النُّقْرة حاضنة وطنية .. دافئة !

بقلم/ محمد آدم حاج

muhaydin

مازلنا فى ساحة النُّقْرة، نحاول إلْتقاط ما بقى من جواهر الأعمال الفريدة كامنا فى قاع الذاكرة، لم تتسرب من شقوقها، أو لم تسقط من فتحات ثقوب النسيان عبر الزمن الطويل .. قلنا قدرا يسيرا من الأنشطة الثقافية والتعليمية الحافلة .. وذكرنا شيئا قليلا من المنجزات الحقيقية .. وبقت اعمال كثيرة، ومهمة لم نتطرق اليها بعد ..!

النُّقْرة ذاك المقر العتيق، كان يمثل  وطنُنَا الصغير فى المنفى، كان حاضنتنا الإجتماعية والثقافية المهمة، كنا نجد فيه سلوانا، نجد فيه خدمات إجتماعية راقية، يصعب علينا الحصول عليها فى وطننا الكبير؛ وهو فى بداية نشأته المُتَعثرة .. كان مقرنا مجهزا بوسائل الرياضة الحديثة؛ تَجْتَذبُ الهُوَاة .. كانت فيه تنس الطاولة، والبلياردو، والبيببى فوت .. ومراجح للاطفال .. كان يجد فيه الهُوَاة والنَّاشئة حاجتهم من وسائل التسلية الرياضية المرموقة، تشبع رغباتهم .. وكانت تجرى فيه منافسات رياضية دورية، تستهدف تنمية مواهب الهُوَاة، وتخلق بينهم الإلْفة، وتُقوّى عرى أواصر المحبة بينهم، وتُعْلى من شأن الروح الرياضية فى نفوس اللاعبين، وتُدْخل فينا جميعا شيئا من المرح والتسلية المفيدة .. !

كان لكل لُعْبة من الألعاب ابطالا مميزون يُشار اليهم بالبنان، يُمتعون الجمهور بأدائهم الرشيق، وبروحهم الرياضية المرحة فى فن اللعب الهادف ..! كان محى الدين بطلا مُتوَّجا بلا منازع فى لُعْبة البلياردو .. ومحى الدين بطل حقيقى من جرحى حرب التحرير الوطنية، أُصيب فى معارك التحرير البطولية، بجُرْح بليغ أدى الى بتر ساقه من فوق ركبته اليسرى، فأصبح معاقا فى حياته، يمشى على عُكازتين .. ومايثير الإعجاب والدهشة .. كيف كان هذا البطل الذكى، يحفظ توازن جسمه وقوفا على قدمه الواحدة، وبدون الإستناد على عكازتيه .. وبدقة فائقة، وإتزان مدهش كان يرسم بالمضرب خطوطا هندسية رائعة بإنحرافات دقيقة على اللوحة الخضراء .. كان يبهر المشاهد بأدائه الفنى الرائع .. ليخاله المرء عالما فيزيائيا فى المقذوفات، يعرف بمهارة، وبدقة متناهية، كيف يرتد المقذوف عند اصطدامه بجسم آخر، وبزاوية محددة محسوبة بدقة القاذف الماهر .. كان يسدد الكرة البيضاء بعناية وبحسبة هندسية، ويصيب هدفه المنتقى، الهدف الجَوْهرة – الكرة السوداء رقم 8 –  رغم حيَل خصمه، ومراوغات بعضهم بإخفاء الأهداف عنه؛ لإعاقة فوزه سريعا .. كان لعبه جذابا وممتعا، وكانت روحه مرحة .. لافرق عنده الفوز أو الهزيمة فى اللعب .. كان يفوز بسهولة على منافسه، ويمتع الجمهور بفنه الراقى .. محى الدين كان يّنْتَزع الميداليات بجدارة وبإستحقاق، ويحظى بشعبية عارمة، وبمحبة الناس جميعا .. رحم الله محى الدين .. ؟

وأما فى لعبة تنس الطاولة، فكان ثُلَّة من الهُوَاة الأفذاذ، فى المقدمة منهم اللاعب سليم آيم، كان سليم محترفا بقدر كبير يلفت النظر، كان يلعب برشاقة وبخفة الحركة، ويتحلى بروح رياضية عالية، وربما اكتسب مهارته المميزة فى اللعبة بنادى الطلاب الإرتريين بالقاهرة .. ولا أنسى الشاب الموهوب جعفر نايب الذى كان بديعا فى لعبه، وكذلك الطفل الذكى شدن اسمروم الذى كان يلعب بهدوء وفطنة تلفت الانتباة .. !

كانت النُّقْرة، بجانب جهوزيتها بوسائل التسلية الرياضية المهمة، تمثل ملاذا آمنا للضعفاء، ودارا لرعارية الأيتام والعجزة، ومَشْفاً متقدما يجد فيه المرضى خدمة طبية راقية .. وكانت مأوا دافئا لمن تقطعت بهم السبل .. كنت تجد فيها من قست عليه ظروف الحياة فى الغربة واقعده المرض، فعجز عن إعالة نفسه بسبب تقدمه فى العمر، وأصيب بأمراض الشيخوخة .. وكنت تجد ايضا ايتاما يحظون بالرعاية الإجتماعية الدافئة .. كان هؤلاء جميعا يطلون برؤوسهم فى الدار عند الإضطرار، ويجدون ترحيبا، وقدرا معقولا من الخدمة الإجتماعية، تحفظ لهم كرامتهم الإنسانية فى بيئة وطنية حميمة، وبدون منَّة من أحد .. !

كانت النُّقْرة فضاءا رحبا، يعبق برائحة البن؛ رائحة ارتريا وشعبها الودود؛ رائحة تبدد سحب الكآبة من النفوس المرهقة بشقاء الغربة .. كنا نجد فى رحابها دفئا إنسانيا، بتكهة وطنية خالصة، تنعشنا من ضجر الروتين الممل .. وفى مساء الخميس من كل إسبوع، نلتقى بالأحبة بدون موعد مسبق، ننتشر فى ربوع المقر، نتحلق دوائر مفتوحة فى الساحات، وفى الأركان والزوايا .. وتحت سقف البرندات، نحتسى فناجين قهوتنا الجماعية بطريقة تراثية معتادة، نقدح قهوتنا بسخاء من ” جبنة ” مليئة بقهوة إرترية مُنكَّهة بالهيل .. والزنجبيل ..! وفى مجلس قهوة المحبة تمتد سهرتنا الى منتصف الليل، تأخذنا أحاديث الود الى ربوع إرتريا بالجد أو بالتنكيت احيانا أخرى، تأتينا أخبار الإسبوع على شكل نكتة قيلت فى مقاهى ” كرن ”  للترويح عن النفوس المكبوتة بضجر الإستبداد القاسى هناك، فنبتسم لها، أو نطلق قهقهاتنا العالية بلا  قيد فى فضاء دارنا .. أو تأتينا أخبار سيئة، تُقْطب جباهنا، وتُكْسى وجوهنا بسحابة حزن كئيب ..!

الحسن محمد عمر ملح سهرتنا، يتربع فى المجلس وسطنا، يخدمنا بالود، يوزع بيننا فناجين قهوتنا، وعلى حسابه كرما منه، والحسن يرتدى القطرة والعقال، ويجيد اللهجة الكويتية بلكنة بدوية، أُكنيه بأبى على العازمى، له علاقات صداقة واسعة مع العوازم، يجالسهم فى الديوانيات، واعتب عليه اذا غاب عن ديوانية النُّقْرة يوم الخميس .. وابو على مُغْرم بجمع النكات الإرترية أو الكويتية على السواء، يتحفنا بها فى ليالى سهراتنا الملاح وهى من قبيل : ”  بدوى من اطراف الربع الخالى، مرض مرضا شديدا، فغاب غيبوبة تامة، فحمله أبناءه بالطائرة للعلاج الى سويسرا، يرافقه إبنه الأصغر، فأُدْخل الرجل العناية الفائقة،  والمستشفى يقع فى حديقة غناء؛ ولما افاق من غيبوبته قليلا، واستعاد بعض وعيه الغائب، اخرجوه من العنايه، ووضعوه بسريره على بساط الحديقة الأخضر، فرأى العجائب : بساط اخضر ممتد، يطفو عليه عائما فى بحر من الخضرة البهية، وتهب عليه نسائم ندية تداعب وجهه برذاذ قطرات الندى البارد، وعلى جانبيه آنية؛ كاسات من الفضة، وقواريرمليئة باللبن والعسل المصفى .. ومن حوله فتيات شقراوات غاية فى الجمال، طوع بنانه فى الخدمة التمريضية، ورأى عناقيد العنب تتدلى من عروشها طرية ندية، وفاكهة التفاح وأخواتها تتساقط من اشجارها امام عينيه؛ فهاله المشهد البديع، فأقتنع بموته، وانه يَخْلد فى جنة الله .. ولما أَمَال نظره قليلا شاهد ابنه المرافق؛ فصاح عليه مستغربا وجوده : ” هه .. يا دغيمان مال التبن .. مكانك السجن .. شنو جايبك الجنة .. وأنت لا صلاة .. ولا صيام .. ولا قيام فى رمضان .. هههههه .. ! ” .

فى الركن الشمالى الشرقى، فى الصالة الملحقة بالدار،  يحتشد يوميا هُوَاة لعب الورق – الكشتينة – وهم اكثر فئات الهُوَاة عددا، يقتلون وقتهم حتى ما بعد منتصف الليل، ويعتمد عليهم المستثمر فى دخله الشهرى، ويحرص على إستجابة طلباتهم بسرعة أكثر منا، وهم على الدوام يطلقون الصرخات العالية لزوم اللعبة، تشق سكون الليل، وتملأ المكان ضجيجا مريحا، يُنسينا ما يكدر صَفْوَ حياتنا .. كل شيئ فى النُّقْرة كان جميلا بلا حدود .. ما عدا سلوك الصنف الردئ من الناس الذى يحوم حولنا، يلتقط خلسة صور دموعنا، ويصيخ السمع الى ضحكاتنا قبل القهقة العالية؛ ليرفع تقريره اليومى الى راعيه، أو الى سيده لا فرق عن : لماذا تدمع عيوننا الباكية بحرقة ؟! ولماذا نبتسم من أعماقنا، ابتسامتنا الساخرة .. ؟!

لا اريد ان تفوتنى الفرصة، وانا أمارس لعبة ” الخربشة ” بالكلمات، لأستعيد الذكريات، أن أذكر دار حكمتنا، مكتبتنا المتواضعة، كانت مكتبتنا على تواضعها تفى بالغرض، تُشْبع رغبة هُوَاة القراءة والثقافة العامة، وكان من روادها الدائمين، الشهيد محمد عثمان محمدعلى، الشاب المتدين الوقور، كان محبوبا من الجميع، وقريبا الى نفسى جدا، صديقا حميما، وأخا عزيزا، كان محمد عثمان جليس المكتبة الدائم، يعتنى بها؛ يحفظ محتوياتها، وينظم عملية إستعارة الكتب تعميما للفائدة الثقافية المرجوَّة، وهو يواظب على القراءة بإستمرار، يقرأ ما يقع على يديه : ديوان شعر للمتنبى، لدرويش، .. لنزار قبانى، أو يقرأ ملحمة روائية لنجيب أو للحكيم .. لتلستوى أو لمواطنه ماكسم غوركى صاحب رواية الأم الرائعة .. أو يقرأ كتابا فى الفلسفة .. كان محمد عثمان شابا مثقفا ذا عقل راجح، مُكباًّ على القراءة والتحصيل؛ فقدناه فى وقت مبكر من عمره، كان فقده اليما .. رحمة الله عليه .. ؟

كانت النُّقْرة بحق حاضنة إجتماعية، ووطنية دافئة، بهمة الرجال والنساء الأوفياء، وبفضل قدرة التنظيم الإجتماعى الدقيق الذى يَسْتجمع القدرات المحدودة، ويوظفها فى خدمة الناس .. وكان لجمعية المهن الطبية الإرترية بالكويت دورا محوريا فى الخدمة الطبية المتميزة .. وهنا، لايغرك عزيزى القارئ هالة الاسم اللماع – جمعية المهن الطبية – هم ببساطة رجال ثلاث، إتسموا بالوفاء، وبالتفانى الخلاق، فكان كل واحد منهم بعشرة أمثاله فى الكفاءة المهنية وفى حب الناس .. لقد ابلى هؤلاء بلاءا حسنا، وقدموا لأهلهم خدمات طبية جليلة لاتقدر بثمن .. وأعرفهم جيدا أن الحديث على ما قدموا من خدامات يزعجهم، ولكنى أجد نفسى ملزما أن أفيهم حقهم، وأنا أخوض من الذاكرة سرد ما تبقى فى الذاكرة كامننا من جلائل الأعمال الكريمة لرواد النُّقْرة الأعزاء .. وغايتى من سرد ماكنت شاهدا عليه أن نجعل تجربة النُّقْرة فى العمل الوطنى والإجتماعى نموذجا يُحْتذى به فى التكافل الإجتماعى، وان الفت الإنتباه الى أهمية العمل الإجتماعى المنظم .. !

فى البدء، يتبادر الى الذهن سؤال مباشر من لدن القارئ الكريم : من هم هؤلاء الرجال الثلاث، أعضاء جمعية المهن الطبية ؟ وماذا قدموا للناس كافة ؟ تلك هى المحاور الأساسية التى سنخوض فيها بإيجاز شديد فى سرديتنا القصيرة ..!

ابدأ سردى القصير، بصديق العمر محمودا عثمان حمد – ابو وليد – الذى درس فى الكويت مراحل تعليمه ما بعد المرحلة الإبتدائية، وتخرج من جامعة الكويت، كلية العلوم قسم الأحياء، وعُين بعد تخرجه باحثا بمركز الكويت للأمراض الوراثية، والمركز يُعد أرقى المراكز الطبية من نوعه فى المنطقة وربما الوحيد بتميزه النوعى، ويتبع مستشفى الصباح للولادة، ومستشفى الصباح هو الآخر يُعد اكبر مستشفيات الكويث المتقدمة، وارقاها فى الخدمات الطبية المتميزة .. والمركز الذى يعمل فيه أبو وليد يحتضن كفاءات علمية عالية التأهيل، ومجهز بأحدث المختبرات الطبية الحديثة، ويُغطى فى ابحاثه مجموعة من الأمراض الوراثية؛ كالعُقم، والإجهاد المتكرر، والصَّمم الوراثى، وعيوب أمرض القلب .. وأمراض الأنسجة الضَّامة .. ومنذ تعينه بالمركز ظل محمودا يُقدم خدمات طبية مقدرة وذات حساسية عالية من موقعه الوظيفى؛ لعدد من العائلات الإرترية فى حالات مرضية مختلفة، وخاصة ما يتعلق بحالات العُقم، والإجهاض المتكرر .. وعلاج هذه الحالات مكلف ماديا وتتسم بالخصوصية والحساسية الإجتماعية .. وابو وليد نذر نفسه لخدمة اهله بصمت، فلم تقتصر خدمته فى مركزه، وفى مجال تخصصه؛ بله يُسخرمعارفه وعلاقاته المتميزة بالوسط الطبى؛ ليُسهّل على ذوى الحاجة من الإرتريين خدمة العلاج المجانى لمن حرم منها وذلك خارج موقع عمله .. ! وبجانب عمله المهنى، ينشط ابو وليد فى القضايا الوطنية، ويساهم باستمرار بكتابة مقالات سياسية ينشرها فى مواقع التواصل الإجتماعى الإرترية !

وأما العضو الثانى، فهو الصديق، والدبلوماسي الودود، أسمروم أبرها – أبو فنقل – وأسمروم تخرج من جامعة أديس أبابا كلية الصيدلة، وعمل صيدلانيا بالقطاع الأهلى فى الكويت لفترة طويلة من الزمن، ثم عُين سفيرا لإرتريا بأستراليا، وقبل تعينه سفيرا ومغادرته الكويت، كان عضوا نشطا فى الجالية الإرترية، وشغل مواقع قيادية فى سلم المنظمات الجماهيرية، وكان رجلا خدوما جدا، يساعد بسخاء كل مريض بتقديم الدواء له، وبجهده الغالب كانت فى النُّقْرة محفظة أدوية للأمراض الموسمية . واشهد أنه كان يعمل بسيارته الخاصة إسعافيا طوال الوقت؛ يسعف كل المرضى المقيمون بالمقر، وبالذات كبار السن الذين إلتجؤوا الى النُّقْرة، وأقاموا فيها فترات زمنية طويلة .. وابو فنقل لم يكن يتوانى عن إسداء المساعدة لبعض العاملات اللائى أصبن بحالات إكتئاب مزمنه، وأقمن بالنُّقْرة، يحظين بالرعاية الإجتماعية والطبية المناسبة .. ويذكر ان ابا فنقل كان ممثل فرع الكويت فى المؤتمر الثانى للجبهة الشعبية لتحرير إرتريا ..!

عاش الناس فى النُّقْرة اربعة عقود؛ اسرة واحدة، بروح وطنية عميقة .. وحملوا روحهم اين ما ذهبوا وحلوا .. وما رابطة ” حفاش النُّقْرة ” ورائدها المؤسس، الصديق العزيز حسين طبسا؛ إلَّا احد ادلة الثبوت القطعية على مايتحلى به رواد النُّقْرة من روح وطنية عالية .. فلهم التحية جميعا!.

نستكمل احاديثنا .. نبحر فى حكايات الأطفال عن الدكتور القدير، الطبيب الإنسان : الدكتور محمد عبد القادر بدير :  ماذا يقول عنه الأطفال .. ؟! وماذا قدم من خدمات للناس الغلابة ..؟ وما ذا يحمل من مؤهلات علمية  فى الطب البشرى ..؟ تابعونا .. ؟؟؟

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=35666

نشرت بواسطة في أكتوبر 27 2015 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010