط منذ بواكير ظهوره بهذه اللغة ليصنع بها ومعها هذا الوطن الذي نسميه إرتريا ،كرد علي أباطيل الحركة، ولكنني أحببت أن أوضح ولو قليلا بغض النظر عن الأصل العربي للشعب الإرتري الذي أُومن به موقع العربية من مكونات الهوية الإرترية .

إن أرضية الوفاق كما يراها هؤلاء الديمقراطيون تُعالَج في اعتبار اللغة العربية لغة دينية ، وكشريك ثقافي لشعبنا ، بينما الحقيقة التي نؤمن بها ونود أن يدركوها هي : أن العربية أصل سبقت الدين ، أي : ليست شريكا ولا مكسبا تُصَرَّف في فعل :  تَحَصَّل ، بل تُصَرَّف في فعل : وُجد ، لأنها بكل بساطة وجودنا .

إنَّ خطأ الأرضية التي ينطلق منها هؤلاء الديمقراطيون الطيبون ومن يدين بأفكارهم لا يكمن في العمق ، بل في تناول مفهوم خاطئ يتمثل في الخلط بين الوجود والحصول ، فالمُحَصَّل والمُكتسَب يمكن الاستغناء عنه أو استبداله ، بينما الوجود غير قابل للاستغناء عنه .

أما الهدف من بعض المسميات والحجج العقيمة التي ساقها الديمقراطيون وألبسوها لباس الموضوعية والعلمية لتبدو مجردة من سوء النية كرفضهم إلصاق صفة الوطنية بالعربية والتجرنية دون غيرهما فبين واضح تفوح منه رائحة مشروع (هقدف )، ولو نظرنا إلي مقولة الوطنية دون أن نقفز فوق الحقائق التاريخية والواقعية قفزا سنجد أن هذه الصفة أُلحقت بالموصوف في ظروف وملابسات استثنائية معروفة كجواب عن سؤال مفاده : ماهي اللغة أو اللغات الرسمية في إرتريا ؟ الجواب هو : هما اللغتان الوطنيتان العربية والتجرنية ، فوصفهما بالوطنيتين ينفي سيادة الأجنبية ويفيد التأكيد علي خيار الشعب الإرتري وانتصار إرادته الذي كان يراد له التمهير أو علي الأقل فرض الأمهرية كضرة للعربية والتجرنية ! ولا يفيد بأي حال من الأحوال التخصيص أو الحصر ، فالشعب الإرتري أحد الشعوب القليلة الذي  انتصر علي نفسه أولا ، وعلي أعدائه ثانيا ، إذ كثير من الشعوب لا زالت تعيش حتى يومنا هذا بذاكرة غير ذاكرتها لاختلافها في اختيار لغة أو لغتين من لغاتها الوطنية وهنا تكمن عظمة هذا الشعب .

إن من السخرية أن تعلن الحركة الديمقراطية ( رفضها وبشدة القهر الذي يمارس باسم اللغة العربية ) ولولا معرفتي المسبقة بمثل هذه الرؤى المقلوبة ، لحمَّلت خطأ كتابة لفظة العربية بدل التجرنية لأخينا ” نالاي “، ويظهر الوجه الحقيقي لهؤلاء الذين يريدون إشعال نار فظيعة ببعض الأغصان الميتة عندما ينسجون أفكارا هدامة ثم يرموننا بها بهتانا وزورا كقولهم مثلا : ( والأسوأ من ذلك يطرحون بأن في إرتريا ثقافتان ـ الثقافة العربية والإسلامية وتعني المسلمين ، والثقافة التجرنية وتعني المسيحيين ) يا لهذا المنطق !! هم أنفسهم من يصف العربية بلغة الدين ، ثم يضربون بعصا الطائفية كل من تمسك بوعاء ذلك الدين  ثم إن هذه الفرية مردودة لسببين بسيطين وهما :

أولاً : نحن نعرف ما تمثله لغتنا التجرنية بغض النظر عن القطاع الكبير من المسلمين الذين يتحدثون بها كلغة أم ، ولعل في دفاع أجدادنا وآباؤنا المستميت عنها مع أختها العربية رغم رفض الآخرين العربية ما يغني عن أي كلام . 

ثانيا : إننا نعرف الدور البارز الذي لعبته العربية في إثراء أختها التجرنية ، وفي النهضة التشريعية في الميدانين المدني والكنسي ، بطريق مباشر أوعن طريق الجعزية ، وأبلغ مثال علي ذلك كتاب (المجموع الصفوي) لصفي الدين بن العسال الذي يعتبر الأساس الأول للحياة المدنية والدينية لدى المسيحيين حتى اليوم ، وهو كتاب ضخم جمعه صاحبه كما يقول في مقدمته من مختلف المذاهب الإسلامية ليكون قانونا يسير عليه المسيحي ، وهذا مثال بسيط وعلي الأخوة في الحركة الديمقراطية أن يرجعوا إلي التراث الديني والأدبي للكنيسة الإرترية ليٌقدروا من خلاله ما قدمته العربية من خزائنها التي لا تنضب لهذا التراث ، وليكتشفوا تعانق اللغتين وتكاتفهما في صنع ذلك التراث .  

 إن إخواننا الذين يشاركوننا همّ الوطن عليهم أولا أن يدركوا الأمور التالية : –   

1- اللغة العربية في إرتريا أصيلة أصالة المواطن الإرتري أصالة العفرية والساهو والبلين ..أصالة جبل قدم ، وليست شريك أبدا يمكن الاستغناء عنه .

2- إنَّ اللغة العربية هي وجودنا ، ذاكرتنا ، امتدادنا التاريخي ، استمراريتنا عبر العصور ، إنها الخيط الذي يربطنا ويربط أطفالنا بماضيهم البعيد والقريب ، لذلك فإن العربية ليست عنصرا من بين العناصر التي تُكون الشخصية الإرترية في مظاهرها الثقافية والحضارية بل هي العمود الفقري القاعدي .

3- لا تنبع المكانة السامية التي تحتلها اللغة العربية في وجدان الإرتري من كونها لغة دين فحسب كما يحلوا للديمقراطيين ومن علي شاكلتهم أن يصفوها ، بل لكونها لغة حضارة عريقة نحن جزء منها ، ارتبطنا بها ، ونهلنا من معينها ، وساهمنا في بناء صرحها . 

4- إن اللغة العربية إرترية لحما ودما ، وليس لكلمة (عرب ) مفهوم عرقي ، فهي تعني أهل البداوة أو الرُّحل من غير سكان المدن ، إذا فهي ليست صفة خاصة بأهل الجزيرة أو علي وجه التخصيص أهل نجد والحجاز فقط ، بل هي صفة تعم كل الأقوام البادية ، تماما كما نفهمها اليوم في بعض لغاتنا ، وكما كانت وتكون في بقية اللغات السامية بما فيها العربية ، ولم تحدد بإطلاقها علي أهل الجزيرة العربية عموما إلا بظهور الإسلام وانتشاره وقيام الدولة الإسلامية الكبرى التي أسسها أهل الجزيرة بفتوحاتهم .

5- إنَّ من يقول إن اللغة العربية دخيلة أو شريك يمكن الاستغناء عنه ، فإنه يحكم بذلك علي التراث الإرتري برمته ، فالجعزية أيضا دخيلة !! والتجرية والتجرنية اللتان اشتقتا من الجعزية أيضا دخيلتان !! وحتى الرسم الجعزي ( المسند ) أيضا دخيل ، والعفرية والساهو دخيلتان لأنهما حاميتين والحاميون أصلهم من جزيرة العرب !! ماذا تبقي ؟ الجبال والوديان ، كذلك أسماء هذه الجبال والوديان واسم كل ناطق وصامت في إرتريا دخيل !!!

وليس ثمة ريب في أن التراث الإرتري بكل سماته الحضارية والثقافية أصيل أصالة جبل “قدم” كما أنه كغيره من تراث الشعوب وليد تراكمات وتجارب أجيال متعاقبة عبر تفاعلاتها التاريخية ، فمن ينكر أن اللغة الفينيقية في شمال إفريقيا كانت شبيهة إلي حد التطابق للتجرية والتجرنية ؟ من يجهل أن اللغة الأكدية والتي عرفناها في عاديات بابل وأشور كانت شقيقة وتوأمة للتجرية ؟من لا يعرف أن رقصة الشليل ، والوردي ، ولالي ، من مكونات الفلكلور الخليجي ؟ فهل فينا من يقول إن الشليل والوردي ولالي وحتى الربابة والواطة دخيل ؟!! وهل من بيننا من يقول إن ما خلفه لنا الأجداد من تراث عظيم كنقوشات مطرة ، وقيحيتو العظيمة ، وكسكسي ودبدب ويحا نقوشات يمنية لأنها كتبت بالسبئية وبالحرف المسند (الجعزي) ؟!! فالسبئية سبئية حين تكلم بها السبئيون ، وإرترية حين نطق بها الإرتريون ، ثم لا يعنينا أكان السبئيون إرتريين أو يمنيين ، أو أنهم سبئيون إرتريون .

إنني لا أستطيع أن أتصور الشعب الإرتري إلا من خلال هذا التراث الحضاري والثقافي بكل ما يحويه من تراكمات مادية ومعنوية ، المعتقدات ، الفن ، القيم الأخلاقية …الخ كما لا ينبغي تصور هذا التراث إلا من خلال مادته التي عبرت عنه وورثته للأجيال عبر القرون ، والتي كانت اللغة العربية في جذورها وامتدادها إحدى أهم مواده .    

6- لقد قدَّم الشعب الإرتري لغته العربية علي بقية أخواتها الساهو والبلين والتجري والعفرية ….الخ منذ أربعة عشر قرنا من الزمان أو يزيد ، وعرف كيف يحميها من أعدائها طيلة خمسة قرون عاشها محنة البقاء ، وهو اليوم أكثر استعدادا لأن يناضل خمسة قرون أخري ضد كل أحمق أو حاقد يحاول أن يحول دون خياراته الحضارية ، أو طمس ذاكرته الجمعية .

7- إن لإرتريا لغتين رسميتين لا ينبغي أن تعلو واحدة منهما علي الأخرى بإرادة سياسية ، وتان اللغتان هما العربية وأختها التجرنية ، وإن تسييد التجرنية وحدها فوق أختها العربية يطعن في صدق مبدأ المواطنة الإرترية ، وهذه الثنائية البعيدة عن المدلولات الهامشية للانتماءات العرقية ، وغير المتعارضة مع أحادية الهوية الإرترية بمعناها الثقافي العام ، هي بالنسبة للشعب الإرتري وجود وليست مكاسب يمكن استبدالها أو التخلي عنها .   

أما أولئك الذين يتشدقون بالترهات المتطرفة ضد لغتنا ا لعربية ، فإنهم ينشرون خرافات سامة ، والأساس في هذه الخرافات هو في الحقيقة نابع من إرث الكنيسة والاستعمار ، وهذه النزعة المتطرفة تنبعث من حين لأخر وبشكل وآخر مرة على لسان حزب ، ومرة على لسان وزير ، ومرة على لسان رئيس ، وأخرى على لسان متسلق متملق ، وباختصار فقد أصبحت مسألة اللغة العربية في إرتريا كهذا الخان الإسباني الذي يلغ فيه كل كلب يريد قضاء حاجته ، أو كقميص عثمان يلبسه كل برمكي شعوبي يريد أن يتاجر بها في غفلة من أهلها ، أو يخلعه ويبخسه كل مصاب بعقدة ( اسلامفوبيا )، وربما هذا هو السر في أن نجد في سوق العربية كل هذا الخليط من الزبائن ، من منظري الاستعمار الإيطالي فالإنجليزي والإثيوبي مرورا بدهاقنة حزب الوحدة ( الأندنت ) العنصري وحتى حزب       ( هقدف ) الطائفي الشوفيني المطعم بالعناصر الشعوبية من لم تمت لديهم حرفة أسلافهم المداحين .

ومن المحزن أن تتناسى وتتجاهل كل هذه الأطراف أن أفكارهم المعادية للغة العربية ما كانت لتصل مسامع الإرتريين لو لم يٌودعوها اللغة التي يعادون !! فهيل سلاسي وأداته عناصر حزب الوحدة مثلا وكلهم عرفوا بعدائهم الشديد للغة العربية كانوا هم أيضا يكيلون للعربية وبلسان عربي مبين ، فجرائد مثل جريدة الإمبراطورية المدعومة من إثيوبيا ، وجريدة الاتحاد ، والجريدة الإثيوبية والأخيرتين لحزب الوحدة ما كانت تصدر إلا بالعربية .

وفي الحقيقة لا يختلف أولئك السابقون المتشربون بالأفكار العنصرية الهدامة عن هؤلاء الحاضرين الذين يكوِّنون لأنفسهم أفكارا ضيقة مغلوطة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها أفكار متحفية بالية تجاوزها الشعب الإرتري في الأربعينيات من القرن الماضي .

والكثيرون من إخواننا المسيحيين المثقفين الذين ناقشتهم في مسألة اللغة غالبا ما يظهرون اللطف أو هو الخبث إذ يؤكدون على أهمية اللغة العربية ولكنها كلغة أجنبية دخيلة ، حتى أولئك الذين يمكن وصفهم بطيِّبي النية لم يتحرروا بعد من عقدة كره العربية ، ومن المفيد أن نذكر هنا أن أسياس أفورقي وبمناسبة الذكرى التاسعة والعشرين للثورة الإرترية وضمن إجابته على أسئلة الشعب والمقاتلين أكد على ضرورة نشر اللغة العربية في المجتمع الإرتري ، بل وذهب أبعد من ذلك حين قال : ( إن مشكلة العربية في إرتريا مشكلة فنية ، ولا يمكن حلها إلا من خلال التعليم الذي يتطلب مدرسين أكْفاء ومتمكنين من اللغة العربية ) وبالرغم من المدائح المنمقة التي أصبغها الطبالون والطفيليون على شخص أفورقي حينها ، فإننا نتساءل : هل أعطيت اللغة العربية الفرصة في ميدان التعليم ؟ وهل إرادة الشعب الإرتري ضد التعليم بلغته العربية ؟ وكم عدد المدارس التي تعلم بالعربية بعد أن أعلن مسؤول التعليم الإرتري عام 1999 م السيد ود قرهتو تحويل 70% منها قسرا إلى ما يسمى لغة الأم ؟ وكم صحيفة تصدر باللغة العربية ؟ .

نفس هذه الأسئلة انهالت على مسؤول التعليم الإرتري الآنف الذكر من قبل أساتذة ومثقفين وإعلاميين وتربويين إرتريين في ملتقى حوار نظمته وأشرفت عليه وزارة التعليم الإرترية ، فعقب عليها كلها بقوله : ( كانت معظم الأسئلة التي وردت ذات طابع سياسي لأنها كانت مربوطة باللغة العربية ) .

أي والله !!! لقد كانت مشكلة اللغة العربية مشكلة فنية بالأمس القريب حسب كلام سيادة الرئيس ، واليوم أصبح الكلام فيها مشكلة سياسية حسب كلام السيد ( ود قرهتو ) ، وربما يصبح غدا جريمة يعاقب عليها القانون حسب ما يعدنا به الديمقراطيون المزعومون في الحركة الديمقراطية .

والحركة الديمقراطية لم تأت بجديد ، فتبخيس العربية بوصفها لغة دين أحيانا ولغة دخيلة غريبة أحيانا أخرى سبقها إليها منظرو الإدارات الاستعمارية ورموز حزب الوحدة ، وما زال يرددها عناصر ( هقدف ) وحتى الطفيليون البرامكة والشعوبيون الذين يدينون لهذه اللغة بجمع أموال طائلة من الأسواق العربية حينا ومن سوق النخاسة الذي باعوا فيه العربية لأسياس وأعوانه بثمن بخس أحيانا أخرى ، ألم يصف أحد هؤلاء خريجي الجامعات العربية بالمؤذنين ؟!! .

إن مثل هذه الأفكار غير النبيلة هي عين الأفكار التي لجأ إليها الاستعمار بأنواعه إزاء موقف الشعب الإرتري المشرف في الذود عن مقوماته الثقافية وخياراته الحضارية ، إذ بدأ الاستعمار يروج  منذ أن وطأت قدماه إرتريا لأفكار اخترعها ومشروعات نسج خيوطها في الظلام ، كانت بدايتها التشكيك في أصالة اللغة العربية في إرتريا ووسمها بلغة الدين ، ومدارسها بالمدارس القرآنية لعزلها عن الحياة العامة ، وابتداع ما اسماه ( لغة الأم ) لتحل محل العربية ، بل وصل به الأمر إلى ترويج فكرة ما أسماه “غرينفيلد” ( المؤامرة السامية ) !! .

إن غالبية الأخطاء التي تدين بها عناصر الحركة الديمقراطية وآخرون غيرهم ناجمة حتما عن الأحكام المسبقة ، والجهل أو التجاهل لمكونات روح الهوية الإرترية ، وكذلك عن مجموعة الأفكار الاستعمارية الهدامة التي لا تزال يغرق بها الكثير من الباحثين والمثقفين .

ولكن هذه الضلالات لا تساعد بوجه خاص على تبديد ظلمات الظلم والاستبداد الذي تعيشه إرتريا اليوم ، ولا في أن يعيش الشعب الإرتري موحدا ومتطورا في سلام ووئام ومحبة كما تنشد ذلك الحركة الديمقراطية وكل وطني غيور .

إن تطوير ما يسمى (لغة الأم) الذي تتشدق به الحركة الديمقراطية حق أريد به باطل ، وليت هذا المشروع يكون نابعا من إرادة إرترية ، فهو مشروع استعماري كان الغرض منه صرع اللغة العربية التي حالت دون ذوبان المجتمع الإرتري في الثقافة والروح الاستعماريتين ، ولتكريس نوعا من الانفصام في الشخصية الثقافية الإرترية ضمن محاولة التفرقة الدائمة (  فرق تسد ) التي تبناها الاستعمار ، فكما نعلم جميعا الاستعمار الإيطالي هو أول من قال بتطوير اللغات المحلية ، وتقسيم الشعب الإرتري في إطار هذا المفهوم إلى عدة قوميات ، ومثل هذه المحاولات المشهورة في تاريخنا الحديث ، ليست إلا مدخلا مشهورا للإطار العام الذي سعى إليه الاستعمار في تفتيت الوحدة الوطنية والقومية بمعناها الثقافي العام ، لأن التنوع لا يعني التعدد ، ولا يعني الصراع والتمزيق للوحدة الثقافية الإرترية في جذورها وامتدادها ، وتتجلي لنا الأهداف الكامنة من وراء هذا الطرح عندما نطرح السؤال التالي : لماذا هذا التطابق والانسجام بين الرؤى الخارجية (الاستعمارية ) والداخلية (الإرترية) حول هذا المشروع لو لم تتبنى الجهات الإرترية المسؤولة تحويل المشروع الاستعماري لصالحها وتوظيفه لاستراتيجيتها القائمة علي تجرنة المجتمع وتهميش اللغة العربية  ؟ آخذين في الحسبان أن الأهداف الاستعمارية من وراء ذلك المشروع قد تم الكشف عنها عن طريق الوثائق السرية التي تم نشرها من قبل الاستعمار نفسه !! .

وهذا الاستنتاج ليس جزافا ، فالمؤرخون وعلماء الاجتماع أجمعوا علي أن القومية بوجه عام لا تتوطد علي يد الشعوب نفسها بقدر ما تتوطد علي يد الزمر الحاكمة التي تدين بثقافة القرون الوسطي ، ويوضح المستشرق الألماني ( كولمان ) ذلك بقوله : ( عندما تصل طبقة أو فئة من الناس إلي مواقع النفوذ أو السلطة السياسية ، فإن أي اتجاه نحو تكتل أوسع يمكن أن تنظر إليه تلك الفئة علي أنه تهديد لوضعها المميز ) .                                      

إن كل المحاولات التي تهدف إلى إيجاد كيانات ثقافية متناحرة ترتبط بشبهات تاريخية ، أو طائفيات ذات أغراض مفهومة ، ويظل مفهوم الوحدة الوطنية مفهوما ثقافيا علي الساحة الإرترية ، وتظل محاولة تفتيتها عملا من أعمال الاستلاب الثقافي والإلحاق القسري ، تولى التنظير لها الخطاب المقنع بالخصوصية الوطنية الذي تحكمه آليات الفكر الاستعماري الذي يعتمد علي منهج التفكيك والتجزئة مع إبراز الخصوصية لكل كيان ضمن فضاء ثقافي ومعرفي ودلالي خاص ، أي ضمن قوالب مشروع الطلينة أو الأمهرة أو التجرنة .

ومن الإصرار علي الذنب والإيغال في المخادعة، أن تتحدث الحركة الديمقراطية وآخرون غيرها عن الظلم الذي وقع علي لغة التجري بفعل التجري البلهاء أنفسهم ، وعن عقوق البلين للغة أمهم البليناوية القحة ، وعن الساهو الذين تنكروا للغتهم السهاوية التي رضعوا من ثديها ، وأن يتباكوا علي ضياع ثقافتنا وتراثنا وعاداتنا ، وأن يُنصِّبوا أنفسهم أوصياء علينا جميعا ليعلمونا من بروجهم العاجية هذا صح وهذا خطأ ، بحجة إبراز أصالتنا ، وبعث خصوصيتنا ، والحق أن هذا العزف علي العواطف إنما هو تستر علي مأساة تُقترف ، أو مخدر يعطل الإحساس بالمأساة التي تباشر اليوم من قبل (هقدف ) ضد تراثنا كله ، فالخصوصية الإرترية لا يمكن تذوقها إلا في إطار اللغة العربية ، فهي التي أعطت لهذه الخصوصية طعمها ونكهتها المتميزة ، وهي التي أمدَّت شرايينها بالحياة ، وأعطتها روح التفاعل والبقاء .

إن من المسلي أن نتلقى دروسا في الوطنية وفي خصوصياتنا الثقافية وخياراتنا الحضارية من أولئك المهووسون باستعادة الاعتبار ، ومن أناس يعانون من عقدة الفوقية ، وآخرون يلعبون دور مِشعل البارود ، ولهؤلاء كلهم نقول وبكل بساطة ” نحن لا نعطيكم النصائح في كيفية شرح ما تمثله التجرنية من بعد ثقافي واجتماعي ونفسي ، وفي نفس الوقت ننتظر منكم أيضا ألا تعلمونا كيف نعبر عن تراثنا ، وكيف نفسر تاريخ اللغة العربية وأصالتها وامتزاجها بتفكيرنا ومداركنا وتشكيلها قيمنا وثقافتنا .  

إن من المؤسف حقا أن نجد أولئك الذين سموا أنفسهم بالديمقراطيين ـ والذين يصبون جام غضبهم علي الاستعمار لمحاربته لغاتنا وثقافتنا ـ يرتكبون هم أنفسهم الخطأ نفسه وعلي الطريقة نفسها .

إننا ندعو هؤلاء الديمقراطيين أصحاب المشاريع الوطنية ، أن يتحرروا من عقدة الشك والتعالي والعصبية الذميمة ، وأن ينزلوا من أبراجهم العاجية ، ليعانقوا بأنفسهم روح الحقيقة في التاريخ والواقع الإرتري بدل تبني أطروحات الاستعمار المغرضة ، وأن يترسموا خطى الآباء والأجداد العظماء الذين تركونا علي المحجة ، حينها لا نطالبهم أن يتذوقوا شعر الشهيد أحمد سعد ، لكننا نطالبهم أن يتسربلوا برداء الوطنية الناصع علَّهم يقولوا علي الأقل ما قاله ” ماتينزو ” ( وجدت أن اللغتين العربية والتجرنية راسختان وثابتتان في البلاد ، وهم يتعلمون العربية ، وتؤلف لسانا مشتركا بين قطاعات السكان المسلمين ، يتفاهمون بها رغم اختلاف لغاتهم ، وليس لهم بديل آخر لها ) .

إن علي إخواننا وشركائنا في الوطن ، ومن غير أن يستعيروا كلمة (فيستا ) أحد رواد الاستعمار الإيطالي ، والمدير العام للمدارس الابتدائية بإرتريا ( المواطنون يثمنون عاليا التدريس بلغات الأم ) كما استعارها ورددها بزهو مسؤول التعليم الإرتري ” ود قرهتو ” وهو يعدد إنجازاته في تجفيف منابع اللغة العربية قائلا :  ( المواطنون وعوا التعليم بلغة الأم ) ، أقول عليهم أن ينظروا إلي أعماق نفسية الشعب الإرتري وأن يغوصوا في بحر موروثاته الأكثر تأصلا في ذاته وكيانه حين يبحثون عن الهوية الإرترية ، فنحن في الحقيقة لا ينقصنا اليوم نفوس طيبة تعلمنا الدروس في الوطنية أو تقول لنا ” إن أول ما تفعلونه هو أن تٌحيُوا لغاتكم وتحبونها ” !!!

ونحن إذ نقول ذلك لسنا متأثرين بأي عقدة ، لا عقدة تعال ولا عقدة نقص ، بل بعقدة الديمقراطية والمساواة وحب الوطن وربما هونج كونج لكن الشعب وليس لمعان الأرض .

                                 وكل عام وأنتم بخير

                                                                                   أبو فايد

abofaieda@yahoo.com


 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=5822

نشرت بواسطة في نوفمبر 21 2004 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010