هل يجوز الوقوف على الحياد عند تَعرُّض الوطن للخطر؟


رصد اريتريا | الكاتب / فتحي عثمان
في البداية، أُفترض أنَّ كثيرين يعتبرون طرح هذا السؤال أمرًا سخيفًا، ومعهم كلّ الحق، لأنَّ الإجابة عليه عندهم حاسمةٌ وقاطعة، وهي: إنَّه لا يجوز الوقوف، أبدًا، على الحياد عند تَعرُّض الوطن للخطر.
وإجابتي غير المترددة على السؤال نفسه هي: ليس فقط لا يجب الوقوف على الحياد، بل يُحرَّم الوقوف على الحياد عند تَعرُّض الوطن للخطر.
فإذا كانت الإجابة معروفةً عند كاتب المقال، فلماذا تناول الموضوع من أساسه؟
تَناوُلُ الموضوع يأتي لاعتقادنا بأنَّ طرح السؤال والدوران حوله يهدفان إلى صَرْف الفكر والعمل عن التهديدات الوجوديّة التي نمرُّ بها اليوم.
الوقوف مع الوطن هو تعبيرٌ مجازيّ عن الوقوف مع الشعب؛ فنحن، عندما نقف مع الوطن، فإننا لا نقف مع الخرائط البُكماء المُعلَّقة في الفصول المدرسية، أو مع الحدود الإدارية بين محافظةٍ وأخرى؛ فكلّ هذا الوقوف من باب التعبير المجازي..
أمّا الوقوف الحقيقي فهو مع الآباء والأمهات، والإخوة والأخوات، وكلّ الأحباب، مع الناس من لحمٍ ودمٍ وحِسٍّ وإحساس؛ هذا هو الوطن الذي يُحرَّم الوقوف على الحياد عند تَعرُّضه للعدوان.
ثمّ يأتي بعد ذلك الوقوفُ المجازيّ مع الخريطة والمساحة التي يقع داخلها هذا الشعب، فلا شعبَ بلا وطن.
الوقوف ليلًا ونهارًا، وسِرًّا وجَهرًا، عند هذا السؤال يثير – فيما أَحسب – جَدَلًا بيزنطيًّا عقيمًا، يدخل ضمن الصوارف عن جليل الأمور.
كيف أجاب كبارنا، سِنًّا وشأنًا، عن مثل هذا السؤال في الماضي؟
عندما أشعل البطلُ الرمز حامد عواتي شرارةَ الشرف والمجد الوطني، لم يكن هو ورفاقه الأماجد يدافعون عن حكومةٍ أو حُكّام؛ بل خرجوا ليدافعوا عن إخوةٍ وأخواتٍ لهم، خرجوا ليدافعوا عن حقٍّ وحلمٍ؛ حقٍّ في وطن، وحلمٍ بحياةٍ عزيزةٍ مكرَّمةٍ ومعزَّزة،
ولم يصرفوا وقتهم في التساؤل حول ما يجوز وما لا يجوز عند تلك اللحظات التي مثَّلت اختبارًا لوجودهم وكرامتهم.
بناءً على هذا الموقف التاريخي، الذي يُمثّل موروثًا شريفًا، فإنه لا يجوز ولا يصحّ الوقوف على الحياد عندما يتعرّض الشعب والوطن للخطر.
فإذا كانت هذه الإجابة واضحةً كعين الشمس في مضابط التاريخ، فلماذا نُهلك أنفسنا في البحث عن إجاباتٍ جديدة؟
واحدٌ من أسباب الدوران حول السؤال – كقُطب الرحى صياغةً وإجابةً – هو الوضع السياسيّ الإرتريّ الذي خلقه الاستبداد في البلاد، وتحقَّق معه تصوُّرٌ قاتل يعمل عليه المستبدّ وسدنته ليلَ نهار لترسيخ قناعةٍ تجري في الدم، وهي أنَّ إسياس هو إرتريا، وإرتريا هي إسياس، دون مواربةٍ أو خجل: “هو نحن، ونحن هو”. هؤلاء إنما يطوقون أعناقهم برسن عبودية يختارونه بفرح ذليل.
ومرّةً أخرى، يُعلّمنا التاريخ – وهذه المرة تاريخ الشعوب
الأخرى – أنَّ ذلك ليس صحيحًا البتّة.
فعندما صاح لويس الرابع عشر أعظم ملوك فرنسا- وفرنسا حينها أعظم قوة في القارة الأوروبية والعالم كله، عندما صاح بأعلى صوته: “أنا الدولة”، ضحك الفرنسيون منه تندراً، ولا يزالون يضحكون على أي جنون مشابه، لا لسبب إلاّ لسبب واحد هو أن فرنسا والدولة سبقت وجود الملك وبقيت بعد ذهابه. فبينما بقيت فرنسا، تدحرج رأس صاحبنا على نطع مفروش على ترابها.
وبشكل مماثل، ومهما ردد الخانعون، فإن إسياس ليس ارتريا، وارتريا ليست إسياس. ولو سئل السواد الأعظم من الشعب إن كان إسياس يمثلهم، لأجابوا دون تردد، بأنه لا يمثلهم ولا يشرفهم كذلك.
وبما أنَّ الإجابة على هذا السؤال متاحةٌ لكاتب هذه السطور، فإنَّ الرجل لا يُمثّله، كما أظنّ أنه لا يُمثّل أيًّا من قرّاء هذه السطور.
والإجابة بالنفي القاطع لا تعني بأيّ حالٍ من الأحوال فتحَ الثغور للغزاة لتغيير الحكم في البلاد؛ فذلك – كما قلنا ونظلّ نُكرّر دومًا – شأنٌ إرتريٌّ خالص لا يعني أيَّ غازٍ أو دخيل
«ما حَكَّ جلدَك مثلُ ظُفرك، فتولَّ أنت جميعَ أمرك»
ويدور في فَلَك سؤالنا الكبير كذلك سؤالٌ فرعيّ: هل ارتريا تحت حكم إسياس لا تستحق الدفاع عنها، مقابل ارتريا “ديموقراطية” تستحق الدفاع والموت من أجلها؟
ليست تلك التوصيفات جوهريةً، ويُراق على جوانبها الدم.
فالمسألة ليست إرتريا ديموقراطية أو لا، بل المسألة هي إرتريا قويّة في مقابل إرتريا ضعيفةٍ مُنتهَكة؛ فالعدوان يُردّ بالقوّة لا بالضّعف، وبالوَحدة لا بالديموقراطية.
فهل نحن أقوياء بما يكفي لحماية أنفسنا وشعبنا؟
ذلك هو السؤال الذي تحيد عنه هذه الدوائر المفرغة.
فإرتريا الديموقراطية، التي قد تحكمها العقليات التي تطرح الأسئلة الخاطئة في التوقيت الحاسم، ستكون لقمةً سائغةً للعدوان، فهؤلاء مشغولون بالإجابة على الأسئلة بينما تُسنّ لرقابهم ولرقاب شعبهم السكاكين.
ولنفتح صفحةً أخرى من صفحات التاريخ
، ولننظر إلى الديموقراطية الثالثة في السودان (1985–1989) فهذه التجربة كانت من الضعف بحيث إنها سقطت من الداخل، لا بعدوان خارجيّ.
وفي حالة التشرذم التي نعيشها اليوم، خاصةً في المهاجر، فإنّ إرتريا الديموقراطية المحكومة بالخلاف والتباين هي الأكثر عُرضةً للضياع.
ولا يبرّر ذلك أن يكون الاستبداد هو البديل أبدًا، فالحياة – والحياة السياسية خصوصًا – ليست خطوطًا حدّيةً صارمةً بين الأبيض والأسود، كما صاغها جورج بوش الابن أثناء سياسته المزعومة حول مكافحة الإرهاب: “بأن ليس معنا فهو ضدنا”. وسياسة حدّية كتلك السياسة هدفها الأخير هو التصنيف والتخوين.
ففي ظلّ ديموقراطيةٍ مشابهةٍ لتجربة السودان الماضية، فإنّ الخطر الداخليّ لا يقلّ شأنًا عن أخطار الخارج.
وفيما يتعلّق بالدفاع عن البلاد اليوم، فإنَّ إسياس حوّلها إلى ضَيْعةٍ خاصّةٍ به، لا يسمح إلّا لمن يشاء بالدفاع معه عنها أو لا.
فإذا افترضنا – افتراضًا حالِمًا، بالطبع – أنّ أحد أحزاب المعارضة الإرترية في المهجر قرّر أن يرسل كتيبةً لمساندة قوات الدفاع الإرترية في الدفاع عن الأرض والعِرض، فهل سيسمح إسياس، المتصرّف الوحيد في أمر الوطن، لهذه الكتيبة بالدفاع عن الوطن؟ أم سيرسلها إلى عِيراعيرو، بحيث يكون أكبرُ همّ أفرادها هو الخروج من السجن بدل التفكير في الوطن؟
عندما انخرط الشيوعيون والاشتراكيون وحتى اليمينيون الفرنسيّون في المقاومة ضدّ الاحتلال النازيّ لبلادهم، هل أخذوا موافقة شارل ديغول، رئيس حكومة المنفى في لندن، ليموتوا من أجل حرية بلادهم؟
الدفاع عن الوطن، في آخر الأمر، هو أمرُ قوّةٍ لا أمرُ ضعف، والشعوب لا تحتاج إلى وصاية، بل إلى من يأخذ بأيديها عند الشدائد.
ولا أمرَ أشدَّ على قلب الشعوب من الاستبداد تحت مبرّرات الحكم الوطني وفي الأخير، لا يصحّ إلا الصحيح؛
فلا يمكن الوقوف على الحياد عند الخطر، كما أنه مشينٌ ومعيب – فوق ذلك كلّه – الوقوفُ والتماهي مع الاستبداد

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47720

نشرت بواسطة في نوفمبر 3 2025 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. يمكنك ترك رد او اقتفاء الردود بواسطة

رد على التعليق

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010