وداعاً خدين الكتاب

بقلم :- عبد الإله الشيخ

لاذ قلمي بالصمت الموحش ردحاً من الزمان  لكن هز مداده  حدث مفجع وأثار لواعجه  رزء موجع إذ أن آخر عهدي بالكتابة كان في وفاة الداعية الشيخ الدكتور/ صالح علي صالح رحمه الله ، وكم هو قاس ومؤلم أن تصوم عن الكتابة ثم تكون مائدة الإفطار مأدبة حزنٍ ضاجٍ وفقدٍ طاغٍ أدنانها مترعة بالمرارات الفواجع ، فقد نعى الناعي وفاة الأستاذ المثال والمربي المفضال صاحب الصمت الفصيح والمفردة الشفيفة شيخ الشباب / عبد القادر محمد علي وكان للنبأ في النفس وقع أليم .

فليعذرني القارئ الكريم إن ذرفت بين يديه أدمعي أو أقحمته في حزني أو جاءت إطلالتي عليه بكائية حزينة  متشحة بالسواد ومفعمة  بمشاعر الفقد والألم المر وعلى مثل فقيدي يقبل العذر ويجدر الحزن.

وحقاً تصدق علي ابيات السباعي رحمه الله:-

أهاجك الوجد أم شاقتك آثار؟ * كانت مغانيَ نعم الأهل والدار

وما لعينيك تبكي حرقةُ وأسى* ومالقلبك قد ضجت به النار

على الأحبة تبكي أم على طلل* لم يبق فيه أحباء وسمار

إن من أسكب لفقده عبراتي الحرى هو شاب نشأ في بيت علم ودين ، وتربي في محضن دعوة الحق القويم ، عشق العلم والتعلم على غير ماكان مألوفاً لدى بيئته ، وأبناء جيله ، شق دربه بصبر وجلد ، وأجتاز كل العوائق والعقبات حتى تخرج في كلية التربية متخصصاً في اللغة الإنجليزية  بأم الجامعات السودانية جامعة الخرطوم التي كانت جامعة الصفوة حينها ، لم تبهره  أضواء العاصمة ولم تستهويه مظاهر الدنيا وبريق الأضواء ، ولم تشغله قشور الحضارة ، أو تجرفه تيارات الأفكار اليسارية التي كانت تعج بها ساحة الجامعة وقتها ، لقد حدد الفتى النحيل خياره ، وسلك مساره منذ وقت مبكر،  إنتمي للحركة الاسلامية الإرترية التي كانت تنتقى عناصرها انتقاءاً ، وتصطفي منسوبيها بدقة متناهية ، لزوم وضع لبناة الأساس ، فكان فقيدنا أحد السابقين الأوائل فانتظم في سلكها منذ نعومة أظفاره وأظفارها ، وتدرج في محاضنها حتى  اختير عضواً في مكتبها القيادي وهو في مقتبل العمر في الوقت الذي كان فيه أترابه غارقون في وحل مستنقعات الأفكار المادية الآسنة التي كانت تجتذب ببريقها الطبقات المثقفة حينئذ .

لكن أصحاب النفوس الكبيرة يتعبون الأجساد في مرادها فلم يعبئ بتلك الترهات بل كان يتصدى لدعاتها ذباً عن حياض دينه ، ودفاعاً عن دعوته ، وصوناً لأمته وانتصاراً لعقيدته ، وامتثالاً لأمر ربه ، إمتازفقيدنا الراحل برصانة الفكر، وحصافة الرأي ، وسعة الأفق ، واناقة المظهر ، ونقاء الجوهر ، وعرف عنه قوته في الحق ، وحدته في الصدع برأيه ، لا يجامل في مبادئه ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، ولا يداهن  في معتقده ، قوي الطرح واضح الوجهة،  أبي النفس انيق العبارة ، عصي  العود ، صادق التوجه ، ألمعي التفكير ، صافي الذهن نقي الدواخل ، راقي التعامل ، حباه الله بملكة حافظة ، ومقدرة في القراءة والاطلاع ووهبه قدرة على  التحليل كان رحمه الله عطوفاً ألوفاً ، رقيق النفس ، خدين الكتاب قل ان يهدر وقته في غير ما فائدة قل أن تجد يده خالية من كتاب  ،  أليف المحراب يطيل التضرع في انكسار كثير الدعاء ، يجلس حيث انتهى به المجلس يمقت الأضواء ، حاضر البديهة ،  سخي اليدين ، يضفي على مجلسه المرح دون ان يفقد هيبته ، لا يتعالي وهو الحاذق للعديد من الفنون ، ولا يتمشدق بالمصطلحات أويتصدر مجالس الجدل كما يفعل أنصاف المثقفين ، ولا يميل لاستعراض ماعنده وهو المجيد لعدد من المجالات ،  يمنعه تواضعه الجم وأدبه الرفيع من خوض غمار المراء الذي لا طائل من ورائه ، جالسته سفراً وحضراً وشاركته العيش سكناً وعملاً قائداً ومقوداً

يحسبه من لم يخالطه جافا لكن من يتعرف عليه عن قرب يدرك فيه رقة فياضة ، وعاطفة جياشة ،واحساس عال ،وتعامل رفيع .صادق التعامل لا يحمل حقدا مع حدته في إحقاق الحق ، لا يرضى بانصاف الحلول ، كريم النفس لا يقبل الضيم ،ولا يتلجلج في المواقف .يبتسم في احلك الظروف لا تفتر همته ولا يتأثر بعرض زائل ، قنوع زاهد لا يمتطي صهوة الشهوات ،ولا يستغل المطامع ،يتقى الشبهات ،كان بامكانه  أن يحتل أرفع المواقع وتزدان به أعلى المناصب وهو المؤهل علماً والمصقول تجربة والمختزن خبرة ، لكنه آثر الكفاف زهداً وورعاً  رغم إلحاح الكثيرين من عارفي فضله ومقامه ،وأنا شاهد لمجادلة العديد من ، قرانه له حضاً وحثاً  حرصاً منهم في أن يتبوأ مركزاً مرموقاً هو أهل له لله دره ما أشبهه بأخيه الدكتور / صالح علي كيف لا وكلهم قد استقوا من مشكاة واحدة  .

(وكلهم من رسول الله ملتمس * غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم )

لا زلت أذكر رنين صوته في خطابه الرصين في افتتاح ملتقى الندوة العالمية للشباب الاسلامي في 1983 الذي بهر فيه قيادات العمل الإ سلامي المشاركين من ختلف دول العالم  وأجبر مقدم البرنامج على التعليق في خطابه البليغ  والثناء على فصاحته ، وما ينفك الدرس الذي ألقاه  حول رسالة التعليم في الأسرة لأول انتقالي للمرحلة التكوينية في محاضن التربية بالحركة الاسلامية حاضرا في ذاكرتي ، ولا أنسى مداخلاته الذكية بل اكاد أذكر عباراته نصاً في توجيه النقاش بمؤتمرات الشُعب التي كان يشرف عليها ممثلاً لقيادة الحركة  مع بعض إخوانه من الرعيل الأول .

عمل في العديد من المواقع ،وأدار الكثير من المؤسسات الخدمية والمنظمات الإنسانية ، كما عمل معلما في عدد من دور التربية والتعليم ، وترك بصماته واضحة في كل مرفق عمل به ، كالغيث أينما وقع نفع ، وكم من الناشئة الذين كانوا يرون فيه القائد القدوة فتأسوا به واقتفوا آثاره، ونهلوا من علمه ومعينه ، وكم من طالب في بداية الدرج يتحسس طريق النجاح فينير له الدرب ويحسن توجيهه ، وكم من رفقة حار بهم الدليل فكان بوصلتهم نحو الجادة .

كل هؤلاء وأولئك ألجمتهم الصدمة ، ودهتهم الفاجعة  ، وتركهم هاديهم  في طخية مظلمة ، وارتحل خفيف الحمل ، خلسة دون ضوضاء كما العهد به دوماً ، وكأني به وهو يدخل الغرفة  التي كنا نشاركه فيها السكن  إن تأخر به الليل في الخارج  يدخل دون أن يثير الإنتباه حرصاً على راحة من يشاركونه السكن  .

أهكذا يكون الوداع يا سمح السجا ؟ أهكذا يكون الرحيل يا شفيف الروح ؟ من يا أستاذ لجلسات الذكر ؟ بل من لمجالس الفكر ؟ من للقراءة  الواعية ؟ ومن للكتاب الذي حققت به مقولة وخير جليس  في الزمان كتاب يا خير جليس ؟ من للدعاء الخاشع في الأسحار ؟ من لقيام الليل في عز الشتاء ؟ والصيام في عز الهجير ؟ وكأني بطرقات المساجد تبكي حنيناً  لخطوك جمعة وجماعة ما تخلفت عنها في منشط أو مكره ؟ من لطلاب العلم الذين يحتاجون لنصائحك و ثاقب توجيهاتك ؟ من لمجالس الأنس التي كنت فاكهتها ؟ تشتاق نفسي لسمر الليالي ؟ فيا لهف نفسي  التي تتوق  لمن يربت على الكتف عند إحتدام الشدائد فمن لي وأنا أعاني الغربتين بكفكفة الدمع وبلسمة الجراح ؟.

كنت اطمح للقاءك سيدي ولم يكن في الحسبان  أن أودعك هكذا وداع !

وداع أن أسكب العبرات في غربة !! وأبكي بدمع سخين أغالب وحشة البعد وألم الفراق .وداع بتلويحة نهائية من على البعد دون  سابق إخطار .

لكن رغم مرارة الحزن وهول الصدمة وفداحة الخطب نتجمل بالصبر ونرضى بقضاء الله وقدره فالعين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا .

أعزي فيك نفسي و إخواني أشقائك الأعزاء ورفقاء دربك في الحركة الإسلامية (الحزب الإسلامي) قيادة وقاعدة  وكل أبناء دعوتك

إن لله ما أخذ وله ما أعطى  وكل شيئ عنده بمقدار اللهم تقبله قبولاً حسناً وأكرم نزله ووسع مدخله وأبدله داراً خيراً من داره واجعله مع الذين أنعمت عليهم من النبين والصدقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً وأنزل على قبره شئآبيب الرحمة واجعل  قبره روضة من رياض الجنة

(وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون)

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=3283

نشرت بواسطة في مايو 13 2010 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010