تأملات في الحركة الإصلاحية ( فورتو)

جمال الدين أبوعامر
abuamer12199@yahoo.com
شهدت إرتريا في الأيام الأخيرة الماضية حدثا إستثنائيا وفريدا هو الاول من نوعه إحتلال مجموعة من الجيش الوطني مطار أسمرا لساعات ووزارة الاعلام ليوم كامل , حيث طالبت نظام هقدف الأكثر إستبدادا ووحشية في المنطقة وعلى الهواء مباشرة بإجراء إصلاحات دستورية وسياسية , في خطوة محرجة للنظام القمعي ليس أمام الرأي العام المحلي والدولي فحسب بل داخل النظام نفسه .
وما أود أن إثيره في هذه المقالة هي محاولة إستحضار دلالات الحدث ومعانيه بتسليط الضوء على بعض جزئياته الهامة :
1. سبقت الحدث تطورات متسارعة وخطيرة وعلى أكثرمن صعيد , في مجملها كانت تعكس عمق الصراع الدائر داخل النظام , من هروب وزير الإعلام علي عبدو مع الخصوصية التي تربطه مع رأس النظام القمعي , وكذاك إجبار المواطنين على حمل السلاح – حتى للذين لايقدرون عليه – بحكم المرض والسن – , وتفاقم ظاهرة الاتجار بالبشربكل ماتحمله من وصمة عار على جبين النظام الفاشي , وجرح إنساني عميق للمجتمع بأسره , وغيرها من المظاهر التي كانت توحي ( أن وراء الاكمة ما وراءها ) .
2. الحقيقة أن كل أسباب الإحتجاج والعصيان والتمرد والثورة على النظام القمعي – كانت ومازالت – قائمة ووافرة , فالكم الهائل من المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية التي جاوزت طاقة الاحتمال كافية لإستنهاض الحادبين على مصلحة الوطن ومصيره حاضرا ومستقبلا في إتجاه البحث عن خلاص عاجل من النظام القمعي الذي بات عبئا ثقيلا على المجتمع ومهددا حقيقيا لكيانه .
3. انطلاقا من النقطة السابقة فإن المشاركة في مقاومة نظام هقدف ومناهضته لم تعد أمرا اختياريا ، بل أمر واقع فرضه نظام هقدف القمعي على الجميع , وبالتالي فإن أي حراك ينضم لركب المنادين بإصلاح النظام القمعي أوتغييره أيا كان مصدره ( من الداخل أو الخارج ) يجب أن ينال الترحيب والرضا ويجد المآزرة والمناصرة , ليس لكونه مطلبا ومكسبا عاما , وإنما أيضا لإشاعة الاحساس بوحدة المسار والمصير , وهو عين ماحصل وبشكل واسع للحركة الاصلاحية الأخيرة , إذ لم تتأخر معارضة الخارج في التخندق موضوعيا خلفها ( إصدارالبيانات والمساندة الاعلامية ) .
4. صاحب الحدث حالة من النقص الشديد في المعلومات وعدم التأكد كأحد الإفرازات المنطقية للإنظمة المستبدة , والتي تتحكم في حياة الناس وتعد أنفاسهم , وتعمل على عزل المجتمع عن بعضه البعض من خلال تعميم حالة الخوف والرعب , رغم ذلك فإن الحراك كحدث سياسي ذو قيمة مرتفعة كان عصيا على التهميش , فأخرج الوطن من خانة الإستثناءات غير المبررة في حسابات الإعلام الإقليمي والدولي إلى صدارة المشهد العام ولو لأيام , فسلطت الاضواء ولأول مرة على ( بلد مكلوم ) يكابد المعاناة تحت قبضة نظام فاشي لا شبيه له إلا في متاحف التراث والتاريخ .
5. الحدث إكتسب أهميته من كونه إختراقا حقيقيا لمركز ثقل النظام وعماد قوته ( المؤسسة العسكرية ) في مغزى تكشف حقيقة أن الجيش الوطني ليس كله على سواء ( تجاه خدمة النظام القمعي ) , وأن الغيورين وشرفاء كثر موجودون في المؤسسة العسكرية كما في خارجها , فمن غاصت يداه في التنكيل والقتل والتجسس على أحرار وشرفاء بلادنا لن يطالب بإنهاء معاناتهم , وتتعزز أهمية الحدث أكثر بدخول الجيش الوطني في خط المنادين بالإصلاح كخطوة جريئة ونوعية في مراكمة جهود الضغوط على نظام هقدف , إن لم تكن قفزة هائلة في طريق إزاحته .
6. بالرغم من إخفاق الحركة الإصلاحية في الوصول لمبتغاها الأخير لأسباب مجهولة , ومارشح منها يظل مجرد إفتراضات يصعب الجزم بها , ومع إستصحاب الظروف الموضوعية التي تجعل من عملية إزاحة نظام قمعي مستبد بقوة عسكرية محدودة وصغيرة غير ممكن فإن الحدث يمثل صفعة مؤلمة , نزلت على نظام هقدف نزول الصاعقة , إذ إحتاج إزاءها لثلاثة أسابيع صماء لإلتقاط أنفاسه وليقول شهادته المضللة .
وفضلا على أن إنعكاسات الحدث وإفرازاته على النظام القمعي مرشحة أن تزيد من هواجسه وإرباكه , خاصة أن الحدث ليس سوى شرارة تحريك لحالات الفتور والإنتظار, وما يعزز ذلك تواصل مسلسل التظاهرات وإقتحام السفارات , وحراك المجلس الوطني في إتجاه توحيد الآلة العسكرية , وهروب مجموعة من قوات البحرية , وتوزيع الملصقات في العاصمة أسمرا ذاتها في مغزى أكثر عمقا .
7. حصر قراءة الحدث كما لوأنه صراع داخل النظام وفي ظله وضمن سماته غير دقيق إن لم يكن خاطئا , فالمطالب التي أفصحت عنها المجموعة في بيانها المبتور لايشتم منه أي سمة إستسناخ لتجربة هقدف الفاشلة , بل من نقيض من ذلك يمثل خروجا صريحا على المبادئ والقيم التي يستند عليها نظام هقدف وإنقلاب كامل وبـ 180 درجة على جوهر مشروعه السياسي , فالمطالبة ( بالعمل بالدستور , إطلاق السجناء , فتح التعددية السياسية , إجراء إنتخابات ) هي خليط من الحقوق السياسية والاخلاقية العامة تعبر وبشكل كبيرعن طموحات الشعب الارتري الصابر, وتنسجم تمام الإنسجام مع أغلب ماتدعوا إليه القوى الوطنية ودون إسقاط حالة الإختلاف الكبير حول دستور هقدف المجمد .
8. في ظل فقدان الأمان وهاجس البقاء في السلطة , سيعمل نظام هقدف بغباء على إزاحة أزماته وتصديرآفاته أفقيا للمجتمع , فالتسريبات الخجولة التي تحاول أن تخلق صورة ذهنية للحدث من خلال إعطائه تفسيرا بأبعاد ( طائفي ) تأتي ضمن هذا السياق العدمي .
والواقع أن توظيف التفريق بغرض السيادة مبدأ إستعماري مألوف , وقد وظف بإمتياز في مصادرة تطلعات الشعب الارتري في نيل إستقلاله وحريته في خمسينات القرن الماضي .
والمفارقة هنا أن النظام القمعي الذي كان يتباهى بصهر المجتمع في بوتقة واحدة ( حادى هزبي حادى لبي ) يلجأ دون حياء للفرز الطائفي تمزيقا للنسيج الإجتماعي لشعبنا , وتدميرا لوحدته الوطنية التي إهترأت بفشل النظام القمعي في إشعار مواطنيه بالمساواة , لا لشيئ سوى لإطالة أمد حكمه بأي ثمن ؟
لكن ذلك لن يغير من الأمر شيئ , فالشعب الإرتري وبقواه السياسية والمدنية بلغ مرحلة لايمكن تضليله وخداعه , و سيثبت للنظام القمعي وبإجماع أبنائه أن الفرز الطائفي وسيلة رخيصة للبقاء في السلطة مثلها مثل الاستئثار والاقصاء والعنف .
9. النظام القمعي سيقرأ الحدث كما لوأنه ناتج من فراغ وليس لتراكم أسباب , وبالتالي سيتعامل مع شكل الحدث وإفرازاته دون إكتراث للوقائع الذي صنعته , فالحراك ليس سوى تمرد عسكري و تخريب يجب التعامل معه وفق هذا السياق لاغير.
لن يلتفت النظام القمعي لجوهرالأزمة الناشئة عن الأسباب الحقيقية , ولن يرهق نفسه لا قليلا ولا كثيرا بمراجعة سياسات العزل والإقصاء والعنف التي يمارسها وبشكل واسع وممنهج , والتي باتت المضخة الأقوى للمشكلات المزمنة التي يعايشها الوطن ويكابدها المواطن ويدفع ثمنها غاليا ( ظاهرة الإتجار بالبشر ) .
بل إن النظام القمعي ومدفوعا بسلوك الانتقام وتصفية الحسابات سيوظف الحدث في إتجاه التخلص من غيرالمرغوب فيهم ( عسكريون كانوا أو مدنيون ) وبإجراءات إستثنائية و بالأساليب القمعية البالغة القسوة , وبالتالي سينضم المآت إن لم يكن الألوف من الأحرار , زملاء عبدالله جابر إلى الشرفاء من الدعاة والسياسيين وسجناء الرأى والضمير الذين يقبعون في سجون النظام الوحشي ، وستسفك دماء كثيرين مجانا , وبالتأكيد لن تكون دماء المغدور العقيد عبدالرحمن جاسر آخرها .
10. ليس هناك سبب يجعلني أصدق أن النظام القمعي سيستفيد من الحدث كما ذكر رأس النظام – في كلمته – فالنظام القمعي كما عودنا يسيئ التقدير السياسي للأحداث وبالتالي إمكانية أن يستفيد من دروسها وعبرها هي في حكم العدم , وإنطلاقا من ذلك فإن إستفادة النظام من الحدث إيجابا وفي إتجاه تصحيح السياسات و الممارسات الخاطئة التي أضرت بالوطن والمواطن في نظري محال , والمحال الأكثر أن يعيد إنتاج نفسه على أسس جديدة وفق قواعد بسط الحقوق والحريات وإنصاف المظلومين ورد الأمر إلى الشعب , لأن ذلك يتناقض مع أصل وجود النظام القمعي وشروط بقاءه القائم على الإكراه والتسلط والإستئثار .
وعكسا من ذلك فإن النظام القمعي الذي إغتال طموحات الشعب الارتري وآماله سيتجه نحو مزيد من الانغلاق والانكماش على المستويين الداخلي والخارجي , وسيلجأ كليا إلى الحل الامني وبشكل أكثر شراسة وهمجية , وسيسمم الفضاء الإجتماعي بالتجزأة والتقسيم , ذلك إن لم يقفز بعيدا وفي الظلام في إتجاه إفتعال الإعتداءات على الجيران .
11. المقارنة بين نجاعة حراك الداخل وحراك الخارج تظل في نظري مقارنة عديمة , فالعمل من الخارج ليس خيارا بأي حال , بل ضرورة إستثنائية فرضتها ظروف تنتفي بزوال مسبباتها .
ولاخلاف حول أن الظروف الذاتية والموضوعية تجعل من حراك الداخل – دائما – أكثرزخما وقدرة على فرض توازن القوة , في نقيض لحراك الخارج الذي يمر بمخاضات وإختبارات قاسية للتفارق الواسع بين الأهداف التي يسعى لتحقيقها والوسائل المحكومة بظروف مكان الإنطلاق , دون تطفيف من الدور الكبير الذي لعبته معارضة الخارج في إزعاج النظام القمعي بل إيذاءه دبلوماسيا وإعلاميا بمواقف لا تنقصها الشجاعة والتضحية .
12. الحدث كسبب مضافا لأسباب أخرى سيحدد طبيعة الخيارات القادمة , خاصة أن اللحظة التاريخية الراهنة تدفع بالمناخ الإقليمي والدولي في إتجاه أكثر إنفتاحا ومواتاة لفعل المعارضة , والحال كذلك فإن معارضة الخارج والتي عانت كثيرا من إنكشاف الظهر وفقدان السند أمام نظام إجرامي همجي , أمامها فرصة ساحنة يجب أن تستجيب لها بوعي وفاعلية على ضوء وإستحقاقات المرحلة , وذلك بتعزيز وحدتها الداخلية ( ببذل كل الجهود وكافة الإمكانات في تقوية الحاضنة الكبرى – المجلس الوطني – مع توسيعه لصالح ضم القوى التي تناضل من خارجه ) , والإنتقال المدروس من حالة المعارضة إلى حالة الثورة الشاملة, بالتسيق التام مع قوى التغيير في الداخل .
وبالطبع فإن متطلبات الثورة خلاف متطلبات مناهضة الأنظمة , وقيم الثورة وألياتها شيئ وقيم المعارضة وألياتها شيئ آخر, ومن الضروري تناغم جميع قوى التغيير ( في الداخل والخارج ) مع شعار المرحلة التضحية والتعاون بدون أي حسابات سوى حسابات إنقاذ الوطن وشعبه .
13. أخيرا , أحسب أن جل الشعب الارتري إن لم يكن كله يشعر ( بحسرة بالغة ) لعدم وصول الحركة الاصلاحية مبتغاها , ولكن الأهم هنا أن نجعل من – تلك الحسرة – وقودا إضافيا في مناهضة النظام القمعي وعزله وإرساله إلى مزبلة التاريخ , إنتصارا لكرامة الوطن المهدرة ماديا ومعنويا , وإستردادا للحقوق المكتسبة – بتضحيات سخية – والتي أحالها النظام القمعي وفي أقل من عشرين سنة إلى ديكتاتورية فجة ومفضوحة .

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=30604

نشرت بواسطة في مارس 1 2013 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

1 تعليق لـ “تأملات في الحركة الإصلاحية ( فورتو)”

  1. صالح محمد

    شكرا استاذ جمال علي التحليل الرصين الذي لامس واقعنا المعاش وأشر لما ينبغي وحتما التغيير ات وقد رفد بقوي جديدة وسيرفد بقوي أخري من داخل وخارج الوطن وزمن البقاء أمام الطاغية وزبانيته اخذ في التلاشي لن تجديهم دعاوي الطائفية ولا الجهوية وسينهار الصنم

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010