هل نحن بحاجة الى عواتي اخر؟!

قراءة في المشهد الإرتري                                                  

  بقلم طاهر حمدي

سؤال ظل يتردد في ذهني في سياق كثير من التساؤلات والهموم والهواجس التي تسكنني منذ مدة دون ان اجد لها التفسير الملائم، وهو عجز اعتقد ان الكثيرين يشاطرونني إياه ضمن حالة العجز والتشويش الفكري التي اصابت اغلب الارتريين في السنوات الماضية. فالمتتبع للواقع الارتري يصاب بالحسرة والمرارة على ما آلت إليه الأمور بعد عقود من الكفاح المتواصل والعمل الدؤوب في سبيل الحرية التي استحقها شعبنا عن جدارة واقتدار ولم تكن هبة من احد كما يحلو للكثيرين ان يصوروا استقلالنا الابي.

والمؤلم حقا ان هذه الحرية التي ضحى في سبيلها الالاف من خيرة ابناء امتنا سرقتها تحت جنح الظلام عصابة ظلامية وصولية، تعبث الان بمقدرات ومستقبل دولتنا الفتية. ولكي نكون اكثر واقعية او اكثر صدقا وصراحة مع انفسنا لابد ان نسترجع شريط الماضي في حالة نقدية ونحاول ان نرى بصفاء ما الذي حدث؟ وما الذي حول مسيرتنا الرائعة الى هذه النتيجة الكارثية؟ ولماذا انتهت بنا الامور الى هذا المستوى من التردي؟ وهل نتحمل كشعب وكأمة ضحت بالغالي والنفيس في سبيل انعتاقها من قيود مستعمر غاشم المسئولية في سيرنا خلف اناس غدروا بنا وخانوا كل العهود والمواثيق ؟ ام انها فقط الصدف والاقدار التي وضعتهم في طريقنا المليئ بالالام والمحن؟

في تقديري ان المسـألة تقبل الاثنين معا. فنحن ان لم ننساق كالقطيع احيانا وكالنيام احيانا اخرى لما انتهت بنا الامور الى هذا المستوى المذري، كما ان اندساس عصابة من المجرمين والطفيليين المرتزقة في صفوف ثورتنا ونجاحهم عبر اساليب الغش والخداع وحبك المؤامرات في السيطرة على مقاليد الامور ادى الى تغييب امتنا عن معرفة حقائق الامور معرفة جيدة حتى كانت الطامة الكبرى ووصلنا الى ما وصلنا اليه اليوم. وفجأة وجدنا انفسنا في واقع يحتاج الى عمل جديد وتضحيات جديدة حتى نزيل عن كاهلنا الظلم ونعيد مسيرتنا الى طريق الرواد الاوائل الذين انتهجوا المصداقية في سبيل تحقيق العزة والكرامة والمساواة لشعبنا.

وانا هنا لست بصدد استرجاع كل ما حدث من اخطاء قاتلة وتجاوزات كادت ان تعصف بثورتنا بكاملها لاسباب عدة اهمها ان الذي حدث يحتاج الى سرد تاريخي موضوعي وهي مسئولية كل من كان ضالعا في تلك التجربة.  ولكن دعونا على الاقل ان نرصد صورة الوطن بعد تحقيق الهدف السامي الذي سعينا جميعنا بمختلف توجهاتنا السياسية والفكرية الى تحقيقه.

كيف يبدو الوطن بعد عقد ونيف من الاستقلال؟

ارتريا الوطن الرائع الذي سكننا طوال سنوات النضال والذي حلمنا ان ننعم فيه بالازدهار والعدل والمساواة تحول الى سجن كبير الكل فيه يشعر بالمهانة والاذلال والكل فيه يدفع ضريبة لتسوية حسابات وتصفية ديون لا ناقة له فيها ولا جمل. فغداة التحرير انتابت الجميع  فرحة عارمة بتحقيق حلم الملايين وبدأ الارتريون في الداخل والخارج يحلمون بمستقبل جديد لهم ولامتهم بعد سنوات طويلة من المعاناة والعذاب، واحس الكثيرون انه ان الاوان لحصاد جهد السنين والبدء ببناء هذا الوطن المتعب المرهق جراء الحروب والكوارث والمجاعات المتكررة. وعندما اعلنت الحكومة الارترية المؤقتة حينها عن عدم السماح للتنظيمات الارترية بالعودة والمساهمة في تقرير مصير ومستقبل البلاد بشكل منظم مدعية ان الباب مفتوح للافراد للانخراط في اطار الجبهة الشعبية وتكريس تجربتها وفرضها على الاخرين بحجة إنها – أي الجبهة الشعبية- هي التي حققت الانتصار الأخير، لم يقف الكثيرون حول هذا الطرح – الفخ – وتناسوا كل مرارات الماضي واعلنوا ان مصلحة الوطن فوق مصلحة الجميع وعادوا للعمل مع فرقاء الامس كما ان شعبنا في الداخل شمر عن ساعد الجد والعمل دون التفكير حتى في مناقشة مايطلب منه تنفيذه.

وكان ان  استغل النظام حب الارتريين لوطنهم فسخرهم لتحقيق اهدافه وغاياته التي لم تكن خافية على الكثيرين من ابناء امتنا الاوفياء الا ان نشوة الانتصار وانبهار الجماهير وتصديقهم للاكاذيب التي كانت ترددها كوادر النظام حالت دون وصول صوت الحق الى الناس. واتهم بالخيانة والمتاجرة باسم الوطن كل من حاول ان يبرز الحقائق للناس وكممت الافواه واطبق الصمت المميت على الجميع.

عبر مسيرته الطويلة ادرك النظام بغريزته الاستغلالية وحالة النهم والجشع التي يعيشها ان الإرتريين لن يبخلوا على وطنهم بشيء ان أحسن استدراجهم إلى الفخ، فكان أن أقام مهرجانات التسول والارتزاق التي جنى منها الاموال الطائلة كما انه فرض على كل ارتري يعمل بالخارج ضرائب فادحة اثقلت كاهل المواطنين وحالت في كثير من الاحيان دون تمتعهم بمستوى العيش الذي يتناسب ودخلهم وحالت دون الوفاء بالتزاماتهم العائلية، هذا غير الاتاوات المتكررة تحت مسميات غريبة – عشاء المقاتل، دعم ابناء الشهداء، دعم المعوقين، دعم المجهود الحربي وغيرها من المسميات التي لم يعجز النظام في ابتكارها طالما انها كانت سببا لجني المال. وهنا لا بد ان اشيد بكل فخر واعتزاز بوقفة ابناء الجالية الارترية في ملبورن باستراليا الذين قدموا ملحمة رائعة في التصدي لهذا المشروع الارتزاقي للزمرة الحاكمة واامل ان يقتدي بهم كل الارتريون في الخارج حتى لا نساهم في تمويل نظام لم يقدم لشعبنا سوى القهر والظلم والمعاناة.

خلال عقد من الزمان وجد الشباب الارتري الطامح في حياة كريمة، نفسه مكبل بقيود ماسمي بالخدمة الوطنية وسيق في اعمال السخرة والعبودية لسنوات دون معرفة كيف ينتهي هذا الكابوس الذي حول حياته الى جحيم وزج به في حروب طاحنة تحت مبررات الدفاع عن الوطن من اعداء اختلقتهم عقلية مريضة لا تقل عن الشوفينية في شيئ.

الاقتصاد الارتري المدمر والذي كان في حاجة ماسة الى التنشيط تعرض هو الاخر الي التدمير والتخريب عبر بيع كل مؤسساته المنتجة الى القطاع الاقتصادي للجبهة الشعبية تحت حجة خصخصة القطاع العام لمواكبة عصر العولمة واقتصاد السوق كما ان القطاع الخاص هو الاخر لم يسلم من سياسات التخريب والنهب المنظم الذي قادته كوادر النظام عبر تضييق الفرص على المستثمرين من خلال ابتداع اساليب غريبة لم تشهدها الدول من قبل وهي اما سرقة خططهم الاستثمارية من قبل اجهزة النظام او قبولهم مشاركة الجبهة الشعبية في مشاريعهم مما ادى الى هروب معظم رؤوس الاموال الى الخارج الامر الذي جعل الاقتصاد الارتري فريسة سهلة تحت رحمة الجبهة الشعبية التي استفردت بكل مجالات الاستثمار في البلاد. فهي المتاجرة في العقارات وهي التي تعمل في مجال الصناعات المختلفة وشركاتها هي تنفذ مشاريع البناء والطرق، ومؤسساتها هي المسئولة عن قطاع المواصلات والاتصالات والفندقة وصناعة الخمور وتجارة العملة والتعدين والتنقيب عن البترول وهي التي تنفذ المشاريع الزراعية وغيرها من المجالات الاقتصادية ولم تترك مجالا للعمل والتجارة الا وطرقته فكان ان شاركت المواطن البسيط لقمة العيش واثقلت عليه بالضرائب والاتاوات حتى اغلق العديد محلاتهم التجارية بعد ان سدت كل ابواب الرزق امامهم ووصلت العديد من الاسر والعوائل التي كانت ميسورة الحال الى حافة الفقر واصبح منظر المتسولين والمتسولات في شوارع المدن الارترية منظرا عاديا بعد ان كانت بلادنا رغم ضنك الحياة احدى الدول القليلة التي تكاد تنعدم فيها ظاهرة التسول. وما يدعوا للحسرة والاسف ان العاملين في كل القطاعات الاقتصادية والتجارية للجبهة الشعبية لا يتلقون اي اجر بسبب انخراطهم في اداء الخدمة الوطنية التي لا تنتهي، فكل من له مهنة او حرفة يساق الى ساوا ليتلقى التدريب العسكري ثم يعاد الى عمله السابق مقابل اجر لا يتاجاوز الخمسين نقفة شهريا – اقل من دولارين – في حين ان ما يؤديه من اعمال يدر اموالا طائلة تذهب الى خزينة الجبهة الشعبية وليس الخزينة العامة كما يفترض ان يكون الحال، ويا لها من سرقة منظمة لجهود الناس ومقدرات البلاد.

اما الحديث عن التعليم والصحة فهو امر يثير السخط بسبب السياسات الفوضوية والتخبط الاداري الذي تمارسه الجبهة الشعبية . فالتعليم تعرض لعملية منظمة لفرض مناهج وسياسات غريبة على الواقع الارتري كما ان برنامج التعليم بلغة الام الذي فرضته الجبهة الشعبية على الجميع دون مراعاة رغبة وخيارات المواطنين في محاولة واضحة ومفضوحة لاقصاء اللغة العربية من المناهج التعليمية ادى التي تدهور العملية التعليمية مما دفع العديد من الاباء لارسال ابنائهم الى دول الجوار حتى يضمنوا لهم مستوى افضل من التعليم ولا يزال الكثيرون يحاولون بلوغ هذا الهدف رغم الحصار والمعاناة التي يعيشونها في وطن مليئ بالخوف والرعب المتواصل من اجهزة امن النظام . كما ان جامعة اسمرا المؤسسة التعليمية العالية الوحيدة في البلاد طالتها ايدي التخريب عبر عزل العديد من أكفأ الأساتذة واعتقال بعضهم بسبب عدم انتمائهم للتنظيم الحاكم أو لان النزعة الإقليمية لا تزال تسيطر على عقول سدنة النظام وأتباعهم، هذا غير الذين اضطروا للهجرة خارج البلاد خوفا من حالة الرعب والهلع التي تعيشها ارتريا مما اوجد نقصا واضحا في الكادر التعليمي وهو امر انعكس سلبا على الجامعة وطلابها بالتأكيد بالإضافة إلى أن معظم الطلاب الجامعيين سقطوا أسرى خلال الحرب الإثيوبية الإرترية الأخيرة.

أما إذا تحدثنا عن قطاع الصحة نكاد لا نعرف من اين نبدأ، فالمستشفيات في حالة مذرية والمراكز الصحية تكاد تكون معدومة خاصة في القرى والبلدات الصغيرة وحتى ان وجدت فهي اما إنها تعاني من نقص في الأطباء والممرضين أو نقص في الادوية والاجهزة الطبية ولذلك ارتفعت نسبة الوفيات بين النساء الحوامل والاطفال بسبب الاوبئة والامراض المتكررة التي لم تعرف أسبابها حتى الآن، بالإضافة إلى أن العديد من الاطباء والمهنيين في وزارة الصحة يتعرضون للترهيب والابتزاز حتى لا يثيروا امر المساعدات الصحية التي لا تعرف وجهتها ولا يعرف احد ما اذا كان يعاد تصديرها ام تباع في السوق السوداء.

أما بالنسبة لتطبيق القانون وفق دستور البلاد المعطل منذ اعلانه فهو امر يكاد يوصف بالترف السياسي فالبلاد تعيش حالة الطوارئ غير المعلنة منذ العام 1995م وأفراد الشرطة والجيش يدخلون البيوت ويعبثون في ممتلكات الناس بحثا عن مجندين لالة الحرب واعمال السخرة دون اذن من النيابة العامة او حتى معرفة ما اذا كانت هذه الاسرة تملك شباب في سن الخدمة الالزامية ام لا، وغالبا ما اقتيد اناس من الشوارع والطرقات الى معسكرات التدريب في ساوا دون ان يعلم ذويهم واهلهم بمكان وجودهم، والغريب في الامر ان المؤسسات التعليمة ايضا لم تنجو من هذه المحنة التي اصابت البلاد. ففي احدى المرات تعرضت مدرسة “بوتيكو الثانوية باسمرا” ابراهيم سلطان حاليا الى حادثة غريبة من نوعها، فقد أرسل النظام في يوم دراسي عادي عددا من جنوده حاصروا المدرسة واعتقلوا الطلاب والطالبات وساقوهم الى ساوا دون السماح لهم حتى بتوديع عائلاتهم.  واقتيد الطلاب الى معسكرات الجحيم ليلقوا مصير مجهول بعد ان كانوا يحلمون بدخول الجامعة وبناء مستقبل لهم ولاسرهم، وعندما سئل رأس النظام عن الأمر من قبل الصحفيين اعلن عدم معرفته به وان القرار اتخذ من قبل ادارة بلدية اسمرا ولكنه لم يرجع الطلاب المساكين الى مدرستهم ولم يقدم ادارة البلدية التي ارتكبت هذا الخطأ الشنيع في حق ابناء الامة للمحاسبة فمن المسئول ياترى؟

هذا غير المحاكم الخاصة واعتقال المواطنيين لسنوات طويلة دون تقديمهم للمحاكمة او حتى السماح لعائلاتهم والمنظمات الدولية بزيارتهم وتفقد احوالهم فالداخل الى المعتقل مفقود والموت الجماعي كان مصير اغلب المعتقلين السياسيين فياله من وطن ويالها من عدالة !!!

هذا الأمر المذري والتخريب المنظم اصاب كل قطاعات الدولة وطال الصحفيين وأصحاب الكلمة الحرة، ففي يوم اسود اقتادت أجهزة امن النظام كل الصحفيين العاملين في الصحف المستقلة إلى المعتقلات دون تقديم مبررات أو أسباب لاعتقالهم، وما زاد الطين بلة ان النظام زج بنا وبابنائنا في حروب ومشاحنات مع كل جيراننا حتى اصبحنا شعب لا صديق له وتعرض معظم الارتريون في الخارج للحرج جراء سياسات حكومتهم الطائشة وغير المسئولة وهذا الامر سينعكس بالتاكيد على مستقبل علاقاتنا مع الدول والشعوب المجاورة.

 هذا قليل من كثير وربما لو حاولت ان اصف وابين مساوئ وفظائع هذا النظام الطفيلي قطعا لن تسمح لي المساحة ولا اعتقد ان لدى القارئ الكريم الزمن الكافي لذلك، فالنظام الارتري كله مساوئ ولسنا مجحفين ان قلنا ان لا حسنة لهذا النظام فمن يتجار ويغامر بماضى وحاضر ومستقبل الامة لا يمكن ان ترجى منه الحسنات.

tahirhamde@hotmail.com

 

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=5927

نشرت بواسطة في سبتمبر 8 2004 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010