هيلي وروايته (2)

بقلم برهان على

عدت لصديقي صاحب رواية هيلي، الذي كان ينتظر مني تفسيراً لاستنكار وتحسّس إسياس من كتاب لدوستويفسكي في مكتبه الجبهة الشعبية في الميدان وتوبيخه أمين المكتبه لذلك ، عدت لصديقي لأقول له ما كنت أن سبق وأن قلته له دون زيادة أو نقصان. قلت له، أنني لا أحسب القصة كما رواها هيلي على لسانه واقعيه فدون ذلك صعاب ومشاكل، ليس لأن إسياس لن يفهم دوستويفسكي، فهو سيفهمه، ولو على طريقته، لو قرأه؛ وليس لأن من يقرأ ويفهم دوستويفسكي يتحلي بصفات خاصه لا توجد فيمن لا يقرأه، فهذا مالم يقله أحد، وليس الأمر أيضاً لأن من يقرأ ديستويفسكي أفضل ممن لا يقرأه، فهذا غير وارد و لا يمكن أن يصح. والصحيح هو، إن أردت وجهة نظري، لا أرى أية أهمية لرواية هيلي، حتى بافتراض صدقها، سوى أنها أتاحت لي الفرصة للحديث معك عن شخصية ممتازة لها مكانتها بين حكماء الإنسانيه، ولكن إن كنت تصر وتلح علىّ وتدفع للأمام بقصة هيلي هذه، قلت لصديقي، فإنني أصرح لك دون مواربه وأقول: لا أصدقها، لا أصدّق قصة هيلي، لأنني أعتقد أن إسياس لم ولن يقرأ ديستويفسكي، قد تسأل لما؟ أقول لك ألا تتذكر كيف كان إسياس يقضي وقته في تسعينيات القرن الماضي وحتى قرب نهاية القرن، حين كانت الأجواء آمنه عليه، ألا تتذكر تردده وقضاؤه الوقت الطويل في بارات أسمرا ونواديها الليليه مع العامة وبين المومسات؟ هل لا زلت تتذكر، أم لعلّك نسيت، قصة محاولته الإعتداء على عروس أتت مع عريسها وأصدقاؤه للإحتفال إلى ملهى في أسمرا، وقصة هروب العريس وعروسه بمعجزه تحدّثت عنها أسمرا في ذلك الوقت؟…. إن شخصاً متهتِّكاً، رئيساً تستولي وتتسلط عليه غرائزه وينقاد لها علناً وعلى رؤس الأشهاد، حتى أن هذه الغرائز تنسيه أنه رئيس الأمة، لن يجد، يقينا، الوقت لقراءة دوستويفسكي أو غير دوستويفسكي! هناك أمر آخر، قلت لصديقي، أمر يتعلّق بقراءة الرواية، أي رواية كانت، ويمس ما نحن فيه مساً مباشراً. فالرواية الناجحة هي تلك التي يستطيع قارئها إنشاء علاقة أو شبكة من علاقات تعاطف نحو شخصية أو أكثر من شخصيات الرواية وعلاقة تناقض مع شخصية أو شخصيات أخرى في نفس الرواية. ويستمدّ هذا التعاطف وجوده، إيجاباً وسلباً، مع شخوص الروايه، من وجود مخزون من القيم الوجدانيه المغروسة في نفس القاريئ، فإن انعدم ذلك المخزون في نفس القاريئ انتفى التعاطف وانتفت معه الرواية نفسها وانعدمت حتى لو كان ديستويفسكي نفسه هو من كتبها أو من هو أبرع منه. إن كاتب هذه السطور لا يمكنه أن ينسى ذلك الموقف الذي يكشف كيف أن منسوب التعاطف وحس المشاركة عند رئيس إريتريا، متدنِّ، يكاد أن يلامس الأرض في تدنيه. كان ذلك في سنوات النشوة التي أعقبت الإستقلال حين أوقفت سيدة عجوز ربما كانت في الثمانين أو الخامسة والثمانين الرئيس لتشكوا له الغلاء الفاحش الذي أصاب البلاد والذي تركها في عوز مقيم، فما كان من الرئيس الفصيح إلا أن رد عليها مباشرة وبدون إعمال فكر : ” أوكنت تحسبين أنني كنت سآتيك بخروف للذبح كل خميس؟“. وهكذا يتجسد سوء الخلق وانعدام التعاطف في رمز الأمة ورأسها، لا يباريه في ذلك إلا سوء خلق وانعدام التعاطف في رئيس السودان ورمزها الفريق عمر حسن البشير الذي قال فيما رواه الأستاذ سيد على أبو آمنه نقلاً عن الدكتور حسن الترابي: أن اغتصاب العربي للدارفورية الزرقاء فخر لها!.

الشيئ الثابت عندي أيضاً، قلت لصديقي، أنه إذا كانت هناك ثمة علاقة لإريتريا إسياس أفورقيبدوستويفسكي وروايته فهو ذلك التناظر العجيب بين صور الشر التي سيطرت على إريتريا بعد الإستقلال وصور الشر والجحيم والشياطين التي رسمها ذلك النابغة ببراعة لا نظير لها. خذ مثلاً تلك الرواية العظيمة، ذكريات في منزل الأمواتوالتي فيها سجّل الروائي ذكريات الجحيم الذي عاشه وعرفه في منفاه في سيبيريا بعد العفو عنه وتخفيف عقوبة الإعدام قبل تنفيذها عليه بدقائق. يقول الدكتور سامي الدروبي في مقدمة ترجمته لرواية منزل الأموات“:

لقد أحدثت رواية منزل الأموات أثراً كبيرا في النفوس فرأى القرّاء والنقاد في كاتبها دانتيجديداً هبط إلى جحيم رهيب، لاسيّما أن هذا الجحيم موجود في الواقع لا في خيال الشاعر وحده. إن هذه الأوصاف الواقعية المرة الكاوية التي تصور عالماً لم يكن يعرفه القرّاء قبل ذلك، عالم هذا الخليط من السجناء ، عالم الأشغال الشاقة يتحملون عبئه، والمهن التي يتعاطونها، والتسليات التي يسرّون بها أنفسهم، والمستشفى الكريه الذي يعالجون فيه، ولا سيما العقوبات الجسمية الرهيبه التي تنزل بهم. هذه الأوصاف التي يقدمها كاتب موهوب عاش هو نفسه في هذا الجحيم، أثّرت في نفوس القرّاء تأثيراً كبيراً، وهزّتها هزّا قويأًّ.

وبعد مرور أكثر من مائة وستون عاماً، جاء في أيامنا هذه من يعيد وصف نفس هذا الجحيم مرة أخرى ولكن في بقعة أخرى من دنيا إنسان القرن الحادي والعشرين، جاء إلى إريتريا، إريتريا إسياس، الأديب السوداني أمير بابكر عبداللهوخرج منها ليصف جحيم سجن تراكبيالإريتري، الذي قضي فيه هونفسه بعض الوقت، سجينا، وخرج بكتابه الذي يصفه هو ، تواضعا،ً بالكتيب فقط، والمنشور في مدوّنته، كتب الأستاذ فقال:

“إنه سجن الإستخبارات الأرترية الشهير بإسم”تراكبي” والذي يقع بجوار ورشة لصيانة الآليات المدرعة التي تتبع للجيش الأرتري وموقع لأجهزة بث إذاعي ولاسلكي، على مشارف ضاحية “غوشيت”. الناظر إليه لا يرى سوى أرض منبسطة يقوم عليها ما وصفته الآن فقط. أما ما يدور تحت الأرض فهو شيء آخر حيث تقوم عنابر ضخمة تسع الواحدة منها لمئات المعتقلين من الجنود والمواطنين الأرتريين، كما تقوم إلى جانبها العديد من زنازين الحبس الإنفرادي وغرف التعذيب. يصاحب كل ذلك أمراض السل والتقيحات الجلدية والتايفويد والروماتيزم، فيما يجد القمل متعته رغم فقر دم المعتقلين وضعفه نتيجة سوء التغذية.”

قلت لصديقي ألم أقل لك أن الإبحار في عوالم دوستويفسكي أكثر تشويقاً وأكثرسموا وأرفع منزلة من البحث عمّن قرأ ومنع الآخرين من القرائه، إن الأمرشتّان والفرق كالفرق بين الثرى والثريا!

طلب صديقي أن أروي له المزيد إن كنت مازلت أذكر بعضاً من حِكم ورؤى ذلك الكاتب النابغة، فأجبت: دونك والبحر، فكتب وروايات ذلك العبقري تغطي صفحات الشبكة الدوليه فما بك لي من حاجة، وأنا واثق من أنك سوف تبحر وتعود سالماً غانماً.

لم أقل لصديقي كيف أنني وأنا أنظر واتصفّح وجهه وأحادثه كنت في نفس الوقت أوجه نظري إلى جهاز تليفزيون عملاق، محبوس الصوت، معلق خلفه، بعيد بعض الشيئ ولكن الصور كانت واضحة ومميزه، كانت القناة تعرض ساعتها صور الموت والوحشية والدمار في سوريا ووجدت نفسي أتذكر معنى نص لدستويفسكي في روايته ” رسائل من تحت الأرض”، فكان على أن أعود للكتاب وأقرأ النص مرة أخرى. وربما لن يجد القاريئ أي علاقة بين سوريا والنص إن نقلته له، ولكن لسبب لا أستطيع تقديره بالقطع، فإن معنى هذا النص هو ما قفز إلى ذهني في تلك اللحظه وأنا أرى الدمار على الشاشه خلف صديقي:

 

وعندما يصبح كل شيئ مستقيما، ومنتظماً، يتسم بالكمال، يظهر على حين غرّة، ومن كبد هذا النظام، ودون توقع من أحد، وجه مألوف، وربما كان رجلاً يُسِرّ الشك والسخرية في نفسه ويُكِنّ الإحتقار للجميع، فيقف ويديه على خاصرتيه مرسلاً كوعه للخلف، رافعاً عقيرته، قائلاً لنا:” ماذا بعدُ أيها الناس ، مارأيكم في تمزيق كل هذا النظام إلى قطع دقيقة نقذف بها للجحيم، ثم نعيش بعدها وفقاً لإرادتنا الحرّة السخيفة.”. والأكثرغرابة من ذلك، أن الرجل سوف يجد مريدين له وأتباع يعدّون بالآلاف المؤلفة.”

ربما كان هذا المقتطف لا يعني إلا روسيا وما يشابهها من عوالم، وربما كان أيضاً لا يعني عوالمنا بالمرّه، ولكن ما لا يمكن إخفاءه هو وجود ختم ووسم الإنسانية عليه يشيران بوضوح، حتى ولو بطرف خفي، إلى شياطيننا الذين يسوموننا سوء العذاب، ويشيران أيضاً إلى جهّالنا الذين يهللون لهم ويتركونهم في غييهم يعمهون.

كان صديقي، وإن كان كيميائيا بارعاً، ورجل علم وهندسة، لا يهتم بالآداب والأدباء ولا أظن أنه يحسب أنه بحاجة إليهما، ولولا تلك المقابلة بين هيليومحاوره من راديو سالينا لما سمع عن دوستويفسكي أو غيره، ولكن الرجل هاتفني بعد أحاديثنا بأيام ليقول ليى أنه اشترى رواية الجريمة والعقاب وإن لم يبدأ بقراءتها بعد.

 

.

هيلي وروايته (1) »

pushkin

بقلم: برهان علي لم يكن صديقي يدري مقدار الإضطراب وعدم الإستقرار الذهني الذي أثاره فيّ بقصته تلك، والتي أدّت بي في…

أغسطس 17 2015 / 3 تعليقات / المزيد 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=35202

نشرت بواسطة في أغسطس 23 2015 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010