إختطاف التعليــــــــــــم (3)

بقلم: بشرى بركت

 

لا أدري إن كان قد إختلط عليّ الأمر، فتارةً أجد نفسي محاولاً الوصول إليكم بمنتهى المصداقية دون المُرور على مقصّ الرقيب الذي بداخلي، وفي أحيان كثيرة أعترض على الشّفافية التي أحاول الوصول إليكم بها معتقداً بأنّ الإفاضة بالمعلومات التي تجرح أكثر مما تساعد على الحلّ، والتي قد تكون أكثر إيلاماً من أهمية الرّسالة التي نبتغي الوصول إليها من خلال ما نقول، يتوجب سحبها قبل القول بها، إذ أنّه ليس لها مكان في الصدارة لغلبة الجوانب السلبية فيها على الإيجابية.

أمّا اليوم سادتي، فربما رأيت شيئاً ما يختلف كلّ الإختلاف عن هذه القاعدة، وربّما كان لذكر شيء من الأحداث وبقليل من المواربة على الأسماء وبشيء من التخفيف قد يقدم لنا دلالة لما يمكن أن نواجه ونحن نسعى في سبيل المجد وصولاً إلى العُلا – إنطلاقاً من القاع الذي أصبح لنا موطناً بعد أن وثقنا بالكوماندوس وعاونهم في ذلك أطراف أصيلة منّا، سامحهم الله، هذا بالرغم من أنّ ما علينا فعله أعمق من حالة اللوم المتبادل ولا يمكن أن يتسع المجال للإستمرار في “لواكة” الماضي تاركين وراءنا الحاضر بكل تعقيداته، فالأمر جد جلل والحال جدّ خطير.

أسمحوا لي أن أذكر بعض الشيء عن شخص واحد فقط، ولكنه كان بمثابة مؤسّسة كاملة تقود المصائر في أزمانها يوم أن كان لنا أمل في الغد الباهر المبني على التعليم بشموليته الدنيوية والدينية، هو ذاك المجهول الذي أدعوكم إلى عدم مطالبتي بالقول عنه بأكثر مما سأقول، في الفترة الحالية على الأقل.

فبدايةً إسمحوا لي أن أشير إلى أنّ مدرسي اللغة العربية ومشايخ المعاهد الذين هم في غياهب السّجون اليوم كانوا مشروعا نورانيّاً تم إستئصاله لصالح مشروع ظلامي أراد التخلّف والإنحطاط لمجتمعنا، وليس أدلّ على ذلك شيء أكثر من الإجابة على السؤال القائل: أين وصلنا بغيابهم عن حياتنا؟ فهذا سؤال محاولة الردّ عليه تدمي القلوب، فالبلاد التي كانت الإستقامة سمتها الرئيسية أصبح فيها البديل الإنحلال في كلّ ركن وزاوية، وهذا يعرفه جيّداً من عاش في إرتريا في الفترة ما قبل “إستقلال” وإستفراد إساياس بنا، وقد كان طلاب المعاهد هم الأكثر تميّزاً على الدوام فأصبحوا بعدها في ذيل كلّ القوائم، وفي إغتيال مشروعنا وإزدهار مشروعهم كان للمجهول وغيره من المجاهيل دور ما لا يمكن الفقز فوقه هروباً.

المجهول

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كان هذا المجهول أول من أتى إلى إرتريا ممن تخرجوا في السعودية، وجه صبوح مبهج، ولبس براق أبيضَ ناصع، وتعامل مريح بكلّ المقاييس، وعلم يفيض هنا وهناك ومصادر العلم من الكتب تصل إلى كلّ الأيدي الرّاغبة وغير الرّاغبة فيها. إنّها كانت بحق فترة فارقة في حياة مدينتنا الصغيرة، وقد أكون في وضع الإتهام المُباشر له بما لم أكن صاحب حقّ فيه إن قلت بعضاً من عناوين الكتب، وقد أنتقص من قدر الكتب ورسالتها حين نذكرها في وضع مصاحب  لذكر ما آل إليه حالنا، فدعوني أن لا أذهب بكم إلى الفروع وأترك الهدف الرئيسي من حديثي إليكم اليوم.

بالعودة إلى الحالة العامة التي كانت سائدة حينها فتتمثّل في أنّ الكلّ قد إبتهج بهذا القدوم الميمون، والكّل قد إنتفض للإستفادة من الشّخص الأهم الذي ظهر على السّاحة وقد وصلت عطاياه من الكتب حدّا لم يعرف أحدٌ مثله أبداً، وقد أقول جازماً أنّ نصيب الفرد القريب منه من الكتب كان بالعشرات، ولكن لم يهتم أحدٌ ولم يتنبه فردٌ إلى المنطق القائل من أين أتت هذه الكتب وكيف دخلت إلى البلاد في حالة الحصار المطبق الذي كنّا نعيشه آنذاك، ومن موّل كلّ ذلك؟؟

كان بينه وبين كبير كبرى المؤسّسات التّعليمية التي حملت مشاعل النهضة بالمجتمع المسلم في مدينتنا الصغيرة تواصل الأب بالإبن، فهو أول ثمار عمله الدّؤوب إذ أتى ليخفّف عنه ثقل أحمال المهمّة الصّعبة في تأكيدٍ لإستمرار الرسالة التعليمية الحميدة وإنتقالها عبر الأجيال إلى ما شاء الله، خاصّة وأنّ هناك من أتى قبله إلى المؤسسات الأخرى من خريجي المركز الإسلامي الإفريقي في الخرطوم وعملوا على تحسين الأداء فيها ((سنشير في حلقة اليوم إلى أوّلهم وهو الأستاذ حزوت)).

ظهرت حالة إرتباط يمكنني تشبيهها بالحبل السّري بين هذا القادم الجديد وهو الذي تعلّم بالمنهج السّعودي والآخر الذي تربّى على الكتب القديمة داخل إرتريا، في نهاية تحتّم التّناقض التّام بينهما، وتعلمون علاقة من كان على المنهجين في ذلك الحين، وقد كان لهذا الإرتباط المشبوه تفسيرات رُبّما كان يمكن أن تحملها أحداث توالت وحقائق عاشها من عاشها ولن نسعى للإسهاب فيها لأسباب معروفة لديكم.

أبدأ بالقول بأنّ الكتاب من أيّ نوع كان وأيّاً كان مضمونه، ظلّ في ذلك الوقت حلماً صعب التّحقيق في أمّة كلّ كتبها تبدأ من الصفحة العاشرة فما بعده وتنتهي قبل أنتهاء رسالة الكتاب بعشر صفحات فما قبله (على سبيل التعبير عن إستهلاك الكتب)، وعليه كان سبيل المجهول ممهّداً إلى قلوب طلاب العلم بسطوة الحاجة وجاذبية الأسلوب.

كان هذا السّخاء في الكتب أكبر وأعظم حين نذكر المدرّسين الذين كان يتعامل معهم ويجمعهم هو قرينه في ولائم دورية، وربما كان في ذلك شيء من التأطير أو التجميع لعمل ما سيأتي!! والأحاديث التي كانت سيدة الموفق في اللقاءات الدورية تشبه بالدعوة للقول بالرأي في شأن القادمين الجدد، خاصة بعد عملية نادو إز وتحرير مصوع والإقتراب من أسمرا عبر جبهات قندع ودقمحري. والكلّ كان يسهب برأيه فالرأي في الصحبة من هذا النّوع في مأمن!! لأن الرّابط المتوقع بين أصحابها أكبر من كلّ شيء.

الحوارات كانت تعرُج بـأهلها إلى قراءاتهم من الكتب التي تدفقت عليهم من سخاء المجهول، ومن ثمّ كان يقود الحوارات برفقه عزيزه الآخر “من الجانبين”!! كان الأقدر على جمع المعلّمين في إطار واحد يتحلّقون حول حوار موجّه، وأذكر في إطار ذلك حدثاً مفصليّاً كان في مساء يوم الأربعاء 29 مارس 1989م، كان اللقاء في منزل المجهول، وكان لهذا الحدث ما يميّزه حيث كان مصاحباً لمناسبة حسبها الجميع أنّها أتت بمحض الصّدفة، وربّما كان لهذا اليوم دور الحسم في ما آل إليه حال أمتنا، كان عزيز المجهول في حالة إعياء تام وكان مُصرّاً على أن يكون حاضراً. كان لقاءاً غاية في الغرابة والتّوقيت حيث الإحتفال بسنوية نادو إز. وراديو صوت الجماهير يصدح بعالي الصوت محتفلاً (ربّما أدّعي أنني لم أسمع تلك الإذاعة بذاك الوضوح مما يعني أنّه كانت هناك مقويات إرسال ما!!) الحوارات كلها كانت حول الحدث وما سيتبعه من تغيير جذري لتوقعات المآلات والمصائر بالنسبة لأمّتنا. أتت بعد هذا اليوم لقاءات أخرى متتابعة بنيت على ذات مضامين الحوارات السابقة، ممّا أوحى لي مؤخّراً بأنه كان عمل لتجميع أكبر قدر ممكن من المفاهيم ورؤى المستقبل في التّعليم أوّلاً ثم في كلّ شيء آخر. وقد أدعوك عزيزي القارئ أن تمرّ على حديثي هذا ببديهيات التّحليل المنطقي حتى تصل إلى فهم موضوعي لما حصل.

كان للنّظام وعياً تامّاً بأنّ هؤلاء الناس يحلمون بغدٍ أفضل لمجتمعهم، والتّعليم كان وسيلتهم المُثلى في ذلك، الأمر الذي سيتناقض مع مشروع التّجهيل والإستئصال التي أتت به دولة “بليغات” ساكنة الحفر من خباياها وإنخفاضها تحت سطح الحياة العادية.

ثمّ تلا ذلك ما تمّ من إستئصال المشروع التنويري وإستبداله بمشروعم الظلامي، وقد يكون كاشفاً أكثر حين نُطِلُّ على ما سارت عليه الأمور لاحقاً، حين قام المجهول بالإشراف على العمل الذي إستهدف إعادة هيكلة ما تبقى من المعاهد بحيث تتبع النّظام التعليمي الحكومي قيد الإنشاء حينها، ويتم تطويعها لما أراده النّظام إستكمالاً لمشوار الإستئصال، ثم سارت الأمور وتتابعت الأحداث في ظلّ غياب المعلّمين المخفيّين قسريّاً، ومن ثمّ تمّ تطويق المعاهد من كلّ جانب إلى أن وصلت اليوم حدّاً يقارب الإستئصال التام.

وفي الجانب الآخر كان التقّدُّم المطّرد للمجهول مذهلاً حيث الأملاك المهولة من الأراضي والبيوت والسيطرة الكاملة على الأوقاف في أسمرا، ومصير كلّ مؤسسات التعليم العاملة باللغة العربية في البلاد، إلى أن كتب الله عليه النّهاية التي أرادها له، وبما أنّه اليوم بجوار العزيز الرحيم فلا مجال لنا أن نقول عنه شيئاً بل إنّما نستقي ممّا حدث دروساً وعبراً.

تلكم كانت فترة قد خلت، مع العلم بأنّ لدينا تفاصيل دقيقة ووثائق متكاملة ليوميات بطلاها المجهول وقرينه، وقد يأتي يوم في إرتريا المستقبل لسردها لمجتمعنا فهو الحكم الفصل وليس غيره.

بالعودة إلى شأن المعاهد التي عمل المجهول بالتّعاون مع النّظام الغاشم على إغلاق أبوبها أو على الأقل تحجيم قدرتها على المنافسة بعد أن كان التّنافس في فترة ما – بينها فقط – حيث أنّها كانت الأشمل والأكثر تنويعا، وكان تنافساً آخر أقوى بين المعاهد رغم ضآلة الإمكانيات وكان لكلّ معهد ما يميزه من الأنشطة التي كان يقدمها، وكل شيء من هذا كان يعتمد على الشباب القائمين على المعاهد وكان لمن يستطيع إستيعاب أكبر قدر من الشّباب ويحقّق لهم الصّدارة الغلبة في الأنشطة والرياضة والفنون والتفاعل مع المؤسسات التّعليمية الحكومية الخ ((أذكر في إطار ذلك الأستاذ نافع – سنقول بشيء من جهده اليوم))،،،

وبما أنّ أول القادمين من الشباب من السودان كان محمد طاهر حامد (حزوت) وقد تفاعل بسرعة منقطعة النّظير مع من كانوا طلابا معاونين في التدريس ومع المدرسين الشباب ممن لم يكن لهم الكثير من الخلفية الخاصة بالمناشط عدا ما كان متاحاً لهم من قبل النظام التعليمي الإثيوبي، كانت بدايته يشوبها بعض المصاعب إلا أنه كونه عاش بعض الفترات مع من هم ناشطون في الحقل التعليمي من الشّباب ويعرف بعضهم حقّ المعرفة، ولذلك استطاع التّغلب على كل ما واجهه من مصاعب.

حزوت

كان باكورة العمل التّجديدي الذي قدم إلينا من الخارج لنتحرّر من خلاله من التقليدية في التعليم التلقيني الآمر النّاهي، إلى التعليم الأحدث بعض الشيء، ذلك لأنه حمل بعضاً من المناشط فوق التلقين فالحفظ فالتسميع فالذهاب إلى المنزل.

رُبّما كان أول من قدّم حصة تعليمية في معاهد كرن من أولها لآخرها باللغة العربية دون أن يزيد كلمة من أيّ من لهجاتنا المتعارف عليها، (فالمألوف في الأمر كان الوصول بالمعلومة بالطرق الأسهل قبل ذلك وأذكر ضمن ما حدث أنّ طالباً أجاب على سؤال فقهي في إمتحان نهاية العام بلغة محليّة فكان على المدرّس أن يصححها باللهجة التي كتبها بها)، في هذه الأجواء تحدّث بالفصحى التي تتنازعها اللهجة السودانية، ولكنه ما أن يخرج من الفصل تحدّث إليك بما شئت من اللهجات المتداولة.

أذكر له أول حصة في أول أيامه حين شاءت له الأقدار أن يتعامل مع الفصل الأكثر شغباً في المعهد.

دخل إلى الفصل في صحبة المدير، وكالعادة قال المدير “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”، ثم أمر الطلبة بالقيام. قام الكلّ في صمت مريب بعد الرّد على السلام بصوت قوي موحّد وعيون الكلّ ترمق هذا الجديد حاد النظرة ويتجول بسرعة في وجوه كلّ الطلاب حيث بدا وكأنّه يحاول أن يجد فيهم وجهاً مألوفاً ربّما!!

أمر المدير (ضخم الجسد – سريع الحركة) الطلبة بالجلوس وقام بالتّقديمة المعتادة لدى قدوم الجديد بصوته القوي، وذلك يكون دائماً فيما يخص الأدب والإحترام والعقاب الممكن في حال عدم الإمتثال للضوابط، ثم قال “هذا هو الأستاذ محمد طاهر حامد أكد من أقدم طلابنا وقد إلتحق بالدّراسة في السودان وعاد ليُسهم في مسيرة التعليم وأنه نموذجٌ للوفاء والإخلاص، فما أن أكمل دراسته قام بشدّ الرّحال في وجهته الوحيدة التي هي أنتم فاستفيدوا منه قدر المستطاع ولا تفوتوا الفرصة”، ثم قدم الطلبة للمدرس مشيراً إلى أن في هذا الفصل الكثير من الطلاب المميزين ستتعرّف عليهم في مسيرتك، “وفقكم الله جميعاً” ختم بها بصوت خافت ثم انصرف.

بالفعل كانت فرصة عظيمة للطلاب ولكن ليس ليستمعوا له وينصتوا إليه لينهلوا مما أتى به من علم بقدر ما كانت فرصة للإستهزاء واللعب شأنهم شأن الكثير من الطلبة في سنّهم.

كان المدير قد أشار إلى أنّ الأستاذ محمد طاهر سيكون مسؤولاً عن مواد المطالعة والإنشاء والإملاء لذات الفصل المشاغب.

ما أن خرج المدير من الفصل نظر الطلّاب إلى بعضهم البعض مستفيدين من مرور المدرّس إليهم الواحد تلو الآخر سائلاً إياهم عن أسمائهم وعن المواد المفضلة لديهم مركزاً على المواد التي كان عليه أن يقوم بتدريسها، وقد كانت فرصة مميزة لهم ليرسموا في أذهانهم صورة كاريكاتيرية إستناداً إلى أسلوبه في الحديث عليهم وطريقة لبسه الخ، رغم عاديته، فالشّيء الوحيد الذي يميّزه هو النّحافة في الجسد والحدّة في البصر والصوت القوي الذي يجعلك تحسّ أنه يخطب في جامع دون مكبرات للصوت، ثم الحديث باللغة العربية فقط عكس ما كان سائداً.

وقبل أن يكمل جولته بدأت أصوات الشّغب والتّعليقات تتعالى، وبما أنّ العدد كان كبيراً في الفصل فإنّ الأصوات كادت تخرج عن السّيطرة، فعاد إلى المقدّمة وطلب من كلّ طالب أن يقف وينظر إلى زملائه ثمّ يقدّم نفسه، وتحدّث إلى بعضهم بخصوصية حيث أنّه يعرف إخوانهم الأكبر الذين درسوا معه ممّا كان فرصةً جيّدة لتحييد بعض المشاغبين.

في الحصة التالية التي كانت في نهاية الدّوام في ذات اليوم حيث يكون الكلّ قد ملّ ويأمل في نهايتها للجري إلى خارج المعهد، دخل وتحدّث إلى الكثير من الطّلاب بأسمائهم وكان مرحاً فاستأنس المشاغبين وقسّم الفصل إلى ثلاثة كلّ قسم يعمل في مادّة بعد أن خيّر الطلبة عمّا إذا كانوا يفضّلون ذلك ثم أعطى كلّ قسم مهمة سيقومون بها في منازلهم (الواجب المنزلي) ثمّ إبتدأ في عمل جمل أوّلية بصوته الجهور ب – العصفورُ نُقط نُقط – “العصفور ………” في دعوة لإكمال الجملة بكلمات كلّ يختارها كيفما يرى. كانت حصّة ملؤها المَرَح رغم أنّه خرج منها بلقب جديد “نقط – نقط” إستمرّ معه لفترة من الزمن.

في اليوم اللاحق كان يصحّح الواجب المنزلي ويؤكّد لكلّ طالب بأن الواجب اليومي سيكون ضمن النتائج النهائية للسنة الدّراسية، وهكذا فرض أسلوبه وعمل بقوّة على إنجاح المشروع التعليمي بحسب ما يراه فاتحاً أبواب الإرتقاء بنظم التعليم الخاصّة بالمعهد، خاصّة كان سريع الألفة والتعاون مع الطلبة النّاشطين في شؤون التّدريس ومع المدرّسين الشباب الذين كان يعرفهم جميعاً بالتقريب كان احدهم الأستاذ نافع إبراهيم الذي كان له نشاطٌ مختلفٌ وكان مكمّلاً لما كان حزوت يعمل عليه.

الأستاذ نافع

كانت بدايته مختلفة، عن رفاقه فإنّه قلّما جلس طالباً للتعليم المتقدّم حيث لم تتح له الفرصة بشكلها الطبيعي، إلّا أنّه موفقاً في العمل على الإزدياد من التعليم النّظامي الإثيوبي حينها والتعليم الذي يقدّمه المعهد مما جعله يبرز بسرعة فائقة بين أقرانه من الطلاب فأصبح طالباً ومدرّساً في نفس الوقت.

سلك سبيل الأساتذة الكبار، رُوّاد التعليم في الستينات والسبعينات (الذين طوّروا أنفسهم بأنفسهم ومن ثم إستطاعوا أن يؤسّسوا بنية تعليمية جيّدة سطا عليها نظام هيلي سلاسي فدمّرها لإستبدالها بنظامه الخاص).

كان يقرأ في كلّ المجالات وبكلّ اللغات المتاحة له ممّا مكّنه من إجادتها كلّها بأقصى سرعة، كان يعمل بالخمس لغات التي أجادها بتمكّن ممّا جعله إضافة مميّزة في كلّ مكان تواجد فيه، هذا بالإضافة إلى أمكانياته التنظيمية وقدراته على إخراج الأنشطة الطلابية على أكمل وجه حيث كان له الدور القيادي في إعداد الأعمال الخطابية والمسرحية، وربّما إعتبر الأستاذ نافع الشاعر الوحيد الذي كان يكتب بكلّ اللغات التي يجيدها.

للأستاذ نافع أيضا تأثيره المتميز في المشاركات الرّياضية حيث لعب بإستمرار الدور الأساسي في تأكيد وقوة مشاركات المعهد في المهرجانات التي كانت تنظمها أجهزة التعليم النّظامي والأخرى التي كانت تنظمها الأوقاف والمعاهد. وأذكر أن فريق المعهد الذي كان يقوده الأستاذ نافع قد لعب المباراة النهائية لفرق الكبار مع مدرسة كرن الثانوية في مبارة شهدت الكثير من التكافؤ، بالرغم من أنّ فريق الثانوية كلّه كان مكوّنا من لاعبي الفرق الكبيرة المتميزين وكان لدى فريق المعهد لاعب واحد فقط ممن يشاركون مع الفرق الكبيرة كان على ما أذكر الأخ عبد الرزاق محمد علي شقيق الأستاذ إدريس قرون.

كان للأستاذ نافع ميزة أخرى تتمثّل في الدّهاء المكتسب من العيش تحت ضغط الإستعمار الإثيوبي وإطّلاع كلّ من قرأ وتعلّم بالعربية ومن ثم تواصل (عبر المتاح من الوسائط حينها) مع العالم الخارجي  وقراءاته من الكتب وإلتحاقه بالمدارس الحكومية المسائية مكّنه ذلك من القدرة على العمل من أيّ موقع وتميّز فيها كلّها، وكان يفاوض المدارس الحكومية ليحصل على ما يفيض عن حاجتها من الكتب قديمها وجديدها ليساعد بها المعهد، وكان لهذا العمل الدور الحاسم في التّمرحل بإتجاه إضافة المنهج الحكومي بجانب منهج المعهد.

مهما قلنا لن نوفيه حقه هو ورفاقه فهم رموزٌ للإخلاص المنتظم، إختطفتهم رموز الغدر المنظّم.

بقي أن نذكر أنّ الأستاذ نافع كان موثّقاً  لما فعله نظام هيلي سلاسي والكوماندوس بأهله في قرية عونا وقد يكون الشّاهد الوحيد الذي تحدّث إلى كل من نجا من تلكم المذبحة المروّعة.

أدعوكم سادتى أن تدعوا في صلواتكم له ولرفاقه بفرج الله فأنّ لا شيء يستعصي على فرجه تعالى – وذلك بجانب عزمكم على الكفاح المستمر لإخراج شعبكم، سجين الإستعمار الحديث، من كبوته – والله الموفق.

 

بشرى بركت

 

 

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=41448

نشرت بواسطة في أبريل 4 2017 في صفحة البشرى, المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

2 تعليقات لـ “إختطاف التعليــــــــــــم (3)”

  1. 4

    “…أنّ مدرسي اللغة العربية ومشايخ المعاهد الذين هم في غياهب السّجون اليوم كانوا مشروعا نورانيّاً تم إستئصاله لصالح مشروع ظلامي أراد التخلّف والإنحطاط لمجتمعنا…”
    هذه الفقرة تلخص مشروع اسياس كليا…

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010