دائرة الحب والمصير: ذكريات الطفولة والصبا

بقلم : خليفة دسوقي

كان للقهوة في مجتمع أسمرا الخمسينيات و الستينيات سر باتع، سر لا يمكن أن يلمسه أو يدركه إلا من عاش كما عشت أنا، ونشأ و كبر كما فعلت في صحبة القهوة و طقوس شربها المرتبطة بالعقائد الدينية والمسالك الإيمانية،كان للقهوة وقتئذ مكانة رفيعة في المسجد وبين المصلين كما كان لها ذلك في الحي و المنزل بين أفراد العائلة وعلى امتداد المدينة، بل إن القوم اختاروا أن يكون لنبتة القهوة تاريخ شريف ربما اخترعه أحد مدمنيها لتبرير تعلقه الزائد بها وبمجالسها. والقصة كما يرويها أحدهم تقول أن عابدا صالحا من رعاة الغنم كان يسهر على غنمه على سفح جيل “جبأ” في اليمن عندما استرعى انتباهه النشاط الزائد لأغنامه عند تناولها حبات نبتة معينه عرفت فيما بعد باسم نبتة البن التي يصنع منها شراب القهوة فجربها بنفسه وعرف خواصها التي حسب أنها تساعده علي السهر والدوام لعباداته. ولكن هذه هي إحدي القصص وليست الوحيده لأنها كما يبدو قصة تحابي المسلمين مما دعا المسيحيين لإطلاق قصتهم وهي الأخري تدور حول نفس ذلك الراعي الورع وعرّفوه باسم “كالدي”  ودين اخر هو المسيحية الحبشية. ولفظة ” كالدي” هو إسم سلسة مقاهي شركة كالدي التي تعمل بطول اديس أبابا وعرضها). ولم يرض أهل اليمن أن يتخلفوا عن الركب فزعموا أن أصل البن هو جبل جبأ في منطقة المخا مع راع  يمني صالح وربما جاء التعبير Mocha Beans كاسم لصنف فاخر من حبوب البن نسبة لمنطقة المخا.

 ولحضور القهوة تجليات مختلفة باختلاف المجتمع الذي تحل به. ففي الغرب وخاصة في الولايات المتحدة وكندا تأخذ تجليا ماديا يرتبط بالتنبه والنشاط، وتعبير “Smell the coffee” الذي يستخدم في الحض على الإنتباه دليل على ذلك. ولقد أصبحت القهوة صناعة كبرى في الغرب وامتدت سلاسل مقاهي هذه الصناعة مثل سلسلة مقاهي Starbucks  في طول الغرب وعرضه من أوروبا إلى أمريكا وبقاع شتي في العالم . والدخول لأحدى هذه المقاهي لشخص مثلي عرف القهوة بشكل آخر، تجربة رائعة بل وفي منتهى الروعة، فكما تعلم فإن عبق البن المبالغ فيه (وربما كان ذلك العبق معزّز صناعبا)يلف المكان برمته، وبالنسبة لمن عاش والقهوة حاضرة أمامه طول الوقت بشكل آخر، فإن هذا العبق يضغط على الأزرار العاطفية في رأسه وهذه تستدعي بطريقة ما صورًا عزيزه في ذهنه وتقذف به إلى وقت كان فيه هذا العبق جزءًا من محيطه في نشأته وصباه ، جو يفوح بمزيج محمل برائحة القهوة ومرافقيها من لبان محروق على المبخرة ومن رائحة الجاوي والصندل وغيرها من المرافقات الجميلة فيتذكر وبستحضر في ذهنه صور الوجوه الصغيرة والعيون البراقة وهي وسط هذا الجو الاسطوري البديع تستمع إلى تعليق أو ربما قصة يرويها أحدهم فيعلق انتباه الآخرين لمدة دقائق تطير وتبدو كأنها ثوان، لينخرط الجميع في النهايه إما في الضحك والقهقهه أو يغرق في الحسرة و الأسى. من هنا وعندتناولي مشروب القهوة في أحد المقاهي المشهورة القريبه من منزلي خالي البال عن أي علق من أعلاق الماضي، ففَعل العبق فِعله في مراكز ذاكرتي التي استحضرت ذلك الماضي مغلفا بالنشوة وحنين لماض مَرّ  كالسحاب في يوم صيف قائظ، فرأيت ذلك الماضي ينتشر أمامي بتمامه دفعة واحده، كأنه برهة أو لحظة، فاهتز وجداني  وكأنني في حلم أو  أمام كشف صوفي!  هل هي القهوة؟! ولكن حسنا إن فعلت هي ذلك، لأنها أتاحت لي أن أتحدث هنا وأكتب عن وجه من أوجه حضور القهوه الروحي كما لمسته في نشأتي وصباي من خلال قص أخبار تجمع لنساء في المدينه لحفل شرب القهوه، مرتبة في جولات في منازل مختلفة في أيام مختلفة من الأسبوع، حيث تأخذ طقوس القهوة وشربها دور المحور الذي تدور حوله الدائرة، كاشفة عن المخاوف والهموم والآمال والأقدار لمجتمع بكامله.

2

أحفظ عن ظهر قلب كل ما يدور في مجلس فهوة أولئك النساء فهو نفسه ما دار في الجلسة السابقة منذ ربما قبل أسبوع والجلسة التي سبقته ولن يختلف عنهما هذه المرة في شيء إلا في مكان انعقاد الجلسة فهو دورة حتمية تمر على كل المنازل المتجاورة كل في  يوم معلوم. يأتين في الموعد المعتاد وهو الوقت الذي تميل فيه الشمس ليقضين ربما ساعتين كاملتين في الثرثرة والنميمه،  وعند  اكتمال  العدد  وحضور  من  يُتوقّع  حضورهن،  تبدأ  المضيفه  بالنفخ  على  الموقد المتنقل ( الكانون) الصغير بالهبَّابه وهي رقاقة دائر يه بقطر ربما كان أقل من عشرين سنتيمترا مصنوعة من سعف شجر  الدوم، ثم تضع مقلاتها وعليها حبات البنُّ على الموقد واللهب الأحمر الذي يلفه لهب أزرق رقيق، يتراقص ويَخرج صاعدا من جمر الفحم أسفل المقلاة، فتمضي صاحبة الدار في تقليبه وتحميصه فتتصاعد رائحته فتملأ فضاء الغرفه، ثم أنها تسكب وتنشر كامل البن المحمّص على رقاقه نفخ النار وتمر بها على الجالسات و هي تمد يدها بالقهوة المحمصة تحت أنف كل واحدة منهن لتستنشق هذه منه وهي تمد يدها بحركة تلقائية نحو الخارج وتدفع بكفها الدخان االمتصاعد من الهبّابه وكأنها تطرده بعيدا ثم الى الداخل وكأنها ترحب به أو كأنها تريد أن تحاصر كل الدخان المنبعث من البن المحمص و تستنشق رائحته كلها فلا يفوتها ولو خيط واحد منه، وربما احمرّت عيناها بل وربما أطلقت صوت أجش مـسموع هو تعبير عن رضا ومباركة روح “الزار” الذي يسكن جسمها . ثم تمر الهبّابه للجالسة بجوارها ثم بجوار التي بجوارها وهكذا. وبعد ذلك يأتي دور سحق البن بواسطة مدََقه على هون حديدي صغير كان في الأصل غلاف أسطواني لذخيرة نار ية أو جزء من دانة مدفع إيطالي من مدافع الحرب العالمية الثانية. ثم يأتي بعد كل هذا إفراغ البن في الجبنة، وهي إبر يق من الصلصال المحروق معدة لغلي البن بعد إضافته لها وإغراقه بالماء فيها حتى الفوران الذي يؤذن بحلول وقت توز يع المشروب وتقديمه للضيفات في فناجين صغيره جميله عليها خطوط متواز ية منقوشه بألوان يغلب عليها الذهبي والأخضر. وهناك وفي جوار المضيفه وأدواتها تقف المبخرة تـتصاعد منها الرائحة الزكيه للبان المحروق عليها، مخلوطا برائحة الصندل والجاوي وغيره من الروائح الغالية المقدّره.

وقبل بدأ شرب القهوة ترفع إحداهن، وربما كانت أكبرهن سنا ً يديها نحو السماء وبصوت قوي تبدأ في الدعاء الخاص بقهوة ذلك اليوم،نعم ، فحفل القهوة هذا إن صادف يوم الثلاثاء مثلا فهو يوم الشيخ عبدالسلام أحد الأولياء المعروفين لديهم وإن كان الأربعاء فهو للشيخ عبدالقادر الجيلاني وكل يوم وله شيخ خاص به،  وحفل قهوه مكرّس له، فترفع أكبرهن سنًّا كفيها مضمومتين لأعلى وكأنهما كتاب مفتوح وتأخذ مثلا في تلاوو ذلك الـدعاء الذي لم تكن لتفقه معناه:

قهوة جبأ

سعادة جباء

بـبركة جباء

وبركة من قال جباء

وبركة أهل النبأ

وبركة الشيخ على الشاذلي

وسيدي عبدالقادر الجيلاني

سلطان الأولياء

صاحب الطريقة

إمام الحقيقة

تقرأ الفاتحة بعدها ومن ثم تبدأ وقائع الحفل بعد توز يع فناجين القهوة على الزائرات، ويبدأ سـيل الأخبار الذي كثيرا ً ما يبدأ بخبر سعيد كخطبة فتاة، إبنة لأحدهن أو لواحدة ممن لم يكُنّّ من اللواتي يواظبن الحضور لهذه الدائرة ولكن لهن صولات في دائرة أخرى وأيام أخر. ومن المفهوم أيضا أنه من الجائز أن المواظبات على حضور هذه الدائرة هن مواظبات في دائرة أخرى أو أكثر. وكل دائرة من هذه الدوائر لا بد وأن يكون من بينهن تلك الجريئة، مثل الخالة فاطمة، التي تأخذ على عاتقها قراءه فتح مجلس القهوة. ثم تبدأ النـميمه وأخبار الفضائح الصغيرة و هي أحداث عادية لو نُظِر إليها خارج إطار هذا المجلس أو ذلك.كان هذا كل ما يتم في كل مجالس القهوة النسو يه: شبكة أخبار وتحديث أخبار ومتابعة وتفاعل بين فئات المجتمع النسائي، كل شيئ هنا له أهمية ما بعدها أهمية حتى لو تراءت لك سخيفة غبيه. وسوف تنتهي الحفله بطقوسها وحكاياتها وضحكاتها وقهقهاتها وإشارتها نهاية غير متوقعة و لكنها نهاية تحدث دائما ً. ربما كانت تلك النهاية حلقة أخيرة من الطقوس وربما كانت هي بيت القصيد والهدف الحقيقي لإقامة مثل ذلك الحفل في المقام الأول. تبدأ النهاية عندما يبدأ ذكر أخبار قديمه أو جديدة لها صلة بأخرى قديمة، أبطالها ممّن لايزالون على قيد الحياة أو ممّن ماتوا حديثا أو قديما ً كل هذا لا يهم ،فهؤلاء خلافا ً لكل أموات الدنيا، يعيشون طو يلا ً في موتهم بل إن منهم من يعاملون في بيوتهم وكأنهم مازالوا أحياء تـبـتـغى مشورتهم عند كل  شــدة، فعمامة الراحل العزيز ما زالت تتدلى من المشجب وكأنها تنتظر، كما كانت العادة، أن يخطفها ليضعها على رأسه فيلحق صلاة الفجر في مسجد قريب وعصاه أيضا تقف ما ئلة على الجدار بجوار الباب فهي آخر ما يأخذه معه قبل الخروج وهناك عند أسفل السرير ترى نعاله وإبر يق وضوءه و سجادة صلاته . وإذا كان لهؤلاء الغائبين كل هذا الحضور فإن ذكر أحدهم لا بد أن يأتي عرضا ً أو ربما تخطيطا فتذكر مواقفه ومناقبه وسوف لن تعدم الجلسة واحدة منهن ممن كن على صلة بهذا الراحل المقيم أو ممن كان من أهلها من كان له صلة به، وربما ذكرى عابرة عنه رواها أخوها في يوم من الأيام قبل أن يرحل هو نفسه و يقيم في ذكرى لا تموت، وها هي الآن تلك الذكرى تعربد في صدرها وتضغط على مدامعها. وربما كان الراحل المقيم صاحب يد بيضاء عليها فتجهش بالبكاء وترتجف كتفاها فتقوم جارتها لتهدئها وتهون عليها ولكنها عندئذ تكون هي نفسها قد أصبحت ضحية عدوى البكاء فترتجف كتفاها ثم جسمها كله وينعقد لسانها وتأخذ نفسها في بكاء مكتوم، وسر يعا ما تكون بهذا قد نقلت عدوى البكاء والندب للأخريات. وسر يعا ً أيضا فإن عاصفة النواح والبكاء تلك ستأخذ شكلا ً سيمفونيا ملحنا ً تلحينا موسيقيا ً تؤديه السيدات، تبدأ نغمة منخفضه ترتفع تدريجيا لتنخفض مرة أخرى ثم تكرر نفسها مرات عديده،  فيدمعن السيدات وتحمر ّ عيونهن و تــبتـل خدودهن و بعضهن يتمخطن أثناء وصلة العويل الفنية هذه مرات عديده. ولكن لا يغرنك الإنسجام والوحده التي تبدو في اللحن والأداء الكورالي للجوقه، فتحسب أنهن منسجمات في موضوع حزنهن كذلك، لأن هناك احتمال أن كل سيدة من هؤلاء إنما هي في الحقيقه تبكي لسبب يختلف عن جارتها، وآية ذلك أنك كنت ستلاحظ إن راقبت باهتمام وعن قرب  همهمات تشبه الكلمات، تنطلق من فم كل منهن بما يشبه كلمات نشيد غير مفهومه إلا لصاحبته والتي تختلف عما تنشده جارتها في الجلسة وتختلف أيضا عن كل المشارِكات في هذه السيمفونيه، صحيح أنهن كن متماهيات في اللحن وحركات النغم ولكن ومع ذلك كان الأمر يبدو وكأن كل منهن تدير في رأسها كلمات نشيد مختلف، ولن تعرف كيف كن يوفقن بين هذا وذاك ولكن ذلك هو ماكن يفعلنه بالضبط.

3

 أنا لا أدّعي أن ما أظنه واقع لا لبس فيه ولكني لا أجد تفسيرا للبكاء والحزن الذي تبديه “زمزم” العروس القادمة من الأر ياف الجائعة بعد أن تزوجها “صادق” ،عسكري البلديه، وأتى بها وأقام في الحي ربما قبل خمس أو ست سنوات، وأذاقها الأمـَّّّرين فهو لا يسكن إلـى يبـيـتـه إلا مخمورا ً في ساعات متأخرة من الليل، فيطرق الباب بعصا البلديه القصيرة، التي يغلف صلابتها مطاط أو بلاستيك يشبه المطاط، طرقات عنيفه يسمعها كل الجيران وهو يطلق الشتائم على المسكينه النائمة في الداخل و يصفها بأقذع الأوصاف، وبمجرد أن تستيقظ، وولديها يتمّلكهم الفزع، تــفتح الباب فيـنهال عليها بعصاه الرسمية تلك ضرباً على ظهرها وذراعها ورقبتها…لا يهم أين تنزل الضربه، وفي أي جزء من جسمها، فكله مباح وقابل للضرب، وكل ذلك جزاء إثم لم يـُقْـترف وذنب لم يـُرتكب، ولا تملك المسكينة في هذه الأحوال إلا ّ أن تستغيث بأعلى صوتها مستنجدة بـالـجيران وهم كما لو أصيبوا بالصمم لا يستجيب لاستغاثتها أحد، فكلهم يـتـذكرون أنه في المرات القليله التي استجابوا فيها لاستغاثتها كان صادق يلزم الهدوء في حضورهم وأن زمزم التي كانت تستغيث بهم هي من تصدّت لمن جاؤا استجابة لاستغاثتها فتطردهم وتنعتهم بالسفهاء الذين يتدخلون في ما لا يعنيهم، فيخرجون ورؤسهم منكسة، خاسرين معركتهم حتى قبل بدئها. وسرت نتيجة ذلك إشاعة مؤداها أن زمزم هي من صنف النساء اللاتي ّيستمرِأن ضرب الحبيب، فتسمع منهم من يقول “هي إمرأة تحب الضرب، و زوجها لا ذنب له في ذلك، فهي التي تجلب غضبه عليها حتى يضربها وهو ما تصبو إليه وترغب فيه.  ولكنني الآن بعد هذه السنين الطو يلة، وبعد أن رأيت أساليب غريبه للناس في الدفاع عن أنفسهم، أرى أن الناس كانوا يظلموا زمزم، ولم يروا أنها بإظهار عدم رضاها عن تدخّلِهم، الذي لم يكن ليحدث لولا استغاثتها بهم في المقام الأول، إنما كانت تداهن به زوجها الظالم وتشتري رضاه، وكان عليها أن تفعل ذلك لتدفع عن نفسها شبح الطلاق السهل الذي قد يلجأ إليه زوجها إن هي مضت في ضغطها عليه بالإصطفاف مع مغيثيها، ثم أنه من لها يؤويها، هي وولديها، إن هو اختار البعد عنها وعن الولدين بالطلاق أو بدونه، فهي لا يمكن أن تفكِّر في العودة من حيث أتت، فالأر ياف الجائعة لاتر ِّحب بالعائدين إليها ولسان حالهم يردّد “يارب كما خلقتني.” كانت تعرف كم هي ضعيفة ومكشوفة وفي حال يائسة. فإذا كان لسان حال الإنسان يقول إنما العالم موجود بوجودي، فهل يُـتوقع  من زمزم أن تنسى كربتها، فتبكي ذكرى رجل ميت لا تعرف عنه أكثر مما يقلن رفاق المجلس الحزين عنه ومهما كان لصاحبه ذلك الصيت الحسن، ثم أن هذا المجلس يتيح لها ما لايتيح لها موقع آخر تندب حظها فيه دون أن تثير فضول الآخرين ودون أن يسألها أحد ، فهي لاتستطيع أن تنفرد بنفسها في أي مكان حتى في بيتها حيث الولدين بالقرب منها دائما، والجيران حولها بسبب مشاركة أسرتها الصغيرة في الحوش الكبير الذي يضم ُأسراً عديده مثل أسرتها.

وفي الحقيقة يبدو لي، من على البعد أيضا، أن كل سيّده من حضور مجلس القهوه الحزين هذا، كانت في الحقيقة تبكي نفسها أو تندب حظها. خذ مثلا أمونة و رحمة أليس من الأجدر أن يبكيا على بيتيهما الذي دمّرته الدوله باعتقال زوجيهما بتطبيق مادة ظالمة من قانون أسمته المادة العاشرة والتي بموجبها تستطيع أن تعتقل أي شخص لمدة ثلاثة أشهر دون توجيه تهمه محددة، بل يكفي مجرد الإشتباه بالإنتماء لجماعة سر يه معارضة لحكم الإمبراطور ية الحبشيه وسياساتها، وعند خروج المتهم بعد الأشهر الثلاثه في المعتقل لعدم ثبوت التهمة، فإن الدولة تعتقله مرة أخرى ، ربما في نفس يوم الإفراج عنه بل وفي نفس الساعة على بعد خطوات من أسوار السجن، وتلقي به فيه لمدة ثلاثة أشهر أخرى بنفس الدعاوي. ولقد حدث هذا لزوج رحمه الذي كان يمتلك محلا ً للخياطة وبيع الملابس ولكن غيبة ستة أشهر عن العمل، وتراكم إيجار المحل تسبـبا في الحجز على رأسمال المحل من أقمشة وماكينات الخياطة وكل شيئ داخل المحل، وهكذا وجدت رحمة نفسها في مهاوي الفقر والفاقة هي و أطفالها الثلاثة بلا أمل في الخروج من المأزق المفروض عليها حتى بعد الإفراج عن زوجها الذي لن يجد حينه ما يفعله بعد أن تـبخّر رأسماله إلا أن يفعل ما فعله من سبقوه، أن يهاجر للبحث عن العمل في “راستامور[1]ا” حيث يقضي سنوات وسنوات في مهجر قد يقضي أجله فيه و لا يعودمنه أبدا ً. أليس من الأجدر أن تبكي حالها وتندب حظها؟ لايمكن أن يكون الأمر إلا ّ كذلك، لا بد أنّ كل واحدة منهن لها من الأحزان والآلام ما لا يترك مجالا ً في نفسها للحزن على رجل أو امرأة كانوا قد شبعوا  موتا. حتى “مريم” ، كان أولى لها أن تندب حظها مع زوجها الطاغية الذي قالت عنه خالتها  زينب ودعته بالفرعون، إنه حتى وهو مع كرمه وسخاءه، فإنه لا يمكن أن يكون لها معه رأي أومشورة حتى في تزويج ابنته وإبنتها ذات الثلاثة عشر ربيعا ً لابن صديقه زين، فتىً كان يظهر الورع والتدين حتى يتزوج ثم ما لبث بعد الزواج أن أظهر شخصيته السكيرة العربيدة فأخذ بضرب المسكينه بل إنه بعد وقت قصير من الزواج كسر عضد العروس فهربت منه لبيت أبيها الذي أعادها لبيت زوجها وبرّر فعلته هذه بحديث نبوي ربما اخترعه شيوخه له ولأمثاله فقال “لو أمرت أحدا ً أن يسجد لأحد لأمرت المرأه أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها.”

كان لمريم الكثير لتبكيه فلا حاجة لها لاستحضار ذكرى عزيز ميت،  فلها ما يكفيها من متاعبها مع الأحياء مما لا يترك مجالا ً للحزن على اموات أكثر حياة من الأحياء.

وهذه زبيده المرأه الأربعينيه الفائقة الجمال هل يمكن أن تبكي موتى لا تعرفهم وهي نفسها غارقة في المصاعب، وتعيش فضيحة سببتها إبنتها ذات الثامنة عشر، لم تـُنـْسَى بعد. فإبـنـتها “نجمة” هذه كانت كأمها صارخة الجمال، قوية الشخصية، بديعة الحديث. ولقد نشأت نجمة يتيمة الأب  بالرغم من وجود أبيها الثري في نفس المدينه ولكنه لنقمته على أمها، زوجته السابقة ” زبيدة”  التي رفضت الحياة معه لسبب في نفسها لم تصرِّح به لأحد، قرّر مقاطعة الأم وابنتها مرة واحدة، وأخذ بالعيش مجدداً مع زوجة جديدة وأبـناء وأبناء جدد. وماكان لزبيدة والحال هذه إلاّ أن تشمر عن ساعديها لتوفر لنفسها ولبنتها معاشا يـقيها شر المذلة التي لابد وأن الزوج كان يحسب أنها ضمن خزائن أسلحة الرجال الفتّاكة والتي لا بد وأنها وفي نهاية الأمر أن تعمل على إعادة المرأة لصوابها. ولكن المرأة أثبتت طيش ظنه لأن المرأه فضلت، فيما يبدو، فقدان صوابها نهائيا على العودة لعصمة رجل لم تـعد تحبه، فابتكرت لنفسها طرقا للتعيش والكسب كان منها شراء الألقمشة والبضائع النسائيه من الموردين الهنود والعرب اليمنيين وإعادة بيعها لنساء الأحياء البعيده عن مركز العاصمة وأسواقها. وبجانب هذا النشاط التجاري كان البيت، المكون من حجرتين، والذي تتخذ المرأة منه سكنا، ملكا لها ورثته عن أبيها، هذا بالإضافة لغرفة ثالثه استأجرها منها ذلك اليمني منذ سنوات طويلة وبدأ فيها منذ ذلك الحين بانشاء وإدارة مقهى آل في نهاية أمره لأن  يرتاده في فترته المسائية مقاطيع الحي من المدمنين على لعبة الدومينو وأوراق الكوتشينه والمقامرة عبرهما. وكان على نجمة الجميلة أن تساهم في دعم طريقة الحياة الصغيرة هذه وذلك بأن تجلس على باب بيتها أمام أكوام صغيرة من الطماطم والبصل والبطاطا والشطة وما إليه من الخضروات لزمن طويل تنتظر بيعه لمن لا يستطيع أو لا يحتاج لكمية كبيرة يدفع .ثمنها بالكيلو من سوق الخضار، أو لمن يحتاج لهذه المواد لإعداد وجبة واحده فقط. واستمرّت الحال على هذا المنوال حتى كان ذلك اليوم الذي رأى فيه ذلك الثري اليمني العجوز “نجمة” مع أمها حتى طار لبه، فأغرى أمها وأطمعها بحياة سهلة لبنتها فوافقت الأم بالرغم من اعتراض ابنتها، ولكن المرأه لم تترك لابنتها سبيلا وقام بين الأم وابنتها صراع حسبته المرأه أنها كسبته في النهاية وإلى ما قبل يوم الزفاف الموعود، حين اختفت الفتاة من بيت أمها، ولم يعثر لها على أثر في كل مكان بحثوا فيه عنها. وفي اليوم الخامس من اختفاء الفتاة، ظهرت وهي تطرق باب بيت أمها التي فتحت الباب فدخلت الفتاة، وطرحت القماش الذي كان يلف رأسها، ففوجئت الأم مما رأت، وكادت أن تقع مغشيا عليها، فلقد كان رأس بنتها حليقا خاليا تماما من شعرها الجميل، ليس هذا فحسب بل أن حاجبيها أيضا كان حليقين كالرأس تماما. وهنا فتحت الفتاة فاها وقالت “الآن أقبل الزواج بالعجوز ولكن عليه أن يعلم أن هذا سيكون مظهري دائما. وانتشر الخبر في الحي والأحياء المجاوره، واختفى اليمني العجوز ولم يظهر بعد ذلك أبدا. غير أن ظريفا من ظرفاء الحي الذي رآها  في حالتها تلك قال إن “نجمة” الحليقة أجمل كثيرا مما كانت عليه، وأن اليمني العجوز كان سيقبل الزواج بها فورا لو رآها في حالتها الجديدة. ولكن الأمر كان بالنسبة لزبيدة فضيحة كبرى لم تتحملها فأوقفت تجارتها، وأصبحت تعيش في فاقة، لا معين لها إلا أجرة الحجرة التي تشغل مقهى اليمني الآخر. فهل ياترى وفي حالتها هذه ما يدعوها للندب والبكاء على غير نفسها؟ لا أظن ذلك! 

عند هذا المنعطف لا بد لي أن أقول شيئا عن الخالة فاطمة، فلقد كانت هي نجم كل حفلات شرب القهوة ودعامتها الأساسية، فهي أكبرهن سنا وأكثرهن حنكة، وبالرغم من أنها أقلهن حديثاً إلّا أنها كانت أكثرهن وضوحاً وفصاحة عندما تختار التحدث. كان حديثها يتميز بالفكاهة والأمثال والحِكم،  وكانت ردودها  مليئة بالتهكم والسخرية فتجعل عيون تلك النسوة تمتليء بالدموع وتتلالأ من البهجة بالرغم من مظهرها الصارم، وكانت تعقيباتها الفصيرة ولسعاتها الحادة  تفجر ينابيع الضحك عند الجميع مع انها لم نكن تضحك مع الجمع بل تظل محافظة على مظهرها الصارم دائما. كانت الخالة فاطمة ذات شخصية قوية يمكن ان تنكمش أمامها ليس شخصيات النساء بل ويمتد ذلك حتى على شخصيات الرجال، ويحضرني في هذا السياق قصة ذلك الوجيه الثري الذي تزوج بفتاة تصغره بثلاثين عاما بعد ٱن طلق زوجته العجوز التي عاشت معه لأكثر من ثلاثين عاما. ولم يتجرّأ أحد أن يعترض أو يلوم الرجل  نظراً لثراءه وسطوته. كان الكل يخشاه ويطمع في البقاء على قائمة خلصاءه و أصدقائه مما جعل الرجل العجوز المتصابي يبدو وكأنه في مأمن من الإنتقاد. ولكن احساس الرجل بالامان من هذه الناحية تهاوى حين اقتحمت الخالة فاطمة مجلسا للرجال، وهو أمر مستنكر ولا سابقة له في هذا المجتمع المحافظ، ثم وقفت برهة وجيزة وهي تحدق وتمر بعينيها على الحاضرين  وكأنها تتفحصهم، ثم انفجرت فجأة وهي تشير بسبابتها للشيخ التصابي و قالت بصوت واضح مرتفع انت ايها الفرعون، اراك تظن نفسك رجلا يجلس بين الرجال، لا أنت ذلك ولا من حولك من القرود المداهنين كذلك. ثم استدارت وخرجت من المجلس والرجال داخله مذهولين.
كانت الخالة فاطمة هي الوحيدة التي لم تكن تشارك في سيمفونية ندب الموتى تلك وربما كان هذا ما جعل “دهب”، الثرثارة وأصغر الجمع، تلقي بتعبير يعوزه التفكير وينطوي على اتهام الخالة فاطمة بالفظاظة وغلظة القلب لعدم مشاركتها في ندب موتى ربما لم تعرفهم. قفزت الخالة واقفة وكفيها يحيطان وسطها من الجانبين للحظة، ثم مدّت يمناها وأشارت بسبابتها لدهب وقالت أنت بلهاء لا تفقهي ما تقولين ثم صمتت للحظات مرت بعدها مشيرة بسبابتها وقالت كلكم بلهاء، ألا تدرون أنني أعرف أن كل واحدة منكن إنما تبكي لسببها الخاص؟ أتحسبون أني لا أعرف أن كل واحدة منكن إنما تبكي لسببها الخاص؟ إنكن تفعلن ذلك لأن البكاء مع الجماعة أكثر حلاوة وطلاوة. أنا لا أشترك معكم في معزوفاتكن لأني أعرف سببا  يدعو لأن يبكيه الجميع ولكن لا أحد يذكره، أنا إن بكيت فسوف أبكي عليكن بالجملة! سوف أبكي اجتماعنا هنا لأن ذلك كله سوف يضيع ويسلك نفس طريق من تبكون لأجله: الفناء! وسوف لن يذكر هذا الجمع أحد وسيغرق في بحر النسيان، أنا لا أري سببا أكبر من هذا يستحق البكاء عليه!   

هكذا كشفت الخالة زينب رعبها، هو رعب النسيان الذي سيلحق بها إن عاجلاً أو آجلاً، وحينها لن يذكرها أحد وكأنها كانت لا شيئ. ولكن مالم تعرفه ولم تـتـصوره أبدا هو أنّ أحداً، وبعد سنين طويله، و من الوجه الآخر للكرة الأرضية، سوف يـنتشلها من بحر النسيان الواسع ويروي قصتها لأناس لم ولن تعرفهم  وكان ذلك سيسعدها وأتخيل وجهها مشرقا سعيداً وعليه ابتسامة خفيفه وهي  تقول لي: “ما أروع ما فعلت”، وأتخيلها بعدها وابتسامتها تنحسر  وهي تضمني سريعاً إلى مجموعة دائرة قهوتها، دائرة الحب والمصير  تلك : “نعم، ما أجمل هذا منك”، ولكن لا فائدة فهذا أيضا سيسلك نفس سلوك دائرة الحب، وسوف يمضي، مثلها، إلى الفناء، وهذا فقط هو الجدير بالبكاء عليه”.
 


[1] راستامورا هو تحريف لاسم “راس تنورة” بالسعوديه حيث نبع البترول فيها و كانت مقصد الشباب يسافرون إليها للعمل.

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47602

نشرت بواسطة في يونيو 30 2025 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. يمكنك ترك رد او اقتفاء الردود بواسطة

رد على التعليق

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010