العذر والغياب

فتحي_عثمان
علّق الأستاذ عثمان حجاي (بن حجاي) على مقال حجة الغياب الدبلوماسي بإشارات تحفز على الحوار البناء. فهو يقول بأن “الغياب هو أفضل من شر رفض القرار”، وأن التغيب عن جلسة التصويت قد يعني أن ارتريا اختارت دعم القرار وليس رفضه، كما أذهب أنا في تفسيري للتغيب. ويشير كذلك إلى أن مواثيق الأمم المتحدة لم تفسر الغياب ومعناه. والحقيقة هذه نقاط محفزة للنقاش والحوار وبمناسبتها أود طرح بعض النقاط علّها تجلي بعض الغموض خاصة فيما يتعلق بغياب ارتريا عن جلسة التصويت لصالح الدولة الفلسطينية.
كما هو معروف يثير الغياب في العادة تخمينات وتقديرات حول أسباب الغائب وأعذاره؛ ففي السياق الاجتماعي تختم هذه الحيرة بمقولة “الغائب عذره معاه”. ولكن في السياسة الداخلية والخارجية للدولة لا يكون الغياب بعيداً عن التأويل والتنبوء المدروس. حيث أن أي تصويت بالرفض أو بالقبول أو بالامتناع أو حتى الغياب عند التصويت يكون فعلاً سياسياً مخططاً له، وفي الغالب يكون له ثمن. فعندما صوًت اليمن في مجلس الأمن (كان حينها ممثلاً لمنطقة غرب آسيا) ضد مشروع قرار الولايات المتحدة بشن حرب ضد العراق، هدد مندوب الولايات المتحدة اليمن بالقول أن ذلك “أغلى تصويت بالرفض، وسيدفع اليمن ثمنه، وقد كان.
في الدراسات السياسية والدبلوماسية يلجاً الدارسون إلى مؤشر السجل التصويتي Vote record لقياس إتجاهات سياسة نائب في مجلس النواب الأمريكي (الكونغرس) تجاه صناعة السلاح وتصديره ومنح الدول الأخرى مساعدات عسكرية، على سبيل المثال. فإذا كان عضو الكونغرس المدروس قد جلس في ثلاث دورات انتخابية، في هذه الحالة يقوم الدارس بدراسة مرات تصويته ضد ومع وكذلك مرات امتناعه وغيابه عن جلسات مشاريع القرارات المتعلقة بالصناعات الحربية وبعد التناول الإحصائي والتعليلي قد يصل الدارس إلى أن النائب يصوّت دوماّ لصالح مجمع الصناعات الحربية، وبعد البحث قد يعثر على أدلة قاطعة على قيام هذا التجمع الصناعي بدعم حملات النائب الانتخابية، وقس على ذلك علاقة النوّاب في مجلس النواب بجماعات الضغط المختلفة وإمكان دراسة ذلك من خلال سجلات التصويت للنوّاب.
في السياسة الخارجية يمكن اعتماد مؤشر السجل التصويتي لدراسة إتجاه السياسة الخارجية لدولة ما إزاء موضوع محدد. على سبيل المثال قد يقدم طالب سياسة دولية سؤال افتراضي حول دور الاتحاد السوفياتي السابق في دعم حركات التحرر الوطني في الأمم المتحدة في الفترة من 1950 وحتى 1985، ويقوم بدراسة تصويت مندوب الاتحاد السوفياتي ضد أو مع واستخدام حق النقض (الفيتو) وعدد مرات التغيب عن التصويت في مختلف هيئات الأمم المتحدة وبعد تحليل الإحصاءات يمكن الوصول إلى نتيجة عما إذا كان سجل الاتحاد السوفياتي التصويتي في الأمم المتحدة يدعم قضايا التحرر أم لا، وربط ذلك مع سياقات السياسة الخارجية للاتحاد السوفياتي وموقفها من قضايا تحرر الشعوب.
قد يجد طالب العلاقات الدولية صعوبة في متابعة السجل التصويتي لدولة إرتريا لعدة اعتبارات أهمها أنها دولة جديدة في الأمم المتحدة ولم يمضي على عضويتها أكثر من ثلاثة عقود ونصف، إضافة لاعتبارات أخرى.
فما هو البديل لدراسة موقف إرتريا في حال عدم كفاية سجل المؤشر التصويتي؟
البديل هو تحديد مواقف الرفض أو القبول أو حتى الغياب قياساً إلى أن أي موقف من هذه المواقف لا يأتي صدفة بل هو موقف مدروس سلفاً.
وكما يشير الاستاذ بن حجاي أن الغياب الإرتري من جلسة التصويت قد يكون أفضل من الرفض؛ لأن الرفض المباشر له تبعات، بينما الغياب يمكن تفسيره في أروقة الدبلوماسية الخاصة.
ويشير بن حجاي إلى تفسيري لغياب إرتريا بالرفض، إنما هو مبني على موقف أفورقي من القضية الفلسطينية، أو بالتحديد بعلاقاته مع فصائل المقاومة الفلسطينية خاصة بعد فتح الجبهة الديموقراطية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مكاتب اتصال لها في أديس أبابا في عهد الرئيس الأسبق منغستو ودعم تصوراته لحل القضية الارترية. وهنا تنبغي الإشارة وبوضوح أن إسياس أفورقي يعتبر أن الجبهة الشعبية هي “الثورة الارترية” وما قبلها لم يكن ثورة، لذلك قام بالمهام الإصلاحية الكبرى فيها، وعليه فإن أي علاقات سابقة لفصائل المقاومة الفلسطينية مع أي فصائل أخرى، هو أمر لا يعنيه وقد عبر عن ذلك أكثر من مرة.
بالنسبة للنقطة الأخيرة والتي يقول فيها بن حجاي أن وثائق الأمم المتحدة لا تفسر الغياب، نقول أن الكثير من الممارسات الدبلوماسية لا تفسرها قوانين مكتوبة، بل تفسرها “الأعراف المتواترة” وهذا ما يعرف بالأعراف الدبلوماسية، وهي مكينة في هذا الحقل، وترقى إلى مصاف التفسيرات الحجية المعتمدة. فاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 لا تتحدث عن “سحب السفراء للتشاور” ولكن هذا التصرف هو ممارسة دبلوماسية دارجة ويختلف البعض في تفسيره من كونه أقصى درجات الاحتجاج الى “التجميد المؤقت للعلاقات الدبلوماسية” دون القطع الكلي للعلاقات بين بلدين.
عليه فإن التفسيرات المبنية على “المؤشرات السياسية والدبلوماسية” تبقى هي الأداة الأمثل لرصد تصرف الدولة بخصوص شأن موقف ما. وبناء على ما سبق فسرنا الغياب الارتري كرفض غير مباشر قياساً لمؤشرات الموقف الرسمي للدولة من القضية الفلسطينية، وبالطبع لا يشفع هنا التفسير الذي يقدمه البعض بأن ارتريا لا تؤمن بحل الدولتين لأنها “تؤمن بالاستقلال الكامل لفلسطين” وهو تفسير يتطوع به البعض دون إدراك معناه، أو إدراك أنه “حق يراد به باطل”.
في الختام شكراً للأستاذ عثمان حجاي لهذا الإثراء الدسم للموضوع بما يفتح آفاقاً أوسع لفهم ممارسات السياسات الداخلية والخارجية لارتريا تحت إدارة أفورقي الكارثية للبلاد.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47712