25 مارس:تصحيح المسار وعزيمة الاستمرار

حركة المد والجزر في مسيرة الثورة – أي ثورة – تتخللها العديد من الاحباطات ، تنشأ في فترات الانحسار التي تعقب  فترات الانتصار ، وهو أمر مألوف في سائر الثورات التحررية  ، ولكن مظهر التفرّد في الثورة الإرترية يتمثّل في أنها كانت عصية على التصفية والإخماد  ، كان هناك دائماً من يتسلّم الراية ويستمر في المسيرة .

    وقد  مرّت جبهة التحرير الإرترية في تاريخها الطويل بفترات صعبة استهدفت وجودها ومشروعها الوطني ، وفي كل مرّة كانت تتجاوز الأزمات وتخرج وهي أكثر قوة وتماسكاً وإصراراً على تحقيق الهدف الأسمى ( تحريرالأرض والإنسان )

   إحدى أكثر المراحل صعوبة في تاريخ الجبهة هي مرحلة نهاية السبعينات من القرن العشرين ومطلع الثمانينات منه .

   ولو حاول المرء أن يستعرض الأوضاع القائمة يومئذٍ قد لا يستوعبها  مقالٌ سيُنشر في وسيلة إعلامية  طابعها السرعة . ولكن قد لايمنع المقام من الإشارة ولو لُماماً إلى بعض جوانب الأوضاع التي كانت سائدة في تلك  الفترة  .

    فعلى مستوى الساحة الإرترية  ، كان النظام الأثيوبي قد حشد كل طاقاته وموارده والمساعدات التي تلقّاها من دول المنظومة الإشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتيّ السابق ، وغذى آلته الحربية بأسلحة لم تشهد  المنطقة مثلها قط ، عبر تاريخها الطويل  ، وذلك في فترة وجيزة خلال العام 1978  ، وكان الهدف من ذلك تصفية الثورة الإرترية بكافة فصائلها ، وعلى رأسها  جبهة التحرير الإرترية  .

    لم تحقق أثيوبيا هدفها في تصفية الثورة الإرترية  ، ولكن اضطُّرت فصائل الثورة إلى الانسحاب من المدن إلى الريف المحرر .

    أما داخل جبهة التحرير الإرترية ، فبحلول عام 1979 كان قد آن الأوان لعقد المؤتمر الوطني العام الثالث  ، إلاّ أن بعض القيادات السياسية لم يرُق لها ذلك  ، وربما بدأت  بذرة الخلاف من هذا المكان بالتحديد  ، وبرزت على السطح تنظيرات  كوادر ( حزب العمل ) تتجاوز حجم ذلك الحزب في الجبهة .

     أما الجبهة الشعبية  ، وبالرغم من حداثة نشأتها في ذلك الوقت – حيث لم يمض على انفصالها من قوات التحرير الشعبية سوى ثلاث سنوات – وبالرغم من توقيعها اتفاقية عشرين أكتوبر مع الجبهة ، إلا أن شغلها الشاغل كان تصفية الجبهة كهدف استراتيجي يعلوفوق كل الأهداف  . فقد بدأت بعمليات اغتيالات واسعة لكوادر الجبهة من العسكريين والسياسيين منذ حصار بارنتو  ، واستمرّت في هذا النهج إلى ما بعد التحرير وحتى اليوم  ، فضلا عن ذلك كانت تحاول دسّ عناصر داخل الجبهة تنفذ  أجندتها  ، بما في ذلك عمليات التصفية . وفي المرحلة الأخيرة استعانت الجبهة الشعبية بحليفها حينذاك ( عدوها اليوم ) وياني تقراي  لتصفية الجبهة مرّةً وإلى الأبد  ،  وكانت الأوضاع داخل الجبهة في غاية الحساسية عندما تم تعيين قيادة جماعية ( من السياسيين ) تقود جيش التحرير الإرتري  ، وتكليف مسئول المكتب العسكري ، المناضل عبد الله إدريس محمد ،  بمهمة خارج الميدان استغرقت فترة طويلة  ، مقارنةً بالأحداث المتسارعة التي كانت تجتاح الساحة الإرترية يومئذٍ .

     لم تُفلح القيادة الجماعية – السياسية – لجيش التحرير ، لا في حل خلافاتها السياسية  ولا في توجيه الجيش ، وفي تلك الأثناء قطع المناضل عبد الله إدريس جولته في الخارج  وعاد إلى الميدان ليجده على غير ما ترك ، فجلّ وحدات جيش التحرير الإرتري قد تجمّعت في كركون وتهداي  .

    عُقِدت هنا سيمنارات  ومناقشات طويلة لتقرير مصير الجبهة  ، وللتاريخ ، كان هناك عدد كبير من القادة والكوادر  يرى – بل ويصرّ – على عودة الجبهة إلى الميدان واستمرارها في مسئوليتها التاريخية  حتى تحرير الأرض الإنسان  ، بينما فريق آخر كان يرى في العودة ( انتحاراً جماعياً ) على حدّ تعبيرهم يومها ! وكأن جيش التحرير الإرتري لم يكن – وقبل أسابيع فقط – يمتدُّ من حيث هم حتى أقاصي دنكاليا  ولمدّة عشرين عاماً خلت .

    لم تكن المؤامرة على الجبهة محلية فحسب ، بل قد لعبت أطراف دولية دوراً خطيرا في محاولة ضرب الجبهة واستهداف مشروعها الوطني برمته  . فقبل أن تحسم الجبهة أمرها أصدرت حكومة جعفر النميري في السودان قرارها المعروف ( على الجبهة أن تسلّم أسلحتها للسودان ، أو تبتعد عن حدوده الشرقية ) ، وما يدفع الكثيرين إلى الإعتقاد بـ ( دولية المؤامرة ) هو : هل أن هذا القرار كان قراراً سودانياً خالصاً ، أم أن جعفر النميري كان قد قبض الثمن ؟؟؟ ألم يحتضن السودان في فترة لاحقة تنظيماً إرترياً بكامل مؤسساته وعتاده الحربي في عمق الأراضي السودانية – في الساسريب – في موقع يتوسط أكثر مشاريع السودان حساسية [ مشروع خزان خشم القربة – ومشروع حلفا الجديدة الاستيطاني الزراعي – مصنع سكّر حلفا الجديدة – والطريق القومي ، الشريان الوحيد في السودان في ذلك الوقت … الخ ] ، وقبل ذلك ألم تكن معسكرات قوات التحرير الشعبية في ( امبوريب ) ؟؟؟

       أيٌ كان  ، فإن الرد المنطقي على القرار السوداني كان عودة الجبهة إلى الميدان ، ولم يخطر ببال الكثيرين أن الجبهة ستُسلّم أسلحة جيش التحرير إلى دولة جارة  وتنتظر بعد ذلك رحمة الأقدار  !!!

      ولكن  جذوة البقاء لم تمُت  ،  ولن تموت ،  فكما قلنا سابقاً ، هناك  دائما من يتسلّم الراية  ، وكان حمَلَة الراية  في هذه المرة ، كما في كل مرّة ،  نفرٌ من أبناء إرتريا البررة كان همّهم أولا وثانيا وأخيرا  تحرير الأرض والإنسان  ، كانوا في أجهزة الجبهة ، التنفيذية ، والمجلس الثوري ، وقادة الكتائب  وسرايا جيش التحرير، ولأن لكل مرحلة قائد  ، فكان قائد هذه المرحلة بكل ما تحوي من مخاطر وخيارات صعبة – نقول ، قائد مرحلة البقاء من عدمه –  كان القائد عبد الله إدريس محمد  ، انبرى لهذه المهمّة بكل شجاعة  الشجعان  ، صُحبةَ رفاقه المناضلين ، وكان من أهم ما تم إنقاذه جهاز التسليح الذي كان يُدير البطل الشهيد محمد حامد تمساح ، طيّب الله ثراه  . لم تكن المهمّة سهلة  ، ولكن عزائم الرجال  قهرت المُحال  ، فكانوا على موعد مع التاريخ في 25 مارس 1981  ، انتفاضة جيش التحرير الإرتري البطل  ، وكانت انتفاضة 25 مارس جذوة بقاء جبهة التحرير الإرترية  التي مافتِئت أن اتّقدت واتخذت مكانها في الميدان  الذي أبت أن تفارقه  ، واتحدت إرادة  البطل عبد الله إدريس مع إرادة الجماهير الوفية  ، وبقدر ما كانت  التجربة تمحيصاً للجبهة  وامتحانا لم يتجاوزه إلا الصامدون  ، كانت انتفاضة 25 مارس  تصحيحاً للمسار وإصراراً على الاستمرار  .

     تحية من الأعماق لجيش التحرير الإرتري ، وتحية خاصة من القلب ، قلوب كل الجماهير الوفية ، لقائد جيش التحرير الإرتري ، المناضل  عبد الله إدريس محمد ، ونسأل الله له الشفاء العاجل  ، فمازلنا بحاجة إليه ، وكما عرفناه عملاقاً في ساحات الوغى ، عرفناه في الماضي القريب عملاقاً في توحيد صف المعارضة الإرترية  ، وأحد أهم أعمدتها ، فله منا تحية وفاء في مناسبة الوفاء .

 

     والمجد والخلود لشهداء الوطن .

     من معسكرات اللاجئين

 


روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=5959

نشرت بواسطة في مارس 25 2005 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010