هل نحتاج إلى ثنائية جديدة

                    بقلم / خليفة عثمان

 

على الرغم من مضي شهور عدة على انعقاد المؤتمر الثاني للتحالف الديمقراطي الإرتري، إلا أن وقائعه ونتائجه ما تزال مثار نقاش وجدال. فأثار الصدمة التي أحدثها انقسام التحالف لما تزل غائرة في النفوس، ولا سيما لدى أولئك الذي يرون في وحدة المعارضة شرطًا أساسيًّا لمواجهة النظام الديكتاتوري بفعالية ومن ثم تخليص الشعب من شروره. ولقد كانت الصدمة أكبر والألم أعمق إذ جاء الفشل حيث كان ينتظر النجاح، ولذلك أيضًا يأبى النقاش حول الحدث الفاجعة أن يتوقف!  

 

كانت بداية المؤتمر بالفعل مبشرة، بعد أن تم الاتفاق على تعديل المادتين الثالثة والرابعة اللتين ثار حولهما الجدل، منذ أن تبناهما الاجتماع الدوري الرابع للتحالف، حيث خشي البعض من أن يؤديا إلى تقسيم الشعب الإرتري على أساس طائفي وتفتيت البلاد على أسس قومية. كما استغل آخرون هاتين المادتين لإثارة النعرات الطائفية والإثنية بحملات تشويه للتحالف وإقحام لجبهة التحرير الإرترية والتجني على تاريخها!  وقد دلت السرعة التي تم بها تعديل المادتين على تحلي الجميع بالمسؤولية ولاسيما أولئك الذين كانوا يصرون في السابق على بقائهما دون تعديل. 

 

بعد ذلك لم يتصور أحد أن يكون ثمة ما يعترض طريق المؤتمر من تحقيق النجاح الباهر المتوقع، ومن ثم انطلاق التحالف بقوة لحشد الجماهير الإرترية خلفه، ومن البروز كممثل غير منازع للنضال الذي يخوضه شعبنا لإحلال نظام ديمقراطي محل النظام الديكتاتوري القائم الذي حول حياته إلى جحيم لا يطاق.  

 

لم تسر الأمور، وللأسف، على هذا النحو، فلقد اختلف المؤتمرون وعجزوا عن حل خلافاتهم بما يحفظ وحدتهم. ولم يكن الخلاف الذي تمزقت عليه وحدة التحالف سوى منصب الرئاسة !! فكانت صدمة لا تحتمل. كانت تعليقات المواطنين التي ولّدتها الصدمة تقطر ألمًا وحزناً وتعبر عن فقدان الثقة في تنظيمات المعارضة كافة.

 

ومع ذلك فثمة أسئلة ظلت منذ ذلك الحين متداولة، تستحق الوقوف عندها!

 

–       ما هي الصلاحيات الخطيرة التي يتمتع بها رئيس التحالف والمزايا التي يجنيها حتى يتصارع الجانبان حول ذلك المنصب لدرجة أن يسقط التحالف نفسه صريعًا ؟!

–       لماذا لم يؤجل المؤتمر إلى موعد آخر، بعد أن استفحل الخلاف – حتى تكون هناك فسحة من الوقت للتشاور بهدوء وبعد نظر وصولاً إلى الحل الذي يحفظ وحدة التحالف؟

–       بعد أن وصل المؤتمر إلى طريق مسدود، لماذا لم يعد ممثلو التنظيمات إلى تنظيماتهم لتجتمع قياداتها التنفيذية وحتى التشريعية – إن دعت الضرورة – للنظر في الأمر واتخاذ القرار المناسب من أعلى مستويات القيادة ؟ إذن هل كانت كل التنظيمات وبلا استثناء قد خولت ممثليها في الاجتماع الصلاحيات كافة، بما فيها شطر التحالف أو إنهاء وجوده دون الرجوع إليها. وإذا كان الأمر كذلك ألا يعني هذا بأن تنظيمات التحالف أو بالأحرى الكتلتين اللتين برزتا للوجود بعد انهيار التحالف لم يكونا يطيقان بعضهما وبأن التعايش كان قد أصبح مستحيلاً، فوجدتا الذريعة في الخلاف “غير المبدئي” الذي حدث لفك الارتباط بينهما دون تضييع للفرصة السانحة ؟!!

–       أليس في قاموس تنظيمات المعارضة الإرترية مقولة “الحل الوسط” التي يتخلى فيها كل جانب عن جزء من مطالبه لدرء الخطر الأكبر، ليلتقيا عند منتصف الطريق؟!

–       … وأخيرًا على أية مبادئ وسياسات تحالفت تنظيمات كل جانب ؟!! والتي تختلف حولها مع الجانب الآخر؟ .

 

هذه التساؤلات وغيرها كثير، طرحها الشارع الإرتري المعارض خلال الأزمة وما تلتها من أيام، ولقد ساق كل جانب من جانبي التحالف المبررات لمواقفه محملاً الجانب الآخر أسباب وتبعات ما حدث. ولكن، فيما يبدو، فإن قلة فقط اقتنعت بتلك التبريرات، بدليل أن قواعد التنظيمات المنقسمة أصدرت من مواقع مختلفة من العالم بيانات مشتركة تشجب وتستنكر ما حدث، وهي ظاهرة جديدة لم تألفها الساحة من قبل، حيث كان من المعهود أن تقف القواعد خلف قياداتها ملتزمة بكل قراراتها.

وهذه الظاهرة الجديدة التي خرقت فيها القواعد مبدأ التزام الجهات الدنيا بقرارات الجهات الأعلى في الهرم التنظيمي، دليل آخر على أن الحدث كان خطيراً جدًّا ومخيبًا لآمال الجميع، بمن فيهم قواعد تنظيمات التحالف نفسها !!

 

ومع ذلك فثمة أصوات استنكرت من جانبها ” هذه الضجة الكبرى” وذاك الغضب العارم، حيث لا ترى جديدًا في الأمر مرددة ” ألم يكن الانشقاق مآل كل وحدة أقدمت عليها تنظيماتنا، أليست هذه هي القاعدة والاستمرار فيها هو الاستثناء، ثم ماذا فعل التحالف في حياته حتى تذرف عليه كل هذه الدموع ساعة تشييعه إلى مثواه الأخير؟ ألم يهدر جل وقته وحتى الوداع الأخير في المشاحنات والتجاذبات.. هل تحول الجميع إلى دراويش وحدة يصرخون ويولولون على المرحوم الذي كان جسدًا بلا روح ؟!!

 

وقد عكست مثل هذه الآراء مقالات “الرثاء” و “الهجاء” التي ظهرت على صفحات الانترنت وفي الأحاديث والمناقشات التي كانت تجري حول أزمة التحالف. وإن كنت أعتقد بأنها كانت تعبيرًا عن الغضب والإحباط اللذين أصابا أصحابها من الحدث أكثر من كونها شماتة أو استخفافًا بالتحالف وقياداته، وذلك لإدراكهم بأن ما حدث كان بحق فاجعة كبرى ولن يعمل إن استمر الانقسام والتنافر والمشاحنات إلا على إطالة معاناة الشعب الذي يصطلي بنار الديكتاتورية، بمثل ما أطالت الانقسامات والصراعات بين التنظيمات الإرترية خلال مرحلة الكفاح المسلح، معاناته تحت نير الاستعمار.

 

أعتقد أن السؤال الذي يقفز إلى الأذهان قبل غيره هو لماذا تتكرر لدينا مثل هذه الوقائع والأحداث “غير المنطقية”، والتي غالبًا ما تنال من مصداقيتنا وإخلاصنا للأهداف التي نناضل في سبيلها.

ولكن قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال لنـر أولاً كيف كانت نضالاتنا من أجل الوحدة والتي ارتبطت دومًا بنضالاتنا من أجل حقوقنا.

 

بداية، لا يجب أن يغيب عن بالنا بأننا بلد من بلدان الجنوب متعدد الانتماءات الدينية والإثنية والثقافية… إلخ، وبأن تاريخنا المشترك كـ “مواطنين إرتريين” لم يبدأ إلا قبل ما يزيد عن المائة عام بقليل، وذلك بفعل الاستعمار الإيطالي الذي حل بمنطقتنا خلال التسابق الغربي المحموم لنهش الجسد الأفريقي، حيث أخذ كل نصيبه منه، مما استطاعت أن تطبق عليه أنيابه ومخالبه.

 

وحينما بدأت شعوب المستعمرات النضال من أجل استعادة أراضيها وحقوقها المسلوبة، أدركت بأن نجاحها يعتمد في الأساس على وحدتها والتي لن تتحقق إلا بكسر الحواجز وإزالة المعوقات التي تحول دونها، سواء تلك التي خلقها المستعمرون مستغلين التناقضات الثانوية بين مكوناتها أو تلك الناتجة عن النشأة “غير الطبيعية” لتلك الأوطان. ومن هنا صارت وحدة مكونات الشعب المستعمَر شرطًا ضروريًّا وأساسيًّا لتحقيق الهدف المنشود، ولم تكن تلك بالمهمة السهلة، حيث كانت في نفس الوقت، إعاقة قيام مثل تلك الوحدة وبكل الطرق، هو الشرط الضروري والأساسي لاستمرار المستعمر في حكم واستغلال مستعمراته. والصراع بين الجانبين كان دائمًا صراعًا حادًّا: بين شعب يمتلك الحق وإرادة التحرير ومغتصب يمتلك القوة والسلطة.

 

تُرى كيف كان إدراكنا في إرتريا لهذه الحقائق وكيف واجهنا تحدياتها ؟

 

نستطيع أن نقول بأن الانتلجنسيا التي قادت أول تحرك سياسي في إرتريا للمطالبة بحقوق الشعب، بعد اندحار الفاشية الإيطالية من بلادنا في مستهل الاربعينات، بدأت نشاطها مدركة لهذه الحقائق. ويدل على ذلك، حِرْصُ موسسي “محبر فقر هقر” (جمعية حب الوطن) على أن تكون قيادتهم من مسلمين ومسيحيين وبأعداد متساوية وذلك لوعيهم بأن عامل الاختلاف الديني هو الأكثر حساسية وخطورة وعرضة للاستغلال، في بلد يتوزع سكانه مناصفة بين الديانتين ويقع في منطقة ذات تاريخ طويل بالصراعات الدينية.

 

لاشك بأن تلك البداية ” الوحدوية” قد أقلقت دولة إثيوبيا الثيوقراطية المتحفزة لابتلاع إرتريا، فأسرعت في استغلال العامل الديني لبلوغ هدفها، حيث نجحت في التسلل بالوعد والوعيد إلى داخل “محبر فقري هقر” ومن ثم تمزيق وحدته وتحويله إلى منظمة داعية للوحدة معها، حيث أُضطر بعد ذلك المطالبون بالاستقلال على هجرها.

 

وقد اجتمع المنسحبون من تلك الجمعية – كما يذكر المرحوم ولدآب ولدي ماريام – وأقسموا على القرآن والإنجيل على أن يواصلوا نضالاتهم موحدين حتى تكون “إرتريا للإرتريين”.

 

ثم كان مؤتمر بيت قرقيس الذي أُجهض من قبل غلاة الوحدويين الذي كانوا يأتمرون بأمر رجل الاتصال الإثيوبي في إرتريا الكولونيل نقا. كان المؤتمر محاولة لإيجاد حل وسط بين الاستقلاليين والوحدويين حتى “لا يفترقوا”  وبعد اتخاذ القرار الفيدرالي رأى الجانبان بأن الوقت قد حان لطي صفحة الماضي بعقد مؤتمر للصلح تعهدا فيها بإخلاص لإنجاح إنفاذ القرار، ذلك القرار لم يكن بالنسبة لإثيوبيا إلا معبرًا لتحقيق هدفها الذي لم تحد عنه في جعل إرتريا مجرد إقليم من أقاليمها.

 

حكمت إثيوبيا إرتريا بالحديد والنار وطبقت فيها سياسة “فرق تسد” في أبشع صورها. ونتيجة ذلك كان اندلاع الثورة المسلحة. وفي الفترة التي ظهر في الساحة أكثر من تنظيم لم تتوقف محاولات توحيدها سواء بمبادرات من التنظيمات نفسها أو الأصدقاء أو من الجماهير التي أقلقتها الانقسامات والمواجهات المسلحة ولاسيما حينما تسيّد الساحة تنظيمان، جبهة التحرير الإرترية والجبهة الشعبية لتحرير إرتريا.  بيد أن كل المساعي كان مآلها الإخفاق أو الانتكاس بعد أن يلوح النجاح.  فكان أن انفردت الجبهة الشعبية بالساحة بقوة السلاح المدعوم من قوات الجبهة الشعبية لتحرير تقراي.

 

تواصلت مساعي الوحدة أيضًا بعد ذلك، بين التنظيمات التي نشأت من تمزق الجبهة وتلك التي خرجت من رحم قوات التحرير الشعبية والتي كانت جميعها مطاردة من الجبهة الشعبية حتى لا يكون لها موطئ قدم في الميدان، أي ميدان مواجهة المحتل في إرتريا!! وهنا أيضًا أخفقت المساعي جميعها. وحتى في تلك المرات التي تحققت فيها الوحدة، عادت لينفرط عقدها من جديد!

 

وبعد التحرير وحظر التنظيمات السياسية من قبل السلطة ومحاولة تنفيذ قرارها بقوة السلاح، كثفت التنظيمات المستهدفة جهودها لمواجهة ذلك عبر طريق توحيد صفوفها، ولم تكن النتيجة بأحسن من سابقاتها.

 

ولكن حينما بدا وكأن النظام قد أصابه مسٌّ من الجنون ولم تعد حروبه موجهة ضد التنظيمات المعارضة له فحسب، بل امتدت لتطال كل دول الجوار دون استثناء، بما فيها تلك التي تحالفت معه ومدت له يد العون في سبيل الانفراد بالساحة ثم بالسلطة. حينذاك تأكد للجميع بأنه يعرض البلاد إلى مخاطر أكبر ويقامر بالإنجاز الذي تحقق بتضحيات أجيال.  وهنا شعرت تنظيمات المعارضة بمدى خطورة الوضع ومدى المسؤولية الملقاة على عاتقها، فلبت نداء الوحدة الذي انطلق لإنقاذ الوطن، فكان ميلاد التجمع الوطني الإرتري الذي ضم ولأول مرة كل الفصائل المعارضة القائمة آنذاك.

 

ومع ذلك لم يكن البلوغ إلى ذلك الإنجاز بالعملية السهلة، فالمراد تحقيقه كان وحدة على برنامج حدٍّ أدنى مبني على ثوابت وطنية تحفظ وحدة الشعب وتكون أساسًا لنظام حكم ديمقراطي بعد سقوط النظام الديكتاتوري، بين قوى كانت فيما بين بعضها صراعات وصلت في بعض الأحيان حدَّ المواجهة المسلحة، وبين بعضها الآخر مرارات خلفتها المشاحنات و”نشر الغسيل” التي تحدث عندنا بعد كل انقسام، وتنافر ومناكفات بين تلك التي تقف في توجهاتها الإيديولوجية على طرفي نقيض. كانت واحدة من هذه كفيلة بنسف المشروع كما كان يحدث في السابق، لكن هذه المرة كان الأمر مختلفاً !!

 

لم يكن مسموحاً لقوى المعارضة في تلك الفترة العصيبة، أن تستمر غارقة في خلافاتها وأسيرة شكوكها والبلاد تحترق وثمرة نضالات أجيال في مهب الريح. كانت تعي بأنه لا يمكن أن يسمع لها صوت في ذلك الوقت أو يكون لها تأثير أن لم تتحد و تتحدث بصوت واحد. كان ذلك مطلب قواعدها ومطلب شعبها.

 

كانت البداية اجتماعاً عاماً عقد في شهر أغسطس 1998 ضمها جميعاً وتحديدًا تلك التنظيمات التي كان لها وجود في العاصمة السودانية. أصدر الاجتماع بياناً موقعاً من جميع التنظيمات المشاركة فيه – ما عدا واحداً – أبدت فيه قلقها من النزاع الإرتري _ الإثيوبي المسلح، وخطورته على وطننا خصوصًا  وعلى المنطقة بصفة عامة.

 

كان ذلك اللقاء نقلة نوعية في العلاقة بين تنظيمات المعارضة، مما شجع المجلس الثوري (الذي كان يحظى بالاحترام من قبل معظم التنظيمات والجماهير، وذلك قبل أن تنتقل إليه عدوى مرض الانقسام، وهو الذي كان يبدو قد اكتسب مناعة منه بصموده موحداً على مدى عشرين عاماً). تشجع المجلس الثوري بنجاح ذلك اللقاء للقيام بمبادرة لدعوة فصائل المعارضة الإرترية العاملة في ذلك الحين دون استثناء مهما كان حجمها وأيّاً كانت توجهاتها وأينما وجدت مراكزها، للتفاكر حول إقامة مظلة للعمل الموحد بينها.

 

لبت التنظيمات وبدون استثناء الدعوة وبعثت بممثليها حيث كانوا جميعاً – على ما أذكر- على مستوى القيادات التنفيذية لتنظيماتهم. كما أسلفنا، لم يكن سهلاً جمع هذه التنظيمات بالخلفيات التي تحدثنا عنها فكان المخاض عسيراً، ولكن أيضاً كان هناك إصرار ورغبة صادقة لإنجاز المهمة من قبل الجميع حيث كان الكل يدرك مدى خطورة الوضع الذي يعيش في ظله الوطن

بعد شهرين من النقاشات الجادة والحادة أحياناً ومن المشاورات، رأى التجمع الوطني النور، حيث عقدت التنظيمات الإرترية المعارضة كافة، مؤتمراً في السادس من فبراير 1999 أعلنت فيه قيام تجمع “القوى الوطنية الإرترية” والذي أعلن عنه رسمياًّ في اجتماع عام حضره جمهور إرتري غفير بجانب المدعوين والصحافة وذلك في 9/4/2007.

كان قيام التجمع الوطني حدثاً تاريخياًّ أثلج صدور المواطنين الذين إكتووا بنار انقسامات فصائل المعارضة وعجزها عن توحيد صفوفها. وقد تجلى ذلك في الطاقات الخلاقة التي فجرت الحدث والتي تمثلت في المبادرات التي قام بها المواطنون في العديد من بلدان الشتاب الإرتري، بإقامة لجان ”دعم التحالف الوطني الإرتري” وبالأراء والمقترحات البناءة التي تدفقت والهادفة لقيام “تجمع وطني” راسخ الأقدام ومحصناً ضد كل أمراض الساحة المزمنة! لقد عشنا جميعاً تلك الأيام المجيدة، حيث بعثت الآمال بقرب الخلاص…!! ولم لا ألم يتحقق الحلم الذي بدا لزمن طويل مستحيل التحقيق!!.

 

مع ذلك لم تخل مسيرة التجمع الوطني (التحالف الوطني، التحالف الديمقراطي) وهي الأسماء التي اتخذها التجمع لنفسه في المراحل المختلفة لمسيرته، من نواقص وأخطاء.

 

لم يكن قد مر وقت طويل على قيامه حينما ظهرت أولى الثغرات في لائحته، وذلك حينما وجد نفسه فجأة أمام تنظيمات جديدة لم يكن لها وجود ساعة قيامه، تطالب بالانضمام إليه، فقد اكتشف أن اللائحة تخلو من تحديد شروط قبول عضوية التنظيمات الجديدة في التحالف، وهو الذي تم تداركه فيما بعد.  وفي الحقيقة لم يدر بخلد أحد خلال الاجتماعات الطويلة التي عقدت لتأسيس التجمع أنه يمكن أن تظهر تنظيمات جديدة وبتلك السرعة بعد قيام التجمع وهو الذي اشتركت في تأسيسه كل التنظيمات الإرترية القائمة آنذاك دون استثناء.

 

ثم كانت الأزمة التي حدثت بين التحالف الوطني وتنظيم المجلس الثوري، حينما انتخب لرئاسة التحالف رئيس تنظيم قبلت عضوية تنظيمه في التحالف في نفس الاجتماع الذي انتخب فيه رئيسًا له. وقد حدث ذلك لخلو اللائحة من نص صريح يحدد شروط تولي الرئاسة!

كان لهذا الحدث انعكاساته على وحدة تنظيم المجلس الثوري، حيث اختلفت الآراء حول الموقف الذي يجب اتخاذه من التحالف، فتأججت به الخلافات التي كانت قائمة بداخله، لينتهي الأمر وللأسف، بانقسامه.

 

هزت تلك الأحداث صورة التحالف وأفقدته بريقه. ثم جاء انقسامه الأخير لتبهت الصورة تمامًا، ولا سيما لحدوثه بعد أن أعطى انطباعًا بأن عافيته قد عادت إليه، أثر رجوع من كان قد هجره احتجاجًا واستيعابه لأول مرة تنظيماً تعود خلفيته إلى الجبهة الشعبية.

 

وللحقيقة فقد كان ما أقر عند التأسيس هو أن تكون الرئاسة دورية بين التنظيمات، ولم يتغير هذا إلا فيما بعد لأسباب رأتها قيادة التحالف ، ولكن النتيجة كانت ما رأيناه في الحالتين التي أدت أولاهما لإضعاف التحالف والثانية إلى إنقسامه ومن ثم الأزمة التي تعيشها المعارضة المنقسمة على نفسها اليوم.

 

إن ما يمكننا أن نستخلصه مما تقدم هو أننا ومنذ ما يقرب على السبعين عامًا، وفي جميع مراحل نضالاتنا، سواءً من أجل تقرير المصير أو لتحرير الوطن من الاستعمار أو من أجل الديمقراطية المفقودة في إرتريا المستقلة، لم نتوقف عن خوض نضال مواز من أجل توحيد أحزابنا ومنظماتنا المناضلة في سبيل تلك الأهداف ومن ثم توحيد شعبنا الذي يناضل بمختلف انتماءاته -إجمالاً- من خلالها. ومع ذلك نستطيع أن نقول بأن الإخفاق كان مآل معظم إن لم نقل كل مجهوداتنا. وهذا يعود بنا إلى السؤال الذي طرحناه من قبل وهو: لماذا تتكرر لدينا الإخفاقات على الرغم من إدراكنا بأن الوحدة هي سبيلنا الوحيد للنجاح في تحقيق أهدافنا؟ وهذا السؤال نفسه يضطرنا للعودة للوراء والنظر في مدى تأثير تلك النشأة “غير الطبيعية” للكيان الإرتري في تلك الإخفاقات المتكررة.

 

ما تزال – وللأسف – الانعكاسات السالبة لعدم ظهور هذا الوطن للوجود عبر التطور الطبيعي لمجتمعاته حاضرة حتى يومنا هذا.  فبعد أكثر من قرن على نشأته، لازالت المجتمعات المكونة له، لا تعرف بعضها بعضًا بالعمق الذي يجب أن تعرف به مجتمعات يضمها وطن واحد: تاريخها، ثقافاتها، طموحاتها، هواجسها، طبيعة علاقات المتجاورة منها قبل أن يجمعها وطن واحد، تاريخ علاقات الأقليات الإثنية الدينية القبلية… إلخ داخل إقليم أو منطقة واحدة بالأغلبية ويترتب على هذا الجهل بالآخر أن يكون التعامل معه مبني على الأحكام المسبقة والظنون والحذر والخوف ، وكان هذا الجهل نفسه هو الأرضية الخصبة التي سمحت لسموم المستعمرين ولاسيما المستعمر الإثيوبي في عهد هيلي سلاسي لإعاقة وحدة كل مكونات الوطن في مواجهته. ولا زال هذا الجهل المفعم بالشكوك والخوف هو العائق على توحدنا، وهو الذي يستغله النظام لبث الخوف من الآخر.

 

“الجهل سبب التعصب والمعرفة فقط تولد التفاهم : فهم الذات الأخرى لفهم الذات الأولى” . هذه الكلمات لأكاديمية لبنانية كانت تعالج همًّا شبيهًا، أجدها تعبيرًا بليغًا عما نحن بصدده.

ويمكننا أن نضيف بأن من لا يعرف الماضي لا يمكنه أن يعرف الحاضر، ومن لا يعرف الحاضر لا يمكنه أن يصوغ المستقبل الذي ينشده شعبه.

 

يجب أن نعترف بأننا وخلال مرحلة الثورة لم نعط للبحث والدراسة المعمقة لمجتمعاتنا المختلفة والتي يتكون منها  هذا الوطن الاهتمام الذي تستحقه من أجل تمليك تلك المعرفة للجميع. وكانت النتيجة هي افتقار للمعرفة الدقيقة لمكونات هذا الوطن، حتى بين تنظيمات المعارضة التي تعود خلفيات الغالبية منها لجبهة التحرير الإرترية التي كانت بحق مشروعًُا وطنيًّا تم إجهاضه للوحدة الوطنية الحقة، ببرنامجها وانفتاحها على جميع المكونات وحرية الرأي التي تمتع بها منتسبوها. نقول أن نتيجة ذلك الإهمال هو ما نراه عند كل انقسام يحدث في تنظيم من تنظيمات المعارضة، حتى يسرع كل جانب بإلصاق بطاقة تعريف “دينية، قبلية أو إقليمية إلخ” على الجانب الآخر !  وهو دليل على أن الشكوك وعدم الثقة هي التي ما تزال تطبع علاقاتنا مهما عملنا سويا وبدينا وكأننا كل متجانس، فالحقيقة المرة تظهر دائمًا ساعة الخلاف ثم بعد الطلاق، في أبشع صورها.

 

إن عدم إلمامنا إلمامًا كاملاً بمجتمعاتنا وتاريخها هي التي توقعنا في سوء التفاهم بل والخلاف العميق حول قضايا أساسية تعتبر أعمدة وحدتنا الوطنية.  فمثلاً تبني اللغتين العربية والتقرينية لغتين رسميتين للبلاد هي واحدة من تلك القضايا، والتي كانت تبدو أنها حسمت من قبل أول برلمان إرتري في التاريخ وبأنها غير قابلة للنقاش، ومع ذلك لايزال النقاش جارٍ حولها حتى اللحظة.

 

ففي إحدى لقاءاته الصحفية قال رئيس النظام في أسمرا بأن الإنجليز هم الذين أدخلوا بدعة الثنائية اللغوية في بلادنا. فهل هذا الكلام يعكس الحقيقة؟!  دعونا إذاً نقرأ ما كتبه فردناندو مارتيني في أول زيارة له لإرتريا كعضو في لجنة تحقيق برلمانية في العام 1891، وذلك قبل أن يعين حاكمًا لها في العام 1897 حيث تولى إدارتها لمدة عشرة أعوام، إذ يعتبر مؤسس النظام الإداري المدني في إرتريا. وصاحب مشروع شبكة الطرق التي ربطت أجزاء المستعمرة ببعضها.

 

خلال زيارة اللجنة لمحكمة في أسمرا دوّن مارتيني ضمن ما دون عن انطباعاته وملاحظاته في إرتريا هذه الجملة “فوق رؤوس القضاة لوحة مكتوب عليها بالتقرينية والإيطالية والعربية : العدالة واحدة للجميع” 

 

ماذا يعني هذا ؟ يعني ببساطة بأن الإيطاليين بعد أن وحدوا الأراضي التي احتلوها على الساحل الشرقي للبحر الأحمر على مدى واحد وعشرين عامًا وأعلنوها مستعمرة تحت مسمى إرتريا لم يجدوا ما يخاطبون به سكانها الذين يتحدثون بلغات ولهجات مختلفة سوى اللغتين العربية والتقرينية، وهذا يدل بأن سكان المستعمرة الجديدة وقبل أن توحدهم إيطاليا كان جزء منهم يستخدم التقرينية في معاملاته الكتابية والجزء الآخر العربية. إذاً فالثنائية اللغوية في إرتريا قد فرضها الواقع والضرورة، ولم يفرضها أحد. وأن وجودها كثنائية متزامن مع وجود إرتريا ككيان.

 

ألا ترون بأننا نختلف حول قضايا هامة بهذه الدرجة بسبب جهلنا لجذورها!!

 

أعتقد أنها من مهمة المثقفين الوطنيين إزالة حاجز الجهل بالآخر الذي يقف عائقًا في طريق وحدة وتقدم هذه البلاد. ولا يمكن إعفاء القوى التي تناضل بإخلاص في سبيل الديمقراطية والعدالة والمساواة والعيش المشترك المتناغم بين مكونات هذا الوطن، من هذه المسؤولية، على الرغم من أنها اليوم نجدها في وضع لا تحسد عليه. وبديهي فإن عليها من أجل أن تتصدى لمثل هذه المهمة أن تتناغم أولاً فيما بينها، ففاقد الشيء لا يعطيه !

 

وإذا عُدنا للأزمة التي تعيش في ظلها المعارضة الإرترية اليوم فثمة رأيان للخروج منها، أحدهما يرى بأن الإنقسام قد صار واقعاً ولا بد لنا من التعايش مع هذا الواقع وما على الجانبين في هذه الحالة، سوى بذل أقصى الجهود في سبيل انعقاد المؤتمر الوطني الجامع والذي يجري الحديث عنه منذ مدة ليست بالقصيرة وكتب عنه الكثير ومن أهمها دراسة متكاملة وذات أهمية قصوى تحت عنوان ” المؤتمر الوطني الإرتري من أجل إنقاذ الوطن” . أما الرأي الآخر فيرى بأنه ليس أمام قوى المعارضة سوى أسلوب العمل تحت مظلة واحدة إن أرادت أن يكون لها وجود فعال ومؤثر وصوت مسموع.

 

يمكن تفهم أصحاب الرأي الأول الذين ينطلقون في الغالب من تجاربنا السابقة التي لا تترك مجالاً لإمكانية العودة للالتئام بعد الانقسام، فهم بالتالي لا يريدون إهدار الوقت من أجل السعي لوحدة مستحيلة التحقيق !  ومن هنا فإن المتاح في هذا الوقت هو المؤتمر الوطني الجامع الذي يتفق الجميع على أهمية وضرورة انعقاده. فليتوحد الجانبان إذًا في رحابه. ليسعيا لانعقاده وليشتركا مع القوى السياسية الأخرى ومع منظمات المجتمع المدني وغيرهما من ممثلي القوى الفاعلة في المجتمع الإرتري، لوضع الأسس التي تقوم عليها إرتريا الديمقراطية التي تسودها العدالة والمساواة وتصان فيها حقوق المواطنين أفرادًا وجماعات. إنه حل الممكن!! ولكن ثمة خشية من حل كهذا، إذ يطل منه شبح الثنائية التي عانى منها الآباء خلال فترة تقرير المصير ولم ننج منها إبان سنوات الكفاح المسلح. وحيث كانت نتائج كلتاهما كارثية. ثم إن ” بطاقات التعريف الجهوية” التي وضعت على جناحي التحالف ومما يقرأ أو يسمع في شبكة الانترنت وما يقال في الندوات وخارجها يجعل تلك المخاوف مبررة. ثم أنه كيف يستقيم خلق ثنائية جديدة في الوقت الذي يجري فيه الحديث عن أن ثنائية جبهة – شعبية قد أصبحت جزء من الماضي، متروك الحكم فيها للتاريخ.

 

صحيح أن أداء التحالف لم يكن فعالاً وعلى مستوى الطموحات والتوقعات! ومع ذلك يتمسك به المواطنون وقواعد المعارضة في غالبيتها لأنهم جميعاً قد خبروا من تاريخ انقساماتنا كيف أنها تعود بنا دومًا القهقري، وبأن العمل المشترك يساعد على معرفة الآخر بصورة أعمق.

 

إن إجراء تقييم موضوعي للفترة التي انقضت منذ انقسام التحالف للوقوف على ما إذا كانت قضية المعارضة قد تقدمت أم تراجعت، وما إذا كان المواطن التواق للحرية والديمقراطية قد اندفع للالتحام بجناحي التحالف أكثر من ذي قبل، كما فعل يوم أن قام التجمع الوطني أم تباطأ؟ وهل اينعت الآمال في نفوس الناس في بلادنا بقرب الخلاص أم ضمرت؟ لا أخالنا بحاجة إلى كبير جهد لنتصور ما ستكون عليه نتيجة التقييم !

 

وبجانب ما أسلفنا، أعتقد أنه وفي هذا الوقت الذي يجري فيه الحديث عن سيناريوهات مختلفة لـ “ترتيب الأوضاع” في منطقتنا المضطربة ليس أمام تنظيمات التحالف سوى الإسراع في تجاوز خلافاتها وإعادة لحمتها وصولاً لحشد طاقات التنظيمات العاملة في الساحة الإرترية كافة، إذا أرادت أن يكون لها صوت مسموع وحتى لا يتم كل شيء من وراء ظهرها، فنجد أنفسنا والوطن أمام واقع مفروض.

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=7568

نشرت بواسطة في أكتوبر 19 2007 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010